التسميات

الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري، وأهميته كعامل في تحديد بنية الإقليم الاقتصادي وتخصصه ووظائف مراكزه العمرانية (إقليم الساحل السوري ومدنه نموذجاً) ...



مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري

وأهميته كعامل في تحديد بنية الإقليم الاقتصادي

وتخصصه ووظائف مراكزه العمرانية

(إقليم الساحل السوري ومدنه نموذجاً)


الدكتور ممدوح الدبس

قسم الجغرافية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة دمشق



مجلة جامعة دمشق - المجلد 30 - العدد : 1 و 2 - 2014 م - ص 735 - 784: 

الملخَّص :

  يعدُّ الموقع الجغرافي الاقتصادي –البشري من أهـم المفـاهيم فـي الجغرافيـة الاقتصادية، ويعني هذا الموقع العلاقة المكانية بين منطقـة معينـة وبـين عناصـر اقتصادية وبشرية ذات قيمة تقع خارج هذه المنطقة في محيطها القريب أو البعيد.

   وتتمثل هذه العناصر في موقع المكان بالنسبة إلى خطوط النقـل والمواصـلات وعقدهم المختلفة، وكذلك موقعه بالنـسبة إلـى أمـاكن وجـود المـوارد الطبيعيـة والاقتصادية، وأماكن تركز المنشآت الصناعية ومناطق الإنتاج الزراعـي وأسـواق تصريف السلع والخدمات، ومناطق الكثافات السكانية المرتفعة، وأيضاً الموقع بالنسبة إلى الحدود وبؤر التوتر العالمي ومراكز الثقل الحضاري. 

  وتتفاعل هذه العناصر فيما بينها مشكلة منظومة من العلاقات المكانية الحيويـة التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في تشكل الإقليم وتطوره وتفاعله مع محيطه، كما تحدد هـذه العناصر أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي – البشري للإقليم ومدنـه، وتعـدُّ هـذه الأهمية عاملاً مؤثراً وفاعلاً في تحديد النية الوظيفية (الإنتاجيـة والخدميـة) للإقلـيم ومدنه، ودور هذه البنية في منظومة الاقتصاد الوطني للبلد، وكذلك في تحديـد قـدرة الإقليم ومراكزه العمرانية على الاحتفاظ بالسكان وجذب المزيد منهم. 

   ويظهر أثر أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي- البشري جلياً في إقليم الـساحل السوري كعامل مسهم في تحديد البنية المكانية والقطاعية لاقتصاد الإقليم وتخصـصها في قطاعي التجارة والسياحة، وهذا ما حدّد بدوره وظيفة الإقليم في منظومة الاقتصاد الوطني السوري، كما أسهم هذا العامل في نـشوء المراكـز العمرانيـة وتطورهـا (وخاصة المدن) وتحديد أحجامها وبنيتها ووظائفها.

المقدمة: 

  يعدُّ الموقع الجغرافي الاقتصادي- البشري، أحد المفاهيم المهمة في الجغرافيـة الاقتصادية والبشرية، فهو يشكّل عاملاً مهماً في رسـم ملامـح البنيـة الاقتـصادية العمرانية في الإقليم، وتحديد مجالاته الاقتصادية وتخصصه الإنتاجي ووظائف مراكزه العمرانية، وهذا يحدد بدوره مكانة الإقليم ومراكزه العمرانية في منظومـة الاقتـصاد الوطني للبلد من خلال دوره في التقسيم الجغرافي للعمل على مستوى البلد، كما يشكل الموقع الجغرافي الاقتصادي- البشري الملائم عاملاً مهماً في احتفاظ الإقليم بـسكانه، وجذب المزيد من السكان والمنشآت الإنتاجية والخدمية إليه. 

   وتتحدد الأهمية الاقتصادية والعمرانية والوظيفية للموقع الجغرافي الاقتـصادي- البشري للإقليم ومراكزه العمرانية من خلال ملاءمة الظروف والعوامل التـي تـشكل عناصر جغرافية( اقتصادية وبشرية) أساسية لهذا الموقع، وتتمثل هذه العناصـر فـي موقع المكان بالنسبة إلى خطوط النقل والمواصلات وعقدهم المختلفة، وكذلك موقعـه بالنسبة إلى أماكن وجود الموارد الطبيعية والاقتـصادية، وأمـاكن تركـز المنـشآت الصناعية ومناطق الإنتاج الزراعي وأسواق تصريف الـسلع والخـدمات، ومنـاطق الكثافات السكانية المرتفعة، وأيضاً الموقع بالنسبة إلى الحدود وبؤر التـوتر العـالمي ومراكز الثقل الحضاري. ويؤدي الاستثمار العقلاني لهذه العناصر دوراً مهمـاً فـي تحديد هذه الأهمية ويشكل الموقع الجغرافي الطبيعي لمكان ما أساساً وقاعدة لتحديـد أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي البشري لهذا المكان. 

   إنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي – البشري هو ظرف ومورد فاعل في آن معـاً في نمو الأقاليم ومراكزها العمرانية وتطورها وتحديـد ملامـح بنيتهـا الاقتـصادية وخصوصياتها. يشكل إقليم الساحل السوري بما يمتلكه من مقومات وخصائص لموقعه الطبيعي والاقتصادي – البشري البوابة البحرية الوحيدة لسورية التي تربطها مع العالم الخارجي، والإقليم السياحي الأهم في سورية، كما أن لهذه المقومـات والخـصائص هميتها في تحدي بنية الإقليم المكانية والقطاعية وأحجام ووظائف مراكزه لعمرانيـة. فقد حدد الموقع الجغرافي الاقتصادي البشري لإقلـيم الـساحل الـسوري تخصـصه الزراعي والصناعي وأهميته التجارية والسياحية. 

   ويشكل الاستثمار العقلاني لاحتياطي النمو والتطور الكامن ومقومات وخصائص الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري في إقليم الساحل السوري عاملاً وحـافزاً علـى نموه وتطوره في المجالات الإنتاجية والخدمية والعمرانية والبشرية. 

الأهمية النظرية والتطبيقية للدراسة: 

   تأتي أهمية الدراسة من أهمية الموضوع المدروس، إِذْ يعد الموقـع مـن أهـم المفاهيم الجغرافية، ويشكل الموقع الجغرافي الاقتصادي للإقليم الاقتصادي ومراكـزه العمرانية الحضرية عاملاً مهماً في تحديد بنيتها الاقتـصادية الإنتاجيـة والخدميـة، وتخصصاتها الإنتاجية ووظائفها في منظومة الاقتصاد الوطني للبلد، كما يحـدد هـذا الموقع مدى احتفاظ الأقاليم ومراكزها العمرانية بسكانها وقدرتها على جذب المزيد من السكان، هذا فضلاً عن تحديده للأهمية الاستراتيجية للأقاليم ومدنها، هذا بخـصوص الأهمية النظرية للدراسة، أمّا الأهمية التطبيقية فتكمن فـي دراسـة أهميـة الموقـع الجغرافي الاقتصادي بوصفه عاملاً فاعلاً ومؤثراً في تشكل إقليم الـساحل الـسوري ومدنه وتطوره وتحديد بنيته الاقتصادية الإنتاجية والخدمية ودورهـا فـي الاقتـصاد الوطني السوري.

· مشكلة الدراسة :

   تكمن مشكلة الدراسة في عدم وضوح مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي وجوهره في المراجع العربية، وقصور هذه المراجع فـي دراسـتها لهذا المفهوم وتحليل مضمونه، وغياب دوره كعامل مهم فـي نـشوء الأقـاليم ومدنها وتطورها مثل إقليم الساحل السوري.

· أهداف الدراسة :

  تتمثل في تحقيق هدفين رئيسين أحدهما نظري والآخر تطبيقي: 

- الهدف النظري والمنهجي : ويتضمن تحليل الأسس النظرية والمنهجية لنظرية الموقع الجغرافي الاقتصادي - وإبداء الرأي بهذا الخصوص من حيث المفهـوم والسمات والتصنيف والعناصر المحددة لأهمية هذا الموقع. 

- الهدف التطبيقي : ويتمثل في دراسة أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي بوصفه عاملاً مهماً في الخصوصية المميزة لإقليم الساحل السوري وبنيته الاقتـصادية وتطورها، وكذلك خصوصية مراكزه العمرانية وبنيتها وخاصة الحضرية منها.

· مناهج الدراسة :

  استخدمت في الدراسة مجموعة من المناهج العلميـة لتحقيـق الأهداف المرجوة من الدراسة، وهذه المناهج هي :

- المنهج الوصفي التحليلي : استخدم هذا المنهج في توضـيح مفهـوم الموقـع الجغرافي الاقتصادي وجوهره وسماته وخصائصه وأنماطه وعناصره، ومـن ثم وصف وتحليل أهمية الموقع بوصفه عاملاً مهماً ومؤثر فـي حيـاة إقلـيم الساحل السوري ومراكزه العمرانية، وفي تحديد الشخصية المميزة لهذا الإقليم. 

- منهج التحليل العاملي : الذي درِس من خلاله الموقع الجغرافـي الاقتـصادي بوصفه عاملاً مهماً من عوامل نشوء الأقاليم والمراكز العمرانيـة الحـضرية وتطورها، وأيضاً بوصفه عاملاً مؤثراً وفعالاً في تحديـد البنيـة الاقتـصادية للإقليم المدروس.

- المنهج الإقليمي : يفيد هذا المنهج في دراسة الساحل السوري دراسة جغرافيـة إقليمية شاملة ومتكاملة لعناصر البيئة الجغرافية كلّها الطبيعية والحضارية فـي الإقليم لإظهار الشخصية المميّزة له .

- المدخل المنظومي : يعدُّ من المداخل الفعالة في التعامل مع الموقـع الجغرافـي الاقتصادي بوصفه منظومة متكاملة من العناصر التي تتفاعـل مـع بعـضها لتحديد أهمية هذا الموقع وإسهامه في تحديد البنية الاقتصادية وتطورها في إقليم الساحل السوري ومدنه. 

مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري وسـماته واتجاهاتـه وعناصره وأنماطه وأهميته الاقتصادية والعمرانية: 

  تمتلك دراسة العوامل المؤثرة في توزع القوى المنتجة وتطورها أهمية حاسـمة في تشكل المجمع المكاني الاقتصادي والمراكز العمرانيـة فـي الإقلـيم الجغرافـي الاقتصادي. 

  إنَّ التوزيع العلمي المناسب للإنتاج والخدمات في مساحة معينة يجب أن يأخـذ بالحسبان دراسة الظروف والموارد الطبيعية للمكان بهدف الحصول على أقصى فعالية اقتصادية ممكنة التي تتحقق بنتيجة الاستثمار العقلانـي الملائـم للمـوارد الطبيعيـة والاقتصادية والبشرية والنقل والموقع الجغرافي الاقتصادي. 

  أكد علماء الجغرافية الاقتـصادية باسـتمرار أهميـة دور الموقـع الجغرافـي الاقتصادي بوصفه عاملاً مهماً في تشكُّل البنية الاقتصادية للإقليم والمراكز العمرانيـة (وبخاصة المدن) فيه. 

  إنَّ الدور الرئيس في اقتصاد الإقليم ينتمي إلى القطاع الإنتـاجي الـذي يتـشكل بتأثير عوامل كثيرة أهمها: مستوى تطور القوى المنتجة، والسكان وقـواهم العاملـة، والظروف والموارد الطبيعية، والموقع الجغرافي الاقتصادي وأيضاً كلية (عموميـة) الإنتاج المكاني 1.

  ويرى كارل ماركس أن عامل الموقع الجغرافي يعد - فـي بعـض الحـالات - (كاستثمار أراضٍ وأقاليم جديدة) أكثر أهمية من خصوبة التربة 2 .

1- بالامارتشوك . م.م. الجغرافية الاقتصادية لجمهورية أوكرانية، إصدار المدرسة الوطنيـة، كييـف 1977م، ص17.
2- كارل ماركس، فريدريك انجلز . الايديولوجية الألمانية ، المجلد 2،موسكو ص202

   ولا يقتصر تأثير عامل الموقع الجغرافي الاقتصادي في قطاع الإنتـاج المـادي فحسب، بل يشمل أيضاً القطاع الخدمي والمراكز العمرانية (ولا سيّما الحضرية منهـا) في الإقليم.

  وعلى أساس ما تقدم أخذت دراسة الموقع الجغرافي الاقتصادي تحتـل مكانـة مهمة في الدراسات الجغرافية الاقتصادية بوصفه مقولة ونظرية لها مفهومها وأساسها النظري والمنهجي. 

   يعدُّ الموقع واحداً من أهم المفاهيم الجغرافية إنَّ لم يكن أهمها علـى الإطـلاق. فالجغرافية هي علم المكان والاختلافات المكانية والعلاقات بين الأماكن، وهذا يعنـي أنَّها علم الموقع والاختلافات والعلاقات بين المواقع المختلفة. 

   وتتحدد أهمية موقع موضوع ما (دولة، إقليم، مدينة، منشأة أو مؤسسة... الـخ) من خلال محيطه القريب والبعيد وما يحتويانه من عناصر وعوامل يرتبط بهـا هـذا الموضوع بعلاقات مكانية حيوية بالنسبة إليه 1.

   ويعتقد الباحثون أنَّ العالم اليوناني استرابو (64- 20  ق.م) هو أول من تحـدث عن أهمية المواقع الجغرافية المختلفة للمراكز العمرانية ولا سيّما المدنية منها، والدور الحاسم للموقع الجغرافي في نشوء المدن وتطورها، مؤكداً ضرورة اختيـار المواقـع التي تتمتع بشروط طبيعية واقتصادية ملائمة، مثل التوجه نحو الشمس وتوافر الميـاه والأراضي الزراعية الخصبة... وغيرها 2 .

   استخدم الموقع كمفهوم عام منذ نهاية القرن 18م، فقد تناوله بالدراسة الجغرافـي الألماني فريدريك راتزل قائلاً: إنَّ الموقع الجغرافي يعكس التبعية (الانتماء) إلى مكان معين، وهذا يعني أن نبيّن إلى أي وحدة مكانية كبيـرة يتبـع (ينتمـي) الموضـوع المدروس. فاليونان مثلاً تتبع شبه جزيرة البلقان، ولكن التبعيـة وحـدها فـي نظـر مايرغويز لا تكفي لتحديد الموقع الجغرافي، كما أنَّ هذا التعريف ينطبق - إلـى حـد كبير- على الموقع الجغرافي الطبيعي ولا ينطبق على الموقع الجغرافي الاقتصادي.

1- محمد صافيتا، فيصل قماش،عدنان عطية.المبادئ العامة لجغرافية المدن، منشورات جامعة دمشق،2000 -2001 م ،ص 9 .
2 علي محمد دياب.مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، منشورات جامعـة دمـشق،2009 - 2010 م ، ص 202 - 206 .

   فمفهوم الموقع هو علاقة الموضوع ( دولة، إقليم، مدينة، مؤسسة ... الـخ) أو الظاهرة بالنسبة إلى الموضوعات أو الظواهر الأخرى .

  أما مفهوم الموقع الجغرافي فيعني تحديد الموضوع الجغرافـي فـي منظومـة الإحداثيات الجغرافية، أو توضع الموضوع بالنسبة إلـى الموضـوعات والظـواهر الأخرى على سطح الأرض. والموقع في رأي آلاييف هو تحديد للموضوع وارتباطاته مع المحيط، وبعبارة أخرى هو موقع الموضـوع فـي المكـان الجغرافـي. وتبعـاً للاختلافات المكانية يمكن تمييز ثلاثة أنواع من المواقع هي : الموقع الفلكي، الموقـع الجغرافي الطبيعي، الموقع الجغرافي الاقتصادي.

1- الموقع الفلكي : وهو الموقع من خط الاستواء ومن خط الطول المبدئي (خط غرينتش)، وتؤدي العروض الجغرافية (أي الموقع مـن خطـوط الطـول ودوائـر العرض) دوراً مهماً في توزع المراكز العمرانية الريفية والمدنية على سطح الأرض، كما تؤثر في عملية التمدن وارتفاع نسبة سكان المدن ونوع الإنتـاج الزراعـي فـي الأقاليم، فالبعد والقرب من خط الاستواء يؤثر تأثيراً كبيـراً فـي المنـاخ والنبـات والحيوان وغيرها من الظواهر الطبيعية، ومن ثم في نـشوء الحـضارات والمـدن والتمدن وتطورها، فمنذ القدم كانت العروض المعتدلة الدافئة والباردة فـي النـصف الشمالي من الكرة الأرضية، وما تزال تشكّل أمـاكن تركـز المـدن والحـضارات وتطورها والنشاط الاقتصادي. أمّا في النصف الجنوبي فلم تَقُم دول كبرى وحضارات متقدمة، بسبب صغر المساحات الأرضية ذات المناخ الملائم للتطور الحضاري 1.

1 علي جباوي. الجغرافية السياسية(الجيوغراسيا) دمشق 1990م، ص180.

  وتعدُّ العروض القطبية والاستوائية والمدارية الجافة غيـر ملائمـة للعمـران والإنسان والنشاط البشري عموماً بسبب شدة البرودة وقلة التهطـال فـي العـروض القطبية، وارتفاع الحرارة والرطوبة وغزارة الأمطار وكثافة الغابات فـي العـروض الاستوائية، وقلة المياه وانتشار الصحارى في العروض المدارية، إلا في حال تـوافر عوامل أخرى اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية تشجع أو تجبر علـى إعمـار هـذه الأماكن.

2- الموقع الجغرافي الطبيعي : ويعني في أي منطقة جغرافيـة طبيعيـة يقـع الموضوع (دولة، إقليم، مدينة، مؤسسة أو منشأة ... الـخ) وعلـى أي نـوع مـن التضاريس وغيرها من العناصر الجغرافية الطبيعية. وتؤثر في الموقـع الجغرافـي الطبيعي لمكان ما (إقليم أو مركز عمراني) مجموعة مـن العناصـر (أو العوامـل) الطبيعية أهمها أشكال سطح الأرض (جبال، هضاب، سـهول، منخفـضات، وهـاد) والمسطحات المائية( محيطات، بحار، بحيرات، مستنقعات) والأنهار والمناخ والنبات الطبيعي (غابات، حشائش، نباتات صحراوية) وكذلك التركيب الجيولوجي والتربـة. ويؤدي تفاعل العناصر الطبيعية للمكان بعضها أو جميعها دوراً مهماً في تحديد الشكل الخارجي والداخلي للمركز العمراني أو الإقليم.

   وتشكل السهول الواسعة والخصبة وفيرة المياه مراكز الإعمار البشري على مر العصور، فالسهل يؤمن للمدينة احتياجاتها من الغذاء، كما أنَّ تـوافر الميـاه يـؤمن احتياجاتها من مياه الشرب والاستخدامات المنزلية والصناعية وري الحدائق والحقول الزراعية المحيطة بها، وتعد المواقع البحرية والقريبة من البحر وخاصة عند مصبات الأنهار مكاناً لنشوء كثير من الأقاليم والمدن الكبيرة الـشهيرة مثـل لنـدن، بغـداد، هامبورغ، كراتشي وغيرها. وبالمقابل يندر العمران والسكان في المنـاطق الغابيـة الكثيفة والجبلية المرتفعة وفي الصحاري ومناطق التجمد الدائم ومناطق المـستنقعات والتوندرا والفيضانات ومناطق عدم الاسـتقرار الجيولـوجي والمنـاطق المعرضـة للأعاصير والانهيارات أو الانزلاقات وكذلك مناطق التطـرف المنـاخي والمنـاطق شديدة القارية الواقعة في وسط القارات، إنَّ هذه المناطق شديدة التـضرس والبـرودة والمهددة بالزلازل والفيضانات، وكذلك مناطق التجمد الدائم وغيرها يتطلب إعمارهـا واستثمارها أعمالاً إضافية، الأمر الذي يزيد في تكلفة الإنشاء والبناء، مثـل تـسميك الجدران، ومضاعفة نفقات التدفئة وبناء الجدران الاستنادية وتجفيف المستنقعات وغير ذلك1.

  ولابد من الإشارة هنا إلى العلاقة بين الموقع الفلكي والموقع الجغرافي الطبيعي للإقليم من جهة والموقع الجغرافي الاقتصادي له من جهة أخـرى، فهمـا يكملانـه ويؤثران في تحديد بنيته ووظيفته الاقتصادية.

3- الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري: ويعني مجمل العلاقـات المكانيـة المهمة لموضوع محدد ومأهول بالنـسبة إلـى موضـوعات جغرافيـة اقتـصادية أخرى2 . وقد تشكل مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي بوصفه أحد المفاهيم الجغرافية الاقتصادية في عام 1929م على يد الجغرافي الروسي بارانسكي ن.ن، رغم أنَّ العالم الفرنسي إلكين هو أول من استخدم مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي.

  وقد أعطى بارانسكي ن.ن في الثلاثينيات من القرن العـشرين أهميـة كبيـرة لمفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي في أثناء دراسته للمدن والأقاليم 3 . وعلى ضوء ما تقدم تعدُّ نظرية الموقع الجغرافي الاقتصادي أحد انجـازات الجغرافيـة الاقتـصادية السوفيتية خلال الحقبة الاشتراكية.

1- محمد صافيتا، فيصل قماش، عدنان عطية. المبادئ العامة لجغرافية المدن، منشورات جامعة دمشق،2000 - 2001م  ، ص 12 - 13.
2- علي محمد دياب. مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، منشورات جامعـة دمـشق 2009 - 2010 ، ص 202-206 ص .
3- بارانسكي ن.ن. الجغرافية الاقتصادية والمصورات الاقتـصادية، دار التقـدم، موسـكو، 1984م، ص110.

   ويعني الموقع عند بارانسكي " العلاقة بين الموضوع المدروس وبين عناصـر معينة خارج هذا الموضوع" فعندما تكون العلاقة منسوبة إلى خط الاسـتواء أو إلـى خط الطول المبدئي (خط غرينتش) فنحن أمام موقع مهم واسع الدلالة من وجهة النظر الجغرافية، وهذا هو الموقع الفلكي. أما مفهوم الموقع الجغرافـي الاقتـصادي فـي الجغرافية الاقتصادية فهو العلاقة بين منطقة معينة وبين عناصر اقتصادية ذات قيمـة تقع خارج هذه المنطقة 1 . 

   وقد تصور بارانسكي مفهوم الموقع الجغرافي الاقتـصادي علـى أنـه موقـع موضوع ما (إقليم، مدينة،مؤسسة .. الخ) في منظومة التنظيم المكاني للمجتمع، مشيراً بالوسائل كلّها إلى دور التغيرات التاريخية في العلاقات المكانية بـين الموضـوعات، وهذا يعني التغيرات التاريخية في الموقع الجغرافي الاقتـصادي بمـرور الـزمن 2 . موضحاً أن هذا المصطلح يتضمن العلاقات المكانية بين المراكز العمرانية (وخاصـة المدنية منها أي المدن) وبينها وبين الأمكنة المحيطة بها( ظهيرها) الناشئة عن وجود موارد مختلفة ذات أهمية اقتصادية للمدينة في المناطق الواقعة خـارج حـدود هـذه المدينة، وكذلك علاقة المدينة بالمراكز العمرانية والمناطق الواقعة خارج مناطق نفوذ هذه المدينة .

1- الجغرافية الاقتصادية والمقولة الاقتصادية، المطبعة الحكومية، موسكو، 1956 م ، ص110.
2- حول الدراسة الجغرافية الاقتصادية للمدن (قضايا الجغرافية) موسكو، 1946م ،ص 19-62 .

   ويرى بارانسكي أنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي هو علاقة المكان أو الموضوع المدروس بالنسبة إلى المؤشرات البشرية التاريخية للأماكن أو الموضوعات الأخرى. وترتبط فعالية هذه العلاقات بين الأماكن أو الموضوعات بالمسافة الاقتـصادية الفاصلة بينها. وتجري العلاقة مع الأماكن أو الموضوعات الأخرى بالدرجة الأولـى من خلال النقل ومؤشراته وخصائصه، كما أن تقويم هذه العلاقة يجري أيـضاً مـن خلال النقل (أي من خلال المدة الزمنية التي تستغرقها عملية النقل وتكـاليف النقـل يضاً)، كما ترتبط فعالية العلاقات بين الأماكن والموضوعات بدرجة التجاور وطبيعة الحدود1 .

   إنَّ التحليل العميق لمفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي يظهر - إلى حد ما - لماذا ظهرت المدنية في هذا المكان بالذات دون غيره. وأنَّ هذا المفهـوم كثيـر التعقيـد ويتركب من عناصر متعددة ومتفاعلة مع بعضها في علاقات مكانية متنوعة، تحـدد إلى درجة كبيرة حجم المدينة وعلاقاتها وبنية وظائفها، الأمر الذي يحدد بدوره بنيـة الإقليم ووظيفته. 

   ونشير هنا إلى أنَّ معظم الدراسات عن الموقع الجغرافي الاقتـصادي تناولـت المدن، أما فيما يتعلق بالموقع الجغرافي الاقتصادي للبلـدان والأقـاليم فمـا زالـت الدراسات بهذا الخصوص محدودة جداً، على الرغم من أهمية المدن في حياة البلـدان والأقاليم.

   وبالاستناد إلى فكرة بارانسكي ن.ن كتب ساوشكين يو.ك " أن الموقع الجغرافي الاقتصادي يعني دراسة العلاقات المكانيـة للموضـوعات الجغرافيـة الاقتـصادية المدروسة(الأقاليم، المدن، المؤسسات أو المنشآت، العقد الـصناعية والمواصـلاتية، الموانئ، المناطق الصناعية... الخ ) مقارنة بالموضوعات الأخرى كلّها 2.

1 علي محمد دياب. مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية الاقتصادية، منشورات جامعة دمشق  ،2009 -2010 ، ص
2 ساوشكين يو . ك . الجغرافية الاقتصادية،التاريخ، النظرية، المنهج، التطبيق، دار الفكر، موسـكو،1973م .ص 141-142.

  وفي عام 1946م وضع مايرغويز لوحة مفصّلة تعطي تصوراً شاملاً لمفهـوم الموقع الجغرافي الاقتصادي، وقد أشار في لوحته هذه إلى ثلاث مـسلّمات للموقـع الجغرافي الاقتصادي هي: العلاقات المكانية، والطابع الاحتمالي، ومـسافة الموقـع،وقال: إنَّه دون المسافة بين الموضوعات الجغرافيـة الاقتـصادية لا يوجـد مفهـوم الموقع1 .

  وتعدُّ المسافة برأي مايرغويز أحد العوامل الأساسية لتـشكل مفهـوم الموقـع الجغرافي الاقتصادي. ويعرف بستون . ن. د الموقع الجغرافـي الاقتـصادي بأنـه العلاقة المكانية لموضوع معين (دولة، إقليم، مدينة...إلخ ) إلى عناصر أو معطيـات جغرافية تقع خارج هذا الموضوع وتؤثر فيه تأثيراً جوهرياً أو ثانوياً.

   أكدت بحوث الجغرافيين الروس - في النصف الثاني من القرن العشرين - صحة تقييم أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي في الدراسات التحليليـة للمـدن والأقـاليم، وكذلك عند التنبؤ والاستشراف بآفاق التطور المستقبلي لهذه المدن والأقاليم، إِذْ يعـد عامل المواقع واحداً من العوامل المساعدة على نمو الإقلـيم وازدهـاره أو المعيقـة لتطوره .

    وقد تناول عدد من الجغرافيين السوريين مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي في مؤلفاتهم وبحوثهم مثل فيصل قماش ومحمد صافيتا وعدنان عطية في كتابهم المبادئ العامة لجغرافية المدن، حيث درسوا أثر الموقع الجغرافي الاقتصادي في نمو المدينة وازدهارها أو العكس (وهذا ما أكدته بحوث الجغرافيين الروس كما ذكرنـا سـابقاً)، وعدوه مفهوماً نظرياً وأساسياً في الجغرافية البشرية والاقتصادية عموماً وجغرافيـة المدن خصوصاً 2 . كما بينوا العوامل المؤثرة في أهمية الموقع الجغرافي الاقتـصادي للمدن ولاسيما شبكات النقل داخل المدينة ذاتها، وأيضاً شبكات النقل التي تربطها مع ظهيرها القريب والبعيد، هذا فضلاً عن عوامل أخرى ذات تأثير واضح فـي أهميـة الموقع الجغرافي الاقتصادي مثل الموارد الطبيعيـة والاقتـصادية وأمـاكن التركـز الصناعي ومناطق الإنتاج الزراعي والكثافات الـسكانية وكـذلك أسـواق تـصريف المنتجات والخدمات وغيرها من العوامل.

   ويرى علي دياب في كتابه (مناهج البحث العلمـي وطرائقـه فـي الجغرافيـة البشرية) أنَّ مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي يعكس مجموعة العلاقات الجغرافيـة الاقتصادية التي يمكن أن تتطور على أساسـها الارتباطـات والعمليـات الجغرافيـة الاقتصادية. 

1- مايرغويز. ي. م . منهجية الدراسة الجغرافية الاقتصادية على مقياس مكاني صغير، إصدار جامعة موسكو، 1981م
2- محمد ابراهيم صافيتا، فيصل قماش. عدنان عطية. المبادئ العامة لجغرافية المدن، مرجع سـابق، ص15 .

  وبرأينا أنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي هو منظومة العلاقات المكانية الحيويـة لموضوع جغرافي اقتصادي معين (إقليم، مدينة.. الخ ) إلى عناصـر (موضـوعات) جغرافية اقتصادية تقع في محيطه القريب أو البعيد التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في تشكله وتطوره وتفاعله مع محيطه. إذاً الموقع هو منظومة تتألف من عناصر متفاعلة فيمـا بينها وتعطي هذا الموقع أهميته.

   وتتحدد أهمية موضوع ما من خلال محيطه القريب والبعيد وما يحتويـه مـن عناصر وعوامل يرتبط بها الموضوع بعلاقات مكانية حيوية بالنسبة إليها. فـالموقع بالنسبة إلى الإقليم هو منظومة العلاقات المكانية الحيوية له. 

  أما الموقع في مجال العمران فيتضمن المفهـوم المكـاني وعلاقـة المراكـز العمرانية المتعددة في المنطقة بعضها مع بعض ومع العناصر الجغرافيـة الأخـرى الموجودة في الجوار 1 .

1- ساطع محلي. جغرافية العمران، منشورات جامعة دمشق، مطابع مؤسسة الوحدة، 1981-1982 م، ص36.

  وقد أوضح بارانسكي ن.ن أن هذا المفهوم يتـضمن العلاقـات المكانيـة بـين المراكز العمرانية (ولاسيما المدن منها) وبينها وبين الأمكنة المحيطة بها (الظهيـر) وكذلك علاقة المدن مع المراكز العمرانية والمناطق الواقعة خارج حدود سيطرة هذه المدن1

  وإذا استثنينا الموقع الفعلي المباشر للمدينة (موضعها) أي الحيز المكاني الـذي تشغله فعلاً بأبنيتها وشوارعها و ساحاتها الذي يقوم فيه سكان المدينة بنشاطهم اليومي المعتاد، فإنَّه يمكن تمييز موقعين للمدينة من حيث الحجم هما:

1- الموقع الأصغري: وهو موقع المدينة بالنسبة إلى المحيط (الظهير) القريـب الذي يسمى عادة بالضواحي القريبة. وهنا يمكن القول: إنَّ المدينة تقع علـى شـط بحر أو بحيرة أو وسط سهول زراعية أو على تقاطع الطرق التجاريـة أو وسـط غوطة غناء أو في منطقة جبلية أو سهلية... الخ. 

2- الموقع الأكبري أو الأعظمي: ويتحدد هذا الموقع بعلاقات المدينة مع الظهير البعيد، وقد يشتمل هذا الظهير على بلد بأكمله أو قارة بأكملها أو حتى العـالم كلـه أحياناً، فهناك بعض المدن ذات تأثير وأهمية على المستوى العـالمي فـي بعـض جوانب نشاطها ( مثل هوليود عاصمة السينما العالمية، وباريس وروما ومدريد مدن  السياحة العالمية، ومكة المكرمة عاصمة الإسلام وروما عاصمة المسيحية.. الخ) 2 . هذا بالنسبة إلى المدن، أما بخصوص البلدان والأقاليم فيمكن تمييز ثلاثة أنواع مـن المواقع بحسب أحجامها المكانية وأهميتها وهي: 

3- الموقع الأصغري ذو الأهمية المحلية: ويحدد علاقة البلد أو الإقليم بالنـسبة إلى محيطه القريب فمثلاً إن الموقع الأصغري لسورية هو موقعها بالنسبة إلى الدول المتاخمة لها، وبالنسبة إلى إقليم الساحل هو موقعه من الأقاليم المتاخمة له، وبالنسبة إلى مدينة حلب هو محافظة حلب.

1 بارانسكي ن.ن.حول الدراسة الجغرافية الاقتصادية للمدن(قضايا الجغرافية) مرجـع سـبق ذكـره، . ص 19- 62  .
2 محمد ابراهيم صافيتا. عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحضري، منشورات جامعة دمشق .2005 - 2006م-، ص54 -55 .

- الموقع المتوسط ذو الأهمية الإقليميـة : وهو موقع البلد أو الإقليم إلى مجموعة بلدان تشكل إقليماً، مثل موقع سورية بالنسبة إلى إقليم الشرق الأدنـى أو الـشرق الأوسط، أو موقع إقليم الساحل بالنسبة إلى إقليم بلاد الشام. 

2- الموقع الأكبري أو الأعظمي ذو الأهمية القارية أو العالمية: وهو موقع البلد أو الإقليم على مستوى القارة أو العالم، مثل موقع سورية بالنسبة إلى آسية أو قـارات العالم القديم أو العالم بأكمله. 

  إنَّ تحليل الموقع الجغرافي الاقتصادي للأقـاليم بخـلاف الموقـع الجغرافـي الاقتصادي للمدن، يجب أنْ يكون مصحوباً بدراسة البنية المكانية لاقتصاد الإقليم. وقد فتح التحليل المنظومي للتنظيم المكاني للمجتمع آفاقاً جديدة لتحليل الموقـع الجغرافـي الاقتصادي 1.

   ويعدُّ التحليل المنظومي منهجاً للبحث العلمي، يدرس الظـاهرة أو الموضـوع دراسة تكاملية (أي يعتمد على مبدأ التكامل) مع حساب بنيـة الظـاهرة المدروسـة وروابطها الداخلية المتبادلة، وهذا ما يجعل التأثير المتبادل لهذه الظاهرة مع محيطهـا مكتملاً. وتوضع النتائج النهائية على أساس القيـاس المتكامـل للـروابط المـستقيمة المباشرة والروابط العكسية المضادة 2 . 

1- ايشوك. س. ي، ممدوح شعبان دبس. الموقع الجغرافي الاقتصادي كعامـل فـي تـشكل المجمـع الاقتصادي لإقليم جنوب أوكرانيا الاقتصادي، مجلة الجغرافية، جامعة كييف 1990م العدد 23 باللغـة الأوكرانية، ص9
2- ماروزفا. ت. ك . دراسة بنية اقتصاد الأقاليم الاقتصادية(مثال سيبيريا الشرقية) ، دار المعـارف، موسكو1997 م، ص30 .

   وتعدُّ عناصر المنظومة مرتبطة مع بعضها بعضاً، إِذْ إن أي تغير لعنصر مـن عناصرها يضع حداً على مسلك الآخر، وإنَّ مجموعـة العناصـر المكونـة للبنيـة والارتباطات (الصلات) المتبادلة بينها تشكل المنظومة البنيوية.

   وعند تحليل الموقع الجغرافي الاقتصادي للبلد والأقاليم الاقتصادية الكبيرة فـإنَّ الأمر يتطلب كشف الأقاليم والمراكز الرئيسة لتركز القوى المنتجة وإبرازها وتحديـد علاقاتهم (ارتباطاتهم/صلاتهم) مع بعضهم بعضاً. 

  في أثناء تحديد الموقع الجغرافي الاقتصادي للموضوع أو الظاهرة، هناك حالة فريدة من نوعها للعلاقة داخل المنظومة الكبيرة والمعقدة، وهي التنظيم المكاني لحياة المجتمع على مستوى كامل البلد أو الإقليم، وإن بحث الموقع الجغرافـي الاقتـصادي 1 للموضع خارج هذه المنظومة يفقده أهميته العلمية والعملية . وفي هذا الصدد نقول: إنَّ معظم الباحثين الذين تناولوا الموقـع الجغرافـي الاقتـصادي أمثـال بارانـسكي مايرغويز، رودمان، وغيرهم لم يحيطوا بجوانب هذا المفهوم كلّهـا، فقـد ركّـزت دراساتهم على مواقع المدن ولم تولِ اهتماماً لمواقع البلدان والأقاليم. 

   ونشير هنا إلى أنَّ التنظيم المكاني للمجتمع هو مفهوم تركيبي تكاملي يتـضمن التوزع والاقتران (التفاعل) المكاني لمكونات النشاط البشري جميعها، مثـل المـوارد والظروف الطبيعية والسكان والإنتاج والخدمات أي النـشاطات الحيويـة الإنتاجيـة والخدمية للمجتمع، بهدف تحقيق فعالية اقتصادية أو اجتماعية عامة أو كلتيهما معاً.

1- ايشوك. س. ي، ممدوح دبس، الموقع الجغرافي الاقتصادي كعامل في تشكل المجتمع الاقتـصادي لإقليم جنوب أوكرانيا الاقتصادي، سبق ذكره،ص7-9. 

   ويعدُّ التركز والتباين المكانيان من الخصائص العامة المميزة للتنظيم المكـاني. ويفهم التنظيم المكاني كنتيجة (أي الموقع المكاني الراهن للموضوعات)، وفي الوقـت نفسه كعملية لتطور الموضوعات وتعقيداتها 1. فالتنظيم المكاني هو عمليـة مـستمرة ومتبادلة - ومتطورة مع الزمن 2.

   يتميز الموقع الجغرافي الاقتصادي بعدة سمات (ميّزات) يمكن إجمالها بالآتي: 

1- السمة التاريخية - الديناميكية (التغير مع الزمن) : من المهم عند دراسـة الموقع الجغرافي الاقتصادي لمكان ما (إقليم، مدينة .. الخ) دراسة الطابع التـاريخي الديناميكي لهذا الموقع، لأنَّه يتغير مع الزمن، فمثلاً لقد تغير موقع كل من لندن وأثينا بين الماضي والحاضر، كما تغير موقع إقليم الساحل السوري أيـضاً بـين الماضـي والحاضر. 

  وفي هذا الصد نقول: إنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي هو مقولـة تاريخيـة، إذ يجب أنْ يحدد وفقاً للمعطيات أو الإحداثيات الزمنية، وهذا يعني أنَّه يجب مناقشته من وجهة نظر عصر معين وظروف تاريخية محددة. إذ إنَّه في مرحلة تاريخيـة معينـة وبتأثير عوامل ملائمة (طبيعية واجتماعية واقتصادية وسياسية) تنمو أهمية المدينة أو الإقليم وتزدهر علاقاتها مع الأقاليم الأخرى، وبتأثير عوامل أخرى معيقة قـد تـؤدي إلى تدهور المدينة أو الإقليم، مثل تحول طرق التجارة العالمية وكذلك نفـاذ المعـادن من المناجم 3 .

  إذاً إنَّ أهمية موقع الموضوع المدروس (بلد، إقليم، مدينة، ....الخ) يتغير نتيجة التطور الداخلي لهذا الموضوع أو نتيجة التغيّـرات المتنوعـة التـي تـرتبط معهـا بارتباطات متبادلة، لذلك فإنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي للموضوع يجب تقويمه في كل مرحلة من مراحل التطور.

1 علي محمد دياب، مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، ص 84 -86 .
2 ممدوح شعبان دبش، جغرافية الخدمات، منشورات جامعة دمشق 2005 -2006م، ص 181.
3 مايرغويز.ي.م. دراسة جغرافية عن المدن، موسكو 1987م ص 72 - 89 نقلاً عن محمـد إبـراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحضري، مرجع سبق ذكره،ص6

   ولا تستطيع أيَّة مدينة أو إقليم الاستمرار بدوره الريادي على مر الزمن، وذلـك بسبب التغيّرات في العلاقات الاقتصادية التي تؤثر تأثيراً كبيراً في تغيّر أهمية المواقع الاقتصادية للمدن والأقاليم سلباً أو إيجاباً، إِذْ يجري تبادل الدور الريادي في البلـد أو الإقليم بين مدينة وأخرى فمدينة موسكو انتزعت الدور الريادي مـن مدينـة سـان بطرسبورغ في القرن19م1. وبهذا الصدد كتب بارانسكي ن.ن "أنَّ الموقع الجغرافـي الاقتصادي يجب دراسته وبحثه مع المدخل التاريخي.. وخلافـاً للموقـع الرياضـي الفلكي والموقع الجغرافي الطبيعي توجد في الموقع الجغرافي الاقتصادي الخصوصية التاريخية"2 . وإنَّ هذه الخصوصية التاريخية للموقع الجغرافي الاقتصادي هـي مـا تميزه عن الموقع الرياضي الفلكي والموقع الجغرافي الطبيعي، اللذين يتصفان بالثبات وعدم التغير مع الزمن 3.

2- الطابع الاحتمالي للموقع الجغرافي الاقتصادي: إنَّ أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي وأثره في العمليات الاقتصادية والاجتماعية داخل الموضوع (البلد، الإقليم، المدينة... الخ) لا يجوز تعميمه بالمطلق، ولا سيّما ما يتعلـق بـالتطور الاقتـصادي والاجتماعي، باعتبار أن الموقع الجغرافي الاقتصادي شرط أساسي من شروط تطور هذا الموضوع وتفاعله مع محيطه.

  وبعبارة واحدة يتميز الموقع الجغرافي الاقتصادي للمدينة أو الإقليم أو حتى البلد بطابع احتمالي بخصوص تأثيره في التطور الاقتصادي والاجتماعي لهذه المدينـة أو الإقليم أو البلد. 

1 بيرتسك. ي.ف، جغرافية المدن ( الجيوأوروبان) موسكو 1991 م ص 121. 
2 بارانسكي ن.ن، الجغرافية الاقتصادية والمصورات الاقتصادية، المطبعة الحكوميـة، المنـشورات الجغرافية، موسكو 1956م.
3 ايشوك. س.ي، ممدوح دبس، الموقع الجغرافي الاقتصادي كعامل في تشكل المجمع الاقتصادي لإقليم جنوب أوكرانيا الاقتصادي ، مجلة الجغرافية، جامعة كييف1990م العدد 32 باللغة الاوكرانية. 

3- التفرد : إنَّ الدور المتفرد والمتميز الذي تقوم به المدينة أو الإقليم اعتمـاداً على تفرد موقعها الجغرافي الاقتصادي يعطي لكل منهما ملامـح فريـدة ومختلفـة وميزات خاصة تميزه عن غيره من المدن أو الأقاليم الأخرى، حتى ولو تشابهت مع بعضها في عدد السكان وفي الوظائف والشروط الطبيعية والبنيان، وهذا مـا جعـل تصنيف المراكز العمرانية والأقاليم على أساس الموقع الجغرافي الاقتـصادي عمليـة صعبة ومعقدة.

4- العلاقة الوطيدة والمصيرية للمدينة أو الإقليم مع المناطق المحيطة بكـل منهما التي تنجذب إليها عادة، وذلك بما تتمتع به هذه المناطق من ظروف ومـوارد طبيعية واقتصادية. وهنا لابدَّ من الإشارة إلى العلاقة المتبادلة بين الموقـع الأكبـري والمتوسط والأصغري للمدن والأقاليم وأثر هذه المواقع في نمو هذه المدن والأقاليم أو عدم نموها. وهذا ما أوضحه مايرغويز في أثناء حديثـه عـن العلاقـات المكانيـة المتكاملة بالارتباط مع حجم المساحة1 . وهذا ما ذكره أيضاً محمد صـافيتا وعـدنان عطية وعدُّاه سمة مهمة للموقع الجغرافي الاقتصادي  2.

5- تكامل عناصر الموقع الجغرافي الاقتصادي للمدينة أو الإقلـيم وتفاعلهـا يعطي الموقع أهميتـه، لذلك يستحسن دراسة هذه العناصر دراسة متكاملة، ولكن هذا لا ينفي دراسة بعض العناصر بصورة مستقلة لمعرفة أثرها في المدينـة أو الإقلـيم ولمعرفة العلاقات الأكثر أهمية من غيرها بالنسبة إلى المدينة أو الإقلـيم، وإظهـار تفاعلها، وتغيّر هذا التفاعل بهدف تحديد إقليم المدينة العـام أو الإقلـيم الاقتـصادي بحسب تكامل العناصر والعلاقات.

1 مايرغويز. ي. م، منهجية الدراسة الجغرافية الاقتصادية على مقياس مكاني صغير، إصدار جامعة موسكو1981م
2 محمد ابراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحـضري، مرجـع سـابق ص63.

  تتمثل أهم عناصر الموقع الجغرافي الاقتصادي لموضوع ما فـي موقـع هـذا الموضوع بالنسبة إلى خطوط النقل والمواصلات وعقدهم المختلفة، وكـذلك موقعـه بالنسبة إلى الموارد الطبيعية والاقتصادية وإلى أماكن تركّـز المنـشآت الـصناعية ومناطق الإنتاج الزراعي وأسواق تصريف السلع والخدمات، وأيضاً الموقع بالنـسبة إلى مناطق الكثافات السكانية المرتفعة وغيرها.

   ويمكننا أن نضيف إلى السمات التي ذكرناها سمة المسافة، إِذْ تعدُّ هذه الـسمة من أهم السمات المميّزة للموقع الجغرافي الاقتصادي، فدون المسافة بين الموضوعات الجغرافية الاقتصادية لا وجود لمقولة الموقع، وهذا ما أكده مايرغويز في كتاباتـه 1 .

  وتعدُّ المسافة برأيه أحد العوامل الأساسية لتشكل مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي. وتُحدّد المسافة من خلال القياس، إِذْ يمكن تمييز ثلاثة قياسات للمسافة هي: 

أ- مسافة جيوديزية : وتقاس بالخط المستقيم الواصل بين نقطتين. 

ب- مسافة جغرافية فعلية : وتقاس بطرق المواصلات. 

ت- مسافة اقتصادية : وتقاس من خلال مؤشري الزمن (أي الوقـت المـستغرق علـى الطريق) والقيمة (أي النفقات المالية) وهذا القياس للمسافة هو الأهم بالنـسبة إلـى الجغرافيون الاقتصاديين. وقد اهتم بقياس المسافة في مجال الجغرافية كثيـر مـن العلماء أمثال فيبر، كريستالر، هارفي، فاسيليفسكي وغيرهم، ومع هذا فإنَّه لا يوجد مقياس مطلق لقياس المسافة.

  ومن السمات الأخرى برأينا للموقع الجغرافـي الاقتـصادي تأكيـد العلاقـات الخارجية للموضوع المدروس بالنسبة إلى الموضـوعات الأخـرى، ولـيس علـى الخصائص الداخلية له على الرغم من أهمية هذه الخصائص، فالموقع هـو منظومـة العلاقات الخارجية الحيوية المهمة للموضوع المدروس.

1 مايرغويز. ي.م. منهجية الدراسة الجغرافية الاقتصادية على مقياس مكاني صغير، مرجع سابق ص 

   ويعتقد مايرغويز. ي.م أنَّ مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة اتجاهات هي :

أ- العلاقات المكانية الأساسية أي العلاقة بالنسبة إلى عناصر الإنتـاج الاجتمـاعي، وإلى مكامن الثروات الباطنية والمراكز الصناعية وطرق المواصلات وعقدها... الخ .

ب- العلاقات المكانية الإنتاجية : أي العلاقة بالنسبة إلى الأشرطة والبؤر الاقتصادية.

ت- الموقع المتكامل (العلاقات المكانية المتكاملة)، إنَّ العلاقات هنا بالارتبـاط مـع حجم المساحة يمكن أن ينبثق عنها موقع صغير أو متوسط أو كبير 1 .

  إنَّ مفهوم الموقع الجغرافي الاقتصادي معقد ومركب مـن عناصـر اقتـصادية متعددة ومتشابكة في علاقات مكانية متنوعة، تحدد - إلى درجة كبيرة - البنية الوظيفية للإقليم وعلاقاته بالأقاليم الأخرى والشيء نفسه ينطبق على المدن.

  وتتوقف أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي للمدينة أو الإقليم على جملـة مـن الظروف والعوامل التي تشكل عناصر جغرافية اقتصادية أساسية لهذا الموقع أهمها: 

1- الموقع بالنسبة إلى خطوط النقل والمواصلات الرئيـسة وعقـدهم المختلفـة (تقاطعاتهم) سواء كانت طرقاً إقليمية أو دولية وعلى اختلاف أنواعهـا (بريـة، مائية، جوية).

  يقول الجغرافي الروسي بارانسكي: إنَّ المدن وشبكة الطرق التي تـصل بينهـا تشكل الهيكل العظمي للإقليم وتعطي لخارطته الاقتصادية شكلها المتميـز2. وهنـاك تفاعل متبادل بين طرق المواصلات والمدينة. وهذا يشكل عاملاً مهمـاً فـي تكـوّن الإقليم الجغرافي الاقتصادي وتطوره.

1 مايرغويز. ي. م، منهجية الدراسة الجغرافية الاقتصادية على مقياس مكاني صغير، إصدار جامعة موسكو 1981م ص، . نقلاً عن ايشوك . س ي، ممدوح دبس، الموقع الجغرافي الاقتصادي كعامل في تشكل المجمع الاقتصادي لإقليم جنوب أوكرانيا، مجلة الجغرافية، جامعة كييف 1990 م العـدد 32. باللغة الأوكرانية.
2- بارانسكي ن.ن ، المبادئ العلمية في الجغرافية، أعمال مختارة، موسكو 1980 م ، نقلاً عن صافيتا وعطية جغرافية المدن والتخطيط الحضري، مرجع سبق ذكره ص65.

   وتؤدي طرق النقل على اختلاف أنواعها دوراً مهماً في نشوء المراكز العمرانية المدنية والريفية وتوزعها ونموها، وفي استثمار الموارد المحلية، الأمر الذي يؤثر في نمو الإقليم وفي بنيته الوظيفية أيضاً. فالطرق النهرية التي تعبـر الأنهـار الكبيـرة الصالحة للملاحة تعدُّ من العوامل الجاذبة للمدن، فقد نشأت كثير من المدن على هـذه الأنهار كمراسٍ أو مرافئ نهرية، كما قامت مدن عديدة على الأقنية النهريـة، التـي أُنشِئَتْ لتصل بين الأنهار أو بين الأنهار والبحار والبحيرات. وكان لسكة الحديد دور مهم في إعمار مناطق نائية وإقامة المدن على جوانبهـا سـواء لخدمـة النقـل أو لاستثمار الموارد المحلية كما هو الحال في الخط الحديدي العابر لـسيبيريا. ولطـرق السيارات أيضاً دور كبير في قيام مدن جديدة أو في دفع القرى للنمو والوصول بهـا إلى مرتبة المدن.

   وتؤدي المطارات والموانئ البحرية الدور نفسه فـي نمـو المـدن والأقـاليم وازدهارها، إِذْ يؤدي المرفأ البحري دوراً كبيراً جداً في حياة المدن المينائيـة (مـدن الموانئ)، وتزداد أهمية المرفأ أو تنقص مع الزمن، بسبب تغيّر الأوضاع الـسياسية والاقتصادية التي تؤثر في اتجاهات خطوط النقل والتجارة الدولية في البلـد والعـالم ( فمثلاً ازدهرت موانئ البحر المتوسط بعد شق قناة السويس، كما ازدهـرت أهميـة مرفأ ومدينة مرسيليا بعد احتلال فرنسا للجزائر، كما تضاءلت سـرعة نمـو مدينـة أوديسا بعد عام 1917م بسبب نقص تصدير القمح من روسيا ) 2.

1- أمين طربوش، مبادئ الجغرافية الطبيعية والبشرية ط2 دمشق 1997م ص نقلاً عن صافيتا، عطيـة جغرافية المدن والتخطيط الحضري ص65.
2- محمد صافيتا، فيصل قماش، عدنان عطية، المبادئ العامة لجغرافية المدن ، مرجع سـبق ذكـره، ص 20-21 .

  وكلما كان موقع الإقليم أو المدينة أكثر ملاءمة على تقاطع طرق المواصـلات وشبكات النقل كان ذلك عاملاً مساعداً على نمو الإقليم أو المدينة، ولا توجـد مدينـة كبيرة دون طرق نقل ومواصلات متطورة، كما أنَّه لا يوجد إقليم اقتصادي دون شبكة من الطرق والعقد المواصلاتية، ولذلك لابدَّ للإقليم أو المدينة مـن الاسـتمرار فـي تحسين شروط النقل والمواصلات داخلهما، من خـلال مـد شـبكات طـرق النقـل والاهتمام بها وإنشاء الموانئ البحرية والجوية التي تدعّم الصلات (الـروابط) بـين أجزاء المدينة والإقليم وبينها وبين الأقاليم المجاورة، وكذلك مع بلدان العالم الخارجي وأقاليمه من خلال عمليات التبادل لمنتجات فروع التخصص السلعية والخدمية. وفـي هذا الصدد يقول جمال حمدان: إنَّ العلاقة بين النقل وموقع المدينة وثيقة جداً، حتـى أن جغرافية النقل تقترب من جغرافية المدن اقتراباً شـديداً، بـل يمكـن القـول: إنَّ جغرافية المدن هي جغرافية النقل حيث توقفت ووصلت إلى منتهاها. فجغرافية المدن هي القمة النهائية لجغرافية النقل (فالمدن هي ملتقى ومفترق ومنتهى ... الخ للطرق) والتفاعل بين الطريق والمدينة متبادل وكل منهما فاعل ومفعول1.

1- جمال الدين حمدان، جغرافية المدن ط2، القاهرة 1972 م ، ص 11.

2- الموقع بالنسبة إلى الموارد الطبيعية والاقتصادية المختلفة: 

   يـؤدي هـذا الموقع دوراً كبيراً في حياة الأقاليم والمراكز العمرانية داخل الأقاليم، وتتنوع الموارد التي تقوم بهذا الدور مثل الموارد المعدنية وموارد الطاقة ومواد البناء ومنابع الميـاه (بما في ذلك المياه المعدنية والحارة) والغابات والتربة الخصبة والمراعي.. الخ. ومن المهم هنا كمية هذه الثروات ونوعيتها وإمكانية استغلالها بشكل اقتصادي وبعـدها أو قربها عن المدينة أو الإقليم. كانت هذه الموارد سبباً في قيام المدن ونمو كثيـر مـن الأقاليم غير الملائمة لحياة الناس وتطورها كمدن النفط والغاز في الصحاري الحـارة (كصحاري شبه الجزيرة العربية والصحراء الأفريقية الكبرى)، ومدن الفحم والحديـد في المناطق الباردة في العروض الشمالية . 

   فالموارد الطبيعية والاقتـصادية تـشكل القاعدة والركيزة الأساسية لقيام النشاطات الاقتصادية وفروع التخصص فيها، ولقيـام المراكز العمرانية ونموها وتطورها أيضاً، من خلال الاستثمار العقلاني والعلمي لهذه الموارد 2 . فمثلاً أدى استثمار الثروات الباطنية في أوروبـا إلـى ازدهـار النـشاط الصناعي فيها الذي أدى بدوره إلى ارتفاع مستوى معيشة الفرد في أوروبـا، وإلـى ظهور الأقاليم الصناعية والتركز الشديد للسكان فيها وحولها، وكذلك إلى العدد الكبير للمدن وسكان المدن .

   وهناك ارتباط بين حجم الموارد الطبيعية والاقتصادية وأحجام المدن التي تقـوم عليها، والتي غالباً ما تكون غير كبيرة إلا في حال اكتساب المدينة وظـائف جديـدة غير وظيفة استغلال الموارد، وهذا ما يحدث غالباً (مثل مدينة دبي التي قامت نتيجـة استغلال النفط وأصبحت مع الزمن مركزاً تجارياً كبيراً بالنسبة إلـى إقلـيم الـشرق الأوسط ككل). وغالباً ما تصاب المدن التي تعتمد فقط على استغلال المـورد الـذي قامت على أساسه بأذى بالغ، وقد تزول أو تضمحل مع نفاذ المورد (ولاسيّما إذا كان هذا المورد خاماً معدنياً أو مصدراً من مصادر الطاقة) مثل مدن الأشباح الأمريكيـة التي قامت على أساس استغلال الذهب 3 . 

1- ساطع محلي، جغرافية المدن عمرانياً وتنظيمياً، منشورات جامعة دمشق 1993م ص 7-17.
2- محمد ابراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحـضري، مرجـع سـابق . ص 66 -67 .
3- محمود رمزي، الوجيز في الجغرافية الاقتصادية، منشورات جامعة دمشق 1997م ص 112

3- الموقع بالنسبة إلى أماكن (منـاطق) تركـز المنـشآت أو المؤسـسات الصناعية المختلفة (أي الظهير الصناعي) وكذلك الدور أو الوظيفة الصناعية التي تقوم بها المدينة أو الإقليم بحد ذاتهما: 

   كانت الصناعة في القرن العشرين وحتى يومنا هذا تشكل العامل الأهم في نشوء كثير من المدن والأقاليم في العالم وتطورها، فقد أدّت الصناعة بشقيها الاسـتخراجي والتحويلي ولا تزال دوراً مهماً في نشوء المدن والأقاليم وتطورها، فمـثلاً إنَّ إيجـاد 10 آلاف فرصة عمل في الصناعة يخلق فرص عمل تعادلها في الوظائف الخدميـة، وفي الوقت نفسه فإنَّ بعض فروع الصناعة تخلق مشكلات كبيرة للمـدن والأقـاليم، أقلها لا يقل خطراً عن مشكلة التلوث، كما أنَّ فروع الصناعة جميعها تـدفع بالمـدن نحو التضخم، وهذا يؤدي بدوره إلى إيجاد مشكلات أخرى، مثـل ارتفـاع أسـعار الأراضي وازدحام السكان والضجيج والضغط على الخدمات والغذاء وفرص العمـل وغيرها1 . يضاف إلى ما تقدم تفشي البطالة على نطاق واسع فـي المـدن والأقـاليم الصناعية، نتيجة التقدم العلمي والتقني الذي أدى إلـى أتمتـة العمليـات الـصناعية والاستغناء عن أعداد كبيرة من الأيدي العاملة.

1- جمال حمدان، جغرافية المدن ط 5، القاهرة 1972م ص، نقلاً عن محمد صافيتا، فيـصل قمـاش ، عدنان عطية، المبادئ العامة لجغرافية المدن، مرجع سبق ذكره، ص23 .

4- الموقع بالنسبة إلى مناطق الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني (أو ما يسمى بالظهير الزراعي):

  إنَّ مواقع المدن أو الأقاليم وسط السهول الفيضية أو الساحلية الفسيحة والخصبة المستغلة في إنتاج الغذاء النباتي والحيواني، يساعد على تأمين احتياجات السكان مـن المواد الغذائية وتحسين مستوى معيشتهم مـن خـلال تـوافر المنتجـات الزراعيـة الرخيصة والطازجة، كما يساعد هذا على قيام العديد من الصناعات الخفيفة ونشاطها، التي تتخذ من المنتجات النباتية والحيوانية مواد أولية لها (مثل صناعة تعليب الخضار والفواكه وتجفيفها، وتصنيع المنتجات الحيوانية مثل تعليب اللحوم وصـناعة الألبـان والأجبان والسمن الحيواني، وكذلك صناعة النسيج والألبسة الجاهزة وأيـضاً دباغـة الجلود وتصنيعها ... الخ). أمّا المدن والأقاليم التي تفتقر إلى الظهير الزراعي (كمـا هو الحال في كثير من مدن الخليج العربي التي تحصل على كثير من احتياجاتها مـن المنتجات الزراعية عن طريق الاستيراد من أوروبا وبلا د الشام.) فإنها تعـاني مـن مشكلات عدة منها مشكلة نقل المنتجات الزراعية، مما يزيد من أسـعارها ويجعلهـا عرضة للتلف دون تبريد 1 . فمثلاً إنَّ سعر الموز في سورية يبلـغ ثلاثـة أو أربعـة أضعاف سعره في بلدان أمريكا الوسطى المنتجة للموز، كمـا أنَّ أسـعار منتجـات الزراعة المحمية (الخضار) في مدن الساحل وقراه شتاءً أقل ممـا هـي عليـه فـي المناطق الداخلية وأريافها 2 .

5- الموقع بالنسبة إلى أسواق تصريف السلع والخدمات التي تنتجها المدينة أو الإقليم، وكذلك مواقعها بالنسبة إلى أماكن عرض السلع والخدمات التي تتطلبها المؤسسات والسكان في المدن أو الأقاليم (أي الموقع التجاري للمدن أو الأقاليم): 

    يقوم كل إقليم أو مدينة بإنتاج بعض المنتجات أو تقديم بعض الخدمات، بما يلبي احتياجات السكان في الإقليم أو المدينة، وتصدير المنتجات أو الخدمات الفائضة عـن احتياجات السكان إلى المحيط القريب أو البعيد. إنَّ هذا الفائض التصديري (التجاري) من المنتجات أو الخدمات أو الاثنين معاً هو الذي يحدد الوظيفة الأساسية والحياتيـة للمدينة أو الإقليم، فكلما تطورت هذه الوظيفة أو الوظائف نمـت المدينـة أو الإقلـيم والعكس صحيح.

  إنَّ هذه السلع والخدمات التصديرية يزداد سعرها مع البعـد أو المـسافة التـي تقطعها السلعة أو الخدمة إلى أسواق الاستهلاك، لأنَّ ثمنها هناك سيكون معادلاً لتكلفة إنتاجها مضافاً إليها تكلفة النقل ونسبة الربح المطلوبة، وهناك مسافة معينة لا يمكـن بعدها تحقيق ربح بسبب تكاليف النقل التي تأكل الأرباح وبذلك تعجز عن المنافسة.

1- محمد إبراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحـضري، مرجـع سـابق . ص 68 -69 .
2- محمد صافيتا، فيصل قماش، عدنان عطية، المبادئ العامة لجغرافية المدن، مرجع سبق ذكـره، ص 24 .

   وما ينطبق على السلع المادية ينطبق على الخدمات، حيث تتزايـد وباسـتمرار الحاجات الترويجية والسياحية لسكان المدن، ولكن ما يحدّ من تلبيتها إمّا بعد أمـاكن العرض السياحي أو ضعف الإمكانيات المادية للسكان، التي لا تسمح لهم بالسفر بعيداً لتلبية هذه الحاجات، أمّا في حال توافر موارد ترويحية قريبة في الضواحي مع بنيـة تحتية سياحية مقبولة فإن السكان سيستخدمونها وبأرخص التكاليف.

6- الموقـع بالنـسبة إلـى الأمـاكن والمنـاطق ذات الكثافـات الـسكانية المرتفعة(الظهير البشري):

  منذ القدم نشأت المراكز العمرانية والأقاليم في المناطق المزدحمة بالسكان أكثر من غيرها. وإن أغلب المدن والأقاليم في الوقت الحاضر لم تَنْمُ وتكبـر مـن خـلال الزيادة الطبيعية لسكانها الأصليين فحسب، وإنما بالدرجة الأولى بسبب الهجرات إليها من الأرياف ومن المناطق الأقل جذباً للسكان.

  إنَّ وجود مناطق كثيفة السكان في الأماكن المحيطة بالمدينة أو الإقلـيم يجعـل منهما سوقاً لتصريف منتجاتها وخدماتها، كما أن كثير من سـكان ضـواحي المـدن يأتون إلى المدينة الكبيرة بشكل يومي أو دوري أو عرضي لشراء حاجاتهم وملاحقة مختلف قضاياهم في المدينة المركزية، فهم يشكلون مورداً للعمالة بالنسبة إلى المدينة، يقومون بتزويد ما يلزمها من الأيدي العاملة المؤهلة والمدربة والمتخصصة، وهذا ما يسهم في نمو المدينة وتطورها، ومن ثم نمو الإقليم المنتمية إليه. فالصناعات الحديثة والخدمات ذات التطور التكنولوجي العالي تتطلب أيادي عاملة خبيرة ومدربة تنجـذب إلى أماكن تركّز الأطر في المدن الكبيرة التي تحوي الجامعات ومراكز البحث العلمي ومراكز التأهيل والتدريب 1 . أمّا الأطر غير المؤهلـة أو قليلـة التأهيـل والتـدريب فأصبحت قليلة اللزوم ولا تجد عملاً منتجاً لها فهي تنـدرج ضـمن قائمـة البطالـة والبطالة المقنّعة.

1- محمد صافيتا، فيصل قماش، عدنان عطية، المبادئ العامة لجغرافية المدن، المرجع السابق ص 25-26 .

7- الموقع بالنسبة إلى المناطق والأقاليم الأخرى التـي تمتلـك التخصـصات الإنتاجية والخدمية ذاتها وتنتج المنتجات والخدمات نفسها التي تنتجها تلك المدن أو الأقاليم (الموقع التنافسي):

  إنَّ وجود المنافسة يحفز المدينة أو الإقليم على زيادة الاهتمام بجودة المنتجـات والخدمات لكي تستطيع منافسة غيرها من المدن أو الأقاليم، ويتطلب ذلـك تخفـيض التكاليف واستخدام التقانات الحديثة وأساليب إنتاج أكثر اقتصادية للموارد والظـروف الطبيعية والبشرية، وهنا تزداد أهمية المدن والأقاليم التي تقع في مناطق وفيرة باليـد العاملة الرخيصة والمدرّبة التي تستطيع القيام بأعبـاء الإنتـاج الـسلعي والخـدمي ومتطلباتهما، مثل تلك التي تقع في البلدان أو الأقاليم النامية( أو المتخلفة اقتـصادياً)، إن مثل هذه البلدان والأقاليم ومدنها أصبحت جاذبة للاستثمارات المحليـة والأجنبيـة وللسكان للعمل فيها،؛ مما يؤدي إلى نموها وازدهارها ونشاط حركة العمران والبناء فيها نتيجة توافر فرص العمل التي تجذب السكان للتركز في أماكن الاستثمارات كمـا في جنوب شرق آسية 1 ، (مثل ماليزيا وتايلاند وغيرها).

8- الموقع الحدودي (أو الحدي) سواء على الحدود الدولية للبلد أم على مقربة منها أو على الحدود الطبيعية للأقاليم، أو على حدود الأقاليم الاقتصادية... أو غير ذلك :

   يؤدي هذا الموقع دوراً مهماً في حياة المدينة أو الإقليم ويساعد على تطورهمـا أو انحطاطهما. فالحدود السياسية يمكن أنْ تشكل عائقاً منيعاً أمـام إقامـة الـصلات (الروابط) المتنوعة للمدينة أو الإقليم مما حد من نموهما، مثل مدينة حلب في أثنـاء الاحتلال التركي العثماني وبعده.

1- محمد ابراهيم صافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحـضري، مرجـع سـابق ص72، وأيضاً محمد صافيتا، فيصل قماش، عدنان عطية، المبادئ العامة لجغرافية المدن، مرجع سابق . ص26-27  

    ترتبط هذه الصلات للمدينة أو الإقليم بسياسة كل دولـة ومـصالح حكامهـا وسكانها. وفي أحيان أخرى تكون الحدود نعمة وثروة للمدينة أو الإقليم، ولاسيّما عند وجود اختلاف في مستويات التطور والتخصص الاقتصادي، وعند وجـود علاقـات متطورة مع بلدان الجوار، إذ تجري المبادلة في ظروف حسن الجوار وفتح الحـدود أمام سلع ومنتجات البلدان المتجاورة وبأقل قدر من الإعاقة الجمركية، مما يؤدي إلى ازدهار المدن والأقاليم المجاورة للحدود، وهذا ما نجده واضحاً وجليـاً فـي الأقـاليم والمدن على طول الحدود السياسية بين سورية وتركية الممتدة لمسافة 845كم 1، بعـد التحسن الذي شهدته العلاقة بين البلدين في العقد الأخير التي تأزمت في العام 2000م إلى حد القطيعة وأوشك النزاع المسلح أنْ يقع بين البلدين.

  يعمل سكان المدن والأقاليم الحدودية غالباً في السياحة التجاريـة أو تهريـب البضائع، إذا كانت القوانين لا تسمح بحرية التجارة للأفراد ولاسيّما إذا كانت هنـاك فروق بالأسعار بين البلدين المتجاورين. 

   كما أنَّ وقوع المدينة أو الإقليم في مناطق التماس الحدودية يمتلك أهمية كبيـرة في نشوئها وتطورها، فمثلاً في مناطق تماس البر والبحر تزدهر المـوانئ والمـدن المينائية والسياحية والتجارية والصناعية، وفي مناطق تماس البر مع الفـضاء تنـشأ البلدات والمدن قرب المطارات. كما أن المناطق الانتقالية الواقعة على حدود المناطق أو الأقاليم متنوعة التخصص والإنتاج الاقتصادي التي تقوم أساساً على الاختلاف في الظروف الطبيعية، تمتلك أهمية في نمو هذه الأجزاء الانتقالية مـن مـساحة الإقلـيم ومراكزها العمرانية وتطورها، مثل المنطقة الانتقالية بين السهب والغابـة، والـسهل والجبل، والبادية والمعمورة، ومناطق التعـدين والـصناعات التحويليـة، ومنـاطق الاصطياف ومناطق الطلب على الترويح.. الخ 2 

1- سهام علي دانون، جغرافية سورية العامة، منشورات جامعة دمشق 2007-2008م ص 28.
2- محمد ابراهيم صافيتا، عدنان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحضري، مرجع سابق ص72-73 .

   في مثل هذه المناطق الحدودية (أو الحدية) تتعدد وظائف المدينة أو الإقليم، وخاصة الوظيفـة التجاريـة التـي تـشكل الأساس، إِذْ تشكل هذه المناطق والمراكز العمرانية المدنية فيها سوقاً واسـعاً لتبـادل  السلع والخدمات بين الأقاليم 1 .

  ويمكننا أنْ نضيف إلى ما تقدم عوامل كلّه (أو عناصر) أخرى للموقع الجغرافي الاقتصادي للأقاليم ومراكزها العمرانية هي الموقع من بؤر التوتر العالمي والموقـع من مراكز الثقل الحضاري.

1- الموقع من بؤر التوتر العالمي : يؤدي هذا الموقع دوراً سلبياً في حياة المدن والأقاليم المجاورة أو المتاخمة لهذه البؤر التي تـسودها الحـروب والاضـطرابات والنزاعات (الأهلية والعرقية والدينية والأيديولوجية وغيرها) إِذْ تعمل علـى تـشريد السكان وخلو المدن من أبنائها، كما تعمل أيضاً على تعطيل النـشاطات الاقتـصادية الإنتاجية والخدمية فيها وشللها، كما هو الحال في مدن العراق فـي ظـل الاحـتلال الأمريكي وكذلك مدن أفغانستان وغيرها. وتمثل أفريقية ببلدانها وأقاليمها أكثر منطقة للنزاعات في العالم (فرواندا وجرائم الإبادة الجماعية، الـصومال وغيـاب الـسلطة، السنغال وقوات المعارضة، غينيا بيساو وقوات المتمردين، سيراليون ومقاتلو الجبهـة الثورية والانقلابات والاضطرابات، نيجيريا وحرب النفط والصراع علـى الـسلطة، السودان والقوات الانفصالية في الجنوب، ساحل العـاج والـصراع علـى الـسلطة، الاحتجاجات الشعبية في بلدان المغرب العربي على تردي مستوى المعيـشة فيهـا). وتشير معطيات الأمم المتحدة أنه في المدة بين عامي 1960 -1998م قتل 7 ملايين أفريقي في 32 حرباً نشبت في أفريقية، وأنَّ 9 ملايين شخص صـاروا لاجئـين أو نازحين نتيجة الحروب التي وقعت في السنوات أخيرة في العقد الماضي فـي ليبريـا وسيراليون ورواندا والكونغو الديمقراطية وأنغولا. وتشير الإحصاءات التي نـشرتها عدة منظمات إقليمية ودولية أنَّ أفريقية شهدت بدءاً من عام 1960م أكثر مـن 100 انقلاب وأكثر من 25 نزاعاً مسلحاً قتل فيها الملايين من الأفارقة دون الإشارة إلـى النزاعات القبلية 2 .

1- محمد صافيتا، فيصل قماش، عدنان عطية، المبادئ العامة لجغرافية المدن، مرجع سابق ص27-28 .
2- ممدوح شعبان دبس، جغرافية البلدان النامية في أفريقية، منشورات جامعة دمـشق 2006-2007 م ص 62-63 .

  إنَّ هذه النزاعات والحروب والاضطرابات أفرغت المراكز العمرانية في بلـدان القارة الأفريقية من سكانها، كما أنَّها شلّت الحياة الاقتصادية الإنتاجية والخدميـة فـي أقاليم القارة الأفريقية ومراكزها العمرانية، وهذا ما جعل أفريقية القارة الأكثـر فقـراً وتخلفاً بين قارات العالم.

   كما أنَّ موقع المدينة أو الإقليم من الكيانات العنصرية الاستيطانية، مثل الكيـان العنصري في جمهورية جنوب أفريقية سابقاً وأيضاً الكيـان العنـصري الـصهيوني يعطل ويعرقل نموها وتطورها، وهذا ما ينطبق علـى مدينـة القنيطـرة الـسورية المحررة، وكذلك مدن الضفة الغربية وقطاع غزة في فلسطين المحتلة.

2- الموقع من مراكز الثقل الحضاري: إنَّ موقع المدن والإقليم بـالقرب مـن المناطق المتحضرة والمتطورة يشكل حافزاً على نموها وتطورها، من خلال الاستفادة من المنجزات العلمية والتقنية الموجودة في مناطق الثقل الحضاري. مثلاً: إنَّ قـرب بلدان شمال أفريقية من جنوب أوروبا ووجود البحر المتوسط بينها الذي يعدّ من أنشط بحار العالم حركة وازدهاراً وحضارة 2، ساعد منذ القـدم علـى تطـور العلاقـات الاقتصادية بين الإقليمين، وساعد على تطور الإنتاج فيهما وتوزعه، الأمر الذي ساعد على ازدهار المدن ونموها على الساحل الشمالي لأفريقية وحتى في داخل هذا الإقليم بسبب قيام البلدان الأوروبية المتوسطية ذات التطور الحضاري العلمي والتقني العالي في اكتشاف الموارد الاقتصادية واستثمارها في بلدان الشمال الأفريقي، كمـا أسـهم قرب شمال أفريقية من بلدان أوروبا المتطورة في نشاط الـسياحة والتـرويح نتيجـة ازدياد أعداد السياح الأوروبيين . 

2 المرجع سابق، ص65

  وعلى ضوء ما تقدم كلّه يمكن تصنيف الموقع الجغرافي الاقتصادي- البـشري إلى ثلاثة أنماط رئيسة وذلك حسب مقياس المكان، وبحسب مكان تمركز موضوعات النشاط البشري، وكذلك بحسب تخصص هذه الموضوعات.

1- بحسب مقياس المكان (أي حجم المساحة التي يشغلها الموضوع بلداً كـان أم إقليماً أم مدينة ... الخ): وعلى هذا الأساس يمكن التمييز بين ثلاثة مستويات من المواقع هي : الموقع الصغير والمتوسط والكبير، ويمكن أنْ نضيف إلى ذلك الموقـع العملاق.

   وهناك توافق بين حجم الموضوع ونمط الموقع الجغرافـي الاقتـصادي علـى أساس مقياس المكان. ويقصد بحجم الموضوع (المدينة مثلاً) عـدد الـسكان الـذين يقطنون فيها، ولكن هذا لا ينفي أنَّ للمدينة أكثر من حجم (كالحجم المساحي مثلاً) وإنَّ عدد السكان أهمها على الإطلاق.

   حجم المدينة يرتبط بحجم المنطقة أو مقياسها (أو الظهير) التـي تـرتبط مـع المدينة بعلاقات قوية وتنجذب إليها بشدة، كما يرتبط بحجم المدينة أيضاً بنية وظائفها ومخططها.

  وبالنسبة إلى المدن الصغيرة والمتوسطة (التي يسكنها أقل من 100 ألف نسمة) يتشكل موقع صغير، وبالنسبة إلى المدن الكبيرة (من 100-500 ألف نسمة) يتـشكل موقع متوسط، أمّا بالنسبة إلى المدن الكبرى (من 500 ألف إلى مليون نسمة) وكـذلك المدن المليونية العملاقة التي يسكنها أكثر من مليون نسمة فيتشكل موقـع كبيـر أو عملاق. 

    وبنتيجة تشكل المدن التابعة وتعقّد شبكة النقل يمكن للمدن الكبيـرة أنْ يتحـول موقعها المتوسط إلى موقع كبير، والمسألة نسبية هنا، فمثلاً إنَّ موقـع مدينـة حلـب بالنسبة إلى محافظة حلب يمثل موقعاً صغيراً، وبالنسبة إلى القطر موقعـاً متوسـطاً، وبالنسبة إلى الجناح العربي الآسيوي أو الوطن العربي أو حتى قارة آسـية بأكملهـا يمثل موقعاً كبيراً، وأخيراً فإنَّ موقع مدينة حلب بالنسبة إلى العالم بأكمله يمثل موقعاً عملاقاً. إنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي الصغير يقَوم بالنسبة إلى المحافظـة أو الإقلـيم الاقتصادي الكبير (أي موقع الموضوع على المستوى المحلي) ويقَوم الموقع المتوسط بالنسبة إلى الدولة بأكملها (أي موقع الموضوع على المستوى القطري)، وأمّا تقـويم الموقع الكبير فيتم بالنسبة إلى مجموعة دول تشكل إقليما أو بالنسبة إلـى قـارة مـن قارات العالم (أي موقع الموضوع على المستوى الإقليمي أو القاري) وأخيـراً يقَـوم الموقع العملاق بالنسبة إلى العالم ككل (أي موقع الموضوع على المستوى العالمي) . ونشير هنا إلى أنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي الكبير والعملاق هما أكثر المـستويات أهمية. 

2- بحسب مكان تمركز موضوع النـشاط البـشري: إنَّ الموقـع الجغرافـي الاقتصادي على أساس هذا النمط من التصنيف يمكن أنْ يكـون موقعـاً مركزيـاً أو متطرفاً أو حدودياً أو عقدياً أو عميقاً. 

3- بحسب تخصص موضوعات النشاط البشري: على أساس هذا الـنمط مـن التصنيف يمكن أنْ نميّز الأنواع التالية من المواقع الجغرافية الاقتصادية للموضوعات هي : موقع جغرافي نقلي، موقع جغرافي اجتماعي، وموقع جغرافي صناعي، وموقـع جغرافي زراعي، وموقع جغرافي سياسي، وموقع جغرافي بيئي، ونضيف إلى ذلـك الموقع الجغرافي السياحي والترويحي وكذلك الموقع الجغرافي الخدمي.

أ- الموقع الجغرافي النقلي (المواصلاتي) : يحدد موقع الموضوع بالنسبة إلى طـرق المواصلات وعقدها الرئيسة، ويأخذ بالحسبان طاقتها المرورية ومستوى الازدحـام وثمن البضائع المنقولة، ويتسم هذا الموقع بتغيّره السريع نتيجة السرعة في إنـشاء الطرق. ويقسم الموقع الجغرافي النقلي إلى ثلاثة أنواع هـي : البحـري والعقـدي والحدودي.

ب- الموقع الجغرافي الاجتماعي : يحدد هذا الموقـع علاقـة الموضـوع بـالظواهر الاجتماعية مثل المراكز الثقافية و العلمية والسياسية. 

ت- الموقع الجغرافي الصناعي : يبيّن هذا الموقـع علاقـة المؤسـسات أو المنـشآت الصناعية (بشقيها الاستخراجي والتحويلي) بالنسبة إلى مصادر المادة الأولية الخام، ومصادر الطاقة، وسوق العمل وأسواق تصريف المنتجات.

ث- الموقع الجغرافي الزراعي : ويبيّن علاقة الموضوع بالنسبة إلى الموارد الزراعيـة (الطبيعية والبشرية)، وإلى المستهلك وكذلك إلى مورّدي وسائل الإنتاج. 

ج- الموقع الجغرافي السياسي : ويبيّن هذا الموقع العلاقة الجغرافية للموضوع بالنسبة إلى معطيات سياسية تقع خارجه وتؤثر فيه، وقد يأخذ هذا التأثير طابعـاً سياسـياً مباشراً وغير مباشر. ومثال ذلك موقع سورية وأقاليمها ومدنها وقراها من الكيـان الصهيوني الاستيطاني، وكذلك موقعها من العراق المحتل من قبل قوات التحـالف بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، كما ينظر إلى الموقع الجيوسياسي علـى أنـه موقع المكان أو الموضوع المدروس من مجموعات الدول أو التكتلات السياسية. ونشير هنا إلى أن تفاعل مجموع المواقع (الطبيعـي والاقتـصادي - البـشري، والفلكي) لموضوع ما (بلد، إقليم، مركز عمراني.. الخ) يحدد الأهمية الاسـتراتيجية لهذا الموضوع، ويؤدي الموقع الجيواستراتجي لبلد ما أو إقليم ما دوراً مهماً في مـنح القوة لهذه الدولة أو الإقليم ومكانتها من أماكن القوة في العالم.

   ويمكن أنْ نضيف إلى الأصناف الخمـسة الـسابقة مـن المواقـع الجغرافيـة الاقتصادية - البشرية للموضوعات صنفين آخرين من المواقع هما:

الموقع الجغرافي السياحي والترويحي : ويبيّن هذا الموقع علاقة الموضـوع أو المكان المدروس بالنسبة إلى أماكن وجود الموارد السياحية على اخـتلاف أنواعهـا (البيئية والدينية والتاريخية والحضارية)، وأيضاً إلى أماكن وجود المنشآت الخدميـة السياحية، وكذلك موقعه من مناطق الجذب السياحي (السوق السياحي) ومن المنـاطق المصدّرة للسياح .

الموقع الجغرافي الخدمي : ويبيّن علاقة الموضـوع أو المكـان بالنـسبة إلـى المنشآت والمراكز الخدمية الضخمة (مثل المشافي والمصحات والمصارف والأسواق التجارية والمنشآت والمدن الرياضية ومراكز الرعاية الاجتماعية وغيرهـا) وكـذلك موقعه من مصادر المياه النقية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية على اختلاف أنواعها (المائية والحرارية والذرية) ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي... الخ

  إنَّ الدراسة المعمقة للموقع الجغرافي الاقتصادي- البشري تسمح بإجراء تنبؤات (استشرافات) حول تطور الموضوعات الجغرافية الاقتصادية علـى أسـس علميـة صحيحة، سواء أكان المكان المدروس بلداً أم إقليماً أم مركزاً عمرانياً.

   وتمتلك معظم المدن والأقاليم الكبيرة الإمكانيـة لتحـسين خـصائص موقعهـا الجغرافي الاقتصادي- البشري، وذلك بالاستغلال الأفضل لاحتياطي النمو والتطـور الكامن في هذه المدن والأقاليم، مثل إقامة الـصناعات المتنوعـة، وتحـسين شـبكة الطرق، وإنشاء الموانئ البحرية والمطارات، وتأهيل الأطر، وتطوير البنية التحتيـة الإنتاجية والاجتماعية وتحديثها وتنشيط الزراعة وغير ذلك. 

  إنَّ ازدياد أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري للمدن والأقاليم الكبيـرة يخلق عوامل مساعدة على استمرار نموها وتطورها، من خلال امتلاك هـذه المـدن والأقاليم لعوامل الجذب والتركيز للمؤسسات والسكان. 

   وهناك أمثلة كثيرة على حيوية المدن في بعض المواضع الجغرافية التي تعـود فيها المدن للظهور والنمو والازدهار من جديد مثل مدينـة قرطـاج التـي دمّرهـا الرومان، ولكن نشأت مدينة تونس على مقربة منها، ومدينة بابل التي دمّـرت عـدة مرات ولكنها كانت تنبعث من تحت الركام من جديد، أو تظهر المدينة الجديدة بجوار القديمة وتحت أسماء مختلفة - سلوقيا - زمن السلوقيون اليونان، وكتيسيفون في عهـد الفرس الساسانيون، ثم بغداد زمن العباسيينوالشيء نفسه ينطبـق علـى القـاهرة ومكسيكو وغيرها. 

   وقد ورثت هذه المدن المتعاقبة في المكان نفسه الموقع الممتـاز مـن الوجهـة الجغرافية الاقتصادية - البشرية (الموقع الجغرافي الاقتـصادي- البـشري الملائـم) لتوافر جملة من الشروط والعوامل المهمة لنشوء المدن والأقاليم ونموها.

   إنَّ الموقع الجغرافي الطبيعي والاقتصادي - البشري للأقاليم والمراكز العمرانية يؤدي دوراً مهماً في تحديد تخصصاتها الإنتاجية والوظائف التي تؤديها في منظومـة الاقتصاد الوطني للبلد، كما تؤدي الدور نفسه في تحديد مـدى احتفاظهـا بـسكانها وقدرتها على جذب المزيد من السكان، يضاف إلى ذلك دور الموقع في تحديد الأهمية الاستراتيجية لهذه الأقاليم والمراكز العمرانية. 

الموقع الجغرافي الاقتصادي- البشري لإقليم الساحل السوري وأهميته بوصفه عاملاً في تحديد البنية الاقتصادية لإقليم الساحل الـسوري والوظـائف التجاريـة والنقلية والسياحية لمراكزه العمرانية: 

   يحتل إقليم الساحل السوري الواجهة والبوابة البحرية للقطر العربي السوري بما فيها لواء اسكندرون. يمتد هذا الإقليم على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط مسافة قدرها 183 كم (دون اللواء)، وهذا ما يعادل 7.6% من طول الحدود السورية البريـة والبحرية 2 ، بين الحدود التركية شمالاً والحدود اللبنانية جنوبـاً، ولـه شـكل شـريط متطاول من الشمال إلى الجنوب، محتلاً بذلك موقعاً جغرافياً اقتصادياً مميّزاً. (ينظـر المصور رقم1).

1 بيفوفاروف. يو .ل، التمدن المعاصر، موسكو، 1994م ص 64، نقلاً عن محمد ابـراهيم صـافيتا، عدنان سليمان عطية، جغرافية المدن والتخطيط الحضري، مرجع سابق ص64. 
2 سهام علي دانون. جغرافية سورية العامة، مرجع سبق ذكره، ص 28. 

   أمّا الموقع الفلكي للإقليم( بما فيه لواء اسكندرون) فينحصر بين درجتي عـرض (ْ34  37َ ) و (ْ36  53َ ) شمال خط الاستواء 1 . هذا الامتداد العرضي للإقليم يجعلـه يدخل ضمن الشريط الجنوبي للمنطقة المعتدلة فـي النـصف الـشمالي مـن الكـرة الأرضية.

   يحد الإقليم من جهة الشمال الجمهورية التركية، ومـن الجنـوب الجمهوريـة اللبنانية ومن الغرب البحر المتوسط ومن الشرق الغور الانهدامي، الواقع في الجـزء الغربي من إقليمي الشمال والوسط السوري اللذين يشملان أربع محافظات هي حلـب وإدلب وحماه وحمص.

   يغطي إقليم الساحل السوري مساحة قـدرها نحـو 6700 كـم2 منهـا نحـو (2700كم2) ضمن أراضي اللواء، والباقي في الأراضي السورية 2 ، وتتوزع أراضـيه من الناحية السياسية والإدارية على لواء اسكندرون ومحافظتي اللاذقيـة وطرطـوس بصورة رئيسة وعلى أجزاء من محافظات ادلب وحماه وحمص. وسنقصر الحديث في دراستنا لإقليم الساحل السوري على محافظتي اللاذقية وطرطـوس لأنَّهمـا يـشكلان النواة الأساسية للإقليم والجزء الأكبر من مساحته، هذا فضلاً عـن صـعوبة إجـراء دراسة جغرافية صرفة بسبب التوزع السياسي والإداري لأراضي الإقليم، ولاسيّما ما يتعلق بالجانب البشري والاقتصادي بسبب تبعثر الإحصاءات ويعيش على أراضي الإقليم 1.748 مليون نسمة، تبعاً لمعطيات العـام 2010م، وهذا ما يشكّل 8.6% من مجموع سكان القطر في العام نفسه (4.8 % في اللاذقيـة و3.8% في طرطوس).

1- عادل عبد السلام. الأقاليم الجغرافية السورية، منشورات جامعة دمشق 1989 -1990 م ص 190 .
2- إجمالي مساحة لواء اسكندرون 4800كم2 منها ضمن إقليم الساحل السوري 2700كـم2، والبـاقي ينتمي إلى إقليم شمال سورية. 

   وشهد الإقليم معدلات نمو سكاني مرتفعة في عقدي السبعينيات والثمانينيات مـن القرن الماضي، ولكن هذه المعدلات عادت للانخفاض في العقدين الأخيـرين، إِذْ بلـغ معدل النمو السكاني في المدة بين عامي 2000 -2010م ( 17.5 بالألف في اللاذقية و 16.2 بالألف في طرطوس) 1 أمّا المعدل على مستوى القطر في المدة نفسها فبلـغ .24.5 بالألف .

   ويعدُّ الإقليم مصدراً للهجرة خارج حـدوده ولاسـيّما إلـى محـافظتي دمـشق وحمص 2 ، كما يشهد الإقليم هجرة مستمرة من الجبال الساحلية إلى الـسهول والمـدن الساحلية ولاسيّما مدينتي اللاذقية وطرطوس، وبنتيجة ذلك أخذت مساحات الأراضـي الصالحة للزراعة تهجر وتتقلص، وأخذت المـدن المـستقبلة للمهـاجرين تـصاب بالازدحام السكاني، مما أوجد فيها مشكلات اقتصادية واجتماعية معقدة.

   كان لشق الطرق وتعبيدها أثر كبير في التطور الذي تعيشه المنطقة (أي محافظتا اللاذقية وطرطوس) 3.

   كما يعدُّ إقليم الساحل من أكثر أقاليم القطر كثافة عددية، إِذْ بلغ متوسـطها عـام 2010م نحو 416ن/كم2، ويعود ذلك إلى ملاءمة الظروف والأحوال الطبيعية لسكنى الإنسان.

   ويرجع معظم سكان الإقليم في أصولهم إلى مجموعات سامية عربيـة وصـلت المنطقة قبل عشرات القرون وتشير الأدلة والبراهين إلى أنَّ الإنسان الذي عاش فـي المنطقة الساحلية قد أقام المدن والقرى ومارس مهنـة الزراعـة والتجـارة والـصيد البحري. .

1- سهام علي دنون ، جغرافية سورية العامة، مرجع سابق ص190 .
2- في العام 1987 م بلغ عدد سكان الإقليم (محافظتي اللاذقية وطرطوس) الذين يعيشون خارج حدوده 203.700 نسمة وهذا يشكل ما نسبته 15% من مجموع السكان (نقلاً عن عادل عبد السلام، الأقـاليم الجغرافية السورية، مرجع سابق ص220).
3 عادل عبد السلام. الأقاليم الجغرافية السورية ، مرجع سابق، ص 220.

   أمّا الأجزاء المرتفعة من الإقليم فتتميّز بالشروط الطبيعيـة القاسـية والفقـر بالأراضي الزراعية وقلة المياه والبعد والعزلة عن بقية أجزاء الإقليم نتيجـة وعـورة الأرض وصعوبة المواصلات. يتميّز الإقليم بغناه بالتجمعات السكانية وكثافتها العالية في وحدة المـساحة، ممـا يعكس ازدحام التجمعات وتراصها وقصر المسافات بينها وضيق أراضيها. ويتفـاوت حجم التجمعات بين السهل والجبل، فهي بلدات كبيرة أو مـدن مهمـة علـى الـسهل الساحلي وقرى متوسطة وصغيرة في الجبل.

   وتبعاً لمعطيات نهاية العام 2010 م بلغ عدد المناطق في محـافظتي اللاذقيـة وطرطوس 9 مناطق (5 في طرطوس و4 في اللاذقية) وعدد النواحي 40 ناحية (18 في اللاذقية و22 في طرطوس) وعدد القرى 937 قرية (456 في اللاذقية و481 فـي طرطوس) وعدد المدن 11 مدينة (6 في اللاذقية و5 في طرطوس) 1 .

أهم مدن الإقليم هي : اللاذقية، طرطوس، جبلة، بانياس، صـافيتا، دريكـيش، القرداحة، الحفة، الشيخ بدر، القدموس (ينظر المـصور رقـم 2). ويـشكل الـسكان الحضر ما نسبته 51.4% من سكان محافظة اللاذقية و 28.6% من سكان محافظـة طرطوس تبعاً لمعطيات العام 2010م. 

   إنَّ إقليم الساحل السوري هو الإقليم الساحلي الوحيد والواجهة البحريـة للقطـر. وقد حافظ هذا الإقليم على أهمية موقعه الجغرافي منذ أقدم العصور التاريخية، إِذْ تميّز الإقليم بموقعه في قلب موطن الحضارات الإنسانية الأولى في المنطقة، فهو يقع فـي منتصف الطريق بين حضارات ما بين النهرين ووادي النيل واليونان. ومما يزيد مـن أهمية هذا الإقليم كونه ملتقى الطرق البرية والبحرية وصلة وصل بين العالم الآسيوي وعالم البحر المتوسط، مما جعل من النشاط التجاري مصدراً مهمـاً للحيـاة والنمـو والتطور عن طريق المدن الساحلية والموانئ المنتشرة على الساحل قديماً وحديثاً. وقد حافظ هذا الإقليم على موقعه وأهميته عبر العهود المختلفة، كما شهد تفـاعلاً مثمـراً وبناءً بين الإنسان والبيئة الطبيعية انعكس على نشاطات الإنسان وأنماط العمران فـي الإقليم. 

1 المجموعة الإحصائية السورية لعام 2004 م الجدول 1/1/ ص33 . 

    يعدّ الموقع البحري للإقليم مكاناً ملائماً للعمران البـشري ولممارسـة الإنـسان لنشاطه الاقتصادي، فقد كان البحر ومـا زال وسـيبقى جاذبـاً للمراكـز العمرانيـة وللاستقرار البشري على شواطئه أو في السهول الساحلية، وذلك لتوافر إمكانية قيـام نشاطات متنوعة (صناعية وتجارية وسياحية وغابية وصيد .. الخ)، هذا فضلاً عـن اعتدال المناخ واستقراره ووفرة أمطاره، كما أنَّ موقع الإقليم على بحر مفتوح (هـو البحر المتوسط) ساعد على الاتصال بالعالم الخارجي وعلى التبادل التجاري، إِذْ يمثـل البحر المتوسط قلب العالم القديم، ويعدّ أكثر بحار العالم نشاطاً وحيوية وعلى شواطئه قامت أقدم الحضارات البحرية وأعرقها. تشكل أوروبا التي تشرف عليه مـن الجهـة الشمالية كتلة ثقافية وحضارية واقتصادية مهمة على الصعيد العالمي1 . وسندرس أثر عامل الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري في تحديـد طـابع البنيـة الاقتـصادية والتجارة والمواصلات والسياحة والاصطياف والتلوث البيئي في إقليم الساحل السوري ومراكزه العمرانية :

البنية الاقتصادية للإقليم : إنَّ دراسة البنية الاقتصادية مهمة جداً من أجل معرفة العلاقات المكانية للإقليم مع العناصر الجغرافية الاقتصادية - البشرية الواقعة خارجـه، وهذا هو جوهر الموقع الجغرافي الاقتصادي.

   إنَّ إقليم الساحل السوري فقير بثرواته المعدنية الباطنية، حيث تحوي جباله قليلاً من خامات الكروم والاسبست والمنغنيز والحديد والإسفلت والجص وأحجـار البنـاء الرخام والمارن والغضار. وقد كان الإقليم وسيبقى موطناً للنشاط الزراعي (النبـاتي والحيواني) فضلاً عن استثمار الغابات وصيد السمك .... الخ.

1 ابراهيم أحمد سعيد. فيصل عزام قماش. جغرافية الوطن العربي، منشورات جامعة دمـشق 1999- 2000م ص7.

    شهد الإقليم تحولاً واضحاً من زراعة الاكتفاء الذاتي (الحواكير) إلى الزراعـة التجارية التي تعتمد الأساليب الزراعية الحديثة، حيث تنتشر فـي الإقلـيم المـزارع  الحديثة والبيوت البلاستيكية والمداجن الفنية ومنشآت تربية الأبقار الحديثـة1 . وأهـم المحاصيل الزراعية في الإقليم هي الزيتون والحمضيات والتفـاح والتبـغ والـشعير والفستق (الفول السوداني ) هذا إلى جانـب الخـضار وأهمهـا البنـدورة والخيـار والباذنجان والفول الأخضر وغيرها. وتقل في الإقليم زراعة القطـن بـسبب ارتفـاع الرطوبة كما تقل زراعة القمح بسبب ضيق السهول.

   وتشهد أعداد رؤوس الأبقار والأغنام والماعز تراجعاً واضحاً بـسبب التوسـع الزراعي والعمراني على حساب المراعي، وبالمقابل يتزايد الاهتمام بتربية الـدواجن والنحل.

   يعدُّ الإقليم الأول في القطر بصيد السمك من البحر والأنهار بوسائل محلية آخذة بالتطور، إِذْ وصلت كمية السمك المصادة إلى 6128 طن عام 2003م 2 بعد إنْ كانت 1400طن عام 1988م (70% منها من البحر أي ما كميته 4290 طـن وانخفـضت هذه الكمية إلى 3106 طن عام 2009م) . وعلى العموم مازال إنتاج الإقليم من الصيد البحري والنهري متواضعاً، بسبب شيوع الأسلوب التقليدي في الصيد وقلـة وجـود المصائد الحديثة 3 وتخلف البنية التحتية لهذا القطاع . إنَّ غنى الإقليم بالغابات والأحراج جعله غنياً بثرواته الخشبية التي تعدُّ المادة الأولية للبناء والطهـي والتدفئـة والفحـم الخشبي وصنع الأدوات الزراعية وكسب الأرض الزراعية وخاصة للسكان الفقـراء. 

1- عادل عبد السلام. الأقاليم الجغرافية السورية 1989 - 1990 م مرجع سابق، ص245 .
2 المجموعة الإحصائية السورية لعام 2004و 2010م جدول رقم 4/37 ص 140. 
3 سهام علي دانون. جغرافية سورية العامة ، مرجع سابق ص341 

   أمّا الصناعة الآلية في الإقليم فهي حديثة النشأة يعود تاريخها إلى مـا بعـد اسـتقلال سورية. وقد أصبح إقليم الساحل يشكل مركز التوطن الصناعي الثالـث بعـد دمـشق وحلب، حيث تقوم فيه صناعات مهمة تأتي في مقدمتها الصناعات الغذائية ( وأهمهـا صناعة الزيوت النباتية والكونسروة وتصنيع الفستق الحلبي وطحن الحبوب وصـناعة الخبز والمعجنات والمياه الغازية والمعدنية والمـشروبات الروحيـة) وتتركّـز هـذه الصناعات في مدن اللاذقية وجبلة وطرطوس 1 . ومن الصناعات المهمة فـي الإقلـيم أيضاً استقطار السبيرتو والصابون وحلج القطن. وتتركّز الـصناعة النـسيجية فـي اللاذقية وجبلة، والحرير في مشتى الحلو ودريكيش، وصناعة الخشب المعـاكس فـي اللاذقية الذي يعتمد على الأخشاب المستوردة عن طريق مينـاء اللاذقيـة، ويـصنّع الاسمنت في طرطوس، ويكرر النفط ومشتقاته في مصفاة بانياس، وهنـاك صـناعة المحركات الكهربائية في اللاذقية.

    تعدُّ صناعة التبغ والتنباك أهم القطاعات الصناعية في الإقليم وتقوم هذه الصناعة على زراعة المادة الأولية المحلية. أمّا الصناعة الاستخراجية فتتمثل فـي اسـتخراج الاسفلت من كفرية والحفة والرخام من البسيط وبيت ياشـوط. وتنتـشر الـصناعات الصغيرة والورشات في مختلف أرجاء الإقليم وتنتج مصنوعات للاستهلاك المحلـي، لعل أهمها معاصر الزيتون وصناعة المواد الغذائيـة (ولاسـيّما مـشتقات الحليـب والحبوب) وصنع الأواني المنزلية والفخارية و ورشات السجاد 2 . وتقوم في بعض الموانئ صناعة القوارب والمراكب ومستلزمات صيد الـسمك والحياة البحرية. ومعظم مناطق الإقليم ومراكزه العمرانية مزوّدة بالكهربـاء والميـاه النقية.

1 عادل عبد السلام. الأقاليم الجغرافية السورية ، مرجع سابق، ص253 .
2 المرجع السابق ص354. 

التجارة المواصلات : إنَّ الحركة التجارية نشطة في الإقليم لأنَّه بوابـة سـورية البحرية على العالم. وتجري عبر موانئ الإقليم 90% من التجارة الخارجيـة للقطـر وللإقليم أيضاً 1 . وأهم موانئ الإقليم هي اللاذقية وطرطوس وبانيـاس. وتعـود هـذه الحركة التجارية إلى عهود تاريخية قديمة منها المرحلة الفينيقية التي امتدت تجارتهـا على بلدان حوض البحر المتوسط وخارجه أيضاً.

    يشكّل الإقليم للمواصلات البرية، ويعدُّ ميناء اللاذقية منفـذ سـورية الـشمالية والشرقية (أي إقليم حلب والجزيرة)، في حين يشكل ميناء طرطوس منفـذ الأجـزاء الوسطى والجنوبية في سورية، هذا فضلاً عن مرور سلع الدول المجـاورة لـسورية عبر هذين المرفأين، وكذلك تمر في الإقليم خطوط نقل النفط والفوسفات المنتهية فـي ميناء طرطوس وبانياس مستخدمة الأنابيب والسكك الحديدية. وتبعاً لمعطيـات العـام 2009م بلغ عدد البواخر التي استقبلها مرفأ اللاذقية وقدّم لها الخـدمات نحـو 1681 باخرة، أمّا عدد البواخر المغادرة فبلغ 1688 باخرة، وبلغ حجـم البـضائع المفرغـة والمحملة في العام نفسه 6081000 طن، تشكّل البضائع المفرغة منها 4837 طن أي ما نسبته 79.5%، وأهم البضائع المفرّغـة فـي المرفـأ الآلات والحديـد الخـردة والمصنوعات الكيمياوية والمواد الغذائية والسكر والحبوب والأرز والخشب والـورق والزيوت ومواد أخرى، أمّا البضائع المحملة فبلغت 1244000 طن أهمهـا القطـن . والقمح والجلود والصوف والبذور وفيما يخص نقل الركاب فقد وصل عدد القـادمين 6366 وعدد المغادرين 6379 راكباً في العام نفسه. 

   أمّا مرفأ طرطوس فهو أحدث مرفأ على ساحل البحر المتوسط الـشرقي وهـو نافذة وسط سورية وجنوبها على العالم ، ويصدر عن طريقه الفوسفات المستخرجة من منطقة خنيفيس، وقد زادت أهميته بعد ربطه مع الداخل بالسكك الحديدية. ويعدُّ مينـاء طرطوس حالياً من أهم موانئ سورية وأكبرها وأحدثها. وفي العام 2009م بلغ عـدد البواخر الداخلة إلى المرفأ 2900 باخرة والمغادرة 2847 باخرة، وبلغ حجم البـضائع المفرّغة والمحملة 14055000 طن وتشكل البضائع المفرغـة منهـا 12358000 طن، أي ما نسبته 88%، وأهم البضائع المفرّغة الحديد والمعادن والسكر والحبـوب ومشتقاتها والأخشاب والمواد الغذائية والسيارات والأرز والمواد الكيمياوية والاسمنت والآلات والمعدات ومواد أخرى.

1 سهام علي دانون. جغرافية سورية العامة، مرجع سابق، ص 356 .

   أمّا البضائع المحمّلة فبلغت 1697000 طن أهمهـا الفوسفات والحبوب ومواد أخرى . ونشير هنا إلى أنَّ مرفأ طرطوس لا يحتل أهميـة تذكر بخصوص نقل الركاب1 . 

   تتمثل الوظيفة الأساسية للإقليم في مجال التجـارة الخارجيـة، إِذْ يقـوم بـدور المستقبل والمصدر للسلع من الداخل السوري إلى الخارج ومن الخارج إلـى الـداخل السوري والبلدان المجاورة.

   أمّا التجارة الداخلية فتتمثل بنقل المنتجات الزراعية والمصنوعات الاسـتهلاكية وتسويقها بين مناطق الإقليم ومراكزه العمرانية وبين الإقليم وبقية الأقاليم السورية 2  .

   إنَّ النمو التجاري الداخلي والخارجي في الإقليم مرتبط ارتباطـاً وثيقـاً بتطـور شبكة خطوط المواصلات وتحسينها وتوسيعها. ويرتبط الإقليم مع الـداخل بالـسكك الحديدية وأهمها سكة حديد اللاذقية حلب القامشلي، طرطوس عكاري حمص دمـشق، طرطوس اللاذقية 3 . 

    أمّا طرق السيارات فأهمها الطريق الساحلي المزدوج الذي يربط السهل الساحلي بالداخل السوري عن طريق حمص وفي الشمال عن طريق جـسر الـشغور فإدلـب وحلب، ويرتبط الإقليم بالداخل السوري بمحور ثالث من خلال طريق الساحل الغـاب العريض فضلاً عن المحورين السابقين اللاذقية - إدلب وطرطوس حمـص وتـرتبط قرى ومدن الجبال بالطريق الساحلي ومدن السهل بطرق جيدة، وهذا يخـدم صـناعة السياحة والاصطياف المتنامية في الجبال. 

1 المجموعة الإحصائية السورية للعام 2010م. 
2 عادل عبد السلام. الأقاليم الجغرافية السورية، مرجع سابق، ص 357.
3 سهام علي دانون. جغرافية سورية العامة، مرجع سابق، ص378.

   وتجري المواصلات البحرية عن طريق موانئ الإقليم، وتربط المراكب الصغيرة هذه الموانئ ببعضها بعضاً، وبشكل عام إن النقل البحري بين المدن السورية الساحلية يعدُّ محدوداً، ولشركات الملاحة البحرية العالمية خطوط مواصلات ورحلات نظاميـة عن طريق مينائي اللاذقية وطرطوس، ولبانياس مينـاء نفطـي كمـا لجبلـة مينـاء صغير. وفي الإقليم مطار دولي متواضع في حميميم (مطار الشهيد باسل الأسد ) قرب اللاذقية، وهذا المطار ذو أهمية محدودة، ففي العام 2009 م بلغ عدد الطائرات المقلعة منه 1084 طائرة والهابطة فيه عام 1084 طائرة، وبلغ عدد الركاب القادمين 42999 وعدد المغادرين 39991 راكباً في العام نفسه 1.

السياحة والاصطياف : يؤثر هذا القطاع في السياحة ذاتها، كما يؤثر في القطاعات الاقتصادية الأخـرى كالزراعة والصناعة والتجارة وغيرها 2 .

  يمتلك الإقليم مقومات سياحية غنية تتمثل في البحر والجبل والغابة وكثيـر مـن الآثار والأوابد التاريخية من قلاع وحصون ومواقع تاريخية، كما يمتلك الإقلـيم بنيـة تحتية تتمثل في المنتجعات والمدن والشاليهات السياحية على طول الساحل، هذا فضلاً عن الفنادق والمطاعم والاستراحات وغيرها لراحة المصطافين، كما يوجد في الإقلـيم معهد متوسط فندقي ومدارس مهنية فندقية في اللاذقية، ويقام في مدينة اللاذقيـة فـي شهر آب من كل عام مهرجان المحبة والسلام. على الرغم من ذلـك كلّـه لا يـزال التطور في مجال السياحة دون المستوى المطلوب. فمثلاً يوجد فقط في الإقلـيم كلّـه فندقان دوليان خمس نجوم في اللاذقية. 

1 المجموعة الإحصائية السورية للعام 2010م. 
2 سهام علي دانون. جغرافية سورية العامة، مرجع سابق ص407.

   وعلى العموم فإنَّ الإقليم مؤهل ليكون المنطقة السياحية الأولى في القطر، التـي تستطيع أن تجتذب إليها مئات الآلاف من المصطافين والسياح.

   وأهم المواقع السياحية في الإقليم هي صـلنفة وكـسب والبـسيط والـدريكيش واللاذقية وطرطوس وجزيرة أرواد وصافيتا، هذا فضلاً عن معظم القرى القائمة علىالتلال المشرفة على السهل الساحلي 1 . ومن المواقع الأثرية التاريخية العامـة القـلاع العديدة المنتشرة في الإقليم وأهمها قلعة صلاح الدين وقلعة الحصن وقلعـة المرقـب وغيرها.

تخريب البيئة والتلوث: 

    رافق التوسع العمراني والتطور الصناعي الذي شهده الإقليم تلوث ميـاه البحـر بمياه الصرف الصحي وفضلات السكان والتلوث بالزيوت في أثناء تحميـل البـواخر وتفريغها في المياه الإقليمية، وكذلك التلوث الصناعي الناجم عـن معامـل الاسـمنت والنسيج والمواد الغذائية (ولاسيّما بقايا معاصر الزيتون) وتكرير النفط. 

   وأخطر مصادر التلوث تقع في وسط الإقليم وهي مصفاة نفط بانيـاس ومعمـل إسمنت طرطوس والمحطة الحرارية جنوب بانياس، وتتعرض المياه الجوفية الساحلية لتداخل مياه البحر. إنَّ هذا التلوث كلّه يهدد مياه البحر والمنتجعات السياحية بانتـشار الأمراض.

    شكّل الموقع الجغرافي الطبيعي للإقليم القاعدة والأساس لموقعـه الجغرافـي الاقتصادي- البشري فهناك تكامل بينهما. 

   إنَّ امتلاك الإقليم موقعاً بحرياً وتوضعه ضمن ظروف مناخية ملائمـة وتنـوع مظاهره التضريسية بين السهل والجبل، وكذلك التفاعل الموفق والناجح للعوامـل ذات الخصائص العلاجية مثل الهواء البحري والعدد الكبير للأيام المشمسة والدافئة ووجود المياه المعدنية والرمال البحرية والتنوع الحيوي وخاصة الغطـاء النبـاتي، وكـذلك التنوع في منتجات الاقتصاد الزراعي وتطور شبكات ووسائط النقل الحديث، إنّ هـذا كلّه جعل الإقليم يتمتع بمقومات سياحية كبيرة من أجـل تطـور اقتـصاد الـسياحة والاصطياف فيه، كما ساعد الموقع البحري للإقليم على نشاط محدود لحرفـة الـصيد البحري، وتعود محدودية هذا النشاط إلى تخلف البنية للقطاع السهلي وشيوع الطرائق التقليدية القديمة في صيد الأسماك وعدم الاستفادة من التقنيـات الحديثـة فـي هـذا المجال 2.

1- عادل عبد السلام. الأقاليم الجغارفية السورية، مرجع سابق، ص 260 .
2- ابراهيم أحمد سعيد، فيصل غرام قماش. جغرافية الوطن العربي، ص 184 .

   وتنشط في مدن الموانئ الساحلية صناعة القوارب البسيطة للصيد ونقل الركـاب وإصلاحها. ويفسر الموقع البحري للإقليم أيضاً تركّز الصناعة في موانئـه البحريـة، وازدهار النشاط التجاري والمواصلاتي في هذه الموانئ. 

   إنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي- البشري لإقليم الساحل السوري يـؤثر تـأثيراً كبيراً في اقتصاده وتخصصه وفي دوره ومكانته في التقسيم الجغرافي للعمـل علـى مستوى القطر، كما يؤثر في الوقت نفسه أيضاً في تشكل الاقتصاد الوطني وتطـوره للقطر بأكمله. ولا تقتصر أهمية الموقع الاقتصادي - البشري للإقليم علـى ملاءمتـه لقطاعات النقل والسياحة والصناعة وإنَّما تتعداها لتشمل عناصر كثيرة مـن عناصـر الإنتاج الاجتماعي مثل الاقتصاد الزراعي والغابي وغيرها. 

   وبهذا الشكل نخلص إلى القول : إنَّ الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري لإقليم الساحل السوري قد ساعد على تشكّل ليس فقط فروع التخصص في الإقليم فحـسب، وإنَّما كامل الفروع الرئيسة للمجمع الاقتصادي في الإقليم، كما أسهم هذا الموقع فـي تحديد البنية المكانية والقطاعية (الفرعية) لفروع الاقتصاد كلّه في الإقليم. كما سـاعد هذا الموقع على نشوء المراكز العمرانية الحضرية والريفية وتطورها في إقليم الساحل السوري وتحديد بنيتها الوظيفية وتخصصاتها الإنتاجية والخدمية.

نتائج الدراسة: 

   يمكن تلخيص أهم نتائج الدراسة بالآتي:

- عرض وجهة النظر الشرقية لنظرية الموقع الجغرافي الاقتصادي- البـشري، وإنَّ الرأي الشخصي بهذا الخصوص من خلال إيجاد تعريف شامل ومتكامـل لمفهـوم الموقع الجغرافي الاقتصادي البشري 

- عجُ الموقع الجغرافي الاقتصادي - البشري منظومة متكاملة من العلاقات المكانيـة الحيوية تتألف من مجموعة من العناصر التي تتفاعل مع بعضها لتحديد طبيعة هذا الموقع وأهميته في حياة المراكز العمرانية والأقاليم، وتختلف قوة تأثير كل عنصر في هذه العناصر في تحديد أهمية الموقع الجغرافـي الاقتـصادي البـشري ودوره كعامل في تحديد بنية الإقليم الاقتصادي( الإنتاجية والخدمية) ووظـائف مراكـزه العمرانية.

- عُدّتِ العوامل المؤثرة في الموقع الجغرافي الاقتصادي البشري، عناصر مهمة لهذا الموقع، وتتمثل هذه العوامل(العناصر) في موقع المكان المدروس مدينـة كـان أم إقليماً أم مؤسسة بالنسبة إلى خطوط النقل والمواصلات وعقدهم المختلفة، وكـذلك موقعه بالنسبة إلى أماكن وجود الموارد الطبيعيـة والاقتـصادية وأمـاكن مركـز المنشآت الصناعية ومناطق الإنتاج الزراعي وأسواق تصريف الـسلع والخـدمات ومناطق الكثافات السكانية المرتفعة وأيضاً الموقع بالنسبة إلى الحدود، وقد أُضِـيفَ عنصران مهمان إلى هذه العناصر هما الموقع بالنسبة إلى بـؤر التـوتر العـالمي ومراكز الثقل الحضاري.

- إعداد لوحة تصنيفية للموقع الجغرافي الاقتصادي البشري تضمنت خمسة أنواع هي الموقع الجغرافي النقلي (المواصلاتي)، والاجتمـاعي، والـصناعي، والزراعـي، والسياحي، وقد أُضِيفَ نوعان آخران إلى هذه اللوحـة هـي الموقـع الجغرافـي السياحي والموقع الجغرافي الخدمي.

- إظهار التكامل في العلاقة بين الموقع الفلكي والجغرافي الطبيعي من جهة والموقـع الاقتصادي – البشري من جهة ثانية، إِذْ يشكل الموقع الفلكي والجغرافي الطبيعـي قاعدة وأساساً لتحديد أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي – البشري.

الاقتراحات: 

- العمل على تطوير مفهوم نظرية الموقع الجغرافي الاقتصادي من الجانب النظـري والمنهجي، ولاسيّما أنَّ المراجع العربية تفتقر كثيراً إلـى الدراسـات التـي تبـيّن وتوضح أهمية هذا المفهوم وجوهره. 

- الاهتمام بالظروف والموارد الطبيعية والبـشرية والاقتـصادية، وكـذلك الموقـع الجغرافي الاقتصادي- البشري عند القيام بدراسته الأقاليم والمراكز العمرانية على اختلاف أنواعها وأحجامها،لأنَّ هذا يقوي الطابع الجغرافـي الدراسـة ويعمقهـا، ويجعلها أكثر فاعلية. 

- القيام بالدراسات التطبيقية التي توضح أهمية الموقع الجغرافي الاقتصادي البـشري بوصفه عاملاً اقتصادياً مهماً في نشوء الأقاليم والمراكز وتشكلها وتحديد وظائفهـا وبنيتها الإنتاجية والخدمية والعمرانية ودورها في التقسيم الجغرافي للعمـل علـى المستوى الوطني. 

- يؤدي الموقع الجغرافي الاقتصادي البشري لإقليم الساحل السوري دوراً مهماً جـداً في تحديد شخصية الإقليم المميّزة، وعلى هذا الأساس يجـب تعميـق الدراسـات التطبيقية المتعلقة بهذا الموقع للإفادة منها عند وضع الخطط التنموية المستقبلية لهذا الإقليم ولغيره من الأقاليم في سورية. 

المصادر والمراجع :

1- جباوي علي. الجغرافية السياسية(الجيوغراسيا) دمشق 1990م. 

2- حمدان جمال الدين. جغرافية المدن، ط2 القاهرة 1972م . 

3- دانون سهام . جغرافية سورية العامة، منشورات جامعة دمشق، 2007-2008م. 

4- دبس ممدوح شعبان. جغرافية البلدان النامية في أفريقية، منشورات جامعة دمشق .2006-2007 م 

5- دبس ممدوح شعبان. جغرافية الخدمات، منـشورات جامعـة دمـشق 2005- 2006م. 

6- دياب علي محمد مناهج البحث العلمي وطرائقه في الجغرافية البشرية، منشورات جامعة دمشق 2009 - 2010م. 

7- رمزي محمود. الوجيز في الجغرافية الاقتصادية، منـشورات جامعـة دمـشق 1997م. 

8- سعيد إبراهيم. فيصل عزام قماش. جغرافية الوطن العربي، منـشورات جامعـة دمشق 1999 - 2000م . 

9- صافيتا محمد إبراهيم، عطية عـدنان سـليمان. جغرافيـة المـدن والتخطـيط الحضري، منشورات جامعة دمشق 2005 -2006 م. 

10- صافيتا محمد إبراهيم، قماش فيصل، عطية عدنان. المبـادئ العامـة لجغرافيـة المدن، منشورات جامعة دمشق 2000-2001 م. 

11- طربوش أمين. مبادئ الجغرافية الطبيعية والبشرية ط2 دمشق 1997م . 

12- عبد السلام عادل. الأقاليم الجغرافية السورية، منشورات جامعة دمشق 1989-1990م.

13- المجموعة الإحصائية السورية للعام 2004م . 

14- محلي ساطع. جغرافية العمران، منشورات جامعة دمشق، مطابع مؤسسة الوحدة . م 1981-1982م . 

15- محلي ساطع. جغرافية المدن عمرانياً وتنظيمياً، منشورات جامعة دمشق 1993م. 

المراجع باللغة الروسية  :

1- ايشوك. س. ي، ممدوح شعبان دبس. الموقع الجغرافي الاقتصادي كعامل فـي تشكل المجمّع الاقتصادي لإقليم جنوب اوكرانيا الاقتصادي، مجلـة الجغرافيـة، جامعة كييف 1990م العدد 32 باللغة الأوكرانية. 

2- بارانسكي ن.ن، الجغرافية الاقتـصادية والمـصورات الاقتـصادية، المطبعـة الحكومية، المنشورات الجغرافية،موسكو 1956م. 

3- الجغرافية الاقتصادية والمصورات الاقتصادية، دار التقدم ، موسكو 1984م. 

4- الجغرافية الاقتصادية والمقولة الاقتصادية، المطبعة الحكومية، موسكو 1956 م .

5- المبادئ العلمية في الجغرافية، أعمال مختارة، موسكو، 1980م. 

6- حول الدراسة الجغرافية الاقتصادية للمدن (قضايا الجغرافية) موسكو 1946م. 

7- بالامارتشوك . م.م . الجغرافية الاقتصادية لجمهورية أوكرانية، إصدار المدرسة الوطنية، كييف 1977م. 

8- بيفوفاروف. يو .ل. التمدن المعاصر، موسكو، 1994م .

9- ساوشكين يو . ك . الجغرافية الاقتصادية- التاريخ، النظرية، المنهج، التطبيـق، دار الفكر، موسكو 1973م . 

10- كارل ماركس، فريدريك انجلز . الايديولوجية الألمانية ، المجلد 3 .

11- ماروزفا. ت. ك . دراسة بنية اقتصاد الأقاليم الاقتصادية(مثال سيبيريا الشرقية)، دار المعارف، موسكو1997 م . 

12- مايرغويز. ي. م. منهجية الدراسة الجغرافية الاقتصادية على مقيـاس مكـاني . صغير، إصدار جامعة موسكو1981م .

 للتحميل اضغط                  هنا



للقراءة والتحميل اضغط      هنا




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا