التسميات

الأحد، 27 مارس 2016

الاقتصاد السياسي للتنمية في اليابان : دراسة في تحليل أسباب النهضة ...



الاقتصاد السياسي للتنمية في اليابان

دراسة في تحليل أسباب النهضة

المجلة العلمية - كلية التجارة - جامعة أسيوط - العدد الثالث والأربعون - ديسمبر 2007 - إعداد : دكتور عبد الله بن جمعان الغامدي -أستاذ مشارك- قسم العلوم السياسية -جامعة الملك سعود

مقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى تفحص الأسباب المختلفة الكامنة وراء معجزة النهضة اليابانية الحديثة والدور الياباني المتنامي في الاقتصاد السياسي الدولي وذلك في سياق استخدم عدد من المفاهيم الأساسية المألوفة لدراسة الحالة أو الإطار الخاص لليابان. وتعتبر اليابان حالة مفيدة ليس فقط لنموها الاقتصادي السريع والمثير للإعجاب ولكن أيضا للطريقة الرائدة التي أنجزت من خلالها مشروعها التنموي الناجح خارج الإطار الغربي وفي ظل ظروف طبيعية غير ملائمة مثل افتقارها الشديد للموارد الطبيعية، وتاريخها الإقطاعي، وظروف دخولها المجتمع الدولي، ومع ذلك استطاعت وخلال جيل واحد فقط أن تنهض من هزيمة عسكرية ودمار اقتصادي لتصبح أحد أبرز المنتجين والمصدرين والممولين العالميين   

وتحاول هذه الدراسة تحليل العوامل التاريخية والثقافية والسياسية والاقتصادية والدولية التي شكلت التجربة الخاصة للتنمية اليابانية وأسهمت في نجاحها المذهل في اللحاق بالغرب اقتصاديا- أو ردم الفجوة الاقتصادية مع الغرب. كما تحاول الدراسة استكشاف المحاولات اليابانية للتكيف مع وضعها الجديد الذي لم تكتف فيه بسد الفجوة التنموية بينها وبين الدول الصناعية المتقدمة في الغرب فقط بل تجاوزت ذلك، في بعض الأحيان، من ثنايا التفوق على تلك الدول في عدة مجالات تثبت إمكان انتهاج وسائل مستقلة ومختلفة للنهضة بعيدا عن تلك المتمركزة حول الغرب الأوربي ووسائله وقيمه. كيف إذن استطاعت اليابان إنجاز هذه المعجزة الاقتصادية وكيف يمكن للدول النامية – وخاصة الدول العربية والإسلامية- استخلاص الدروس والعبر والتعلم من هذه التجربة التنموية أملا في إطلاق نهضة عربية وإسلامية جديدة؟ تلك التساؤلات وغيرها هي محور اهتمام هذا البحث من خلال الدراسة الاختبارية ودراسة الحالة اليابانية  Case study  .
مرحلة التوحيد القومي وبناء الدولة (حكم توكوجاوا: سياسة البلد المغلق):
يستلزم تفسير النجاح الياباني في الوقت الحاضر ضرورة إلقاء نظرة فاحصة على الفترات السابقة من التاريخ الياباني لأن تجربة النهضة اليابانية بعكس غيرها من التجارب العالمية كانت تراكمية ولم تشهد صراعا بين ماضي وحاضر أو اصالة ومعاصرة. ومع أن تلك المهمة ليست سهلة نظرا لأن التاريخ السياسي الياباني يعتبر معقدا جدا ولا يمكن الإحاطة بكل تفاصيله، إلا أنه يكفي القول بأن اليابان في القرن السابع عشر كانت دولة ضعيفة الترابط لكنها ذات مواطنين فخورين بخصائصهم العرقية. ومن جانبها فقد ساهمت المعتقدات الدينية اليابانية على ترسيخ هذا الشعور من خلال تأكيدها على أن اليابان هي مركز الكون. وقد عززت العزلة الجغرافية اليابانية مفهوم شخصية القبيلة المنفصلة الذي ميز أفراد الشعب الياباني وجعل من المستحيل على الأجانب أن يصبحوا جزءا من القبيلة وهو ما جعل اليابان لا تعطي إلا قدرا ضئيلا من الاهتمام بالأجانب. ولا يزال القادة السياسيون اليابانيون يزعمون بأن النقاء العرقي هو واحد من أهم الأسباب للهيمنة الاقتصادية اليابانية في العالم اليوم. وبرغم ذلك الانسجام الثقافي إلا أن اليابان وحتى القرن السابع عشر لم تكن دولة بالمعنى الحديث للمصطلح. وبدلا من ذلك كان النظام السياسي حتى تلك الفترة يستند على ترتيبات إقطاعية وطبقات وظيفية معروفة ومنظمة جيدا يقف على رأسها الإمبراطور "تينو" سليل آلهة الشمس المقدس الذي كان قد تحول منذ زمن طويل إلى شخصية رمزية بعد أن فوض (الشوغان shogun) أو زعيم الحرب إدارة البلاد باسمه (Duus, 1976). وكان حكم الشوغان يتركز في المنطقة الوسطى من اليابان بشكل مباشر بينما كانت الأجزاء الأخرى من البلاد مقسمة بين قرابة 250 (داييموdaimyo) أو إقطاعية كان زعماؤها قد أدو قسم الولاء له.   
كذلك أفرزت اليابان الإقطاعية أرستقراطية كبيرة من المحاربين عرفوا بالساموراي Samurai ، الذين برزوا نتيجة للمعارك المستمرة للسيطرة على الأراضي التي نشبت بين ثلاث عشائر مهمة هي: ميناموتو Minamoto، فوجيوارا Fujiwara، و تايارا  (Wilson, 1992)  Taira. وبينما كان بعضهم مرتبطا بالطبقة الحاكمة كان آخرون منهم مستأجرين، لكنهم جميعا منحوا ولاءهم الكامل لأسيادهم الداييمو مقابل الحصول على أرض أو رواتب مالية. وفي نهاية الأمر تحول جنود الساموراي أنفسهم إلى طبقة أرستقراطية عسكرية متوارثة خلال الفترة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر الميلادي شكلت قرابة 6% من سكان اليابان بما فيها من جنود غير نظاميين وموظفين ومرؤوسين من ذوي الرتب الدنيا في المؤسسات الإقطاعية (Duus, 1976). ورغم أن هذه الطبقة كانت تشكل من قبل قوة قتالية في أوائل عصر توكوجاوا إلا أنها مع مرور الزمن تحولت إلى طبقة مدنية بيروقراطية متثقفة متوارثة أكثر منها قوة عسكرية دائمة. واحتفظ أفرادها الساموراي بتقليد امتشاق سيوفهـم التقليدية إشارة إلى مراكزهم وحاولوا أيضا التمسك بشهامتهم العسكرية التي كانت إحدى صفاتهم البارزة. ومع ذلك فقد تحولوا واقعيا ومع مرور الوقت من رجال سيف إلى رجال قلم (رايشاور، 1989: 96).
ويشار في هذا السياق إلى أن إعادة توحيد اليابان سياسيا كانت - في الغالب- نتيجة لجهود ثلاثة من القادة العسكريين اليابانيين المتعاقبين بدءا بالقائد "أوبو نوبوناجا" الذي استولى على كيوتو عام ١٥٦٨م بحجة مساندة آخر ملوك عائلة آشيكاجا، ثم تمكن من إخضاع حكام مناطق وسط اليابان الأقل منه سطوة، كما نجح في القضاء على سلطة الرهبان البوذيين إلا أنه اغتيل في عام ١٥٨٢م. ثم خلفه من بعده واحد من أكفأ قادته العسكريين، "هايديوشي" والذي وبرغم كونه ينحدر من أصل اجتماعي شديد التواضع إلا أنه مع ذلك استطاع نشر سلطانه في كل أنحاء البلاد، بعد نجاحه في القضاء على جميع منافسيه من الحكام وإجبارهم على الخضوع له. ولذلك لم يستعمل "هايديوشي" لقب "الشوجان" كأسلافه الحكام ولكنه استطاع فرض قبضته على المناصب العليا في الحكومة الإمبراطورية القديمة، واحتكر لنفسه التجارة الخارجية المربحة كلها، وصادر أسلحة الفلاحين ومنعهم من الهجرة من مزراعهم للإقامة في المدن، ووضع حدا فاصلا بين طبقتهم وطبقة الساموراي الذين امتهنوا العسكرية. وأصبح الساموراي في عهده يتقاضون رواتب ثابتة، وفرض عليهم الانتقال من الإقطاعيات الزراعية للعيش في المدن القلاعية الخاصة بأسيادهم من كبار ملاك الأرض  (ريشاور،1989: 88- 90)
مات هايديوشي دون أن يترك بعده وريثا شابا قادرا على خلافته ولذلك شـهـدت اليابان بعد موته صراعا طاحنا حول السلطة انتهى بعد معركة كبيـرة فـي عام 1600م بانتصار أحد أبرز معاونيه "اياسو توكوجاوا" الذي فضل نقل عاصمة حكمه من كيوتو إلى مدينـة (أدو Edo) المعروفة اليوم باسم مدينة طوكيو في المنطقة الشرقية من الـيـابـان (ظاهر، 1999: 37). وقد دشن "توكوجاوا" عهده باستعادة لقب "شوجان" من جديد كما بذل أقصى ما في وسعه لتثبيت عائلته في حكم اليابان وتكريس نفوذها وسيادتها وقد نجح في تحقيق ذلك بالفعل حيث استمر ورثته يحكمون اليابان منذ ذلك الوقت وحتى منتصف القرن التاسع عشر (ريشاور، 1989: 90 ؛ ظاهر، 1999: 37).
فقد أخضع الشوغان اياسو توكوجاوا التابعين المباشرين له من الداييمو لملاحظة شديدة ووضع نظاماً معقداً من التدقيق والتوازنات لتقييد سلطتهم وضمان الإستقرار: فمثلا لم يكن يسمح بعقد الزواج دون موافقة الشوغان خوفا من التحالفات السياسية ولم تشجع إقامة الطرق والجسور بين المحافظات أملا في الحفاظ على عزلتها. وفي سنة 1630م تم تبني سياسة العزلة القومية التي حظرت على اليابانيين السفر للخارج أو بناء السفن القادرة على عبور المحيط، كما منع الأجانب من الدخول إلى اليابان. كما تم وضع نظام للاحتجاز في سنة 1642م يلزم زوجات وأبناء الداييمو بالإقامة الدائمة في العاصمة "أدو" أما الداييمو أنفسهم فكان عليهم قضاء قرابة نصف السنة في العاصمة لضمان ولائهم للشوغان (Craig and Others,1986: 605). ومع تطور حكومة "توكوجاوا" في "إدو" أخذت تـتحول تدريجيا إلى حكومة بيروقراطية كبيرة تضم كبار الملاك من ورثة "الدايميو" وأتباع الملك "الشوجان" المباشرين. واستجابة لميل اليابانيين الفطري للمشاركة الجماعية في الحكم تم إنشاء مؤسسات سياسية كان على رأسها مجلسا الشيوخ والشباب يليهما في الترتيب البيروقراطي تشكيلات مزدوجة من الموظفين أو مجموعات رباعية تقوم بإدارة مختلف الفروع الإدارية في حكومة "الشوجان" وتشرف على كافة شؤون البلاد. وأصبح الملوك أو "الشوجان" منذ ذلك الوقت مجرد رموز للسلطة تماما كما كان عليه الوضع بالنسبة للأباطرة الذين كانت حكومة "توكوجاوا" العسكرية- من الناحية النظرية- تحكم باسمهم. وحدث الأمر نفسه على مستوى الإقطاعيات الزراعية حيث تحول الحكام الإقطاعيين "الدياميو" إلى مجرد شخصيات بارزة. وفي ظل تلك الأوضاع كان البيروقراطيون من الساموراي هم الحكام الفعليين الذين مارسوا الحكم من خلال مجالس تنفيذية تصدر قرارات جماعية(ريشاور، 1989: 91).
 وفي محاولتهم ضمان الاستقرار لجأ حكام إيدو المتعاقبين إلى اجتثاث إي مصدر يمكن أن يهدد نظام حكمهم. وقد كان نشاط البعثات التنصيرية الأوروبية الكاثوليكية من بين مصادر الخطر تلك بعد تزايد عدد اليابانيين المعتنقين للمسيحية ومن بينهم عدد من حكام المقاطعات وبعض قادة الساموراي وتزايد الشكوك حول ولاءهم وانتماءهم للوطن، فضلا عن تهديد الأفكار المسيحية الجديدة لنظام القيم الصارم السائد لدى الطبقة العسكرية مما اعتبر خطرا يهدد النظام ودفع حكومة الشوغان إلى اتخاذ قرارها التاريخي بتصفية الوجود المسيحي على الأراضي اليابانية(ظاهر، 1999: 46-51). 
لذلك قام "هايديوشي" وخلفاؤه من بعده في بداية الأمر باضطهاد الديانة المسيحية إلى أن تم القضاء عليـهـا قضاء تاما في عام1638م وكانت التجارة الخارجية ضحية للهوس الياباني المعادي للمسيحية الأمر الذي ترتب عليه صدور قرار في عـام 1639م بمنع اليابانيين الذين يعيشون فيما وراء البحار من العودة إلى بلادهم خشية أن ينشروا "جرثومة المسيحية" من جديد في اليابان . ومـن ثـم اقتصر بناء السفن على القوارب الساحلية التي لا تناسب رحلات المحيط الطويلة كما اقتصرت علاقات اليابان بالعالم الخارجي على اتصالاتها المحدودة بكوريا والصين عبر أوكيناوا وتقلصت المراكز التجارية فيها فلم يبق منهـا سـوى مركز تجاري هولندي صغير ومجموعة من التجار الصينيين كانوا خاضعين للمراقبة اليابانية الدقيقة. وهكذا عاشت اليابان العزلة التي فرضتها على نفسها فترة زادت عن مائتي عام تقريبا ريشاور،1989: 91-92).
وأطلق على تلك السياسة التي تبنتها حكومات توكوجاوا المتعاقبة "سياسة البلد المغلق" والتي بموجبها تم طرد كل المنصرين خلال النصف الأول من القرن السابع عشر وقطعت عمليا التجارة الخارجية وحظر بناء السفن الكبيرة وأصبح السفر للخارج جريمة عقوبتها الموت (Kennedy,1987:14-15).  ورغم أن العزلة عادة ما ترتبط بالركود الثقافي إلا أن فترة حكم أسرة توكوجاوا التي امتدت زمنا طويلا قد أسهمت من خلال توفيرها للسلام والاستقرار والنمو الاقتصادي في انبعاث نهضة أصيلة كان لها الأثر الأبرز في نقل الاقتصاد الياباني من نمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي إلى نمط إنتاج رأسمالي دون الاعتماد على مساعدات خارجية( see,Toby, 1991: 483-512;  Moriss-Suzuki, 1994).
كذلك شهدت اليابان في تلك الفترة، كما يقول ريشاور، قدرا كبيرا من
التنوع في المدارس الفلسفية مثل المدرسة الكونفوشسية والمدارس الفلسفية الأخرى كما
أدى الاتصال بالتجار الهولنديين في ناجازاكي في القرن الثامن عشر إلى تنمية الاهتمام
بالعلوم الغربية وخصـوصـا عـلـوم الـطـب والتعدين والمدفعية وهو العلم الذي
أطلقوا عليه اسم "التعليم الهـولـنـدي". باختصار يمكن القول بأن اليابانيين المنعزلين حضاريا كانوا في ذروة حيويتهم الثقافية (ريشاور، 1989). وفي هذا السياق يشار إلى أن اليابان كما يقول مسعود ظاهر:
لم تعزل بشكل تام عن العالم الخارجي كما يعتقد بعض الباحثين، وإنما تمت عزلتها الطوعية بناء على قرار سياسي ياباني قضى بتجنيب اليابان الضغوط الخارجية المتزايدة والانصراف لحل مشكلاتها السياسية والاقتصادية. فسمحت لها تلك العزلة بتطوير قواها الذاتية، وتصليب وحدتها القومية، وتنمية ثقافتها الخاصة، وتطوير بناها الاقتصادية والاجتماعية بمعزل عن المؤثرات الغربية، وتضخيم التراكم المالي النقدي الناتج عن غياب الاستنزاف المالي إلى الخارج عبر التبادل غير المتكافئ (ظاهر، 1999: 51).
مشروع النهضة الأول (إصلاحات الميجي: بلد غني وجيش قوي)
انتهى عمليا قرابة قرنان ونصف من سياسة العزلة والانغلاق مع الوصول المفاجئ للقبطان الأمريكي ماثيو بيري باسطوله البحري إلى سواحل اليابان في سنة 1853م حاملا معه تفويضا رئاسيا بفتح محادثات تجارية مع اليابان ومهددا لها بضرورة فتح أبوابها أمام التجارة الدولية. ولم يكن القبطان بيري يعلم انه كان هناك رجلان يتقاسمان الزعامة في اليابان، الأول هو الإمبراطور الذي لم تكن له إي سلطة فعلية وإنما كان فقط رمزاً للاستمرارية وللثقافة اليابانية المتواصلة منذ آلاف السنين وكان يقيم في "كيوتو" العاصمة الإمبراطورية القديمة للبلاد. والثاني هو الشوغان الذي كان يحكم البلاد فعلاً من موقعه في مدينة "ايدو" التي أصبحت لاحقاً طوكيو بواسطة طبقة من الإقطاعيين أو الداييمو. والواقع أن تهديد قائد الأسطول الأمريكي للسلطات اليابانية قد حقق المراد بعد أن أعطى اليابانيين مهلة سنة لكي يفكروا في الأمر ويفتحوا موانئهم أمام السفن الأمريكية والأوروبية. وبالفعل فقد عاد في العام التالي (1854) وتوصل الى مبتغاه.
فلم يكن أمام الحكومة اليابانية التي كانت تتابع جيدا إخفاق المحاولات الصينية في مقاومة دبلوماسية السفن الحربية الغربية قبل عقد من الزمن سوى القبول بسلسلة من الاتفاقيات المجحفة التي أدت خلال عدة سنوات بعد ذلك إلى فتح عدد من الموانئ اليابانية للتجارة الخارجية. ووضعت تلك الاتفاقيات نهاية لتجربة تكاد تكون فريدة في تاريخ البشرية استمرت أكثر من مائتي عام تخلت فيها اليابان عن تكنولوجيا السلاح الحديثة وارتدت فيها من البندقية إلى السيف. ودفع هذا الانفتاح الإجباري اليابان إلى مأزق حول كيفية الرد على هذا التهديد الخارجي والتقنية المتطورة التي يمتلكها. وبدءاً من تلك اللحظة تسارعت الأحداث ولكن الانفتاح الحقيقي لليابان على الحضارة الغربية لن يحصل إلا بعد تغيير النظام ووصول سلالة الميجي إلى سدة الحكم.
وعموما فقد نتج عن انفتاح اليابان المفاجئ على الغرب اضطراب وفوضى في الأسواق الوطنية اليابانية وزاد النظام النقدي سوءا كرد فعل للأحداث السياسية. كما أن السياسة الدكتاتورية العسكرية التي انتهجها "الشوجان" بوصفه قائد الأمة العسكري التي كانت تبدو مبررة لحماية الأمة أثبتت فشلها في حماية البلاد ومن ثم بات نظام "الشوجان" معرضا لهجوم كل الرافضين للأوضاع الجارية آنذاك وكل المتذمرين من تسلط توكوجاوا المتزايد. وكانت أحداث عام 1853م قد هزت نظام توكوجاوا من أساسه فبدأ هيكله المتقادم في التحلل. ودخل الساموراي في طول البلاد وعرضها في جدل حول سياسات النظام. وعندما أجبرت حكومة "إدو" في عام 1858م على إبرام المعاهدة التجارية مع الولايات المتحدة اشتعلت المشاعر الوطنية ضد فتح البلاد للأجانب وتعـاظـم الـشـعـور الشعبي بضرورة مواجهة التهديد الخارجي بحشد قوى الأمة كلها وطالبت بعض القوى السياسية بإحياء النظام الإمبراطوري من جديد ليحل محل نظام توكوجاوا العسكري ورفعوا شعار "المجد للإمبراطور" تعبيرا عن مطلبهم هذا مقترنا بالصيحة الوطنية العامة التي رفعت شعار "اطردوا البرابرة " ليخرج من الشعارين شعار جديد واحد يتكون من أربع كلمات وهي "ليحيا الإمبراطور وليطرد البرابرة" (ظاهر، 1999: 105).
وفي نهاية الأمر كونت الإقطاعيتان الكبيرتان "ساتسوما" و "كوشو" وبعض إقطاعيات أخرى بعيدة وإقطاعيات صغيرة ثانوية ائتلافا فيما بينها استطاعت من خلاله سحق الحكومة الإقطاعية المتداعية في انقلاب محدود العنف في 3 يناير من عام 1868م وإنشاء حكومة ثورية جديدة بزعامة الإمبراطور الشاب «موتسوهيتو» الذي أطلق عليه لقب «الميجي» الذي يعني حرفياً: الحاكم المستنير وقد كان مستنيراً بالفعل فهو الذي حقق النهضة اليابانية.  وأعلن باسم الإمبراطور عودة الحكم الإمبراطوري المباشر وإنهاء حكم أسرة "توكوجاوا" الذي استمر أكثر من مائتي عام. وفي عام1869م نقلت الحكومة الجديدة الإمبراطور إلى القلعة الملـكـيـة فـي "إدو" العاصمة وأطلقت عليها اسما جـديـدا هـو "طـوكـيـو" أي الـعـاصـمـة الشرقية. وكانت جميع الأعمال الحكومية تتم باسم الإمبـراطـور وعـرفـت عملية هذا التحول العظيم في تاريخ اليابان باسم "حركة إعادة ميجي الإصلاحية"
وبينما تمت إعادة تأهيل الإمبراطور كرمز للسلطة السياسية فإن القوة الحقيقية كانت بيد الطبقة الأوليجاركية التي استولت عليها والتي شملت مجموعة الإقطاعيين (الداييمو) الذين أقصوا الشوغان، وأفراد الساموراي التقدميين والمتعلمين وخاصة الذين كانوا على دراية بالغرب(Duus, 1979). ومع ذلك يجب أن تفهم عملية إعادة الإمبراطور في إطار الأسس الإيديولوجية للمجتمع الياباني. فالثورات الفرنسية 1789م والبلشفية 1917م والإيرانية 1979م كلها أدت إلى القضاء على الأسر الإمبراطورية وقتلت أو نفت الإمبراطور. أما في اليابان فقد أعيدت الصلاحيات للإمبراطور وأعطي للمرة الأولى منذ قرابة ألف سنة سلطة تنفيذية. كذلك فبرغم رفض الحركة الإصلاحية لمؤسسات البوذية والشوغان والساموراي، إلا أنه من المؤكد أن الكتلة الأوسع من أفراد طبقة الساموراي الأكثر فقرا والأكثر تقدمية هي التي وفرت القاعدة والنشاط في فترة الميجي، وذلك بانخراطهم في مجالات التجارة والأعمال والتعليم والحكومة والجيش بأعداد كبيرة. أما الساموراي الأفضل حالا فقد أصبحوا حكاما وسفراء. ولذلك فقد كان الإجماع وليس الخلاف هو سيد الموقف في عملية التحول اليابانية، ومن ثم لم تكن حركة ميجي ثورة أو انقطاعا عن الماضي بقدر ما كانت إعادة توازن للسلطة والقوة ضمن البناء الياباني. وفي هذا السياق يقول هال  (Hall, 1970) أن تلك الحركة كانت محتواة حصرا ضمن الجماعة القديمة الممسكة بالقوة وتحديدا ضمن طبقة الساموراي وأنها قد أعتمدت على الاستمرارية القوية لرموز الولاء والقيم السياسية. ولذلك فإن ما حدث أنذاك كان في جوهره بمثابة ردة فعل سياسية مقيدة أسهمت في إحداث حركة تحديث "فوقية"(Hall, 1970: 247) .
ومنذ البداية أدرك بعض اليابانيين أن الدفاع الوحيد عن بلادهم ضد الغرب لن يتم دون أن يكون لليابان تفوقها التكنولوجي نفسه في المجالين العسكري والاقتصادي. وبهذا فقط يمكن طرد البرابرة حين يتحقق لليابان التكافؤ مع الغرب في كلا المجالين. بعدها رفع اليابانيون شعارا جديدا من أربع كلمات أيضا هو "بلد غني وجيش قوي". وبرغم أنه كان هناك إجماع عام حول الحاجة إلى تطوير وتعزيز القدرات الدفاعية القومية إلا أنه كان هناك جدلا كبيرا حول دور الأجانب والتعليم الأجنبي.
          وقد وقع عبء رسم السياسات وتنفيذها على كاهل مجموعة من شباب الساموراي الأقوياء الإصلاحيين من ذوي الرتب الكبيرة والمتوسطة ومعظمهم من الإقطاعيتين الكبيرتين "ساتسوما" و "كوشو". وتولت هذه المجموعة من الساموراي الشباب الذين تحولوا إلى بيروقراطيين مهمة الإشراف الثوري على الاقتصاد السياسي لليابان وتجارتها الخارجية ومؤسساتها المختلفة من جيش وإدارة واقتصاد. وكان أولئك القادة يتابعون ما يجري من تمزيق لأوصال الصين المجاورة على أيدي القوى الأوربية المحتلة في حروب الأفيون وأدركوا بالتالي أهمية اتخاذ قرار سريع لتجنب مصير مشابه. وانطلاقا من كونهم تجار جيدين فقد أقتنع القادة اليابانيون بالعلاقة الوثيقة بين التنمية الاقتصادية والتصنيع من جهة والقوة العسكرية والسياسية من جهة أخرى. ولذلك دشنوا سياسة قومية ميركنتالية تقوم على مزامنة بناء "بلد غني وجيش قوي". وقد أفاد اليابانيون الذين كانوا على معرفة بالتكنولوجيا الغربية من خلال دراساتهم "للتعليم الهولندي" إفادة كبيرة في محاولة وضع هذا الشعار موضع التنفيذ. ولما كانت اليابان قد فتحت أبوابها - بالفعل- للغربيين أو البرابرة كما أطلقوا عليهم فقد نجحت في استخدام أولئك "البرابرة" أنفسهم في محاولة تحقيق شعار "دولة غنية وجيش قوي".
أما المهمة الأكثر صعوبة التي واجهت النظام الجديد كما يورد ريشاور فقد كانت:
مهمة إلغاء التقسيمات الطبقية و الامتيازات الخاصة التي تمتع بها أفراد طبقة الساموراي وكرسها النظام القديم. فمع زوال الإقطاعيات الزراعية فقد السـامـوراي وضعهم المتميز كطبقة بيروقراطية متوارثة . وفي عام1876م لنظام التجنيد الإجباري العام محل نظام الخدمة العسكرية الـقديم القائم على أسـاس طبقي. وصدرت الأوامر في العام نفسه لمنع الساموراي من امتشاق سيوفهم وشاراتهم المميزة. كما تم تخفيض معاشاتهم قبل أن تتحول في العام نفسه إلى مبلغ صغير شامل أو سندات حكومية دفعتها لهم الحكومة دفعة واحدة. أي أن النظام الجديد – باختصار استطاع خلال ثماني سنوات فقط تجريد الساموراي من جميع امتيازاتهم الخاصة لتبدأ اليابان أكبر تغيير حول مجتمعها خلال جيل أو جيلين من مجتمع يتحدد كيانه على أساس التوارث إلى مجتمع يعتمد بدرجة كبيرة على التعليم وما ينجزه المواطن الياباني من أعمال (ريشاور، 1989: 108-109).
ولم تكن امتيازات طبقة الساموراي هي العقبة الوحيدة أمام بناء دولة حديثة. فلم يكن يسمح للفلاحين، خلال النظام الإقطاعي، بامتلاك الأرض أو تغيير إقامتهم أو مهنهم، كما لم يكن يسمح لافراد الساموراي بالعمل في الزراعة ولذا اعتبرت الطبقة الأوليجاركية تلك الممارسات عقبات أمام التنمية الصناعية وعملت على إزاحتها. وهذا ما دفع أصلاحيي ميجي إلى تبني سياسة الإصلاح الزراعي، بعد فترة قصيرة من إزاحة زعماء الإقطاعيات العسكريين، والتي سمحت للفلاحين بتملك الأرض، التي كانوا يزرعونها فقط لصالح السيد الإقطاعي، والمتاجرة بعوائدها. وبهذه السياسة حوّل الأصلاحيون حياة الفلاحين من حياة الكفاف إلى فلاحين قادرين على دفع الضرائب بعدما أصبحوا منتجين لفائض يوجه إلى السوق، كما عملت على القضاء على التكتلات الاحتكارية التي كانت تقيد حرية الوصول إلى الأسواق الرئيسة (Craige & Others, 1986: 1050) . من جانب أخر أدخلت ثورة ميجي إصلاحات في مجال التعليم من أجل تحقيق هدفين أساسيين هما تعزيز التنمية الاقتصادية ونشر القيم القومية وترويجها. وطال الإصلاح مجال التجنيد أيضا الذي أستخدم ليس من أجل أنشاء جيش قوي فقط وإنما أيضا لتحويل الفلاحين إلى وطنيين يحافظون على القانون والنظام في الداخل والخارج(Bowen, 2006: 9). وبرغم ذلك يمكن القول أن عملية التحديث تلك لم تسر بدون عراقيل او صعوبات حيث قاومت شريحة من الطبقة الاقطاعية القديمة المرتبطة بالشوغان الإصلاحات الجديدة التي اتخذها الإمبراطور ولم تقبل بفقدان امتيازاتها ومصالحها وأراضيها ولذلك ثارت مرتين عليه في عام 1874، و1877 وانتهت المعركة لصالح الجيش الامبراطوري وعندها اصبح إمبراطور الميجي مطلق الصلاحيات في البلد وألغى منصب الشوغان الذي كان ينافسه وأصبح الإمبراطور هو الحاكم الفعلي لليابان.
اليابان تدخل المجتمع الدولي :
وبعد قرون من الانعزال اعترفت النخبة الجديدة بأهمية التّعلم من العالم الخارجي لذا تم إرسال مجموعات كبيرة من الشباب الياباني في بعثات دراسية إلى الغرب في الوقت نفسه الذي اتجهت فيه أنظارها بداية إلى أوربا وبدرجة أقل إلى الولايات المتحدة للاستفادة منها في إنشاء الجيش والشرطة والمدارس والنظام القانوني وغيرها من المؤسسات السياسية والاجتماعية واختارت من النماذج الأوربية ما اعتقدت أنه أفضل عصره آنذاك لكنها فضلت تلك التي كانت تنسجم مع الممارسات اليابانية السائدة، ولذا كان تفضيل النخبة الجديدة لنظام الشرطة الفرنسي الذي كان مركزيا على النموذج البريطاني الذي كان بالمقارنة لا مركزيا، كما استعارت نظام التعليم الفرنسي والبيروقراطية الألمانية(Bowen, 2006) . ولاحقا وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وعندما بحثت الشركات اليابانية الكبرى عن أساليب لرفع الكفاءة بدون صدام عمالي اتجهت تلك الشركات إلى الولايات المتحدة – التي كانت تشهد تصنيعا متناميا بدون وجود حركة عمالية قوية- واستعارت منها ممارسات مثل الإدارة الصناعية و رأسمالية الرفاه والمعرفة التقنية.
كذلك عندما توصل إصلاحيو ميجي إلى خلاصة أساسية مفادها أنه لا يمكن الاعتماد على قوى السوق الطبيعية وحدها للاتجاه نحو التصنيع واللحاق بالغرب قرروا استخدام الدولة لإحداث ثورة فوقية. ومن ثم أتسمت سياسة حكومة ميجي منذ ذلك الحين باستخدام النفوذ السياسي من أجل خلق تراكم رأسمالي وبناء جيش حديث. وركزت هذه السياسة إلى توظيف ثروة الدولة لتمويل مؤسسات كل من القطاعين العام والخاص في اليابان مع توجيه رأسمال الدولة نحو إنشاء وتطوير صناعات ذات علاقة وثيقة الجيش مثل بناء السفن، الصلب، المناجم، والسكك الحديدية، والتلغراف. وكانت الدولة تعمد إلى بيع تلك الصناعات عندما تبدأ في تحقيق الأرباح لرجال أعمال ممن كان لهم علاقات وثيقة بالقيادة السياسية وهي علاقات ازدادت رسوخا مع تنامي المصالح بين الدولة والقطاع الخاص. وقد هدفت تلك السياسة التي أطلق عليها تشالمرز جونسون(Johnson, 1987)   "الدولة التنموية" تحقيق شعار "دولة غنية وجيش قوي" على أرض الواقع.
وبالفعل نجحت قطاعات يابانية منظمة جيدا من البيروقراطيين والعسكريين والصناعيين بشكل ملفت للنظر في تحويل شعار "بلد غني وجيش قوي" إلى واقع ملموس، حيث برزت اليابان كأول اقتصاد رأسمالي صناعي غير غربي وأول قوة إمبريالية غير غربية. وقد كان لبيروقراطية الدولة تحت الإدارة الكفؤة للساموراي السابقين دورا حاسما في حركة التصنيع هذه في ظل قيادة الإمبراطور ميجي، بالتعاون الوثيق مع عدد ضخم من الشركات الخاصة الخاضعة لسيطرة عائلية والتي تربط ما بين المنشآت الصناعية والتجارة والمالية في شبكة سميكة ومعقدة من العلاقات عرفت باسم (زايباتسو Zaibatsu )[1]. وفي هذا السياق يشير ريشاور إلى أن النظام الجديد قد بذل:
كل الجهود لتحديث الاقتصاد الياباني. فأقام نظاما مصرفيا حديثا، وأصلح النظام النقدي فأصبحت الوحدة النقدية هي الين الياباني الذي كان يساوي في ذلك الوقت نصف دولار تقريبا. وأقام النظام الجديد الفنارات، وعمل على تطوير الموانئ والمرافئ، وربط اليابان كلها بشبكة تلغرافية، ومد خطوط السكة الحديدية. وفي عام١٨٧٢م مد خط حديدي بين طوكيو ومينائها يوكوهاما، وارتقى مستوى إنتاج الحرير من خلال استخدام بكرات الخيوط الحريرية الميكانيكية........ وقد أقامت الحكومة بنفسها الصناعات الإستراتيجية، مثل إنتاج الأسلحة والذخائر، وتطوير التعدين، كما قامت بدور رائد في اقتحام مجال المصانع التجريبية، فضلا عن مجموعة متنوعة من الصناعات الأخرى (ريشاور،1989: 109-110).
اعتبرت الفترة منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين فترة انتعاش لليابان حققت فيها إنجازات كبيرة. لم يكن لليابان آنذاك إلا همّ واحد: اللحاق بركب الحضارة الغربية بأي شكل كان وردم الهوة السحيقة التي تفصل بين تخلف اليابان وتقدم الغرب وكانت نتيجة ذلك الجهد مشجعة بل وأكثر من ذلك كانت معجزة. وبرغم أن الإمبراطور كان في مقتبل العمر عند استعادته صلاحياته إلا أن شخصيته كانت محورية في أسطورة التحديث اليابانية. كما أنه قد أحاط نفسه بمجموعة من الساموراي الشباب المصممين على تحديث اليابان- وليس بالضرورة تغريبه- وهو ما أسهم في بروز شعور قوي بالقومية اليابانية. ففي أقل من خمسين سنة تحولت اليابان من وضع العزلة خلف المحيطات إلى أن تصبح أول قوة عالمية غير غربية في الاقتصاد السياسي الدولي. وخلال عدة عقود بعد ذلك استطاعت اليابان ذات الدرجة المتسارعة من التصنيع هزيمة كل من الصين وروسيا في انتصارات عسكرية حاسمة وبدأت مرحلة من التوسع الإمبريالي المنتظم عبر آسيا. وفي تفسيره لذلك الإنجاز الياباني يؤكد مسعود ظاهر على دور التراكم المادي خلال فترة توكوجاوا حيث يشير إلى أن إصلاحات الامبراطور مايجي قد قامت:
على ركائز داخلية متينة نتجت عن تراكم الإيجابيات الكثيرة التي تجمعت إبان مرحلة العزلة الطوعية. وعندما توفرت لها القيادة السياسية المتنورة، والانتلجنسيا الواعية التي تثقفت بثقافة عصرية معمقة دون القطع مع ثقافتها اليابانية الأصيلة أو التنكر لها، والالتفاف الشعبي العارم، استطاعت اليابان بناء نهضة متميزة في التحديث غير قابلة للارتداد، وهي التجربة الأولى خارج تجارب التحديث الغربية (ظاهر، 1999: 356).
وإجمالا يمكن القول أنه برغم أن اليابان قد استيقظت على وقع دبلوماسية السفن العدوانية وشهدت التهديد بالاحتلال الأجنبي لكنها في النهاية، وبعكس غيرها من شعوب العالم غير الأوربية لم تخضع للاستعمار الإمبريالي. بل على العكس من ذلك دشنت اليابان تحت قيادة حكومة الإمبراطور ميجي جهدا خارقا لاكتشاف أسرار القوة الأوربية واستخدامها لتعزيز قوة البلاد من الداخل ثم الاندفاع إلى الخارج بعد انتصاراتها على الصين وروسيا في بدايات القرن العشرين. وقد عززت تلك الانتصارات موجات التصنيع في السنوات اللاحقة وهو ما دفع باليابان إلى التحول إلى "دولة عظمى" في بدايات القرن العشرين.
ومع ذلك فقد كان للشعور بأن قدر اليابان هو في توحيد جيرانها الآسيويين تحت
هيمنتها فضلا عن المطالب المتنامية للمركب الصناعي-العسكري المتعاظم دورا في
تدهور علاقات اليابان مع كل من جيرانها الآسيويين والقوى الغربية خلال الثلاثينات من
القرن العشرين مع توسع الإمبراطورية اليابانية وتحولها إلى دولة إمبريالية ذات نزعة
عسكرية توسعية مما أدى إلى دخول اليابان في حرب مع الصين أولا ثم مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين كانت نتيجتها فيما بعد هزيمة عسكرية واحتلال أمريكي لأراضيها في الحرب العالمية الثانية.
الاحتلال الأمريكي وإعادة صياغة اليابان
كما انتهت سياسة العزلة اليابانية في القرن التاسع عشر فجأة نتيجة لتهديد خارجي فكذلك كان الحال مع توسعها الإمبريالي في القرن العشرين الذي انتهى هو الأخر فجأة لكنه اتخذ هذه المرة شكل الهزيمة العسكرية والاحتلال العسكري الأمريكي لليابان خلال الفترة من 1945-1951م. وكما فعل القبطان بيري سابقا أجبر الجنرال الأمريكي ماك أرثر اليابانيين على القبول بعمليات تغيير واسعة النطاق في مؤسسات البلاد الرسمية والاجتماعية والاقتصادية. فقد أعتبر ماك أرثر اليابان المهزومة بمثابة معمل رائع لتجربة تحرير شعب من حكم عسكري شمولي وخلق حكومة ليبرالية. كما اعتبر نفسه يقوم بدور المهندس الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وأعتقد أن واجبه كان يتمثل في إعادة بناء اليابان من الأعلى حتى قاعدة الهرم. وخلال سنة من تسلمه المهمة أعلن أن "ثورة روحية" تحت إشرافه الخيّر قد أنهت حكم زعماء الاقطاع التقليدي في اليابان ومنحت اسلوب الحياة الأمريكي الديموقراطي لليابان. ولخص جون داورDower  المتخصص في الشأن الياباني بشكل رائع الاهداف الرئيسة للاحتلال والتناقضات الرئيسة التي احتوتها بقوله "كان سينزع سلاح اليابان من قبل الجيش الأمريكي، وتفكك المركزية بواسطة النظام الهرمي للجيش الأمريكي، وتفرض الديموقراطية من الأعلى. لقد كان على اليابان أن تشهد ثورة مجهولة المصدر، وسلمية، وبدون ثوار" (Dower,1971: 147)
ومن بين الهدفين اللذان حددتهما إدارة الاحتلال كان نزع سلاح اليابان هو الاسهل في التنفيذ بكل وضوح. حيث بدأ ذلك مع إعلان الإمبراطور هيروهيتو في 14 اغسطس 1945م عن إستسلام اليابان غير المشروط واتبع بسلسلة من القرارات، ومن ضمنها بند السلام وإدانة الحرب الذي ضمن في الدستور، التي أكدت جميعها على يابان منزوعة السلاح. أما الهدف الثاني للاحتلال، الدمقرطة، فلم يكن سهل التنفيذ حيث افترض الساسة الأمريكيون أن عليهم إحداث تغييرات جذرية في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية اليابانية، وهو ما كان يعني الذهاب إلى ما هو أبعد من مجرد كتابة دستور جديد. ومع ذلك فقد بدأ ماك أرثر تنفيذ خطته تلك لإعادة صياغة اليابان وتحويلها إلى سويسرا آسيا حيث عمد مع فريقه الإداري بتصفية الجيش والتجمعات القومية المحافظة ومعظم القادة السياسيين في زمن الحرب وقادة قطاعات الأعمال (زايباتسو) (Miller, 2005:36). وأدت هذه التصفية إلى القضاء على الطبقة العسكرية واستبدال الزعماء السياسيين القوميين بتكنوقراط واستبدال أسر (زايباتسو) بمدراء محترفين. والأكثر أهمية أنها تركت البيروقراطية متماسكة وفي وضع قوي جدا في مقابل الجماعات الأخرى. وقد ترأس ماك أرثر بنفسه عملية إعادة كتابة الدستور الياباني (ومن ضمنها الفقرة المتعلقة بالتخلي الدائم عن استخدام القوة أو بناء قوة عسكرية هجومية)، فضلا عن توسيع نطاق التصويت لكل الرجال والنساء وضمان حقوق مدنية للمواطنين اليابانيين شبيهة بتلك السائدة في أمريكا. كما عمد إلى القضاء على نفوذ تكتلات زايباتسو ومن ضمنها مؤسسات ضخمة مثل ميتسوي، وميتسوبيشي، وسوميتومو، مع إصرار مماثل على إعادة صياغة الثقافة السياسية اليابانية. وفي وصفه لهذه العملية كتب هندري Hendry:
قامت حكومة الاحتلال بحظر المناهج التي كانت مستخدمة قبل الحرب العالمية الثانية لأنها ساعدت في تشجيع الحماسة القومية التي أدت باليابان إلى الهزيمة. حيث علمت تلك المناهج اليابانيين الأسطورة على أنها تاريخ، وشجعت كل الشعب الياباني في كل مكان على اعتبار أنفسهم منحدرين من سلالات فرعية للسلالة الإمبراطورية ....... كذلك تم حظر تعليم الإيديولوجية الشنتوية في المدارس بعد الحرب مباشرة. وتم تدريس قيم غربية جدا ومعظمها أمريكي تعرض لحياة أبطال مثل بنجامين فرانكلين وتقدمها كنماذج قدوة للأطفال. وبالتدريج تم إدخال مواد أكثر "يابانية" في المحتوى ومناسبة للأبطال اليابانيين لاضفاء صبغة محلية على نسق القيم الجديد. ومع ذلك بقي محتوى مناهج المدارس موضوعا لخلاف كبير (Hendry,  1997: 260).
 غير أنه مع "فقدان الصين" وظهور نذر الحرب الباردة بدأ ماك أرثر والحكومة الأمريكية يخشون من سقوط اليابان كذلك في قبضة الشيوعية. وهذا أدى بدوره إلى تغيير جذري في سياسة الاحتلال في سنة 1947م حيث تم التخلي عن التأكيد السابق بتحويل اليابان إلى سويسرا أخرى لصالح يابان واحدة وموحدة لكنها مع ذلك غير مسلحة وحليفة للغرب تتمتع بكل الدعم والحماية الأمريكية كدولة تابعة. وبناء على ذلك تم إعادة تأهيل عدد من السياسيين المحافظين الداعمين للتحالف( كان عدد منهم قد تم إقصاءه) الذين استطاعوا الهيمنة على السياسة اليابانية. كما برزت مرة أخرى أسر زايباتسو ولكن كتنظيم أقل صرامة وتعرف (كيريتسو Keiretsu ) والتي استطاعت بسرعة استعادة هيمنتها على الاقتصاد الياباني. وبنهاية الاحتلال أعادت مؤسسات زايباتسو الكبيرة (ميتسوي، ميتسوبيشي، وسوميتومو وغيرها) بناء نفسها وتوسيع نشاطها وعملت على إنشاء شبكة مجموعات الشركات التي تسيطر على الاقتصاد الياباني في الوقت الحاضر (جراي،   2000: 242). ومع وجود بيروقراطية نخبوية كفؤة على القمة وكحليف مفضل للولايات المتحدة كانت اليابان جاهزة لبدء استراتيجيتها المذهلة لردم الفجوة في مرحلة ما بعد الحرب.
وتأسيسا على ذلك يمكن القول أنه مع إعادة قوات الاحتلال الأمريكية السيادة القومية إلى اليابانيين في سنة 1952م برز نمطان سياسيان يبدوان متناقضين. فمن جهة كان يفترض أن تحكم اليابان بواسطة واحد من أكثر دساتير العالم ديمقراطية صمم لكي يتخلص من الحكم الأوليجاركي الذي شجع على نشوء الحكومات العسكرية في عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. ومن جهة أخرى دفعت الضرورات البرجماتية للحرب الباردة اليابان نحو اتجاه أقل ديمقراطية مما مهد الطريق لشخصيات سياسية ذات مواقف شبيهة للنخب القديمة بتسلم مقاليد السلطة (Bowen, 2006).   


مشروع النهضة الثاني: العمل على اللحاق بالغرب ثانية
مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
أحدثت الإنجازات الاقتصادية الاستثنائية لليابان خلال مرحلة ما بعد الحرب
العالمية الثانية الجدل بعد نجاحها في
تحقيق ما يشبه المعجزة الاقتصادية خلال فترة
قصيرة من الزمن
. فخلال ثلاثة عقود من الزمن فقط حولت اليابان نفسها من بلد حطمته
الحرب يتركز انتعاشه الصناعي في إنتاج "الأجزاء الرخيصة" والسلع الاستهلاكية البسيطة
إلى دولة ثرية ورائدة على مستوى العالم في مجال الصناعة التقنية المعقدة وحققت
بذلك نقلة نوعية خلال عقود قليلة مع أنها تفتقر إلى
الحدّ الأدنى من الموارد الطبيعية. وفي المجال التجاري ساهم نجاح الصادرات اليابانية في تعزيز الفائض في تعاملات البلاد الدولية منذ السبعينات من القرن الماضي. وتم استثمار هذا الفائض الضخم في الخارج مما أدى إلى خلق حصة ضخمة من الأرصدة الخارجية لليابان. ومنذ هذه الفترة بدأت الدراسات الغربية تتحدث عن "المعجزة الاقتصادية اليابانية" وتحذر من مخاطر النمو الاقتصادي الكبير الذي حققته. وبالفعل ففي منتصف الثمانينات ارتقت اليابان إلى القمة كأكبر دولة دائنة في العالم. وقد كان النمو الاقتصادي الياباني بعد انتهاء الاحتلال مذهلا في حجمه وسرعته واستمراره حيث قفز إجمالي الناتج القومي الياباني بين 1975-1984 من 8,30 بليون دولار إلى 1,261 تريليون دولار إي بقفزة بلغت 42 ضعفا (Kozo & Okimoto, 1987:175). وكان الاقتصاد الياباني قد حقق نمو سنوي تصل نسبته إلى 9% خلال فترة النمو العالمي في الستينات(Kozo & Yasukichi, 1987: 95)   .
وبرغم أن التجربة الثانية تكاد تكون مختلفة جذرياً عن التجربة الأولى في عهد ميجي، إلا أن اليابان وصلت إلى تحقيق المعجزة الاقتصادية تلك لأنها بنت نهضتها الثانية على إيجابيات النهضة الأولى، أي أن صانع القرار الياباني انطلق من تقييم تجربته الأولى ليعيد بناء نفسه في تجربة جديدة (الحداثة في خدمة المجتمع) بدون حكم عسكري وبدون قوى عسكرية قوية بعد أن دفعت اليابان ثمناً غالياً للنتائج السلبية لمقولة (الحداثة في خدمة العسكر) (ظاهر، 1999: 357).
إن الرغبة التاريخية اليابانية للتعلم من الأخر مع مركب الشعور بالخوف من هذا الأخر والحذر منه قد زودا الرغبة اليابانية الملحة في ردم الفجوة بقوة كافية ليدفعا باليابان إلى قمة الترتيب العالمي. حيث وفر النجاح الاقتصادي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية لليابان ثروة هائلة كما واجهها بكل من الفرص والالتزامات المصاحبة للتحول إلى قوة رئيسة في الاقتصاد السياسي الدولي. ومع ذلك فإن هذه الثروة والقوة الجديدة قد أثارت مرة أخرى خوف وقلق جيران اليابان ودفعت باليابان نفسها للقيام بنوع من استكشاف الذات حول مسئولياتها العالمية.
اليابان في الوقت الحاضر:  عملاق اقتصادي وقزم سياسي
مع نهاية الحرب الباردة كانت اليابان قد حققت طموحها باللحاق بالغرب صناعيا واقتصاديا مما جعل البعض يرشحها للعب دور أساسي في السياسة الدولية، إلا أن وصول اليابان إلى قمة ترتيب القوى العالمية قد ترافق مع سلبية يابانية حيال لعب دور قيادي في الشؤون الدولية حيث استمرت اليابان في التصرف وكأنها شركة تجارية دولية أكثر من كونها دولة قومية، مما جعل آخرين يفضلون استخدام عبارة "عملاق اقتصادي وقزم سياسي" كثيرا لوصف الدور الياباني غير المتماثل على الساحة الدولية. إلا أن تلك الممارسة لم تعد مقبولة بالنسبة للقوى العظمى الأخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وخاصة مع تزايد حجم الفائض التجاري الياباني مع الولايات المتحدة وإخفاق المحاولات الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة وحتى الآن في تصحيح العجز التجاري مع اليابان الذي تجاوز نطاق 50 بليون دولار. وبدأ واضحا أن التغير المثير للظروف الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة قد خلق ضغوطا على علاقات الحامي- التابع التقليدية بين الولايات المتحدة واليابان، حيث لم يعد من المقبول أمريكيا التوقع أن تتحمل أكبر دولة مدينة في العالم "الولايات المتحدة" معظم تكاليف الدفاع عن أكبر دولة دائنة في العالم "اليابان". وهذا بالتالي دفع الساسة الأمريكيين إلى الضغط على اليابان لإعادة تقييم سلوكها في النظام الدولي وتقاسم عبء المحافظة على النظام الدولي الجديد وخاصة مع الازدهار الاقتصادي الياباني في السنوات الأخيرة والتراجع النسبي للهيمنة الأمريكية. ويبدو أن مفهوم تقاسم العبء قد بدأ يدخل قاموس النخبة اليابانية وأنعكس هذا في بعض المجالات التي بدأت اليابان تلعب فيها دورا قياديا ومنها برنامج المساعدات التنموية الدولية، وإدارة أزمة ديون العالم الثالث(NYT, 17 April 1989: A1) ، وتمويل الدين الأمريكي والمشاركة في قوات حفظ السلام الدولية. ففي سنة 1989م تجاوزت المساعدات الخارجية اليابانية البالغة 8,9 بليون دولار مقدار المساعدات الأمريكية مما جعلها أكبر دولة مقدمة للإعانات لأول مرة. وبرغم أن مساعداتها الخارجية في سنة 1990م قد قاربت 10 بليون دولار إلا أنها لا تزال تمثل أقل من 1% من إجمالي الناتج القومي الياباني مما يعني أن لدى اليابان قدرة على زيادة حجم تلك المساعدات(Meeks, 1993:63). ومع ذلك فقد أثبتت النخبة اليابانية مرة أخرى مقدرة فائقة على توظيف هذا الدور الجديد بشكل ايجابي لخدمة المصالح اليابانية وتوسيع حصة اليابان في السوق العالمية حيث مولت اليابان نطاقا واسعا من مشاريع التنمية في بلدان عديدة ليس فقط في أسيا وإفريقيا والشرق الأوسط ولكن أيضا في وسط وشرق أوربا وأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي (Akaha & Langdon, 1993: 8).  
ولذا فإن انهيار بناءات الحرب الباردة في السياسة الدولية قد أضر بالعلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة واليابان كما فرض على النخبة اليابانية ضرورة مواجهة تحدي أعباء وضعها الجديد في النظام الدولي. فخلال فترة الحرب الباردة نظرت الولايات المتحدة لليابان كبلد حيوي لا منها القومي كما أن نشاطات اليابان الاقتصادية لم تكن تشكل عبئا على الرفاه الأمريكي، إلا أن انتهاء الحرب الباردة قد قلب ذلك التصور رأسا على عقب. فاليابان تعتبر اليوم أقل أهمية للولايات المتحدة من الناحية الإستراتيجية بل أنها أصبحت ترى في اليابان تهديدا رئيسا في المجال لاقتصادي. ومن المثير للسخرية أن الولايات المتحدة نفسها تقترح أن الوقت بالنسبة لليابان لتطوير جيشها وزيادة نفقاتها العسكرية وممارسة حصتها العادلة من مسئوليات حفظ السلام العالمية. أما اليابان فترى أن نهاية الحرب الباردة والازدهار الاقتصادي يفرضان عليها تبني نظرة جديدة أكثر استقلالية وخاصة بعد أن أصبحت الضمانات الأمنية الأمريكية اليوم أقل أهمية، كما أن اليابان أقل اعتمادا على التقنية الأمريكية في تنميتها الاقتصادية. ومع ذلك لا يبدو أن النخبة اليابانية في عجلة من أمرها للتخلص من التصور السائد عنها "كعملاق اقتصادي وقزم سياسي" والاستعداد لممارسة دور أكثر فاعلية في السياسة الدولية.
وتأسيسا على ذلك يمكن القول أن اليابان اليوم قد تحولت إلى قوة اقتصادية هائلة حيث تنتج قرابة 15% من إجمالي الناتج القومي العالمي محتلة في ذلك المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. وبرغم أن اليابان كانت، حتى وقت قريب، تتمتع بفائض تجاري ضخم مع كل من أوربا والولايات المتحدة كما تعتبر اليوم من أكبر المانحين للمساعدات التنموية الدولية، وأكبر مصدري رأس المال، و أبرز دولة دائنة إلا أن التأثير الجيو سياسي لليابان على المسرح الدولي لا يوازي قوتها الاقتصادية تلك. ويرجع الأمر في ذلك لسببين أساسيين أولهما مرتبط بالقيود الدستورية التي يفرضها البند التاسع في دستورها الذي يحد من انخراط اليابان في السياسة الدولية، ويرتبط الثاني بالقيود القومية الأوسع التي شكلت جزءا من ثقافتها السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (Bowen, 2006: 31  حيث ضعف التأثير السياسي الياباني.
رؤى متعددة لنجاح مشروع التنمية في اليابان
نجحت اليابان ليس فقط في تجنب الوقوع في براثن التهميش الاقتصادي  وإنما أيضا في التحول إلى دولة عصرية بإمبراطورية توسعية إمبريالية في فترة ما بين الحربين وما لحقها. حيث تمكنت من اكتساح مناطق نفوذ الإمبراطوريات الأوربية في أسيا وأن تمثل وحدها تحديا عسكريا جادا وخاصة تجاه الصين حيث الحرب اليابانية الصينية قد استمرت في الفترة 1937 وما بعدها  ثم دمار الهزيمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية لتصبح منتجا ومصدّرا وممولا عالميا من الطراز الأول. وكان تحقيق هذه المعجزة بمثابة قدر كبير من النقاش والجدال بين المفكرين متعددي التخصصات Multidiscplined وذلك على النحو الآتي:-
أولا:  التفسير الثقافي ( الأخلاق الكنفوشسية، نموذج الساموراي وقيم البشيدو)
يجادل بعض المنتمين لمدرسة التحديث الليبرالية، بمعايير كل من التوقيت والنتائج، بأن التاريخ يربط اليابان بدرجة أكبر بالدول الصناعية الأحدث في أوربا وخاصة المانيا وايطاليا أكثر من ربطها بالأجزاء الأخرى من العالم غير الأوربي. فمن خلال التركيز على الفترة التي أعقبت وصول سفن القبطان بيري مباشرة أقترح أولئك أن العامل الأكثر أهمية في انطلاق اليابان وتنميتها يكمن في حقيقة كونها لم تكن مجتمعا متخلفا كثيرا قبل عام 1850م كما كان يعتقد. وتعتبر دراسة روبرت بيلاه الشهيرة (Bellah, 1957) المعنونة "ديانة توكوجاوا" "Tokugawa Religion" مثالا نموذجيا لهذا الاتجاه(Bellah, 1957) . حيث زعم بيلاه أن المعتقدات الدينية المفضلة في أواخر فترة التوكوجاوا تكشف عن روح تشبه بدرجة مذهلة "أخلاقيات العمل البروتستانتية" التي زعم ماكس فيبر أنها كانت عاملا مهما في ظهور الرأسمالية في الغرب الأوربي. كذلك أوضح توماس سميث Smith أن اليابان مثلها في ذلك مثل أوربا الغربية قد شهدت نموا اقتصاديا قبل مرحلة العصور الحديثة وأن الفلاحين في فترة توكوجاوا قد أجبروا على تطوير نوع من الانضباط في العمل وهو ما أهلهم جيدا للتكيف مع صرامة الرأسمالية الصناعية(Smith, 1959) .    
كما أكد رونالد دور(Dore, 1965) في كتابه "التعليم في توكوجاوا اليابان" على أهتمام اليابانيين بالتعليم والدور الذي لعبه أفراد طبقة الساموراي في هذا المجال بل أنه أشار إلى أن مستوى التعليم في اليابان في تلك الفترة كان يماثل ذلك الموجود في العالم ما قبل الصناعي(Dore, 1965) . وهذا الاهتمام المبكر بالتعليم هو الذي جعل اليابان اليوم واحدة ةمن أكثر الأمم تعلما وتسجل أعلى معدلات إنتشار الصحف في العالم. أما جون هول (Hall,1955) فقد أشار من جانبه في كتابه عن (Tanuma Okitsugu) إلى أنه بحلول منتصف القرن الثامن عشر كان هناك بالفعل مؤشرات بأن بعض قادة توكوجاوا قد بدأوا استكشاف اقترابا أكثر حداثة للحكومة والتنمية الاقتصادية (Hall,1955).
إلا أن مدرسة التحديث Modesigation ومن خلال تقديم اليابان "كنموذج أقلية عالمي" استطاعت أن تنجح كأمة نظرا لتطورها التاريخي الخاص خلال حقبة توكوجاوا، استنتجت ضمنا فكرة أنه إذا لم تستطع الدول غير الأوربية أن تتطور فإن ذلك لا يعود بدرجة
كبيرة لميراث الاستعمار والهيمنة الأوربية أو لحالة اللا مساواة القائمة والمشاكل في النظام الاقتصادي الدولي وإنما لأن تلك الدول ليست مستعدة بدرجة كافية للتطور كمجتمعات. بمعنى أخر أن مدرسة التحديث بدلا من تقديمها لليابان كنموذج للقدرة على تحطيم أسطورة تفوق العرق الأبيض وإثبات أن في مقدور شعوب أخرى في العالم أن تكرر ذلك فإنها قدمت اليابان كاستثناء لإثبات قاعدة التفوق الأوربي الثقافي والتاريخي. فاليابان كانت قادرة على النجاح لأن ماضيها كان أساسا (واستثناءا) شبيها بالماضي الأوربي. وهنا تبرز الجذور العميقة للتحيز الغائي ضمن مدرسة التحديث في تفسيرها لتجربة التحديث اليابانية حيث كانت تبرز فقط تلك الجوانب من الماضي التي يبدو أنها منسجمة مع فكرتها القائلة بأن المجتمع يتحرك بثبات نحو "الحداثة" وتقلل من شأن الجوانب المخالفة. كما أنها تختزل موضوعا معقدا كالحداثة إلى مجرد مسألة التصنيع مما يمكنها من تجنب أسئلة أكثر صعوبة حول التنمية الاجتماعية والثقافية والسياســية.
إن التحليل الدقيق لمشروع التحديث الياباني يشير إلى أنه وبرغم أن ذلك المشروع قد أشتمل على استعارات عديدة من الغرب الأوربي في مجالات كثيرة كالبنوك والتعليم والجيش والقانون إلا أن أيا من عمليات الاستعارة تلك لم يترتب عليها تغيير جذري في هياكل المجتمع الياباني أو منظومته الثقافية بعكس مزاعم مدرسة التحديث، كما لم يكن هدف مشروع التحديث الياباني تغريبيا، كما كان عليه الحال في تركيا مثلا، وإنما الحفاظ على الاستقلال الوطني والأصالة اليابانية المتميزة. وفي هذا السياق يشار إلى أن شعار "اليابان أولا" الذي طرحته تجربة النهضة الأولى في عهد مايجي قد لاقى دعما قويا من جميع قوى المجتمع الياباني الفاعلة. وكما يشير مسعود ظاهر(1999م) فقد تحمس لهذا الشعار كل من:
الإمبراطور، والساموراي على اختلاف مراتبهم، والبورجوازية اليابانية الصاعدة، والتجار، والصناعيين، والحرفيون، والعمال، والمزارعون. ولم يلق معارضة تذكر من إي من القوى اليابانية الفاعلة وساهمت في ترسيخ ذلك الشعار المقولات الشعبوية التي انتشرت على نطاق واسع وأبرزها: أرض اليابان مقدسة ولا يجوز أن تدنسها أقدام الغزاة، الإمبراطور مقدس وهو رمز لليابان وأب لجميع اليابانيين، الشعب الياباني شعب متجانس وهي خصوصية غير متوافرة في إي شعب أخر، الخدمة العسكرية إجبارية وبالتساوي بين جميع اليابانيين، العلم حق مقدس لجميع اليابانيين على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، قيم العمل والإنتاج هي القيم العليا في المجتمع الياباني، الكفاءة الشخصية وليس الموروث الاجتماعي هي القاعدة الوحيدة للتوظيف والترقي الإداري...(ظاهر، 1999: 278).     
ومع أنه قد جرى الاعتقاد بأن الشركة: The Firm، وهي الوحدة الأساسية لنمط الإنتاج الرأسمالي الحديث، هي مجرد مؤسسة اقتصادية لها نظام تراتبي hierarchy مؤلف من مجموعة من العمال في أسفله ومن مديرين ومساهمين في أعلاه، إلا أنه من الواضح أن هذا المفهوم للشركة هو تعميم تجريدي، ذلك، لأن الرأسمالية في اليابان لها ثقافة أخلاقية مختلفة. فالشركة اليابانية تبدو "كالأسرة"( Mashiko, 1988, 57)، أو "كالمتحد"(Dore, 1987: 53) حيث يشترك العمال، جميعهم، في الرغبة في تحقيق الخير العام، أي ازدهار الشركة. ويشيع في ورشة العمل workshop شعور بإنصاف الترتيبات الاجتماعية والاقتصادية، إي أن العمال يعملون وفقاً لمبدأ أخلاقي، وهو: حصص الجهد المشترك، ومثل هذا النوع من بيئة العمل يولِّد علاقات من
الثقة والشعور الجمعي – الرفاقي في الشركة كلها، ما بين العمال، وما بين العمال والمديرين
(Dose 54). إي أن هناك فارقا أخر بين نمطي الإنتاج الياباني والأميركي، هو الفارق الأخلاقي. فالاقتصاد الأميركي مجرد من القيم الاجتماعية، لذلك، لا يوجد أي كابح لاستغلال الطبقيين الرأسماليين للعمال. في مقابل ذلك، نجد الاقتصاد الياباني موصولاً ببعض القيم الاجتماعية، رغم رأسماليته وأهدافه في الربح الواسع. فهذه شركة سانيو Sanyo تفتخر بأن شعارها هو: "دعونا نخلق مجتمعاً أفضل من خلال الشركة"( Fursttenburg, 1974: 26).
وبذلك دحضت المؤسسات اليابانية الفكرة السائدة عن النمو الرأسمالي التي قدمها ماكس فيبرMax Weber وغيره من العلماء الغربيين والتي تؤكد على أن الرأسمالية تتطور بانتزاع نفسها من مجتمعها الأم من خلال إزاحة العلاقات العائلية والشخصية عن مجال الحياة الاقتصادية وجعل الاقتصاد مجالا منفصلا ومستقلا تحكمه حسابات لا شخصية للربح والخسارة. ومن ثم يمكن القول أن تجربة النهضة اليابانية قد أثبتت وبشكل صارخ مدى زيف الفرضية التي تستند عليها نظريات الليبرالية الرأسمالية التي تؤكد على أن العلاقات الاجتماعية التي نشأت في الدول الصناعية الرأسمالية في الغرب مثل الفردية والسوق الحرة لابد أن تنشأ كذلك في أي بلد أخر ينشد تحقيق التنمية الصناعية. ولذلك كان مهندسو سياسة التحديث في اليابان يرفضون فكرة الربط بين التحديث واكتساب القيم الغربية. وكما أشارت واسوو فقد أوضح اليابانيون "رفضهم لما يسمى فرضية التقارب التي مؤادها أن هناك منطقا عاما للتصنيع، وأن العلاقات الاجتماعية التي وجدت في الدول التي سبقت في الأخذ بالتصنيع (الفردية، وسوق العمل الحرة، وهلم جرا) لابد أن تنشأ في كل مكان"  (Waswo,1996:102).   
لقد مثّل نجاح اليابان في التحول إلى قوة صناعية حديثة شاهدا قويا على مقدرة نخبة مصممة على تحديث مجتمع تقليدي. أما ما هو أكثر إثارة للاهتمام فهو أن عملية البناء هذه قد تمت انطلاقا من ثقافة اليابان التقليدية. فقد استوعبت اليابان التقنية الغربية لكنها بقيت محافظة على الخصوصية اليابانية ولم تظهر رغبة في اقتباس المقولات الثقافية السائدة في الغرب. وهذا ما أكده برتراند راسل عندما قال "كانت اليابان دولة متخلفة اقتصاديا، إلا أنها لم تكن تشعر أبدا أنها دولة متخلفة ثقافيا"(نقلا عن الظاهر، 1999: 310). وهذا الأمر مهم بشكل خاص كما يقول مونتي بالمر Palmer لأنه يبرهن على أنه يمكن نظريا لدول العالم الثالث الأخرى أن تنجز الحداثة بدون أن تتغرب أي تصبح نسخا مشوهة من الغرب (Palmer, 1997: 257).
وفي هذا السياق يؤكد التحليل الثقافي على خصوصية التجربة اليابانبة في التنمية. فاليابان من المنظور الثقافي تعتبر عالما بحد ذاته. إن الفكرة المفضلة عن اليابان كشركة موحدة  "Japan Inc"تعكس الاعتقاد بأن الشعب الياباني هم ببساطة أكثر تجانسا وإنتاجية وقومية من غيرهم. فبعكس النمط السائد عن "الفردية الأمريكية" الذين يتنافسون ضد بعضهم البعض يميل اليابانيون إلى تفضيل التضامن الجماعي والإجماع.
فبرغم أن العمل هو، بالطبع، نشاط فردي، إلا أنه يعتبر في اليابان في أكثر الحالات مؤسسة مشتركة تتطلب الحد الاقصى من التعاون والتواصل. وتقدم الثقافة والتقاليد اليابانية دعما إيديولوجيا للجهود الجماعية من خلال تمجيد الإنسجام الجماعي وتفضيله على إي تصرف يبدو أنانيا. وتزعج هذه الخاصية الجماعية معظم الأوربيين المتأثرين بخلفية ثقافية ذات درجة عالية من الفردية، لانها بنظرهم تدعم التصرفات المناوئة للحرية الفردية، أو لأنها مستبدة عندما تضع مصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد. ومن ثم يمكن القول أن الأوربيين إما أخفقوا في فهم كيف يمكن للجهد الجماعي أن يدعم وبنجاح قطاع الأعمال، أو أنهم اعتبروه غير طبيعي أو على الأقل غير ديمقراطي.
ووفقا لهذه النظرة، ينظر للمجتمع على أنه سلسلة من الجماعات التراتبية لكنها ذات اعتماد متبادل بدءا من الأسرة ومستمرة بشكل تصاعدي إلى الشركة وصولا في نهاية الأمر إلى اليابان ككل. ولكل جماعة قائد وتؤكد على بناء علاقات عبر شخصية قوية لكي تضمن الانسجام والتعاون من خلال تجنب المشاكل والإذعان لتوقعات الجماعة. وتعتبر تلك العلاقات مهمة لأنها تتغلغل في كل شرائح المجتمع ومؤسساته كالأحزاب السياسية واتحادات العمل والأندية الرياضية والمنظمات الطلابية والجامعات وغيرها. وقد كان ريد (Reid)  أحد أبرز من شخّص تأثير الجماعة في اليابان والذي عزاه إلى القيم والتقاليد الكنفوشسية بعدما راقب ودون عشرات الطرق التي من خلالها يسهم الولاء للجماعة في تحقيق النجاح الاجتماعي والاقتصادي ليس في اليابان لوحدها بل في معظم شرق آسيا أيضا(Ried, 1999). ويمضي هذا التفسير إلى التأكيد على أن كلا من الحكومة، وإدارة الشركات، والعمال في اليابان متفقين جمعيا على أولوية التنمية الاقتصادية كهدف اجتماعي يسعون معا لتحقيقه. وهذا يعني أن العادات الثقافية اليابانية قد تم ترجمتها إلى نمو اقتصادي مرتفع.
وترتكز التفسيرات الثقافية لنجاح مشروع التنمية في اليابان على أربعة عناصر رئيسة هي: القومية، والانسجام والتجانس، والقبول بهرمية السلطة، والاحترام الشديد للعمل الجاد(Palmer, 1997: 287). وفي هذا السياق يلاحظ أن اليابانيين يعبرون بفخر شديد عن يابانيتهم كما أن لديهم إيمانا لا حدود له بقدرتهم على النجاح. بل أن بعض المتابعين يعتقدون بأن تفاخر اليابانيين بالقومية يصل إلى حد العنصرية (Van Welferen, 1990). كما انه يبرز حتى في ازدراء اليابانيين لأبناء جلدتهم الذين يقيمون لمدة طويلة في الخارج مما يصعب معه عملية إعادة دمجهم في الثقافة اليابانية وفي هذا السياق كتب أوجاتا:
تكشف معالجة مشكلة أولئك العائدون لليابان بعد قضاءهم فترات طويلة في الخارج أن إعادة انتظام أطفال رجال الأعمال في النظام المدرسي تمثل المعضلة في شكلها الأكثر حدة ..... حيث ينظر لكل من لا يجيد استخدام اللغة اليابانية أو لا يعرف التاريخ أو الجغرافيا اليابانية بالازدراء بكل تأكيد. وبالمقارنة فإنه ينظر لأولئك الذين يجيدون لغات أجنبية بالشك. وعلى وجه الخصوص يعتبر أولئك الذين لديهم دوافع فردية أو يقدمون على اتخاذ المبادرة غير متعاونين أو حتى غير يابانيين باختصار أنهم يعاملون كما لو كانوا يعانون من إعاقة ما(Ogata 1992: 67).   
 وقد وظف القادة المحافظون اليابانيون في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية مكونين قوميين أساسيين لبناء قاعدة دعم قوية لسياساتهم هما الفخر بالمنجزات والشعور بالانكشافية (vulnerability). ففي فترة قصيرة من الزمن تم تحويل اليابان من دولة مهزومة ومحطمة إلى قوة اقتصادية عظمى. ويوازي هذا الزهو القومي شعورهائل بالانكشافية أي الخوف المنتشر بأن اليابان صغيرة جدا بحيث لا تستطيع حماية هيمنتها الاقتصادية في مواجهة منافسين غيورين من نجاحها(Calder, 1988) .
وتتمثل الدعامة الأساسية للثقافة اليابانية في تأكيدها على الانسجام الجماعي. ولذلك فإن المواطن المثالي في اليابان هو ذاك الذي يمزج هويته مع هوية الجماعة ويضع مصلحة الجماعة فوق مصلحته الشخصية. ويوفر هذا التأكيد على الانسجام الجماعي الدعامة الثقافية لمفهوم "الحصة العادلة" الذي يعتبر سمة بارزة في السياسة اليابانية. فاليابان تعتبر بمثابة عائلة واحدة كبيرة وعليه يجب الإبقاء على كل أعضائها ضمن النظام بكل الوسائل الممكنة. كما ينعكس هذا في الخصائص الاستثنائية لاقتصادها الداخلي وخاصة "الثروات الثلاث المقدسة" المتمثلة في التوظيف مدى الحياة، مقاييس الأجرة بالأقدمية، واتحادات الشركة (مقارنة بالصناعة بشكل عام). حيث يقال بأن هذه المؤسسات الثلاث قد ساهمت في تعزيز ولاء الموظف وتحقيق درجة عالية من الانسجام بين العمال والإدارة. وهذا ما يساعد على تفسير قدرة النخب اليابانية المختلفة للعمل كنسيج واحد بدرجة عالية من الكفاءة وذلك لأنهم جميعا جزء من نفس الأسرة (Palmer, 1997). ويظهر هذا الانسجام أيضا بين عمال الشركات الكبرى في اليابان وذلك لأن القبول بالعمل في إحدى الشركات يعني اتخاذ الفرد قرارا ينظم سلوكه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي طوال حياته. ولذلك نادرا ما يغير الموظفون اليابانيون وظائفهم ويتوقع منهم تبني مصالح شركاتهم.  
إن استيعاب النجاح الاقتصادي الباهر لليابان جيدا يستلزم فهم العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والثقافة في المجتمع الياباني (Kuman & Rosovsky, 1992). أن أول ما يلفت الانتباه في هذا المجال هو الإنتاجية العالية للعمالة اليابانية (Dore & Sako, 1989) . فمع أن العمال اليابانيون كما هو الحال في مجتمع صناعي متقدم لديهم الرغبة في تحقيق الربح إلا أنه يبدو أن كلا من قيم العمل الكنفوشسية وضغط بيئة الجماعة اليابانية تحفزان على تحقيق إنتاجية عالية (Greene, 1990). كذلك وبالمقارنة مع نظرائهم الغربيين يعتبر البيروقراطيون اليابانيون أكثر ميلا للنظر إلى دورهم الاقتصادي وفقا لمعايير قومية وقد بدأت هذه الممارسة مع إصلاحات ميجي وتستمر حتى اليوم (Campbell, 1989)
وتمثل منظومة القيم السائدة في المجتمع الياباني قاعدة أساسية للتفوق الياباني. فبرغم أن القضاء على الإيديولوجية الإمبراطورية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية قد افقد اليابان آلية لضبط الأخلاق والفضائل تستند على فلسفة قومية أو دين إلا أنه لم يمنعها من تحقيق مساواة اجتماعية يجعلها اليوم تتكون بكاملها تقريبا من طبقة وسطى. ولو تمعنا قليلا لأدركنا أن النظام البيروقراطي قد لعب دورا حاسما في هذا المجال. فقد تكونت البيروقراطية الحديثة في اليابان من كثير من محاربي الساموراي السابقين الذين انخرطوا في العمل الحكومي بعد إلغاء طبقة المحاربين خلال فترة ميجي (1868-1912م) لذا كانت الحماسة تجاه تحقيق قدر أعلى من المساواة تمثل استمرارا لتراث هولاء البيروقراطيين من الساموراي الذي ترسخ خلال مرحلة حكم توكوجاوا (1600-1868م). وقد كانت قاعدة أولئك الساموراي الفكرية والسلوكية هي "البشيدو" التي تعني حرفيا "طريق المحارب" والتي كانت تقدم الفضائل الأخلاقية على الربح. كما تمثل أحد أبرز خصائصها في التأكيد الشديد على الشرف إلى الحد الذي يدفع المحارب لاختيار الموت إذا لم يكن قادرا على ممارسة واجبه الأخلاقي.
ويعد كتاب  (البشيدو روح اليابان، Bushido the Soul of Japan ) لإنازو نيتوبي  Inazo Nitobe واحدا من أفضل ما كتب عن منظومة قيم البشيدو. ويقدم نيتوبي قيم البشيدو على أنها طريقة المحارب ورمز الشجاعة للساموراي، وأنها بالتالي لا تمثل انضباطا حربيا فقط بل أنها تقدم نسقا واسعا من الأخلاق والفضائل ونموذجا حيا للفكر والحياة والمثل يمكن من خلاله استمداد القوة من الماضي للنهوض بالحاضر والمستقبل. وتشتق الخصائص الرئيسة لفلسفة البشيدو (الشجاعة، والمسئولية، والنزعة إلى عمل الخير، والأدب، والصدق، والاخلاص، والشرف، والاقتصاد، والولاء، والانضباط) من التعاليم الكنفوشسية والبوذية وتمثل انعكاسا لقيم تلك التعاليم. حيث أخذت من الكنفوشسية قيم المسئولية والولاء للوالدين والرؤساء والسلوك الجيد وتقبل القضاء والقدر، ومن تعاليم "زن  "Zen البوذية قيم الاقتصاد في الإنفاق والبساطة والانضباط والتوفيق بين المواقف المختلفة. كما تم خلال فترة حكم التوكوجاوا إضافة قيم ذات طابع إقطاعي إلى تلك المبادئ ومنها قيم العيب والشجاعة وطقوس الكاتانا متمثلة في السيف ( Mishima 1977; Nakane 1970; Nitobe [1935] 1990) . وشكلت فلسفة البشيدو التي تعني "التحرر من الخوف" أساس معتقدات وممارسات الساموراي. أنها كانت تعني تجاوز الساموراي لخوفه من الموت ومنحه الطمأنينة والقوة لخدمة سيده بإخلاص وأن يتقبل الموت بشرف عند الضرورة. كما أكدت تلك الفلسفة على التّعلم وفنون الدفاع عن النفس. وإذا كان السيف يرمز للدفاع عن النفس فإن طقوس تقديم الشاي المعقدة ترمز للتّعلم وكلاهما يوجهان العقل أما قلب البشيدو فكان يتمثل في الشرف أو الفخر (Nitobe, 1990). وقد كان الاعتزاز بالشرف يحتل مرتبة عالية في المجتمع الياباني ومعه ارتبط مفهوم الموت الذي كان هو الأخر مرتبط بالسيف. ولم يكن الموت حتى بالانتحار أمرا بسيطا، فالموت وفقا لفلسفة البشيدو يتضمن طقوسا محكمة. ولذلك كان هناك اعتقادا أنه من خلال طقوس الانتحار عن طريق "شق البطون" يمكن استعادة الشرف. وفي هذا السياق يقول أدوين ريشاور:
أصبح الانتحار بأفظع وسيلة وأكثرها إيلاما وهي وسيلة "بقر البطون" نوعا من الطقوس الدينية التي تستخدم لإظهار قوة الإرادة والمحافظة على الشرف. وتعرف وسيلة الانتحار هذه باللغة العامية اليابانية باسم "هاراكيري" أو " شق البطن" لكنها تسمى بالتعبير الأدق باسم "سبيبوكو" أي الأسلوب المشّرف للانتحار. وما تزال عملية الانتحار في بعض المناسبات في العصر الحديث بوسائل أقل قسوة تعتبر من الأمور المقبولة وأسلوبا مشرّفا ... للهروب من موقف لا يحتمل (ريشاور،1989: 79).
ولذا كانت البشيدو في صورتها الأكثر إثارة تماثل عبادة السيف الذي يعتبر هو الأخر جزءا أساسيا من السلوك الاجتماعي حتى أصبحت عبارة "السيف هو روح الساموراي" تمثل مثلا شعبيا وتحول سيف الساموراي إلى تعبير مجازي للمجتمع الياباني (Nitobe, 1990). وقد انتقلت هذه الفلسفة من المحاربين السامورايين في فترة توكوجاوا إلى خلفائهم البيروقراطيين في مرحلة ميجي وهي التي وفرت آلية سيطرة وضبط اقتصادي واجتماعي للنظام البيروقراطي خلال فترة طويلة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وذلك لأن الساموراي أولا ثم البيروقراطي فيما بعد كان مصراً على العيش في "فقر مشرف" طبقا لفلسفة البشيدو. وليس صعبا أن نرى اليوم هذه الخصائص متجسدة في اليابانيين المعاصرين، فكما ساهمت قيم القوة والانضباط والاقتصاد في الإنفاق والولاء التي تضمنتها فلسفة البشيدو في جعل اليابانيين مقاتلين أشداء في الماضي فإن نفس القيم هي التي تدفعهم اليوم في مجالات المؤسسات الاقتصادية العملاقة.
ثانيا: التفسير التاريخي
يزعم جورج  بول  Ball نائب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أن التاريخ الياباني لم يرسم إطلاقا بنفس المنحنيات المتموجة التي ميزت تطور البلدان الأخرى وأنه بدلا من ذلك: "فإن تاريخ التطور الياباني يشبه بدرجة كبيرة الخطوط المستقيمة المتعاقبة التي تنقطع بانتظام بزوايا حادة عندما تنحرف أمة بأكملها، تسير بسرعة كبيرة، فجأة كفرق الجيش المدربة تماما لسلك طريق جديد. وهو الأمر الذي ليس له مثيل في التاريخ البشري كله"(As cited by Pyle, 1992:12).
ويمكن النظر للتاريخ الياباني على أنه بسيط ومعقد في نفس الوقت. فبرغم أن المجتمع الياباني بقي مجتمعا مغلقا في وجه العالم الخارجي لإلف سنة إلا أنه تحول خلال المائتي سنة الأخيرة إلى نسخة متسارعة من تاريخ معظم الدول القومية الحديثة في أوربا. حيث شهدت تلك الفترة أفول الإقطاع، وبروز ملكية عسكرية أوتوقراطية، وظهور قوة إمبراطورية استعمارية، وحروب، وهزيمة، وديمقراطية، وتصنيع سريع. هذه السلسلة المتعاقبة من التطورات غير المتوقعة هي التي أخذت اليابان من قرون من الانعزال المتخوف إلى حد التشبه بالغرب في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومن الإمبريالية العسكرية إلى التجارة الهادئة في النصف الأول من القرن العشرين ومن اقتصاد متخلف إلى قيادة مترددة في الاقتصاد السياسي الدولي في النصف الثاني من القرن العشرين.
وبرغم هذه التناقضات الهائلة إلا أن التاريخ الياباني كان مطبوعا بنوع من الاستمرارية. وكان أول نموذج لهذه الاستمرارية يتمثل في أن مشروع التنمية في اليابان كان تراكميا ولم يشهد صراعا بين ماض وحاضر كما شهدته أوربا عصر النهضة أو بلدان العالم غير الأوربي. ويهمنا هنا بوجه خاص ذلك الدور الذي لعبته فترة حكم توكوجاوا في "إيدو" من 1600م-1686م حيث بدأ المؤرخون يشيرون بشكل متزايد إلى أن عناصر المجتمع الحديث لم تصل فجأة إلى شواطئ اليابان على متن سفن القبطان بيري السوداء بل أن مجتمع إيدو كان قد وضع قبل ذلك القاعدة الأساسية لجوانب عديدة من عملية التحديث خلال فترة قرنين من الزمن من العزلة القومية الطوعية. فمع أن اليابان كانت آنذاك ذات اقتصاد سابق للتصنيع، ونموذج سياسي إقطاعي إلا أن مؤسساتها كانت مركبة ومتقدمة جدا، كما لم تكن إدارتها البيروقراطية تقل عن مثيلاتها الأوربية من حيث الأمانة والكفاءة، ولم يختلف مستوى التعليم فيها كثيرا عن مستويات التعليم في أكثر الدول الغربية تقدما، حيث بلغت نسبة الرجال المتعلمين فيها ٤٥ %والنساء ١٥ %. ولذلك فليس هناك شك في حقيقة أن اليابان استفادت كثيرا من عمليات التحديث التي بدأتها مبكرا، خلال فترة التوكوجاوا، وبالتالي لم تكن الفجوة التكنولوجية بينها وبين الغرب آنذاك فجوة واسعة(رايشاور، 1989 :111-113). وفي هذا السياق إيضا أشارت سوزان هانلي في Everyday Things in Premodern Japan الصادر في سنة 1997م إلى أن
ازدياد الانتاج الزراعي وتطور التجارة حسنت بشكل مثير الظروف المعيشية للناس العاديين خلال تلك الفترة، كما أن النظم المتطورة فيما يتعلق بالصحة العامة والعناية بالبيئة (وخاصة التخلص من النفايات واعادة التدوير) قد دلت على مستوى حضاري متقدم. وهناك عوامل أخرى أوردت لتدعيم فكرة التنمية اليابانية خلال فترة الإيدو منها تقدم طرق المواصلات والاتصالات ووجود اقتصاد نقدي معقد وشعب جيد التعليم نظرا لدور المدارس الرسمية والانتشار الواسع للمدارس المحلية التي عرفت باسم
terakoya  ومستوى عال من حب الإطلاع الفكري كما ظهرت في أعمال عدد من المفكرين المهتمين بالتاريخ الطبيعي والمعرفة الغربية (Shuji,1998: 6)
أما ثاني نموذج فتمثل في اليابان كمقلدة. فعبر التاريخ استعارت اليابان ،
وعلى نطاق واسع، من أفكار ومؤسسات وتقنيات تلك الثقافات والمجتمعات التي اعتبرتها
متفوقة عليها لكنها تكاد تكون الدولة الآسيوية الوحيدة التي استطاعت، وبسرعة قياسية أن تستوعب تلك التكنولوجيا ومن ثم تطورها لتتجاوز الغرب في كثير من السلع الإلكترونية، وصناعة
الإنسان الآلي (Robot)، والبصريات، وأجهزة الإعلام، والأجهزة الطبية وغيرها (ظاهر، 2004) .
ولا ينكر اليابانيون هذه الظاهرة بل يعترفون بأنهم نقلوا عن الغرب، ومستمرون في نقل أحدث أشكال التكنولوجيا التي هم بحاجة إليها دون عقد أو مركب نقص. إلا أن ذلك لم يجعل اليابانيون يشعرون بأنهم مرغمون على المحافظة على نقاء تلك الأشياء المستعارة من الخارج بل عملوا على تكييفها لتتناسب مع احتياجاتهم الخاصة وغالبا ما طوروا أو عززوا النسخة الأصلية(ريشاور، 1989: 49). أنهم يواجهون الظواهر الأجنبية لكنهم عندما يعرفون قيمتها يتبنونها ويصبغونها بالخصوصية اليابانية. ويظهر هذا الأمر جليا سواء كان متعلقا بأجهزة الفيديو أو دوائر التحكم النوعي المستقدمة من أمريكا والتي كيفت مع البيئة اليابانية ثم أعيد تقديمها إلى أمريكا مرة أخرى، أو بديانة زن البوذية وأعواد الأكل التي استقدمت من الصين أو ديانة الكنفوشسية التي نقلت من كوريا أو العلم والتقنية الغربية الحديثة التي استعيرت من الهولنديين أو بأول دستور الذي استنسخ من البروسيين أو بنظام المدارس الذي نقل عن الألمان(Fields & Norville, 1996: 268) .
ثالثا :   نظر اليابانيون دائما للعالم بمعايير التراتبية التصاعدية وبنوا عليه موقفهم تجاه انفسهم والعالم الخارجي. فقد هيمنت روح الجماعة الساموراية على اليابان ونظر اليابانيون من خلالها للعالم. ووفقا لتلك الروح كان العالم كله مصنفا طبقا للنظام الاجتماعي الساموراي. وبشكل عام كان العالم مقسما ببساطة إلى الأوربيين البيض الذين يستحقون أن يكونوا منافسين والأفارقة السود والملونين الذين اعتبروا في درجة وضيعة. ولذلك كان اليابانيون وخلال معظم تاريخهم يشعرون بنوع من الإعجاب والتخوف تجاه الدول الأقوى منهم مثل الصين وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة لكنهم لم يجدوا مشكلة في تقليدها أو الاقتباس منها، لكن عندما تنامت قوتهم وتضاءلت قوة تلك البلدان نسبيا أو بشكل مطلق تحول الشعور الياباني غالبا من الإعجاب بتلك البلدان إلى ازدرائها. أما الشعوب الأخرى الفقيرة والضعيفة والمكافحة كالشعوب الآسيوية والأفريقية فقد شبهت بوضع الفئات التي تقبع أسفل الهرم الاجتماعي والتي يجب أن تذعن للأوامر وتعترف بزعامة الساموراي (Dose: 261).
أما الخاصية المستمرة الرابعة فتتمثل في ما يسمى بالكوربوراتية اليابانية القومية. فقد منح الموقع الجغرافي للجزر اليابانية والتجانس النسبي للشعب شعورا قويا وحادا لدى اليابانيين بقوميتهم(ريشاور، 1989: 49). وقد أدى شعور القبيلة هذا في الغالب باليابانيين لتبني وجهة نظر ميركنتالية (تجارية) عن العالم بمعادلة صفرية للربح والخسارة. كما غذى دافع التضحية لدى اليابانيين في سبيل دولتهم سواء كان ذلك في الاستغلال العسكري سابقا أو في الحملات الاقتصادية في الآونة الأخيرة (Dose: 261).
وتتمثل الخاصية المستمرة الخامسة في ما يمكن أن نسميه بنموذج الساموراي. فبرغم مرور أكثر من مائة وخمسين سنة منذ القضاء على حكم توكوجاوا وحدوث تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة في اليابان منذ ذلك الوقت إلا أنه يمكن ملاحظة استمرارية مثيرة لهذا النموذج حتى الآن وهي الاستمرارية التي حاول الأمريكيون كمنتصرين في الحرب القضاء عليها بكل إصرار خلال فترة الاحتلال الأمريكي (1945-1952).
فقد أستهدف الأمريكيون الثقافة القديمة التي اعتبر النموذج الساموراي قلبها النابض وذلك من خلال سن تشريعات تجرم حيازة سيوف الساموراي وتحظر تمارينهم فضلا عن تقديم إصلاحات زراعية جذرية وحقوق دستورية وقيم ليبرالية جديدة. ونظرا لأنه لم يكن لليابانيين أي فرصة سوى القبول بتلك التعديلات فقد كانت استجابتهم تتمثل في توسيع نموذج الساموراي من حماية طبقة واحدة إلى الأمة بكاملها. بمعنى أخر تحولت الأمة اليابانية كاملة إلى ساموراي وساهمت فضائل الساموراي في إعادة بناء اليابان من الرماد وتحولت قيمة الولاء مثلا من الولاء للسيد المباشر إلى الولاء للأمة. هذا الانبعاث لنموذج الساموراي عكسه جيدا المفكر الياباني ماشيما (1977) Mishima الذي أكد فيه على ضرورة توقف اليابانيون عن الإعتذارية أو الحرج من ماضيهم وانتقد بشدة المفكرين والعلماء ونجوم الإعلام لاستسلامهم للمادية الغربية ووصمهم برموز الانحدار وأكد على أن طريق الساموراي فقط هي التي ستستعيد الشرف الياباني القديم (Mashima, 1977).  


ثالثا: التفسير الاقتصادي
 (الرأسمالية الليبرالية مقابل الرأسمالية التنموية)
ركز الاقتصاديون المتأثرون بتوجه الرأسمالية الليبرالية كما هو مألوف عنهم على أولوية قوى السوق في اليابان ودعوا إلى تقليص تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي لأنه يتسبب بنظرهم في تعطيل قانون العرض والطلب ومن ثم خفض الإنتاجية. وشددوا على أن دور المبادرة الفردية ومبادرة الشركة في سوق مفتوحة، إلى درجة كبيرة، كانا دافعين رئيسين وراء النجاح الاقتصادي في اليابان. وطبقا لهذا التفسير فليس هناك شيء استثنائي حول نموذج الرأسمالية اليابانية وأن العوامل غير الاقتصادية قد لعبت دورا هامشيا في التنمية الاقتصادية اليابانية. أما فيما يتعلق بالتأثير الايجابي للحكومة اليابانية على النمو الاقتصادي فقد كان من خلال سياسات اقتصادية كلية حكيمة حيث يتم الإشارة مثلا إلى أن نظام الضريبة الياباني كان ملائما لمعدلات فائدة مرتفعة، كما أن غياب تنظيمات محاربة الاحتكار قد أسهم في ازدهار قطاع الأعمال، كما سمح للشركات اليابانية بتجميع مواردها معا في سبيل تحقيق أبحاث أو تنمية مشتركة. وفي مجال التركيز على دور المبادرة الخاصة في تطور اليابان أنتقد أنصار هذا التوجه على وجه الخصوص النظرة القائلة بأن "السياسة الصناعية" ذات علاقة وثيقة بفهم الأداء الاقتصادي المذهل لليابان. فضلا عن أنهم متشككون حيال قدرة البيروقراطيين الاقتصاديين على صياغة خطة اقتصادية قومية متماسكة تتوقع الصناعات "الرابحة" و "الخاسرة" في المستقبل(Fields & Norville, 1996: 265).
باختصار يمكن القول أن أنصار هذا التوجه يحاولون افقاد الثقة بأي طريق مغاير لـ"الطريق الأميركي" وايجاد الأسس الإيديولوجية الصلبة من اجل استمرار النظام الليبرالي المهيمن والمتمحور حول الولايات المتحدة. ومع ذلك فإن نظريات هذا الاتجاه تخفق كثيرا في تفسير الحياة الاقتصادية في اليابان اليوم.
فمن الملاحظ أن من أبرز الخصائص المميزة للسياسة الاقتصادية اليابانية تلك الروابط غير الرسمية الوثيقة بين ثلاث جماعات مهمة على الساحة اليابانية تسيطر على صنع السياسة الاقتصادية في البلاد متمثلة في قيادات الخدمة المدنية، وكبار رجال الاعمال، وقيادات الحزب الليبرالي الديمقراطي، فيما أصبح يعرف بالمثلث الفولاذي(Vogel,1979)(Iron Triangle). ووفقا لتلك التركيبة فإن البيروقراطيين وليس السياسيين أو رجال الاعمال هم الذين تولوا وضع معظم السياسات والتشريعات التي جعلت من اليابان عملاقا اقتصاديا والأكثر أهمية أن معظم قيادات الحزب الييبرالي الديمقراطي (الذي حكم اليابان منذ 1955م وحتى الآن فيما عدا فترة زمنية قصيرة في 1993م ) ومعظم رجال الأعمال كانوا هم أنفسهم قد عملوا ضمن قطاع الخدمة المدنية. ومن ثم فإنه وبعكس الحال في الولايات المتحدة حيث العلاقة غالبا ما تكون عدائية ما بين رجال الاعمال والحكومة فإن النخبة اليابانية تعتقد أن التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص هو أفضل طريق لتحقيق النمو الاقتصادي. وكان من نتيجة ذلك التعاون تبلور ما أصبح يعرف بنموذج "رأسمالية الدولة" أو "اليابان الشركة" "Japan, Inc.".
ففى الوقت الذي اعتمدت فيه الدول الرأسمالية الغربية على السوق الحرة لتوزيع رأس مالها عملت اليابان طوال النصف الثاني من القرن العشرين على إنشاء نظام مالي يقوم بتقسيم رأس المال وفقا لمعايير الحكومة. من جهة أخرى يمكن القول أنه برغم أن هناك تنافسا شديدا بين الشركات اليابانية على الأسواق كما يحدث في كل مكان إلا أن الرأسمالية اليابانية تختلف بشكل عميق عن الرأسمالية الفردية الأنجلو امريكية. فالمؤسسات والشركات اليابانية كما يقول جون جراي (Gray, 2000) تعتمد في تعاملها مع موظفيها ومع أفراد المجتمع على شبكات من الثقة بدلا من ثقافة العقود. وهي أقل انفصالا عن مجتمعها بالمقارنة مع مثيلاتها الغربية، كما أن لها علاقات وثيقة وراسخة مع مؤسسات الدولة(جراي،2000: 238-241). وفي هذا السياق يشير بول كنيدي (1988) إلى أن التصنيع السريع في اليابان قد حدث تحت رعاية سلطة حكومية مركزية قوية تقوم على مبدأ التدخل. بل أن مؤسسات الدولة كانت هي العامل الحاسم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والصناعية عند كل منعطف في التاريخ الياباني. وأن تحديث اليابان كان ضرورة:
لا لأن المنظمين الأفراد كانوا يرغبون في ذلك، بل لأن الدولة كانت تحتاج إليه ... فقد شجعت الدولة بناء شبكة من السكك الحديدية والاتصالات البريدية والخطوط الملاحية، وعملت بالتعاون مع المنظمين اليابانيين الصاعدين على تطوير الصناعة الثقيلة وصناعة الصلب والحديد، وبناء السفن، وكذلك على تحديث إنتاج المنسوجات. كما كان الدعم الحكومي يقدم لتعزيز الصادرات وتشجيع النقل البحري وإقامة بنية صناعية حديثة. وفوق ذلك كله كان يكمن الالتزام السياسي الرائع بتحقيق الشعار القومي "دولة غنية ذات جيش قوي"( Kennedy, 1988: 266)..
كذلك يشار إلى أن الرأسمالية اليابانية لم تقم على أنقاض النظام الإقطاعي كما حدث في أوربا بل أن تطور الشركات اليابانية الحديثة كان امتدادا لمؤسسات موروثة من القرون الوسطى، بل إن تدشين المشروع الاقتصادي الياباني الحديث في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر والمستند إلى قاعدة صناعة قوية كان تجسيدا لنظام اجتماعي ظل قائما ولعبت فيه طبقة الساموراي المحاربين أولا ثم البيروقراطيين فيما بعد دورا حاسما(جراي، 2000: 238-241). ومن ثم يمكن القول بأن دخول اليابان المفاجئ في الاقتصاد السياسي الدولي في القرن التاسع عشر قد أسهم في تطور نموذج الاقتصاد السياسي الميركنتالي الذي لا يرتكز على الحرية الليبرالية ولا على المساواة الشيوعية. فمنذ أن تيقن زعماء حركة ميجي الإصلاحية أنه يجب على اليابان أن تتطور بسرعة أو تواجه نفس مصير الصين آنذاك وتقع تحت السيطرة الامبريالية الغربية، لم تعد التنمية السياسية الموجهة من قبل الدولة مجرد وسيلة لخدمة
الشعب وإنما أصبحت بدلا من ذلك أداة للحفاظ على السيادة القومية. ولذلك فإن الشعار
القومي الذي أطلقه زعماء تلك الحركة "بلد غني وجيش قوي" كان يشير إلى أن إصلاحيي ميجي كانوا مدركين بشكل كامل منذ البداية للعلاقة الوثيقة بين التنمية الإقتصادية والتصنيع من جهة وبين القوة العسكرية والقوة السياسية في الساحة الدولية من جهة أخرى. كما أدركوا
أن هدف تحديث اليابان وفق ذلك الشعار لا يمكن تحقيقه بدون أن تأخذ الحكومة اليابانية زمام المبادرة في توجيه كل الموارد المتاحة نحو تحقيق ذلك الهدف. وحدث هذا الأمر في ظل تقبل واسع لسياسة الحكومة من قبل قطاعات واسعة من الشعب ومن بينهم معظم كبار التجار الأثرياء الذين كونوا ثرواتهم أثناء حكم توكوجاوا والذين قاموا بتشغيل المشروعات الجديدة وبدأ الكثير منهم في مساندة الحكومة من خلال شركات تابعة لعائلات وإقامة بنوك مثل مجموعات زايباتسو التي كان لها دور في ضخ كمية كبيرة من الأموال لليابان في النصف الأول من القرن العشرين.
وحتى بعد سقوطها تحت الاحتلال قاومت اليابان محاولة الأمريكيين تقديم أسواق رأس المال القائمة على المنافسة في اليابان في أواخر الأربعينيات واستمر هذا التعاون بين الشركات الكبرى والدولة وازداد رسوخا وخاصة بعد أن قامت الحكومة منذ خمسينات القرن الماضي بتأسيس مؤسسات مالية متعددة لتوزيع رأس المال على الشركات والقطاعات التي تمثل أهمية للازدهار الاقتصادي مثل بنك الائتمان، بنك الاستيراد والتصدير، بنك للتنمية، بنك لتمويل الصناعات الصغيرة.
ويصور أولئك الذين يعتنقون هذا التفسير للدولة التنموية اليابان على أنها نوع مختلف من الرأسمالية وأنه يختلف بشدة عن النموذج الانجلو أمريكي(جراي، 2000: 238). فبينما تمتلك الرأسمالية الغربية جذورا ليبرالية واضحة تقدس الفردية والسوق الحرة متأثرة في ذلك بكتابات كل من جون لوك وأدم سميث، فإن الرأسمالية اليابانية المتأثرة بأفكار الفيلسوف الألماني فريدريك ليست Friedrich List قد بنيت على افتراضات ميركنتالية حول طبيعة الإنتاج والتبادل الاقتصادي يأخذ فيها رفاه الجماعة أولوية على حقوق الأفراد. وهذا ما جعل الاقتصاد في اليابان كما يقول جيمس فالوز "جزءا من الجيوبوليتيك – أي أنه بمثابة المفتاح لقوة الأمة في مواجهة الإنكشافية في التعامل مع القوى الأخرى" (Fallows, 1993: 64).
ولذلك يركز أنصار توجه "الدولة التنموية" من جانبهم على تفسير مختلف لجذور النجاح الاقتصادي الياباني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية مؤكدين على دور الحكومة أو الدولة في رعاية التطور الاقتصادي لليابان. ويدعم هؤلاء مزاعمهم هذه من منظور ثقافي وآخر اقتصادي. وطبقا للمنظور الثقافي (أي اختزال السلوك الياباني في الخصوصية اليابانية) فإن مختلف "المؤسسات الاستثنائية" الموجودة في اليابان لا تعتبر ظاهرة معزولة بل أنها تفهم بشكل أفضل كأجزاء من نظام اقتصادي وسياسي أوسع. فخلال مرحلة ما بعد الحرب، وضعت الحكومة اليابانية أولوياتها في اللحاق بالغرب صناعيا وتابعت هذا الهدف بإصرار. أما التحليل الاقتصادي للتنمية اليابانية من جهة أخرى فيزعم بأن اليابانيين مثل أي شعب أخر مدفوعون بالمصلحة الذاتية الاقتصادية. 
وفي هذا السياق توصف الدولة اليابانية "بالدولة التنموية" لأن الأولوية القصوى لديها كانت ولا تزال هي التنمية الاقتصادية، وليس التنظيم regulation   (كما في الولايات المتحدة)، أو الرفاه welfare (كما في أوربا)، أو الثورة (كما في الصين). أما مقاييس الأداء في هذا النموذج ذو التوجه الإنتاجي فهي تحقيق ادخار عال واستثمار عال أيضا بدلا من زيادة الاستهلاك والترف. وفي هذا السياق يتميز الاقتصاد الياباني بضخامة حجم ادخارا ته القومية التي وصلت إلى ما يقارب 40% من إجمالي الناتج القومي تقريبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (Yamamura & Yasuba, 1987: 138). ومع ذلك فإن النظام الياباني هو "نظام رأسمالي" يستند على الملكية الخاصة والشركات الخاصة الهادفة إلى تحقيق الأرباح التي تشارك في أسواق محلية وعالمية ذات تنافسية عالية إلا أن الدولة هنا توجه السوق بدرجة أكبر بكثير مما يحدث في النموذج الأمريكي. ويشمل ذلك التوجيه مجموعة من السياسات والإجراءات الاقتصادية الرسمية وغير الرسمية يتم إدراجها غالبا تحت مصطلح السياسة الاقتصادية ومن ضمنها فرض تعريفات حمائية وضرائب على الواردات، وتشجيع التعاون والحد من المنافسة المفرطة في القطاعات التصديرية الإستراتيجية، وتقديم قروض بفوائد منخفضة، وإعفاءات ضريبية للشركات التي تقبل بالاستثمار في صناعات مستهدفة. ويتم صياغة تلك السياسات وتنفيذها بواسطة النخبة البيروقراطية الاقتصادية اليابانية بعد التشاور والتنسيق مع القطاع الخاص (Craige & Others, 1986: 1233-1234) . ومع أن الدولة نفسها وكلاعب حقيقي في السوق لا تستحوذ على القواعد والإجراءات لكنها بدلا من ذلك تشغل نفسها بأهداف اجتماعية هامة وخاصة تشجيع التنافسية الدولية للصناعة حيث توجه السياسة الصناعية للدولة نحو هذا الهــدف.   
فقد انتهزت اليابان الفرصة الاستثنائية التي سنحت لها جيدا في ظل الحرب الباردة عندما تولت وزارة التجارة الدولية والصناعة MITI توجيه التنمية نحو الصناعة الثقيلة وخاصة صناعة الصلب وبناء السفن والبتر وكيماويات. واستخدمت الوزارة سلطتها لضمان حصول الشركات الخاصة في تلك الصناعات المستهدفة تمويلا كافيا من خلال قروض بنكية تفضيلية بدلا من اللجوء إلى رفع رأس المال النادر من خلال بيع الأسهم. كذلك عملت الوزارة على تقييد التنافسية لمنع المواجهات المكلفة ضمن تلك القطاعات الاقتصادية ذات الأولوية العالية. وكان من أبرز نتائج هذه السياسة الصناعية تدعيم علاقات الحكومة بقطاع الأعمال، وتعزيز وضع الشركات الكبيرة، وتسريع النمو الاقتصادي. لكن كيف أمكن تحقيق ذلك ؟ من خلال فرض الحكومة لتعريفات جمركية عالية لحماية الشركات اليابانية من المنافسة الأجنبية، تقليص معدل الضرائب على الشركات المحلية التي كانت تنافس الشركات الأجنبية، وفرض قيود نقدية لمنع المستثمرين الأجانب من الاستيلاء على حصة كبيرة من القطاعات الإستراتيجية في السوق اليابانية. وعلى الجانب الايجابي شجعت الحكومة اليابانية البنوك على تقديم قروض بفوائد منخفضة للمؤسسات الواعدة. بالإضافة إلى ذلك قدمت الحكومة اليابانية معونات لشركات محددة كانت بحاجة إلى مساعدة إضافية، ورفعت رسوم الاستيراد عن الآلات المصنعة في الخارج التي كانت ضرورية لتطور الشركات المحلية، واستخدمت عوائد الضرائب العامة لبناء بنية أساسية ضرورية للقطاع الخاص، كما قدمت معلومات وخدمات أخرى للشركات التي بدأ أن لديها فرص واعدة للنجاح.  
وبرغم كل الصعاب التي واجهتها اليابان في القرن العشرين إلا أن البناء الأساسي لذلك لاقتصاد السياسي الميركنتالي في اليابان بقي صامدا. ومن ثم فقد أسهم هذا النموذج الذي تبلور تحت ظروف عسكرية صارمة أثناء مرحلة الميجي وتم تنقيحه خلال فترة الاحتلال الأمريكي ووصل مرحلة النضج في ظل الحماية العسكرية والاقتصادية الأمريكية في مرحلة الحرب الباردة في انتشال اليابان من تحت رماد الهزيمة العسكرية المدمرة وبناء اقتصاد قوي وصحي ومنافس عالميا والدفع بها لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ولذلك لم يكن غريبا أن يحاول العلماء وكذلك صناع القرار فهم تلك المعجزة التنموية وأن تصبح دراسة نموذج الرأسمالية التنموية في اليابان حقلا هاما للدراسة الأكاديمية والتحليل السياسي.
رابعا: التفسير الخارجي
تتسم التفسيرات الثلاث السابقة للنجاح الياباني (الثقافي، والتاريخي، والاقتصادي) في أنها جميعا ذات خاصية واحدة مشتركة هي التركيز على العوامل الداخلية، إلا أن هناك مزاعم أخرى تؤكد على أهمية الإطار الدولي وتقلل من دور العوامل الداخلية الإيجابية في تحقيق النهضة اليابانية. وبرغم الإصرار على أن إنذار القبطان بيري هو الذي دشن انطلاقة مشروع النهضة الياباني في نسخته الأولى، وهو ما عبر عن موقف إيديولوجي مسبق ومحاولة لإلحاق تلك النهضة بتجارب التحديث الأوربية (ظاهر، 2002: 56)، إلا أن معظم إسهامات أصحاب هذا التفسير قد تركز حول مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث يجادلون بأن النجاح الياباني المذهل في هذه المرحلة يمكن تفسيره بشكل كبير من خلال الحرب الباردة وطبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة واليابان الناتجة عن تلك الحرب.
ويشير من يتبنى هذا الزعم إلى أن السياسة الأمريكية تجاه اليابان في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية قد انبثقت وبشكل منطقي من انشغالها بالاتحاد السوفيتي أولا والصين لاحقا حيث رأت الولايات المتحدة أنه من الضروري إيجاد حلفاء حول العالم بهدف احتواء المد الشيوعي ولذلك تحولت مهمة الاحتلال الأمريكي لليابان من هدف تحويل اليابان إلى سويسرا الشرق من خلال إعادة صياغة اليابان على النموذج الغربي وتعزيز الإصلاحات الديمقراطية إلى هدف تأهيل اليابان كحليف أساسي لأمريكا في أسيا في مواقع المواجهة المتقدمة ضد الاتحاد السوفيتي والصين خلال فترة الحرب الباردة. 
ويعتبر كلا من بايل Pyle و هيلمان Hellman من بين أبرز الذين ناقشوا باستفاضة مدى الاستفادة اليابانية من النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد كتب بايل بإسهاب عن التأثير الإيجابي للتنافس على الزعامة خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على اليابان حيث أخذت الولايات المتحدة على عاتقها حماية اليابان من تقلبات السياسة الدولية مما سمح لليابانيين أن يتفرغوا للتركيز على تحقيق النمو الاقتصادي (Pyle, 1992: 43). من جانبه أشار هيلمان إلى ما سماه "تأثير البيوت المحمية الدولية" international greenhouse effect للمحمية الأمريكية الذي أتاح لليابان الازدهار "متحررة من تبعات وتكاليف وحالات عدم التيقن الناتجة عن المشاركة الكاملة في الشؤون السياسية والأمنية الدولية"( Hellman, 1988: 345)..
ويشير مناصرو مقولة الراكب المجاني "free rider " إلى ثلاث طرق محددة على الأقل أسهمت من خلالها العلاقات الأمريكية اليابانية خلال فترة الحرب الباردة في دعم النمو الاقتصادي الياباني. فأولا: تكفلت الولايات المتحدة بتحمل فاتورة الدفاع عن اليابان مما ساعد اليابان في توجيه مواردها نحو الإنتاج الصناعي للحاق بالغرب اقتصاديا. فقد ضمنت الولايات المتحدة أمن اليابان بموجب بنود المعاهدة الأمنية الأمريكية اليابانية الموقعة في عام 1951م في مقابل الحصول على إمتيازات عسكرية واسعة في اليابان وقبول اليابان أن تصبح تابعا عسكريا للولايات المتحدة.
ثانيا: سهلت الولايات المتحدة عملية نقل التقنية لليابان بعد الحرب. وقد ساعدت عملية نقل التقنية هذه من الولايات المتحدة، البلد الأكثر تقدما صناعيا، المنتجين اليابانيين على تسريع السياسة التنموية خاصة وأن اليابان كانت معتمدة على واردات التقنية في الصناعات ذات النمو العالي التي تم استهدافها في مشروع التنمية اليابانية.
وعموما فقد عززت الولايات المتحدة مشروع التنمية الياباني من خلال سياستها في مجال التجارة الدولية. حيث عملت الولايات المتحدة في مرحلة الحرب الباردة على المحافظة على نظام التجارة الحرة في العالم الرأسمالي وفتحت أسواقها واسعا أمام الصادرات اليابانية ولم تطلب المعاملة بالمثل مما أسهم في زيادة التنافسية العالمية للصناعة اليابانية وزيادة الفائض التجاري الياباني مع الولايات المتحدة(Fields & Norville, 1996: 268).
ومع نهاية الحرب الباردة كانت اليابان قد حققت طموحها باللحاق الغرب صناعيا وأصبحت طوكيو مركزا رئيسا للنظام البنكي العالمي(Economist, May 4, 1991). ولم تكتف بذلك بل تحولت إلى منافس اقتصادي خطير يهدد المصالح الغربية حيث يقدر فائض الميزان التجاري مع الولايات المتحدة وأوربا في الوقت الحاضر بمئات البلايين من الدولارات لصالح اليابان. وهكذا استعادت اليابان دورها الفاعل في النظام العالمي الجديد المعروف بعصر العولمة، فحققت بذلك نقلة نوعية خلال عقود قليلة مع أنها تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الموارد الطبيعية. ومنذ السبعينات بدأت الدراسات الغربية تتحدث عن "المعجزة الاقتصادية اليابانية". وفي عقدي الثمانينات والتسعينات نبه بعض قادة الدول الغربية إلى مخاطر النمو الاقتصادي الكبير محذرين بأن اليابان قد تغزو العالم مالياً واقتصادياً في مطلع القرن الحادي والعشرين. ونتيجة لذلك يتهم الكثيرون في الغرب اليابان بشن حرب اقتصادية وأن هدفها هو تحقيق هيمنة يابانية شاملة في تلك الصناعات التي تتمتع فيها اليابان بأفضلية مقارنة(Wolf,1983) .  وفي هذا السياق أوردت مجلة الإيكونومست The Economist عددا من الممارسات التجارية غير العادلة التي تمارسها اليابان ومنها:
1- تقديمها دعما لشركات التصدير لديها مما يمكنها من بيع سلعها بأسعار لا تعكس تكاليفها الحقيقية، الوقت الذي لا تتمتع فيه الشركات الغربية بهذه الميزة.
2- لجوؤها إلى تقييد المنافسة الخارجية في أسواقها الداخلية. وتعتبر معظم تلك القيود غير رسمية مما يصعب تجاوزها من قبل الشركات الأجنبية.
3- تمكن الإعانات الحكومية الشركات اليابانية من التأكيد على حصة السوق بينما تجبر الشركات الغربية على تأكيد هوامش الربح الآنية. ولأن اليابانيين أقل اهتماما بالأرباح العاجلة فإنهم يستطيعون البيع بأسعار أقل ومن ثم إخراج منافسيهم من السوق، وعندما تتحقق الهيمنة على السوق يحصل اليابانيون على الأرباح.
4- استخدمت اليابان برنامج المساعدات الخارجية الضخم لضمان الهيمنة اليابانية في الأسواق الرئيسة للعالم الثالث حيث تعتبر اليابان اليوم أكبر مقدم للمساعدات الخارجية في العالم بمساهمة تقارب 11 بليون دولار سنويا لدول العالم الثالث
(The Economist, Sept. 25, 1993, As cited in Palmer, 1997: 293).                 
ومع ذلك فإن النجاح السريع الذي حققته اليابان لا يرجع أساسا إلى العوامل الخارجية، كتأثير الغرب عليها مثلا، لأن البلدان الأخرى ذات التجربة المشابهه كانت استجابتها لتلك العوامل مختلفة تماما. ومن ثم ينبغي البحث عن أسباب نجاح اليابانيين في عوامل أخرى أكثر أهمية كخصائصهم الوطنية مثل تجانسهم العظيم، وهويتهم الذاتية القوية، وقيمهم الثقافية الخاصة، فضلا عن تميزهم الواضح بوعيهم الشديد بإمكانات التعلم من الخارج. ومن العوامل الأخرى التي أدت إلى نجاح اليابانيين هي أنهم أرجعوا النجاح والازدهار الإقتصادي الكبير الذي حدث في بلادهم إلى إيجابيات نظام الحكم الياباني القديم وهو الحكم الإمبراطوري، وليس من خلال المفاهيم الأجنبية الجديدة التي تعلموها مثل الديمقراطية، أو الشيوعية التي عرفوها في وقت متأخر. ومما لا شك فيه أيضا أن منظومة القيم اليابانية قد ساعدت كثيرا على التخفيف من شدة وقع التغيير العنيف المفاجئ على الشعب الياباني، وما كان يمكن أن يسببه لهم من صدمة نفسية(ريشاور 1989: 110-113)






خـــاتمة
عديدة هي الآراء التي قدمت لتفسير النجاح الياباني المذهل بعد الحرب العالمية الثانية. فمنها من أرجع ذلك إلى كون اليابان لم تستعمر إطلاقا، وأنها قد تمتعت بظروف دولية وإقليمية مؤاتية، خلال مرحلة الحرب الباردة، وأخرى تقول أنه يمكن اكتشاف أسرار النجاح الياباني من خلال دراسة وتفحص جوانب من اليابان المعاصرة التي تتضمن أسلوب الإدارة، النظام التعليمي، والبرلمان (الدايت)، إلا أن هذه تمثل نتائج وليس أسبابا للتفسير. وثالثة تؤكد على دور رأسمالية الدولة فضلا عن تدفق الرساميل الأجنبية القادمة أساساً من أميركا وأوربا ومساهمتها في إعادة بناء الاقتصاد الياباني وإنجاز ذلك التطور الاقتصادي المذهل، ورابعة ترى أن نجاح مشروع النهضة في اليابان يعود إلى توفر قوى عاملة مدربة تدريبا عاليا، يمكن فهمه بدرجة كبيرة من خلال دراسة وتحليل البناء والتنظيم الاجتماعي في اليابان وبخاصة منظومة القيم التي يقوم عليها.
وبعد استعراض ومناقشة العوامل المختلفة التي أوردت لتفسير النهضة اليابانية وجدت هذه الدراسة أن هناك رابطا مشتركا يكاد يكون حاضرا في معظم تلك العوامل أن لم يكن كلها ألا وهو نموذج محارب الساموراي المتسلح بقيم البشيدو الذي تنعكس خصائصه في اليابانيين المعاصرين سواء في حربهم ضد الأمريكيين أو في تفسير علاقتهم المعقدة والخاصة مع الأمريكيين منذ ذلك الوقت أو في تنظيماتهم الصناعية الضخمة في الوقت الحاضر. وبرغم المجازفة بالوقوع في فخ التبسيط إلا أن هذه الدراسة تعتقد أن توظيف هذا النموذج يمكن أن يجعلنا نفهم المعجزة اليابانية بشكل افضل. فقد تغلب الساموراي متسلحا بالعناصر الأساسية لثقافة البشيدو – القوة، الانتظام، البساطة، الاقتصاد في الإنفاق، الصرامة، الولاء، الإصرار، الشجاعة، وتحمل المسئولية- وبنجاح على كل المنافسين داخليا وخارجيا وضمنت له شجاعته ومهاراته وحوافزه العالية للفوز تحقيق ذلك الانتصار. ومن خلال نموذج الساموراي يمكننا أن نفسر مجالا واسعا من الممارسات اليابانية بدءا من معركة ايوجيما ضد الأمريكيين في نهاية الحرب العالمية الثانية التي ضحى فيها اليابانيين بأكثر من عشرين الفاً بدلا من الاستسلام مرورا بظاهرة الطيارين الانتحاريين (الكاميكازي) وانتهاء بالمنافسة اليابانية الشديدة في سوق التكنولوجيا المتقدمة. فمع أن الساموراي الحديث قد أضطر للتخلي عن سيفه بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنه لم يستسلم للهزيمة وسرعان ما تكيف مع الوضع الجديد وأستبدل سيفه بالمعرفة التقنية لكنه بقي مخلصا للقيم التي نشأ عليها. وفي هذا السياق يشير مسعود ظاهر إلى أن اليابانيين قد عرفوا:
كيف يحافظون على تقاليدهم الموروثة، وقيمهم التقليدية، وسلوكهم الاجتماعي المميز،
فلم يتنازلوا عنها حين كانوا في أمس الحاجة إلى إستيراد التكنولوجيا والعلوم الغربية المتطورة. فتمسكت العائلة اليابانية بكثير من تقاليدها في تربية الأطفال، وطريقة الزواج التقليدي، إلى جانب الزي الموحد لكثير من عمال الشركات وموظفيها. هذا بالإضافة إلى
روح الجماعة
(The Groupism) والحفاظ على قيم التراتبية الاجتماعية والوظيفية والتضحية الفردية في سبيل الجماعة والوطن، واحترام التقاليد الأخلاقية الاجتماعية الموروثة (ظاهر، 2002: 18).
ولذلك نجحت اليابان في تدشين تجربة نهضة ثانية أكثر أهمية من الأولى قدمت من خلالها للعالم نظماً فاعلة للإدارة وأجهزة للكمبيوتر بالغة الحساسية والدقة، فضلا عن سلسلة طويلة من المخترعات الهائلة تبدأ بأضخم ناقلات البترول العملاقة وسفن صيد السمك المذهلة، مرورا بالسيارات وأجهزة التليفزيون والفيديو وكاميرات التصوير والساعات، والغسالات والثلاجات بل والأقمشة والأطعمة المحفوظة وغيرها.
ومع أن القادة اليابانيين اليوم قلقون من أن تتحول اليابان إلى مجتمع ما بعد صناعي تضعف فيه دوافع الإنجاز والتنافسية، لا سيما، أن الجيل الياباني الذي أنجز معجزة النهضة المعاصرة قد أصبح كبيرا في السن مما يفسح المجال لجيل جديد قد يكون أقل حماسا تجاه قيم البشيدو التي جسدها نموذج الساموراي إلا أنه لا يتوقع حدوث تغييرات جذرية في الثقافة اليابانية في المستقبل القريب.
وعموما فقد حاولت هذه الدراسة إلقاء الضوء على بعض من أهم العوامل التي تفسر نجاح اليابانيين في بناء نهضة وتنمية حقيقية جعلت كثير من الدراسات الغربية تصفها بالمعجزة الاقتصادية بعد أن إتضح أن التجربة اليابانية تعتبر بحق تجربة غير عادية، إذ لم يحدث أن استجاب أي بلد آخر بسرعة ونجاح لتحدي تكنولوجيا الغرب المتفوقة في اﻟﻤﺠالين الاقتصادي والعسكري كما فعلت اليابان التي حققت قفزة تنموية نوعية خلال عقود قليلة رغم إفتقارها إلى الحدّ الأدنى من الموارد الطبيعية. وقد خلصت هذه الدراسة إلى أن نجاح التجربة اليابانية يعود إلى جملة من العوامل الهامة التي من بينها إهتمام اليابانيين الشديد بالتعليم، واحترامهم للحقوق المدنية والسياسية، وتقديرهم للجدارة والموهبة، وبنائهم مجتمعا متجانسا طبقيا وأثنيا حيث يسمو مفهوم اليابان على الولاءات الأخرى في المجتمع، واخيرا هناك عامل التخطيط للتنمية وتنفيذها وفقا لإطار القيم والتقاليد اليابانية. وقد تجسدت تلك العوامل بشكل واضح وجلي فيما يمكن أن نسميه نموذج الساموراي الذي تبنى بإخلاص قيم البشيدو بعناصرها الاساسية- الانتظام، الصرامة، الولاء، الإصرار، الثقة في النفس، والاقتصاد في الانفاق.
ومع أن اليابان قد دشنت مشروع نهضتها من خلال نقل التكنولوجيا الغربية بكثافة مثلها في ذلك مثل كثير من الدول الاخرى التي نقلت عن الغرب إلا أنها كانت الدولة غير الأوربية الوحيدة التي استطاعت، وبسرعة قياسية أن تستوعب تلك التكنولوجيا ومن ثم تطورها لتتجاوز الغرب في كثير من المجالات، بينما لم تتمخض تجارب معظم الدول الأخرى وتحديدا العربية منها عن نهضة حقيقية، وإنما كانت مجرد اقتباس لم ينجز تحديثا بل قاد إلى مزيد من التبعية والتغريب، مما جعلها تعيش أزمات متلاحقة في جميع المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والثقافية وغيرها.
وعند مقارنة تجربة التنمية تلك بمشاريع النهضة في البلدان العربية منذ مطلع القرن الماضي وحتى الآن يتضح لنا عدد من المفارقات الصارخة. وذلك لأن مشاريع النهضة العربية في معظمها قد إتسمت "بالتغريب الكامل"، ونفي تراث الأمة، والاعتماد على العنصر الاجنبي، والتوجهات الفوقيه وتهميش دور الجماهير، والصراع المدمر بين معسكري المجدددين والمحافظين، والقمع والاستبداد، والتوجه نحو تحقيق مجد شخصي للحاكم، بينما قامت التجربة اليابانية على "التوفيق" بين منجزات الحضارة الغربية وتراث الأمة اليابانية،‏ والاعتماد على "أبناء الأمة"، والتركيز على إذكاء الروح القومية، وإتاحة أكبر قدر من المشاركة من المبادرات الفردية والأهلية، وتبني قدر كبير من الممارسات الديمقراطية، وتدشينها لمشروع النهضة بأقل قدر من الصراع بين المجددين والمحافظين، بل اندمج مجددوها ومحافظوها في نفس شخصيات الرجال الذين قادوا النهضة، فكانوا مجددين فيما يجب تجديده ومحافظين في الوقت ذاته فيما يجب الحفاظ عليه، وكان هاجسها الأول نهضة الامة.
إن التجربة اليابانية في التنمية والتقدم فذة ومثيرة، وهي تهمنا في الشرق الإسلامي أكثر من غيرنا لانها، كما يرى الدكتور نعمان السامرائي:
قد سجلت نجاحًا باهرًا دون أن تدير ظهرها للتراث والدين والنظام الاجتماعي، وقد حافظت وما زالت على الهوية واللغة، على الرغم من أنها تستخدم أصعب لغة في العالم، حيث يزيد عدد الحروف والصور والرموز في تلك اللغة على ثلاثة آلاف !،...... ومع كل ذلك ومع شح الموارد تقدمت ومازالت تتقدم، على حين يطالبنا "البعض" بالتخلي عن الدين والتراث والهوية مقابل " شيك " بالتقدم رصيده مجرد "حلم" ليس أكثر( السامرائي، 2000: 16 ).
وفي هذا السياق يؤكد عفيف ابي فراج على ضرورة المزج ما بين الموروث والمعاصرة باعتباره"الشرط لكل نهضة"، ويدحض بالتالي الصورة المقلوبة التي يقدمها البعض عند المقارنة بين فكر النهضة الإسلامي والتجربتين اليابانية والصينية، وخاصة ثنائية التضاد والتناقض بين الأصالة والمعاصرة التي روج لها غلاة الليبراليين في الفكر العربي الحديث بدءا بفرح انطون ومرورا بشبلي شميل وسلامة موسى واحمد لطفي السيد وصولا إلى زكي نجيب محمود القائل: "اما نحيا عصرنا واما نحيا التراث"، مشددا على دحض الذين يرفضون الربط بين الماضي والحاضر او الاستمرار والتغيير. حيث يرى أن مشروع النهضة العربية قد أجهض بسبب ما انتجه خطاب تلك النهضة من سجلات كلامية دارت حول ثنائيات نظرية لا حصر لها كالدين والعلمانية، والعلم والإيمان، والقبيلة والدولة، والعقل والنقل... وما تبلور عنه من تيارات متضادة يعالج كل منها صورة الواقع وليس الواقع نفسه. في الوقت الذي يؤكد فيه أن النهضة الاوروبية ذاتها المعروفة بالرينيسانس (Renaissance)، تتضمن معنى الاستعادة، حيث استعادت موروثها الماضي اليوناني والروماني ومن ثم فإنها لم تكن تعني قطيعة مع ما ضيها ولم تكن بالتالي خلقا من عدم. ولذلك يرى أن النهضة اليابانية قد قامت على الجمع ما بين العودة إلى المنابع والأصول على الصعيدين الأخلاقي والسياسي وبين التجديد في الأدوات المادية، وهو ما قد يفسر النجاح المبهر لمشروع النهضة اليابانية "من جهة والفشل المريع لتجربة النهضة العربية منذ محمد علي باشا وحتى الآن من جهة أخرى(أبو فراج، 2005).
وهذا أيضا ما يفسر النجاح الملفت للنظر الذي حققته تجربة نهضة آسيوية أخرى لكنها في دولة إسلامية هذه المرة هي ماليزيا التي يبدو أن النخبة القيادية فيها قد استوعبت دروس النهضة اليابانية جيدا وعملت على تكييفها والاستفادة منها في الحالة الماليزية. وفي هذا السياق يشير أنور إبراهيم وزير المالية الماليزي السابق وأحد أبرز مهندسي مشروع النهضة الناجح فيها إلى إن حجر الأساس في "نهضة آسيا" من المنظور الاجتماعي هو الإنسان الآسيوي المتدين، وأن النواة الفلسفية الصلبة لتلك النهضة هي المحافظة على القيم والكرامة الإنسانية، والإقرار بالتعددية، والانفتاح على العالم، والتعلم من تجارب الأمم الأخرى والحلم المستمر بحياة أفضل للبشرية كلها. ويقارن أنور إبراهيم بين الأسس المعرفية التي قامت عليها النهضة الأوربية الحديثة وبين أسس النهضة الآسيوية، ويخلص إلى أن الفارق الجوهري بين النهضتين هو أن نهضة آسيا تقوم على أسس معرفية وأخلاقية مستمدة من الدين والتراث العريق للشعوب الآسيوية، ويرجع السبب في ذلك إلى أن أن الإنسان الآسيوي هو من صميم قلبه إنسان متدين على عكس إنسان الحضارة الغربية (Ibrahim,1996).
وتتجلى هذه المفارقة أيضا في موقف كل من العرب واليابانيين من الغرب الأوربي وفي هذا السياق أشار الدكتور الأنصاري إلى أن اليابان قد وقفت من الغرب موقف التلميذ واقتبست منه المعارف، بينما وقفنا نحن العرب موقف الزبون فأخذنا منه الأشياء أو المصنوعات الجاهزة. وهذا راجع أصلا إلى طبيعة إنتاجية في المجتمع الياباني وطبيعة استهلاكية بارزة في المجتمعات العربية" (الأنصاري 1988: 64-90 )
ويبرز هذا الوضع مدى أهمية القيام بدراسات أخرى معمقة لمسار النهضة اليابانية في مختلف مراحلها لتلمس مدى إمكانية الاستفادة من دروس وعبر تلك التجربة التي أنجزت التحديث دون الوقوع في براثن التغريب لإطلاق نهضة عربية جديدة أصيلة وليست مقلدة تنطلق من الذات وتوظف الموارد الضخمة البشرية والمادية والثقافية المتاحة وتنفتح على الآخرين دون عقدة الشعور بالنقص وتجمع بين الثبات على المبادئ والقيم والأصول من جهة والتجديد في الأدوات المادية من جهة أخرى.
 



قائمة المراجع

أولاً : المراجع العربيـة :
أدوين رايشاور(1989).  اليابانيون، ترجمة ليلي الجبالي. الكويت:المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون: عالم المعرفة.
جون جراي(2000). الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية، ترجمة أحمد بلبع.  القاهرة-كوالالمبور- جاكرتا: مكتبة الشروق.
عفيف ابو فراج(2005). اشكالية النهضة بين الليبرالية الاغترابية والاسلامية الاجتهادية. بيروت: دار الاداب.
محمد جابر الانصاري(1988). العالم والعرب سنة 2000م. بيروت: دار الاداب.
مسعود ظاهر(1999). النهضة العربية والنهضة اليابانية:تشابه المقدمات واختلاف النتائج. الكويت:المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون: عالم المعرفة.
مسعود ظاهر(2004). النهضة اليابانية المعاصرة: الدروس المستفادة عربيا. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
نعمان عبدالرزاق السامرائي(2000). في أعماق التجربة اليابانية. لندن:دار الحكمة.



ثانياً : المراجع الأجنبية :
New York Times.(1989) "Japan Takes a Leading Role in the Third World        Debt Crisis,", 17 April ,A1)
Bellah, Robert. (1957). Tokugawa Religion: The Values of  Pre-Industrial Japan.  Glencoe.   
Bowen, Roger. (2006) Japan. In C. Hauss(ed.). Comparative Politics: Domestic Responses to Global Challenges. Wadsworth Publishing Company.
Calder, Kent.(1988). Crisis and Compensation: Public Policy and Political Stability in Japan, 1949-1986. Princeton, NJ: Princeton University Press.
Campbell, John. (1989). Democracy and Bureaucracy in Japan. In T. Ishida & E. Krauss. Democracy in Japan. Pittsburgh: University of Pittsburgh Press.
Craig, Albert & Others.(1986). The Heritage of World Civilizations. New York: Macmillan Publishing Company.
Dore, Ronald & Mari Sako.(1989). How the Japanese Learn to Work. London: Routledge.
Dore, Ronald.(1965). Education in Tokugawa JapanUniversity of California Press.
Dore, Ronald.(1987). Taking Japan Seriously: A Confucian Perspective on Leading Economic Issues. London: The Athlone Press.  
Dower, John. (1971). Occupied Japan and the American Lake, 1945-1950. in Edward Friedman. America’s Asia: Dissenting Essays onAsian-American Relations. New York: Pantheon.
Duus, Peter. (1976). The Rise of the Modern Japan. Boston: Houghton Mifflin.
Fallows, James. (1993). How the World Works.  The Atlantic Monthly .December.   
Fallows, James.(1994). Looking at the Sun. New York: Pantheon Books.
Fields, Karl & Elizabeth, Norville(1996). Japan and the International Political Economy. In D. Balaam & M. Veseth (ed.). Introduction to International Political Economy.  New Jersy: Prentice Hall.
Fursttenburg, Friedrich. (1974). Why the Japanese Have been so Successful, in Business. London: Leviathan House. 
Greene, Richard. (1990). Implementing Japanese Techniques. New York: McGraw-Hill.
Hall, John. (1955). Tanuma Okitsugu, 1719-1788, Forerunner of Modern Japan. Harvard University Press.
Hanley, Susan. (1991). Tokugawa Society: Material Culture, Standard of Living, and Life-Styles in, John Whitney Hall ed. The Cambridge History of Japan, vol. 4: Early Modern Japan. Cambridge University Press.
Hellman, Donald. (1988). Japanese Politics and Foreign Policy: Elitist Democracy within an American Greenhouse.  In Yamamura and Okimoto. (eds.). The political Economy of Japan: The Changing International Contextvol.2. Stanford, CA: Stanford University Press.
Ibrahim, Anwar. (1996). The Asian Renaissance. Singapor-Kuala Lumpur: Times Books Internationl.
Johnson, Chalmers. (1987). MITI and the Japanese Miracle: TheGrowth of Industrial Policy. Stanford, Calif.: Stanford University Press. 
Kennedy, Paul. (1988). The Rise and Falls of the Great Powers. London: Fontana.
Kuman, Shumpei and Henry Rosovsky. (1992). The Political Economy of Japan: Cultural and Social Dynamics. Vol.3. Stanford, CA: Stanford University Press.
Mashiko, Aoki.(1988). Information, Incentives, and Bargaining in the Japanese Economy. Cambridge: Cambridge University Press. 
Meeks, Philip.(1993). Hegemons in History. In Tsuneo Akasha & Frank Langdon. (eds.). Japan in the Post-Hegemonic World. Boulder CO: Lynne Reiner.
Miller, John. (2005). Will the Real Japan Please Stand Up?  World Policy Journal, Winter  (36-46).
Mishima, Yukio.(1977). The Way of the Samurai: on Hagakure in Modern Life. Trans. Kathryn Sparling.  New York: Basic Books.
Morris-Suzuki, Tessa. (1994). The Technological Transformation of Japan: From the Seventeenth to the Twenty-first Century. Cambridge University Press.
Nakane, Chie. (1970). Japanese Society. Berkely,CA: University of California Press.
Nitobe, Inazo. (1990). Bushido, the Soul of Japan. Rutland, VT: Charles E. Tuttle Co. .
Ogata, Sadako. (1992). Interdependence and Internationalization, In Glen Hook & Micheal Weiner (eds.). The Internationalization of Japan (pp.63-71). London: Routledge.
Palmer, Monte. (1997). Comparative Politics. Itasca, Illinois: F.E. Peacock Publishers, Inc.
Pyle, Kenneth. (1992). The Japanese Question: Power and Purpose in a New Era. Washington DC: American Enterprise Institute Press.
Ried, T,.R. (1999).Confucius Lives Next Door: What Living in the East Teaches us about Living in the West. Random House.
Shuji, Takashina. (1998). New Views of Civilization. Japan Echo, Vo. 25, no. 4. August.
Toby, Ronald P. (1991). Both a Borrower and a Lender Be: From Village Moneylender to Rural Banker in the Tempo Era.  Monumenta Nipponica 46:4, Winter, 483-512.
Smith, Thomas(1959). The Agrarian Origins of Modern Japan. Stanford: Stanford University Press.  
Tsuneo Akaha & Frank Langdon (1993). Japan in the Post-Hegemonic World. Boulder: Lynn Rienner.
Vogel, Ezra. (1979). Japan as Number One: Lessons for America. Cambridge, Mass.: Harvard University Press.
Waswo, Ann.(1996). Modern Japanese Society, 1868-1994. Oxford: Oxford University Press.
Wilson, George. (1992). Patriots and Redeemers in Japan. Chicago: The University of Chicago Press.
Wolf, Marvin. (1983). The Japanese Conspiracy: The Plot to Dominate Industry Worldwide— and How to Deal with it. New York: Empire Books.
Yamamura Kozo & Yasuba, Yasukichi. (1987). The Political Economy of Japan: The Domestic Transformation, vol. 1. Stanford, CA: Stanford University Press.
Yamamura, Kozo & Okimoto, Daniel. (1987). The Political Economy of Japan: The Changing International Context, vol. 2. Stanford, CA: Stanford University Press.



[1] مصطلح زايباتسو هو إختصار لكلمات يابانية تشير إلى تكتلات اقتصادية ضخمة تضم شركات ومؤسسات عائلية كبيرة في جميع المجالات. الباحث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا