الزيادة السكانية واحتمالات المستقبل
بقلم: د. فتحي أبو عيانة - جامعة الإسكندرية :
الأهرام - قضايا و أراء - الخميس 20 من محرم 1425هـ - 11 مارس 2004 - السنة 128- العدد 42829
في مستهل كل عام جديد ـ يعلن رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقديرا لسكان مصر يحدد فيه عدد السكان وتوزيعهم وتركيبهم العمري والنوعي, وفي هذا العام أعلن أن سكان مصر بلغوا 70.5 مليون نسمة منهم نحو مليونين خارج البلاد ـ كهجرة مؤقتة, وأن الزيادة الطبيعية خلال عام2003 بلغت1.335.444 نسمة, وأن معدل هذه الزيادة قد انخفض من1.99% سنة2002 إلى 1.96% سنة 2003 نتيجة انخفاض معدل المواليد من26.3 في الألف إلى 26.1 في الألف في هذين العامين علي الترتيب مع ثبات معدل الوفيات حول6.5 في الألف سنوياً.
فهل هبوط معدل المواليد بهذا القدر الضئيل للغاية يعد مؤشراً على هبوط معدل الزيادة السكانية في المستقبل أم أنه دليل ثبات الخصوبة وتضاؤل الأمل في انخفاضها بعد ذلك؟.
غني عن القول أن انخفاض معدل النمو السكاني هو دلالة للتحول الديموغرافي الناجم بدوره عن التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي يشهده المجتمع المصري منذ عقد الستينيات من القرن العشرين, فقد هبط معدل الوفيات من 16.3 في الألف سنة 1960 إلى 6.5 في الألف سنة 1996 وارتفع بذلك أمد الحياة من 52.7 سنة إلى 67.1 سنة في هذين التاريخين علي الترتيب وقد ترتب علي الهبوط في الخصوبة, الوفيات تناقص في نسبة صغار السن, فقد هبطت من 42.7% سنة 1960 إلى 40 % سنة 1986 ثم إلى 37.8% سنة 1996 وتلك في أولى نتائج التحول الديموغرافي الناتج عن هبوط الخصوبة.
ويبدو أكثر وضوحاً في الفئة الأصغر( دون الخامسة) حيث قل عدد أفرادها من 7.362.000 نسمة سنة 1986 إلى 6.855.000 نسمة سنة1996, وقلت نسبتها تبعاً لذلك من 15.3% إلى 11.6% من إجمالي السكان في هذين التعدادين الأخيرين أي بنسبة هبوط بلغت الربع تقريباً في عشر سنوات, وارتباطاً بذلك زادت نسبة السكان في الفئة المنتجة (15 ـ 64) من 56.1% سنة 1986 إلى 58.9% سنة 1996. أما فئة كبار السن فلم تزد إلا بنسبة ضيئلة تكاد لا تذكر( من3,3% إلى 3,4%) برغم أن عدد أفرادها المطلق قد تزايد من 1.598.500 نسمة إلى 2.013.100 نسمة في هذين التاريخين.
وهناك تفسيرات عديدة لهبوط مستوي الخصوبة في مصر في العقود الثلاثة الأخيرة لعل أولها هو ارتفاع السن عند الزواج خاصة لدي الإناث, وارتفاع نسبة التعليم وتزايد نسبة سكان المدن وانخفاض معدل وفيات الأطفال الرضع, وتزايد المعرفة باستخدام وسائل تنظيم الأسرة, وتلك كلها مؤشرات مهمة للتحول الاجتماعي/ الاقتصادي الذي شهدته البلاد والذي يفضي في النهاية إلى تخفيض مستويات الإنجاب.
وتسهم المحافظات الريفية والمحافظات الحضرية بنسب متباينة في الزيادة السكانية التي يشهدها المجتمع المصري, غير أنه يمكن القول بأن الريف المصري يعد المنبع الرئيسي للنمو السكاني حيث مازال سكان القري يكونون 57% من سكان مصر ويتزايدون بمعدلات أعلى من سكان الحضر, فقد بلغ معدل المواليد أكثر من 30 في الألف في محافظات بني سويف والفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وقل عن ذلك في باقي المحافظات خاصة الحضرية.
ولا ريب أن تلك الأرقام هي متوسطات عامة, غير أن المتعمق في منابع الزيادة السكانية يدرك أن هناك بؤرات تزايد سكاني عال سواء في المحافظات الريفية أو المحافظات الحضرية حسب المستوي الاجتماعي والاقتصادي لكل قرية او شياخة. ففي المدن الكبرى مثلاً ـ ومنها الإسكندرية التي تنقسم إلى 130 شياخة ـ تبين أن 19 شياخة فقط تضم 30% من جملة السكان وتحوي بين ظهرانيها معظم سكان عشوائيات المحافظة ـ تبلغ نسبة الخصوبة فيها ضعف مثيلتها في باقي الشياخات, كما أنها تسهم بمعظم الزيادة السكانية التي تضاف إلى حجم سكان الإسكندرية سنوياً. وهذه الشياخات التسع عشرة تمثل المناطق الحرجة والأولى بالرعاية وبالتنمية البشرية المتكاملة. وتكاد تلك الظاهرة تتكرر في كل المراكز العمرانية في مصر مما يتطلب دراسة تحليلية لكل منها للوصول إلى منابع النمو الرئيسية من ثم المناطق الحرجة علي خريطة الجمهورية لتصبح هي الأولو بالرعاية في مجالات التنمية تطبيقاً للمبدأ العلمي المعروف: أن التنمية هي أحسن وسائل منع الحمل.
DEVELOPMENTISTHEBESTCONTRACEPTIVE.
وفي ضوء اتجاه معدل النمو السكاني في العقدين الأخيرين من القرن العشرين ـ فإن أهم فروض التقديرات السكانية ترى أن انخفاض مستوي الخصوبة الكلية سيستمر, ويقدر أن يهبط من 3.5 سنة 1996 إلى 2.3 سنة 2021, وأن يرتفع أمد الحياة من67.1 سنة إلى 72.1 سنة, ومن ثم يقدر أن يصل عدد سكان مصر إلى 91 مليون نسمة سنة 2021, وهذا التقدير ـ متوسط ـ ويمكن أن يفضي في حالة تحقيقه ـ إلى معدل إحلال يحقق الاستقرار السكاني سنة2030, وعند هذا التاريخ تكون الخصوبة قد وصلت إلى طفلين فقط للمرأة الواحدة في سن الإنجاب, وتكون مصر قد تعدت حاجز المائة مليون نسمة بقليل.
وصفوة القول أن مصر تعيش الآن في قلب مرحلة التحول الديموغرافي الثالثة ـ أي المرحلة ذات النمو المتناقص. ويصبح السؤال الملح هو هل ستصل إلى مرحلة الاستقرار السكاني فعلاً في ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين كما انتهت إلى ذلك الفروض الموضوعة, أم أن ذلك الهدف سيستغرق فترة أطول من ذلك ليصل إلى الأربعينيات وربما الخمسينيات من هذا القرن؟ والواقع إن إجابة سؤال كهذا تظل مرهونة في المقام الأول بمقدرة المجتمع ومؤسساته على تحقيق التنمية المناطق المتكاملة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وإدارياً وتضافر الجهود لتنمية المناطق الحرجة علي خريطة الوطن وهي المناطق التي تسهم ـ أكثر من غيرها بالنصيب الأكبر في الزيادة السكانية المتوقعة في المستقبل. كما أن ذلك يقودنا أيضا إلى القول بأن التراكم السكاني في المناطق المأهولة سيفضي بالضرورة إلى ما إنتهت إليه بعض النظريات الطبيعية في نمو السكان مثل نظرية( مايكل سادلر) ونظرية ( كورادو جيني) ـ وهي نظريات تري أن ميل البشر إلى التزايد سوف يتناقص طبيعيا كلما زاد التزاحم البشري في المراكز العمرانية وأن المقدرة علي الإنجاب تتغير عكسياً كلما زاد عدد السكان في مساحة محدودة, فأيهما سيتحقق أولاً الاستقرار السكاني من خلال التنمية أم من خلال العوامل الطبيعية البيولوجية, أم من خلال الاثنين معا ؟ أغلب الظن أن الإحتمال الأخير هو الأرجح في ضوء التاريخ الديموغرافي لدول أخرى وصلت إلى المرحلة الأخيرة من مراحل النمو السكاني ـ أي مرحلة الاستقرار والثبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق