التسميات

الأربعاء، 4 مايو 2016

الجيوبولتيكس و الأنهار العراقية - دياري صالح مجيد ...


 الجيوبولتيكس و الأنهار العراقية 

إيلاف -  الثلائاء - 25 سبتمبر 2012 - دياري صالح مجيد -  كاتب واكاديمي عراقي 


  كثيرة هي التعاريف الذي وضعها الأكاديميون عن علم الجيوبولتيكس Geopolitics، الذي لازالوا بعد يختلفون على صياغته وطرق البحث فيه بذات الطريقة التي اختلفت بها الأوساط العلمية حول حقيقة هذا العلم وانتسابه إلى النازية وتجريم تدريسه في العديد من الجامعات الأوربية أبان الحرب العالمية الثانية. إلا أن ذلك لا ينفي عودة هذا التخصص من جديد إلى البروز في ظل السياسات الدولية والإقليمية التي تمارسها القوى المؤثرة على خريطة العالم وبالذات منها في المواقع الجغرافية عالية الأهمية، بهدف تفهم حقيقة مايجري فيها من تفاعلات عبر إسهام الجغرافيين مع غيرهم من الاختصاصات في هذا المسعى.


   بالرغم من ذلك أؤمن كمتخصص في الجغرافيا السياسية بأن تعريف الجيوبولتكس " هو الكيفية التي تستغل بها الدول العناصر الجغرافية التابعة لها أو لغيرها من الدول، لتحقيق المكاسب ( المستقبلية ) المبتغاة في أذهان صناع القرار السياسي فيها ". مما يجعل من الجيوبولتكس مجالاً خصباً للحرب والسلام على حد سواء. وهو بذلك يعتمد على الكيفية التي تجري بها تفاعلات السياسة في إطار جغرافي محدد، على اعتبار أن التوازن بين القوى من عدمه لا يتحقق في جزء رئيسي منه الا من خلال الاستثمار الامثل للجغرافيا. إذا ماحاولنا تطبيق هذه الفكرة على العلاقات الإيرانية – العراقية في الأونة الأخيرة وبالذات مع أحد أهم مدخلات التحول الجيوبولتيكي للعلاقة بعد 2003، لوجدنا أن إيران قد تفهمت ومنذ أمد بعيد كل معطيات الجغرافيا العراقية واستطاعت وفقا لذلك إتباع العديد من السياسات التي إتاحت لها إمكانية أن تتحول إلى لاعب مؤثر بل ومحدد للمستقبل العراقي. وهي بذلك لا تختلف عن تركيا في هذا المجال، فهي الأخرى أجادت فن إدارة واستخدام العناصر الجغرافية العراقية " الطبيعية والبشرية " بالطريقة التي تتيح لها إثبات دورها ومكانتها في تفاعلات الحدث العراقي. في حين بقي ساسة العراق الجدد عاجزين عن تفهم تفاصيل هذا الموضوع وتداعيات عدم إدراك كيفية استثماره لصالح أمن واستقرار بلدهم وبالتالي على فشلهم في تطويع علاقاتهم مع دول الجوار بالطريقة التي تحد من الصراع على أرضهم " العراق " وتحول دون الاستمرار في ضعفهم.

   في هذا الصدد تعتبر مشكلة المياه من بين المشكلات الأساسية التي يواجهها العراق والتي تقع خلف مسبباتها العديد من العوامل الجغرافية منها تلك التي تتعلق بمناخ العراق، التوزيع الجغرافي لطبيعة ونوعية التساقط، كمية ونوعية الاستهلاك البشري، الزيادة السكانية والاعتبارات الاقتصادية المتعلقة بها وأمور أخرى كثيرة من بينها أيضاً تلك التي تتعلق بكيفية إدارة الموارد المائية. وهو ما جعل العراق وفقا لذلك الأمر يعتمد اعتماداً كلياً على الأنهار والروافد القادمة من دول الجوار الجغرافي " إيران وتركيا ". لقد ركزت العديد من الدراسات والمقالات على السياسات التي اعتمدتها تركيا إزاء نهري دجلة والفرات وأثرها السلبي على العراق حاضراً ومستقبلاً، إلا أن القليل من هذه الدراسات أشار إلى الدور الإيراني في هذا الصدد.

   فإيران دولة جوار كما يعرف الجميع وهي تتحكم بالعديد من الأنهار والروافد المهمة التي تنبع من أراضيها باتجاه العراق، حيث تأتي أهمية هذه الأنهار من خلال كونها إما مغذي رئيس للأنهار الكبرى وبالذات " نهر دجلة " أو كونها مصدراً يُعتمد عليه في ري العديد من الأراضي الزراعية في المناطق العراقية القريبة من الحدود مع إيران.

   لقد أدركت إيران امكانية استغلال هذا العنصر الجغرافي عبر العمل على إنشاء العديد من السدود على تلك الأنهار أو تغيير مجراها كي تجنبها بذلك المرور بالأراضي العراقية، وهو ماتسبب في أضرار بيئية واقتصادية في العراق ساهمت وإلى حد بعيد في التضافر مع السياسات المائية التركية في تغيير جزء من معالم الجغرافيا العراقية، إلى درجة يصح فيها الحديث عن وجود أبعاد جيوبولتيكية وراء انتشار ظاهرة التصحر بشكل كبير في الأراضي العراقية.

  تشير العديد من الأبحاث ذات العلاقة بأن إيران قامت باعتماد سياسات سلبية تجاه أهم نهرين ينبعان من أراضيها باتجاه العراق، وهما نهر الوند ونهر الكارون. حيث عملت على تجفيف الأول وبالطريقة التي قادت إلى الأضرار بالعديد من المساحات الزراعية التي كانت تعتمد على مايصل إليها من وارد مائي عبر هذا النهر. في حين عملت على تغيير مجرى نهر الكارون ذي الفائدة الكبيرة بالنسبة لمياه شط العرب، ناهيك عن السياسات التي أدت إلى تحويل العديد من الأنهار الصغيرة الأخرى إلى جعل العراق مكباً لنفيات ومجاري الدولة الجارة. الأمر الذي أدى إلى خلق أضراراً بيئية وزراعية كبيرة في العراق.

   قد يحلو للبعض القول بأن السياسات الإيرانية التي اعتمدت مع نهر الوند يقع خلفها الرغبة الإيرانية في عدم إعطاء الكرد إمكانية التمتع بخيرات هذا النهر، طالما أنه يجري في أراض يقطنها غالبية منهم وهو أيضاً سيكون من ضمن المعطيات الجغرافية الرئيسية لهم إذا مانجحوا في تحيقيق حلم الدولة الكردية. لكن مثل هذا التحليل قد يصبح عاجزاً وغير منطقياً عندما نتحدث عن نهر الكارون الذي يؤثر بشكل كبير على مدينة البصرة، التي توصف بأنها قلب العراق النابض اقتصادياً وزراعياً وتقطنها غالبية شيعية. الأمر الذي يعني بأن صيغة التفسير المذهبي التي أعتاد الكثير استخدامها لتفسير السياسات الإيرانية في العراق، هي صيغة عقيمة في التحليل الواقعي لهذه السياسة. وهو ذات الأمر الذي ينطبق على تركيا التي اعتمدت نفس السياسات المائية تلك وبنفس الطريقة التي فسرها البعض على أنها محاولة لخنق الحلم الكردي في العراق وتركيا، لكنهم لم يفسروا لنا ابعاد تلك السياسة التي أضرت بالعديد من المناطق التي تقطنها غالبية سنية في العراق! في الوقت الذي تظهر فيه تركيا اليوم على أنها المدافعة عن حقوق السُنة في سوريا والعراق. الأمر الذي يشير بأن جيوبولتيكا المياه التي تمارسها ايران وتركيا تتجاوز الى حد بعيد العامل الطائفي – المذهبي لكنها تلتقي عند نقاط مشتركة من بينها هاجس قيام الدولة الكردية وكيفية العمل على محاربته والاستعداد له بشكل مبكر. 

   قد يكون مثل هذا التحليل غير مكتمل إذا ماتجاوزنا مسألة الأمن الغذائي للعراق ككل. فقد أدت السياسات المائية الإيرانية والتركية على حد سواء إلى حرمان العراق من قدراته الزراعية، ويعود ذلك إلى حتمية فرضها المناخ العراقي قادت إلى عدم القدرة على الاعتماد على مياه الأمطار للأغراض الزراعية بنفس الطريقة في كل أجزاء العراق، وهو ماجعل الكثير من هذه الأراضي تفقد قيمتها في ظل نقص ورداءة نوعية المياه الواصلة للعراق. رافق تلك السياسات إهمال حكومي واضح قاد إلى تحويل استعمالات الأرض الزراعية باتجاه استعمالات أخرى أغبلها سكنية، أسهمت هي الأخرى في ضياع ألآلاف الهكتارات من الثروة الحقيقية للعراق، وهي الثروة التي كان يؤمل استدامتها لكونها متجددة لا تنضب أو تنتهي بإنتهاء النفط. 

  ما حصل قاد بالنتيجة إلى تحول العراق إلى مستورد لأغلب غذائه، وهو أمر معروف للمواطن العراقي في كل البلاد حيث أصبح المُنتج الإيراني والتركي هو السائد في كل الأسواق. لذا أصبح الامن الغذائي العراقي منكشفاً بالكامل ولم يعد بإمكان العراق إلا الاعتماد على إيران لسد الكثير من احتياجات أسواقه في المتتجات الزراعية المختلفة. وهو أمر لم توجد له بعد معالجات أو حلول تتجاوز الجانب التقني الخاص بالإنتاج الزراعي، فعلى سبيل المثال نجد بأن وزير الموار المائية العراقي الحالي يصرح بالقول " أن الوزارة تدرس بالتنسيق مع الوزارات المختصة استقدام شركات أجنبية متخصصة للتخطيط في إدارة الموارد المائية، معتبراً أن أغلب دول العالم ومنها العربية تحيل إدارة الموارد المائية على شركات أجنبية مختصة ". وهو موضوع قابل للنقاش ويحمل اوجه نقص كبيرة في النظرة الى الخبرة والكفاءة العراقية في هذا الصدد. لكن وأن حاولنا تقبل هذه الرؤية وآمنا بأن هذه الشركات تستطيع أن تدير وتخطط لاستثمار الموار المائية، فعندها سنصطدم بحقيقة كون المشكلة ليست ذات جانب تقني فحسب وإنما تحمل في وجهها الآخر الجانب السياسي، الذي يحتاج إلى تفهم الجغرافيا السياسية للعراق وجواره الذي تبنع منه الأنهار. وهي الطريقة التي ستتيح لصانع القرار السياسي العراقي إمكانية حل هذه المشكلة بشكل متوازن، وإلا فأن الحل التقني ورغم أهميته سيكون حلاً وقتياً لا فائدة من الاعتماد عليه على المدى البعيد. 

  لذا نجد بأن ذات الوزير يصرح بالقول " إن إيران تستغل نهر الوند بشكل غير صحيح الأمر الذي أضر بالأراضي العراقية الواقعة على نهر الوند، مبيناً أن إيران أقامت عدداً من المشاريع على النهر والذي أثر على العائدات المائية بشكل كبير مقارنة بالسنوات الماضية... وأن إيران لم تبلغنا حتى اليوم عن أسباب قطع مياه نهر الوند على الرغم من إبلاغ وزارة الخارجية العراقية بالأمر والتي أبلغت بدورها وزارة الخارجية الإيرانية، مؤكداً أن الوزارة ناقشت هذا الموضوع مع إيران عبر اللجان المشتركة المشكلة بين الطرفين ". وهو مايؤكد وجهة النظر التي ذهبنا إليها في أعلاه والتي تتعزز بشكل أكبر إذا ما أضفنا إليها خطورة مايحصل مع بقية الأنهار العراقية التي تنبع من الجارة الأخرى تركيا. لا يصح الاعتقاد بأن علاقات حسن الجوار بين دولتين أو أكثر يمكن لها تنشأ في ظل التوافق المذهبي أو القومي أو في ظل استخدام ذات الشعارات الدينية أو غير الدينية، وإنما تنشأ وتتعزز في ظل وجود رؤية متكاملة لكيفية مواجهة التحديات عبر تفهم الطبقة السياسية الحاكمة لمجمل عناصر القوة والضعف في بناء دولتهم وفي بناء الدول المجاورة، لذا نجد مثلا بأن أحد وزارء الدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية " روبرت مكنمارا " يقول في هذا الصدد " إن الأمن يعني التطور و التنمية، سواء منها الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية في ظل حماية مضمونة... وإن الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها، لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاضر أو المستقبل ". وهي رؤية متعقلة يمكن اعتمادها عراقياً للتعاطي مع إيران وتركيا لا في ملف المياه فحسب وأنما في ملفات أخرى كثيرة يمكن من خلالها تحقيق توازن يضمن للعراق تجنب الأزمات على مختلف أشكالها ومسمياتها، كما يضمن له إقامة علاقات سلمية مع هذه الأطراف بعيدا عن هواجس التدخلات السلبية في الشأن العراقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا