التسميات

الاثنين، 25 يوليو 2016

محاضرات في " الجغرافيا السياسية " - أ.د. هالة الهلالي ...


محاضرات في

" الجغرافيا السياسية "

أ.د. هالة الهلالي

جامعة 6 أكتوبر

الطبعة الأولى

2014 - 2015

مقدمة فى الجغرافيا السياسية                                                         3 : 7
الفصل الأول : الجغرافيا السياسية                                                  8 : 13
أولاً : تعريف علم الجغرافيا                                                         8 : 11
ثانياً : طبيعة الجغرافيا                                                               12 : 13

الفصل الثانى : الدولة كظاهرة فى الجفرافية الحديثة                               14 : 76
أولاً : رقعة الدولة وامتدادها الجغرافى                                              16 : 45
ثانياً : النظام الإدارى الفعال                                                         46 : 64
ثالثاً : السكان كعامل فى الجغرافية السياسية                                        49 : 64
رابعاً : التركيب الاقتصادى للدولة                                                   65 : 67
خامساً : تحليل قوة الدولة                                                             67 : 76

الفصل الثالث : الحدود السياسية " جغرافيا"                                         77 : 105
مقدمة                                                                                   78
التخوم والحدود                                                                        78 : 80
تصنيف الحدود السياسية                                                              80

أولاً : التصنيف التكوينى أو الوظيفى (الحدود السابقة-الحدود اللاحقة-الحدود المنطبعة  - الحدود الأثرية)                                                                                                 80 : 82
ثانياً : التصنيف المورفولوجى أو الوصفى (الحدود الطبيعية-الحدود الهندسية-الحدود الأنثروجغرافية)
                                                                                       82 : 97
الاهمية المتغيرة للحدود الدولية باعتبارها عنصراً مؤثراً فى علاقات الدولة    97 : 105

الفصل الرابع : خريطة العالم السياسية                                             106
مقدمة                                                                                 107 : 109
أولاً : خريطة أوروبا السياسية                                                      110 : 124
ثانياً : خريطة أفريقيا السياسية                                                      125 : 136
ثالثاً : خريطة آسيا السياسية                                                         137 : 154
رابعاً : خريطة الأمريكين السياسة                                                  155 – 171
الفصل الخامس: اراء استراتيجية في الجغرافية السياسية                                172: 187

 هذه المحاضرات تم الاعتماد فيها على كتب متخصصة في الجغرافية السياسية مثل كتاب الاستاذ الدكتور فايز محمد العيسوي بعنوان  الجفرافية السياسية المعاصرة" وكتاب الأستاذ الدكتور" أدريس سلطان صالح بعنوان "الجغرافيا والإنسان دراسة فى تطور علم الجغرافيا وتداعياته التربوية" حفاظاً على حقوقهم في الملكية الفكرية. 


مقدمة في الجغرافيا السياسية[1]
   هي العلاقات التبادلية – التأثيرية بين كل من الجغرافيا والسياسة. حيث تفرض الجغرافيا نفسها على السياسة كقدر لا فكاك منه. ومن هنا سعي السياسة لتخطي العوائق الجغرافية كمثل شق القنوات البحرية (مثل قناة السويس وبنما وغيرها) والانفاق تحت البحار (مثل نفق قطار فرنسا – بريطانيا) والجسـور (جسر اسطنبول الرابط بين آسيا أوروبا وجسر السعودية – البحرين وغيرها..).
  هذا وتنسب الجذور الأولى لدراسة الجغرافيا السياسية لأرسطو (383-322 ق.م) الذي كان أول من تحدث عن قوة الدولة المستمدة من توازن ثرواتها مع عدد ساكنيها. وترك أرسطو أفكاراً بالغة الأهمية عن وظائف الدولة ومشكلات الحدود السياسية.
   وظلت أفكار ربط الممارسات السياسية بالخصائص الجغرافية تتطور بإسهامات فلسفية متعاقبة. واكتسبت هذه الأفكار دفعة قوية بما كتبه عبد الرحمن بن خلدون (1342-1405م) التي ظهرت في مقدمته الشهيرة. وفضل ابن خلدون يتمثل في تشبيهه الدولة بالإنسان الذي يمر بخمس مراحل حياتية هي الميلاد والصبا والنضج والشيخوخة والموت.
  وهذه الدورة الحياتية للدول وارتباطها بمقدرات الدولة أرضاً وسكاناً وموارد.. كانت أبرز ما نقله المفكرون الغربيون فيما بعد حينما تمت بلورة الصياغة العلمية لقيام وسقوط الحضارات.
  ومع العقود الأولى للقرن 18 شهدت فرنسا ظهور أفكار جغرافية سياسية رصينة صاغها مونتسكيو (1689-1755) جنباً إلى جنب مع ما قدمه من أفكار اجتماعية وفلسفية وقانونية.
  بيد أن اعتقاد مونتسكيو الشديد في الحتمية البيئية نحا به لأن يربط مجمل السلوك السياسي للدولة بالعوامل الطبيعية وعلى رأسها تحكم المناخ والطبوغرافيا مع التقليل من مكانة العوامل السكانية والاقتصادية.
   وظل تقييم دور العوامل المكانية (الجغرافية) في تاريخ ومستقبل الدولة السياسي بدون صياغة متكاملة حتى ظهرت في المجتمع الألماني أفكار فردريك راتزل (1844-1904) والذي يرجع إليه الفضل في كتابة أول مؤلف يحمل عنوان “الجغرافيا السياسية” في عام 1897م.
  آمن راتزل بأفكار داروين في التطور البيولوجي التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر، وصبغ راتزل صياغته لتحليل قوة الدولة بالأفكار الداروينية التي طبقها الفيلسوف الإنجليزي سبنسر في العلوم الاجتماعية تحت اسم “الداروينية الاجتماعية”.
وأكد راتزل على أن الدولة لا تثبت حدودها السياسية. وكانت الدولة لديه أشبه بإنسان ينمو فتضيق عليه ملابسه عاما بعد عام فيضطر إلى توسيعها، وكذلك ستضطر الدولة إلى زحزحة حدودها السياسية كلما زاد عدد سكانها وتعاظمت مطامحها.
  وعلى الجانب الآخر من القارة الأوروبية نجد في هذه الحقبة الجغرافيين اليوغسلاف يطوعون الجغرافيا السياسية لتحقيق أهدافهم القومية. اذ لم يتورعوا معها أن يعبثوا بالخرائط السياسية لتحقيق مآربهم.
   وكان المثال الأبرز هو الجغرافي اليوغسلافي الشهير يفيجييتش الذي “زيّف” في خرائط الحدود الإثنية للقومية المقدونية ،مستغلا الثقة الممنوحة له من مؤتمر الصلح في فرساي 1919، لسحب أراض مقدونية وضمها إلى الصرب، وكانت المحصلة إذكاء الروح القومية للصرب وطموحهم للتوسع. ما انتج  “البلقنـة” لاحقاً.
وعبر مسيرته تعددت تعريفات الجغرافيا السياسية ومنها:
تعريف الكساندر: القائل بأنها دراسة الأقاليم السياسية التي تنقسم إليها الأرض كظاهرة من مظاهر سطحها سواء كانت الأقاليم صغيرة أو كبيرة.
تعريف بومان:  الجغرافيا السياسية هي علم يساعد في فهم السلوك السياسي للإنسان.
تعـريف كوهين:  الجغرافيا السياسية هي علم المناهج الجغرافية لدراسة العلاقات الدولية.
    هذا وتتقاطع تعريفات الجغرافيا السياسية وشروحاتها عند كونها دراسة الوحدات أو الأقاليم السياسية كظواهر لها مقومات وجودها وتطورها وإكتفائها معتمدة علي خصائص البيئة الجغرافية من حيث قوتها أو ضعفها واستقرارها أو تفككها. وأضيفت الى مهامها لاحقاً دراسة النظم السياسية والاقتصادية. وهي اضافات زادت تداخلها مع الجيوبوليتيك.
مجالات الجغرافيا السياسية
تعالج الجغرافيا السياسية النمط السياسي للعالم وهو نمط معقد إلي حد كبير بسبب التجزئة المتباينة لسطح الأرض إلي وحدات سياسية تتفاوت في الحجم المساحي والسكاني تفاوتاً كبيراً، وتغير الأنماط السياسية في حدودها ومقوماتها ومشكلاتها الناجمة عن أنماط التفاعل مع البيئة التي تنعكس علي أوضاعها الداخلية وتمتد غالباً الى علاقتها الخارجية. كما تهتم الجغرافيا السياسية بمواكبة مظاهر التحول ،السلبية والايجابية، في نطاق الوحدات السياسية. وهو تحول يطال عدد سكان هذه الوحدات ومواردها وعلاقاتها بالدول الأخرى.
هذا وتتسع مهام ومجالات الجغرافيا السياسية مع تعقيد مظاهر التحول السياسي وتنامي دور الفرد فيها بما يدفعها للإتكـاء على العلوم المساهمة في دراسة هذه التحولات وبخاصة منها علوم الانسان وضمناً العلوم السياسية ما يكرس نقاط تقاطعها مع الجيوبوليتيك.
وكي لا نزيد هذا التقاطع غموضاً نعطي مثالاً عملياً يتمثل بمشروع شق قناة السويس بناء على قرار سياسي (بل يقال بناء على مؤامرة سياسية) وهي في هذه الحالة مثال على الجغرافيا السياسية وعلى تأثر الجغرافيا بالسياسة والتضحيات التي تقدمها للتكيف مع ظروف الجغرافيا.
أما لو نظرنا لما تمثله قناة السويس اليوم من شريان حيوي للتجارة العالمية والامدادات النفطية فاننا نجدها أرضاً مؤثرة في الاقتصاد والسياسة العالميين ما يجعل تأمين الحركة الملاحية فيها موضوعاً ينتمي الى صلب الجيوبوليتيك لغاية امكانية تسبب انتظام وأذونات الابحار في هذه القناة باندلاع الحروب. وهو ما حدث العام 1956 ادى اعلان مصر تأميم القناة وبالتالي تحويل قرار الحركة فيها من بريطانيا الى مصر. وكان الرد على التأميم حرب “العدوان الثلاثي” حيث شاركت في الحرب ضد مصر كل من إسرائيل وفرنسا وبريطانيا.

الفصل الاول
الجغرافيا السياسية

أولاً ـ تعريف علم الجغرافيا:
        تعد الجغرافيا همزة الوصل بين الأرض والإنسان والعلاقة القائمة بينهما سلباً وإيجاباً، حيث تعد الجغرافيا إحدى العلوم الاجتماعية التي تربط بين الإنسان وبيئته منذ أقدم العصور وحتى وقتنا الحاضر ، بالإضافة إلى ذلك تعتبر الجغرافيا من العلوم التكاملية التي تربط بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية .
        وقد خضعت الجغرافيا كغيرها من العلوم لكثير من التغيير والتطوير كما عانت أيضاً من اختلاف العلماء والمفكرين فى عدم التحديد الدقيق لتعريفها ووظيفتها ومفهومها ، بل نجد أن لكل مجموعة من العلماء والمفكرين تعريفاً لعلم الجغرافيا.      ( حسن بن عايل أحمد يحي :2001 ، ص 359)
        وهكذا تباينت الآراء والأفكار التي تعرضت لتحديد وتعريف علم الجغرافيا . ولذلك فإنه من الصعب اختيار أو صياغة تعريف واحد متفق عليه بين العلماء والمفكرين ولكن من الممكن استعراض مجموعة من التعريفات لهذا العلم على النحو التالي:

ـ الجغرافيا علم وصف الأرض : 
لعل تعريف الجغرافيا بأنها علم وصف الأرض هو أقدم تعريف لها ، بل أنه التعريف المستمد من المعنى الحرفي لكلمة " جغرافية " Geography  المشتقة من الجذور الإغريقية Geo  بمعنى الأرض و Graphy  وتعنى وصف ، والمعنى الإجمالي هو وصف الأرض .
            ويتعرض هذا التعريف للانتقادات الشديدة وذلك لعدة أسباب منها :
1 ـ يجعل هذا التعريف من الجغرافيا مادة وصفية ، ويفقدها الصفة العلمية . كما أن اقتصار الجغرافيا على الوصف من شأنه أن يجعل الجغرافي يتورط في تلمس الغرائب والعجائب والطرائف مما يباعد بينه وبين التحقيق والتدقيق في مادته .
2 ـ إذا كانت الجغرافيا في فترة من فترات تطورها المبكر قد اقتصرت على الجانب الوصفي فإن الحقائق والمعلومات الجغرافية لم تلبث أن تجمعت وتكدست . وكان من الطبيعي أمام هذا الحجم الكبير من الحقائق والمعلومات أن تتطور لتستخرج أنماطاً متشابهة من جهة ومتمايزة من جهة أخرى ، ذلك أن المشاهدة والتسجيل وإن كانت ضرورة من ضرورات أي علم إلا أنها لا تمثل سوى مرحلة أولية من دراسة هذا العلم وهى مرحلة جمع المادة الخام التي تتلوها مراحل أخرى تقوم أساساً على التحليل .
3 ـ إن الاقتصار على الجانب الوصفي من شأنه أن يحول الدراسة الجغرافية إلى ما يشبه دوائر المعارف ، ويحول دون التوصل إلى قواعد عامة وقوانين علمية تحكم الظواهر الجغرافية المختلفة ، وبمعنى آخر يباعد بين الجغرافيا وبين تقنينها علمياً .

ـ الجغرافيا علم كوكب الأرض :
يعد جيرلند Gerland  من أشد المتحمسين لهذا التعريف ، وربما كان يهدف من هذا أساساً إلى إدخال الجغرافيا ضمن العلوم الطبيعية وذلك لتأكيد علمية الجغرافيا ، ولإنقاذها من الإغراق من الجوانب الوصفية التي سادت فى الدراسات الجغرافية فترة طويلة من الزمن .
 ويقصد بتعريف الجغرافيا كعلم كوكب الأرض أنها العلم الذي يتناول بالدراسة الكرة الأرضية كأحد كواكب المجموعة الشمسية من جهة ، كما يتناول دراسة الكرة الأرضية ذاتها حتى قشرتها من جهة أخرى . ومعنى هذا أن الجغرافيا تبعاً لهذا التعريف تضم أساساً جانبين من الدراسة أحدهما الجغرافيا الفلكية والرياضية ، وثانيهما الجوانب الفوتوغرافية للأرض . ويرتبط أولهما ارتباطاً وثيقاً بعلم الفلك وعلم الرياضيات ، ويرتبط ثانيهما بعلم الطبيعة الأرضية .
وتعرض هذا التعريف لنقد شديد إذ أن الجغرافيا تبعاً لهذا التعريف تصبح علماً طبيعياً خالصاً وتهمل دراسة الجوانب البشرية وفى هذه الحالة يصعب وضع حدود واضحة بين الجغرافيا وبين العلوم الطبيعية الأصولية التى ترتبط بها ، وكذلك إهمال دراسة الجوانب البشرية وتأثرها بعناصر البيئة الطبيعية . 

ـ الجغرافيا علم التوزيعات :
اقترح بعض الجغرافيين خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر تعريف الجغرافيا بأنها علم التوزيعات. غير أن هذا التعريف لم يلبث ـ بحكم قصوره ـ أن لقي نقداً شديداً من جغرافي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين يتلخص فى :
1 ـ إذا كانت الجغرافيا علم التوزيعات فما حدودها ؟ إن كل شئ على سطح الأرض يقع بالضرورة في مكان ، أي لكل شئ توزيعاً على سطح الأرض أو على سطح جزء من الأرض ، ومعنى هذا أن الجغرافيا تبعاً لهذا التعريف تختص بتوزيع أي شئ بصرف النظر عن صلة هذا الشيء بالجغرافيا .
2 ـ أن تعريف الجغرافيا بعلم التوزيعات واختصاصها بتوزيع أي شئ ، يجمع داخل نطاق الجغرافيا أشياء وظاهرات متنافرة مما يفقد الجغرافيا وحدتها . والمعروف أن الوحدة والتجانس بين الظاهرات التي يدرسها أي علم شرط أساسي لعلمية هذا العلم. وهذا يفتح المجال لاتهام الجغرافيا بأنها علم مركب يضم خليطاً متنافراً من الموضوعات التي لا تعدو أن تكون أجزاء من علوم أخرى.
3 ـ أن تعريف الجغرافيا بعلم التوزيعات يسلب الجغرافيا كيانها المستقل عن العلوم الأخرى ، ذلك أن التوزيع فى الحقيقة هو منهج علمي تستخدمه علوم كثيرة ، فعلم الجيولوجيا يعنى بتوزيع الظاهرات الجيولوجية كالبراكين مثلاً ، وعلم النبات يعنى بتوزيع الصور النباتية ، وعلم الحشرات يعنى بتوزيع مختلف أنواع الحشرات 000 وهكذا .
        وليس معنى هذا ألا يتعرض الجغرافي للتوزيع ذلك ن التوزيع هو نقطة البداية الحقيقية لدراسة أي ظاهرة جغرافية ، كل ما في الأمر أن الدراسة الجغرافية هى أوسع وأشمل بكثير من مجرد توزيع ظاهرة ما أو مجموعة من الظاهرات توزيعاً مكانيا على الخريطة .

ـ الجغرافيا علم الاختلاف الإقليمي : 
            استقر رأى الجغرافيين على أن إبراز الاختلافات الإقليمية هو من صميم اختصاص الجغرافيا وأنه الهدف الرئيسي الذي يسعى علم الجغرافيا إلى تحقيقه. وقد دعا هذا بعض الجغرافيين إلى تعريف علم الجغرافيا بأنه علم الاختلاف أو التباين الأرضي أو الإقليمي ، ونتيجة لذلك زاد اهتمام الجغرافيين بالدراسات الإقليمية ، وأصبحت الجغرافيا الإقليمية فرعاً أساسياً من فروع علم الجغرافيا .
        ولا يقتصر إبراز الجغرافيا للاختلافات الإقليمية على ظاهرة جغرافية واحدة ولكنه تعداها إلى إبراز هذه الاختلافات في مجموعة من الظاهرات الجغرافية مجتمعة.
            الواقع أن تعريف الجغرافيا بأنها علم الاختلاف الإقليمي يرتبط بتعريفها بأنها علم التوزيعات ، ذلك أن التوزيع وإبراز الاختلاف إنما يرتبطان ببعضهما تمام الارتباط ، بل أن التوزيع ينبغي ألا يكون هدفاً وغاية بل ينبغي أن يكون وسيلة لإبراز الاختلاف الإقليمي ، ومعنى هذا أن التوزيع وحدة يعتبر دراسة جغرافية مبتورة وإن كان يدخل في صميم الجغرافية . والخلاصة أن التوزيع والاختلاف الإقليمي تعريفان متكاملان .(محمود على عامر : 1999 ، ص ص 14-18) ، ( محمد صبحي عبد الحكيم :1995/1996، ص ص 18-25).

        نستخلص مما سبق :
ـ  أن تأثر الفكر الجغرافي باتجاهات فكرية أخرى سيجعل معتنقي كل اتجاه يقومون بصياغة تعاريف لعلم الجغرافيا تعكس اتجاهاتهم الفكرية . وهكذا تعددت الاتجاهات وتنوعت المدارس الجغرافية التي تعكسها كثرة التعريفات ، ومع ذلك تتميز الجغرافيا بعدد من الملامح العامة التي توضح اهتمامها بدراسة العلاقات والاختلافات بين الظاهرات المختلفة والتي يمكن بلورتها على النحو التالي :
1 ـ ارتباط دراسة الجغرافيا بالمكان ارتباطاً وثيقاً سواء أكان هذا المكان مساحة محدودة أم على مستوى العالم
2 ـ اهتمام دراسة الجغرافيا بالظاهرات الطبيعية والبشرية على حد سواء .
3 ـ إبراز عملية التوزيع والتحليل والوظيفة ( العلاقات بين الأماكن ) .
4 ـ الاهتمام بالاختلافات والتشابهات المكانية .
5 ـ السعي إلى الشخصية الإقليمية المتميزة .(حسن بن عايل أحمد يحيى :2001 ، ص 360 ) .
ـ وبالتالي يصبح علم الجغرافيا هو ذاته العلم المكاني والذي تدور نظرية المعرفة Epistemology فيه حول تنمية المعرفة المكانية . ويستهدف البحث فيه الكشف عن التركيبة العناصرية للمكان في أوضاعها الراهنة ، وأنماط هذه التراكيب عبر الأمكنة والأزمنة ، والوقوف على التحولات التي تطرأ على هذه التراكيب العناصرية للمكان عبر الزمن لاستخلاص القوانين والميكانيزمات التي تنبئ بمستقبل هذا المكان أو الظاهرة أو ما يشبهها من أمكنة أخرى أو ظاهرات شبيهة ، والوصول بهذه التراكيب العناصرية للأمكنة إلى حالة التوازن . (فتحي محمد مصيلحى :1994،ص 19)
        ويتضح من هذا المفهوم المعاصر لعلم الجغرافيا أنه يتجاوز الوضع الحالي للظاهرة الجغرافية وينتقل إلى المستقبليات . 

ثانيا ـ طبيعة الجغرافيا :
        تدخل الجغرافيا فى نطاق العلوم المكانية حيث أنها تحلل العلاقات المكانية Spatial Relationships . وفى هذا المجال يدرس الجغرافي ترابط الظاهرات المختلفة ، وفى هذا المعنى يقول ف.لوكرمان :" دراسة المكان أو المجال كظاهرة معقدة ووحدة متداخلة حكر للجغرافيا . وليس هناك فرع من فروع المعرفة غير الجغرافيا يقوم بدراسة الحقائق المرتبطة بالمكان من وجهة النظر المكانية فقط وليس من وجهة نظر الظاهرات نفسها ).
        ويؤكد هذا المفهوم ايريك براون السكرتير الفخري للجمعية الملكية الجغرافية :" إذا كان بالإمكان اختصار فحوى علم الجغرافيا فى كلمة واحدة كما يفعل علماء النبات عندما يقولون علم النبات يهتم بالنباتات فإن علم الجغرافيا يهتم بالمكان . فالناس يصنعون المكان والمكان يصنع الناس ).
        ودراسة المكان فى الفكر الجغرافي المعاصر لم تعد دراسة ساكنة بل هي دراسة ديناميكية ـ دراسة المكان ذات الطبيعة المتجددة المتغيرة المتحركة .فدراسة الجغرافي للبيئة الطبيعية والإنسان هي دراسة متلازمة مترابطة ترابطاً أصولياً وموضوعياً . كما أن البحث الجغرافي ينطلق من منطلق تمليه العلاقات التكاملية بين البيئة والإنسان . والتخصص الدقيق فى فرع من فروع الجغرافيا الطبيعية ، أو من فروع الجغرافيا البشرية لا يعفى الجغرافي من الإحاطة الكلية بالقواعد التى تقوم عليها العلاقة التكاملية بين البيئة والناس .
        الدراسة الجغرافية إذن تسهم فى توسيع المفهوم التكاملي للأنظمة الايكولوجية حيث أنها تركز على الأنشطة البشرية . بحيث يغطى هذا المفهوم النواحي الاجتماعية والاقتصادية للإنسان ، ويدرس تفاعل الإنسان مع البيئة الطبيعية واستخدامه للموارد الطبيعية والتقنيات المستعملة فى هذه الموارد واستجاباته لتدهور البيئة ونقص الموارد .
        أما من حيث المضمون فيهتم علم الجغرافيا بفحص وربط وتنظيم وتقنين ظاهرات الأرض ، فهو يدرس شكل وحجم الكرة الأرضية ، وتحركات السطح ، وتوزيع اليابس والماء ، والتركيب الصخري للقشرة الأرضية ، والعمليات التى تؤثر فى أشكال سطح الأرض والأحوال الجوية وما ينتج عنها من اختلاف فى أنماط المناخ . ويوجه اهتمامه كذلك لدراسة اختلاف الحياة النباتية والحيوانية وتوزيعاتها ، إلى جانب دراسة السلالات البشرية التى عمرت سطح الأرض وتوزيع السكان والأنشطة المختلفة لهم . ذلك بالإضافة إلى المحلات العمرانية التى يقطنها . وباختصار تنحصر الجغرافيا فى دراستها فى دراسة مكان وسبب كيفية الأشياء . وتنسب إلى ايزياه بومان Isiah Bowman الجغرافي الأمريكي المشهور تلك العبارة الموجزة :" الجغرافيا تعرفنا ماذا وأين وكيف وما شأنه ".
        ويختلف الباحثون فى عدد الموضوعات التى تنطوي تحت الجغرافيا ، فقد تزيد عند البعض عن خمسة عشر موضوعاً . لكن هناك اتفاق أن علم الجغرافيا ينقسم إلى قسمين رئيسين : الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية . الجغرافيا الطبيعية تتناول دراسة سطح الأرض من حيث البنية والتركيب والمناخ والنبات والحيوان من حيث تأثيرها فى الحياة الإنسانية . والجغرافية البشرية تتناول دراسة النشاط الإنساني فى البيئة والتفاعلات المتبادلة بين الإنسان والبيئة . ومن أقسام الجانب الطبيعي دراسة التضاريس ونظم التصريف النهري ، ودراسة الموارد الأرضية والحياة النباتية والتربة. وينطوي تحت الجغرافيا البشرية عدة فروع مثل جغرافية السلالات البشرية وجغرافية السكان والمدن والجغرافيا الاقتصادية والسياسية. وكل نوع من أنواع الجغرافيا السابقة يتناول نشاطات الإنسان المتعددة فى بيئته .
        هذه المظاهر الطبيعية والبشرية يدرسها الجغرافي دراسة أصولية وإقليمية بمعنى أن الجغرافي يدرس الموضوع Topic أو الإقليم Region ( يدرس العلاقات الموجودة بين الظاهرات والتفاعل بينها داخل الإقليم الواحد ) . وفى علم الجغرافيا هناك ارتباط عضوي وحيوي بين الموضوعية والإقليمية فإذا بدأ بالموضوع انتهى إلى الإقليم وإذا كانت الإقليمية هدف الدراسة فإنه لا نجاح لهذا الهدف دون الاستعانة بالمنهج الموضوعي . بعبارة أخرى هناك تدرج بين الموضوعية والإقليمية بحيث يمثل كل منها إطاراً مكملاً للآخر. ( أحمد عبد الله أحمد بابكر : 1987،ص 293-295).      

الفصل الثاني
الدولة كظاهرة في الجغرافية الحديثة
إن دراسة الدولة أو الوحدات السياسية كانت المرحلة الثانية في تطور الجغرافية السياسية. وقد تقدمت هذه الدراسة على يد راتزل الذي وضع أول كتاب يتضمن قواعد الجغرافية السياسية الحديثة، وكما أكد راتزل أن مساحة الرقعة التي تشغلها الدولة هي أحسن معيار يستدل منه على أهميتها وقوتها. وأن كل وحدة سياسية تعد نموذجاً ونمطاً له نطاق محدد، وبه مناطق إدارية ونقط استراتيجية ومنطقة قلب وهي العاصمة. وتتفاوت أشكال الدول باختلاف خصائصها الطبيعية، وما أحدثه الإنسان فيها من تغيرات وقيمة علاقاتها بالدول الأخرى.
وقد رأى هارتسون أن أفضل أسلوب لشرح قيمة الدولة وإبرازها من وجهة نظر الجغرافية السياسية الحديثة، هو استخدام المنهج المورفولوجي Morphological Approach. الذي يفسر ويشرح ويصور لنا الشكل الداخلي والشكل الخارجي لمساحة الدولة كموضع جغرافي فوق سطح الأرض. فدراسة حدود الدولة – وما ينتج عنه من شكل ومساحة وموقع – تدخل ضمن إطار دراسة الشكل الخارجي. في حين تهتم دراسة الأقاليم ذات القيمة الاقتصادية والسكانية والاستراتيجية والتقسيم الإداري الداخلي وموقع العاصمة كلها نقاط في دراسة الشكل الداخلي للدولة أو مورفولوجية الدولة داخليا.
وعلى الرغم من أن هارتسون في عام 1950 قد وصف هذا المنهج بأنه ممل وراكد ولا يمكن أن نستشف منه نتائج ذات دلالة جغرافية قيمة. إلا أنه في عام 1968 راجع رأيه في مدى جدوى دراسة الدولة باستخدام المنهج المورفولوجي وأبدى أسفه لعدم إعطاء هذا المنهج الاهتمام الكافي في دراسته وكتب " بأن خبرته في تدريس الجغرافية السياسية أقنعته بأن المنهج المورفولوجي يشكل جزءا ضرورياً في الدراسات الجغرافية لأي وحدة سياسية، ولكن يجب أن يرتبط بإبراز وظيفة أي وحدة سياسية ".
ولكي تكون دراستنا للدولة مكتملة الجوانب فيجب أن تضم العناصر الرئيسية لدراسة مورفولوجية الدولة ما يلي :
1)    رقعة الدولة وامتدادها المساحي والمحددة بدقة بحدود دولية.
2)    النظام الإداري الذي يجمع أرجاء الدولة. ويربطها ببعضها البعض في بنيان واحد.
3)    السكان المقيمون.
4)    الهيكل الاقتصادي ونظام وطرق النقل والمواصلات داخل الدولة.
وهذه عناصر حيوية لكل دولة، ولكنها تتفاوت من دولة إلى أخرى في التفاصيل التي تحتويها تلك العناصر، فعلى سبيل المثال. هناك دول ذات مساحة كبيرة مثل : كندا وروسيا، وعلى النقيض هناك دول صغيرة جدا مثل : موناكو (1 كم مربع - وعدد سكانها 30.000 نسمة) وجمهورية ناورو (21 كم مربع – وسكانها 8.000) أو سان مارينو (61 كم مربع وسكانها 30.000). وعلى النقيض لتلك الدول نجد أن هناك دولاً ذات عدد ضخم مثل الصين 1237 مليون نسمة والهند 9700 مليون نسمة (وفقاً لبيانات 1999).
وبالمثل فإن الدول متفاوتة في قوتها الاقتصادية ورخائها. فهناك دول متقدمة وأخرى نامية. فالدول المتقدمة طورت طرقها لتربط جميع أجزائها في كيان واحد متماسك. وعلى النقيض فإن كثيراً من بلدان العالم الثالث ماتزال تعاني من قلة وكفاءة طرق مواصلاتها. ومن ثم غدت الانعزالية وقلة اهتمام الحكومة المركزية بالأطراف الهامشية النائية من البلاد سمة لبلاد العالم النامي لذا فقد تباينت فاعلية الحكومات المركزية بين بلدان العالم المختلفة.


أولاً : رقعة الدولة وامتدادها الجغرافي
تشغل كل دولة جزءا معيناً ومحدداً من سطح الأرض حيث يكون لها السيادة التامة عليها، وعلى ذلك فإن الدولة أساساً هي ظاهرة مساحية فلا توجد دولة بدون أرض وفوق هذه الدولة يقيم أفراد الأمة وعليها وبها يعيشون حياتهم، ومن خلال ارتباطهم التاريخي بها يكونون وطنهم الأم ويقدمون في سبيل أمتهم وشرفها وسلامتها أعظم التضحيات.
ولكي تكون لكل دولة حدود خارجية محددة، فإنه من الضروري وجود خطوط حدودية تميز وتفصل أرضها عن الأراضي المجاورة لها، وكلمة أرض لا تعني الحيز والامتداد المساحي للدولة فقط، ولكنها تتضمن أيضاً الملامح الطبيعية التي تميز هذا الامتداد الجغرافي للمساحة الجغرافية للدولة.
هذه الملامح تتضمن كل من موقع شكل الدولة وحجمها، إضافة إلى المناخ وشكل سطح الأرض والتربة والنبات الطبيعي وخواص المياه والموارد الطبيعية تحت سطح الأرض، وخاصة المعادن وموارد الغذاء والمواد الخام والطاقة. وهذه الملامح الطبيعية منفصلة أو متجمعة تحدد الأنشطة التي يقوم بها المواطنون داخل الدولة.
لكن من خلال نظرة أوسع لهذه المدخلات الطبيعية المكونة للدولة. فإن تطويرها والاستفادة منها مرتبط ويتوافق مع ميول الأفراد ونزعاتهم المنبعثة من تقاليدهم التاريخية، وصفاتهم الحضارية ومدى تقدمهم في المجال العلمي والتكنولوجي حاليا.
كما سوف نرى عند دراسة كل جانب منها :


1الموقع :  Location
يعتبر الموقع من أهم الملامح الطبيعية للدولة، والموقع هو مسطح شامل يتضمن الموقع وفقا لدوائر العرض وخطوط الطول (رغم أن تحديد الموقع وفقا لخطوط الطول لا يعتبر عاملاً مؤثراً في تحديد الملامح الطبيعية لمساحة معطاة).
وتركز الدراسة على دراسة موقع الدولة وفقاً لتوزيع اليابس والماء، بالإضافة إلى الموقع وفقا لعلاقته بالدول الأخرى، وخاصة الدول الأكثر قوة وتأثيراً في السياسة الدولية المعاصرة. يمكن إضافة منظورين آخرين للموقع ألا وهما : الموقع وفقاً للصلاحيات (أي : الموقع المركزي في مقابل الموقع الهامش. والموقع الاستراتيجي).

الموقع الفلكي : Astronomical Location 
يحدد الموقع الفلكي موقع سكان أو منطقة ما على سطح الكرة الأرضية ، فهو يصف موقع المكان وفقاً لدوائر العرض وخطوط الطول. والموقع الفلكي ذو أهمية خاصة في حياة أي دولة معينة حيث أنه يوضح بصورة كبيرة الخصائص المناخية للأقاليم المختلفة والدول فوق سطح الأرض، والمناخ مؤثر بصورة غير مباشرة على قوة الدولة. حيث يحدد الخطوط العريضة للإنتاج الزراعي وموارد الغابات، وهو أيضا يؤثر بصورة كبيرة على شبكة النقل في الدول. من هنا فإن أهمية الموقع تظهر بصورة غير مباشرة من دراسة المناخ.
والمناخ يؤثر تأثيراً بالغاً على الهيكل الاقتصادي للدولة، ومن ثم فإنه يلعب دورا رئيسيا في علاقة الدول بالدول الأخرى. والخصائص المناخية من المعتقد أنها تحدد بصورة كبيرة المواقع الجغرافية لأفضل المناطق ملائمة لتطور الإنسان في مراحل معينة من التقدم التكنولوجي، فالأقاليم الحضارية والقوى العظمى والإمبراطوريات القديمة ارتبط وجودها بأنواع محددة من المناخ.
ففي الوقت الحالي نجد أن القوى العظمى تقع كلها في المنطقة ذات المناخ المعتدل، ولكن بالطبع هذا لم يكن هو الحال دائما، فالحضارات الأولى نشأت في المناطق المدارية وشبه المدارية، وكان ذلك لعدة أسباب منها :
1)    الصحارى التي كانت تحيط بالحضارات التي قامت على ضفاف الأنهار كانت بمثابة حدود وموانع طبيعية تحمي تلك الحضارات من الأخطار.
2)    في تلك المراحل الأولى من التقدم التكنولوجي كان من الضروري للأفراد أن يقطنوا المناطق ذات الطبيعة المناخية التي ليس بها مشكلات أو عوائق متعلقة بتوفير المأوى والدفء، وعلى ذلك نجد أنه بعد أن وصل الإنسان إلى مستوى معين من التقدم العلمي أصبحت لديه القدرة على التكيف مع البيئة القاسية، وعليه خرجت الحصارات من بؤرة التطور الحضاري في الأماكن المدارية إلى المناطق الأكثر اعتدالاً عند دوائر العرض المتوسطة "على ما يبدو أنه على الرغم من أن الإنسان استطاع أن يدخل تعديلات تكنولوجية وعلمية مكنته من التعايش والتكيف في المناطق الأكثر قسوة. فالتقدم التكنولوجي والعلمي من الممكن أن يجعل المناطق القطبية والاستوائية هي الأماكن الأكثر استغلالا وأكثر صلاحية للسكنى.
وفي الوقت الحالي، فإن المناطق القطبية تمثل قاعدة فقيرة لعدم التقدم الإنساني، وعلى ذلك فإنها خالية تماما من أي تطور اقتصادي أو سياسي.
ويلعب الموقع دوراً مؤثراً في مناخ المنطقة التي تتأثر سياسياً ببعض التغيرات المناخية. فالدراسات الحديثة قد ربطت بين التغيرات المناخية وحدوث انقلابات عسكرية في غالبية بلدان أفريقيا في إقليم الساحل في نفس الفترة التي حدث بها الجفاف في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين.

الموقع البحري والموقع القاري Maritime vs. Continental location
كان لموقع الدولة وإشرافها على واجهة بحرية أثر مباشر في تحديد توجه الدولة السياسي، وهو أحد أكثر المفاهيم استمرارية في الجغرافية السياسية هو تحديد موقع الدول بالنسبة للبحار والمحيطات. وكان هذا المفهوم هو المحور الرئيسي لظهور نظرية قلب العالم Heart Land، والتي يجب النظر إليها على أنها مثال خاص ومرتبط بمرحلة معينة لتفسرات الجغرافية السياسية للعلاقات القارية والبحرية، والتي تم اختبارها (تجربتها) عبر التاريخ. فقد كان الاعتقاد العام بأن الموقع المغلق يضع عوائق خطيرة للدولة الحبيسة، اعتقاداً صحيحاً في معظم الأحيان. ولكن من المنظور الاستراتيجي البحت، فإن الموقع المغلق يوفر لالدولة في حالة الحرب فقط ميزة الخطوط الداخلية (الجهة الداخلية) "فعند وجود نظام جيد للاتصالات ونظام متطور للمخابرات وجيوش قوية تحت قيادة قادرة يمكن للدولة الحبيسة أن تحرك قواتها من جبهة إلى أخرى ويحقق لها مميزات جيدة يصعب قهرها.
وتتعدد عيوب الموقع القاري أو الداخلي. فالدولة المغلقة تحتل موقعا منعزلا بالنسبة للتجارة الدولية حيث إن هذه الدولة تعتبر محرومة من الاتصال المباشر بدول العالم الأخرى غير الدول التي تشاركها الحدود. وللموقع البحري آثار واضحة على سكان البيئات البحرية فهم يتسمون بحب الاستطلاع واكتشاف المجهول والمغامرة والشجاعة في مواجهة المواقف الصعبة. وهم أيضاً ضوي أفق متسع وتفتح في الأذهان وغير تقليديين. أي أنهم يتقبلون ويقبلون على الجديد الوارد من وراء البحار. ومن ثم يتسم سكان المناطق الساحلية بالرقي الفكري والحضاري. حيث إن السواحل دائماً تمثل مناطق التقاء حضارات "وهذا نلاحظه في سكان مناطق الموانئ المفتوحة".
وينشأ عن حرمان بعض الدول من الواجهات البحرية نشأة ما يسمى بالدول الحبيسة، وتصبح هذه الدول الحبيسة رهينة علاقتها مع دول الجوار ذات المنافذ البحرية. وتصبح دائماً تابعة لها ولرغباتها. لهذه الأسباب يمكن تفسير الاهتمام الكبير والدائم من الدول الحبيسة في محاولاتها الحصول على منفذ بحري. والتاريخ مليء بأمثلة عن الصراعات بين الدول القارية وجيرانها المطلة على البحار من أجل الحصول على منفذ بحري للوصول إلى البحر. وخير مثال على ذلك في الجغرافية السياسية هو المثال الروسي.
ومعظم تاريخ روسيا يمكن فهمه من خلال صراعها الدائم على مر الزمن للوصول إلى البحر، ففي العصور الأولى كان هذا الغرض يقتصر على التحكم في الأنهار القابلة للإبحار فيها. وكان أول اتصال لروسيا بالبحار عن طريق المحيط القطبي الشمالي. ولكن هذا المنفذ كان ذا قيمة محدودة لسببين أولهما : طبيعة المحيط القاسية. والآخر صعوبة الوصول إلى هذا المنفذ عن طريق البر. وكان أول ربط لمدينة مورمانسك – بداخل روسيا عن طريق السكك الحديدية خلال الحرب العالمية الأولى. وكانت محاولات الوصول إلى البحار الأخرى المحيطة بروسيا مستمرة طوال فترة تكونها. ففي الجنوب الشرقي للدولة وفي 1557، وصلت روسيا إلى بحر قزوين، عند استراخان. وفي عام 1635 وصلت إلى اوخوتسك شرقا. وخلال عام 1700 وصلت إلى البحر البلطي غربا عند سان بطرسبرج. وفي الجنوب في عام 1713، وصلت إلى بحر أزوف – ومن خلاله وفي عام 1783 تم الوصول إلى البحر الأسود. كل هذه المخارج كانت غير مرضية أو مفيدة لأنها إما أن تؤدي إلى بحور مغلقة مثال : قزوين أو شبه مغلقة مثال : البحر البلطي والبحر الأسود، أو أنها تؤدي إلى مناطق بعيدة غير آهلة بالسكان مثل شمال المحيط الهادي.
وكان الاتحاد السوفيتي "السابق" الوريث للإمبراطورية الروسية التي أسست نفسها كقوى عظمى لا منافس لها على البحر البلطي والبحر الأسود، ولكن مازالت هناك مخارج على البحرين في أيدي أخرى وبحر قزوين لا منفذ له. وعلى ذلك فإن الضغوط كانت لاتزال تزداتد في الوصول لمنافذ البحر إلا أنها كانت في اتجاهات لم تحقق أي نجاح مثل محاولات اختراق إيران للوصول للمحيط الهندي والضغط المستمر على تركيا للحصول على المضايق أو الضغط على الدول الاسكندنافية والدنمارك للحصول على منفذ على المحيط الأطلنطي وهذا الانتشار لا يمكن تفسيره بأنه مد للفكر الشيوعي شرقاً وغرباً. ولكن يمكن تفسيره فقط بمحاولاتها للوصول للبحار الدفينة وتحطيم معوقات الموقع المغلق.
ورغم تفكك الاتحاد السوفيتي حاليا. إلا أن جمهورية روسيا الاتحادية أصبحت الوريث لهذه الدولة الكبرى، ومن ثم حملت هموم موقعها القاري فوق عاتقها.
وعلى الرغم من تملك روسيا شريطا ساحليا طويلا. إلا أنه يمكن النظر إليها على أنها ذات موقع قاري نظرا لأن مياه المحيط القطبي الشمالي متجمدة معظم العام وعديمة القيمة. ورغم أن روسيا وكندا استغلتا المحيط القطبي عن طريق كاسحات الثلوج والطيران. إلا أن هذا المحيط لا يعتبر طريقا مفضلا للنقل البحري ومن ثم قلت قيمته في التجارة الدولية، بالإضافة إلى أن الإبحار في المياه المجمدة للمحيط أمر مكلف للغاية واقتصرت أهمية المحيط القطبي الشمالي بالاستراتيجية في عصر الطيران حيث أصبح بمثابة أقصر الطرق أحيانا للوصول إلى القواعد الأمريكية في الشمال. وبالإضافة إلى ما يحققه الموقع البحري من مميزات بحرية لدى الدول المطلة على البحار. فإن الدول الجزرية مثل. بريطانيا واليابان، والتي لا تشترك في حدود قارية مع دول أخرى تكون في منأى عن المشكلات التي قد تنجم عن الصراع على بعض الأراضي ممثلة على حدودها مع الدول المجاورة، كما هو الحال في الدول القارية. بالإضافة إلى ذلك فالبحار المحيطة بتلك الدول توفر لها حماية طبيعية جعلت الغزاة عاجزين عن احتلالها.
بالإضافة إلى ذلك فإن إمكانية زيادة الموارد قائم. فمن الممكن أن تتجه الدول إلى البحر في حال فقرها في مواردها الأرضية. والدول ذات الموقع البحري لها تأثير واسع النطاق في التوجيه الاقتصادي ومسار التقدم السياسي لتلك الدول. فإن ظاهرة نهضة الصناعة البريطانية كان نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي، ولكن الحقيقة التي جعلت هذه الدول الجزرية الصغيرة من أكبر القوى الصناعية الدولية خلال حقبة المستعمرات التي وفرت لها قاعدة متنوعة وواسعة من المواد الخام بالإضافة إلى توفير سوق واسع لتصريف منتجاتها الصناعية.
ويمكن النظر إلى قارة أوروبا على أنها تشكل نطاقا شبه جزري. وأن مساحتها الصغيرة جعلت التأثير البحري يمس كل دولها. من هنا فقد اهتمت بالبحار واتجهت صوبها ورعت طموح البحارة والمغامرين الباحثين عن موارد جديدة بعد أن عجزت موارد القارة المحدودة على تلبية حاجة سكانها المتزايدين. من هنا سيطرت دول أوروبا على بحار العالم، وسيطرت على قارات العالم الأخرى. على النقيض تعد قارة آسيا قارية التوجه، فكانت مساحتها الشاسعة ووجود سهول خصبة ممطرة تستوعب أعدادا كبيرة من البشر اهتمت باستغلال مواردها الأرضية، ولم تتجه إلى البحر بنفس القدر الذي ذهبت إليه أوروبا.
وتتفاوت الدول فيما بينها من حيث مدى إطلالها على واجهات بحرية. فهناك العديد من الدول تمتلك واجهة بحرية واحدة وتمثلها ليبيا والجزائر ولبنان وبلجيكا وهولندا والبرازيل وفيتنام. وهذه الدول قد تكون أقل أهمية من دول أخرى تطل على بحرين، أي لديها جبهتان بحريتان وتمثلها مصر والمكسيك وجمهوريات أمريكا الوسطى والمغرب والصومال واليمن وجنوب أفريقيا وكوريا والهند وماليزيا. أما الدول التي تطل على ثلاثة بحار أو أكثر، فتمثلها دول تركيا واليونان ومدغشقر وإنجلترا وأيسلندا (انظر الخرائط المرفقة). وأخيرا فإن هناك مجموعة من الدول محرومة من الواجهات البحرية. وهي الدول الحبيسة وتمثلها أثيوبيا ومالي وتشاد في أفريقيا أفغانستان ,اوزبكستان وقرغيزستان ومنغوليا في آسيا وسويسرا والنمسا والتشيك في أوروبا وبيرو وباراجواي في أمريكا الجنوبية. ( انظر الشكل 2 – 2 ).
ويمكن إيجاز أهمية الموقع البحري بالنسبة للدول من عدة جوانب :
1- الأهمية النسبية للبحر للدول التي تطل عليه.
2- النسبة بين أطوال السواحل "حدود بحرية" إلى الحدود القارية.
3- مدى ملائمة السواحل لإقامة موانيء وصلاحيتها للملاحة لفترة زمنية طويلة.
الموقع بالنسبة للدول الأخرى :
وهو ما يطلق عليه موقع الجوار أو الموقع النسبي أو الموقع المتاخم، يعني علاقة الدول بالدول التي تلاصق وتشترك معها في الحدود. فإذا كانت الدولة تجاور دولة أخرى تعادلها في القوة. أو ترتبط بها بمواثيق ود وحسن جيرة، فإن ذلك يعني التقليل من الإنفاق الضخم على التسليح للدفاع عن الحدود، وتوجه هذه الأموال لمشاريع التنمية الداخلية. وعلى النقيض فإن الدول التي تتفاوت في الحجم وفي القوة، تكون سيادتها للدولة الأكبر والأكثر قوة على حساب الدولة الصغيرة التي تصبح تابعة، وأوضح مثال لذلك هو دولة بولندا التي تقع بين ألمانيا في الغرب وروسيا في الشرق وإمبراطورية النمسا والمجر في الجنوب. فهذه الدولة لم تعرف الاستقرار والسيادة على أراضيها سوى فترات قصيرة من الزمن (قبل الحرب العالمية الثانية).
والموقع بالنسبة لدول الجوار هام جدا في زمن السلم والحرب. فكلما طالت الحدود بين الدولة وجيرانها كان لها تأثيرها الفعال. ففي حالة السلم فإن قوة العلاقة تصبح سمة سائدة إذا كانت الدولتان متعاونتين وتربطهما علاقات جيدة، فإن هذه الحدود سوف تصبح عاملا مساعدا على النشاط التجاري والتوجه الاقتصادي. وخير مثال لذلك الحدود بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية التي شهدت نشاطا ضخما في التجارة والسياحة لا يمكن تصورها وغير مشابهة لدول أخرى مع الدولتين فأكبر عدد من الشركات الأجنبية في كلتا الدولتين ملكا لأحد مواطني إحداهما. ونفس الشيء فإن أكبر عدد من السائحين إلى كندا يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية. أما إذا كانت الدول المتجاورة ليست على وفاق فإن طول الحدود وكثرة الجيران فإنه يصبح أحد مكامن الخطورة على الدولة.
من هنا يمكن القول بأن أفضل الدول هي تلك التي لا يوجد لها جيران تشاركها الحدود ومثلها الدول الجزرية. أو الدول التي تجاورها في الحدود دولة واحدة وتمثلها البرتغال والنرويج وجمهورية أيرلندا وغمبيا وكندا وكوريا الجنوبية وقطر. أما الدول التي لها اثنتان من دول الجوار التي تشاركها في الحد السياسي تمثلها دول مثل أسبانيا وهولندا وتونس والمغرب واليمن والكويت والمكسيك ومعظم دول أمريكا الوسطى.
والدول التي تشترك في حدودها مع ثلاث دول مثل : مصر ,انجولا وغانا.
أما الدول التي لها أربعة جيران فتمثلها دول مثل : نيجيريا وكوت ديفوار والأردن.
والدول التي لها عدة جيران فتمثلها دول مثل : السودان والكونجو الديمقراطية والصين.


قيمة الموقع
وهو ما يعبر عنه بهامشية الموقع أو توسطه أو وقوعه في بؤرة الاهتمام، والذي يختلف وفقاً لأعداد السكان وكثافاتهم واكتشاف موارد اقتصادية هامة أو وجود ثقل اقتصادي لدولة أو جزء من العالم في مكان ما.
والموقع البؤري أو المركزي يكتسب أهميته وصلاحياته بسبب سهولة الاتصال والعلاقات التجارية بين الدول : فمثلا اكتسب المحيط الأطلسي الشمالي أهمية كبيرة في العصور الحديثة لقيمة موقعه المتوسط بين إقليمين صناعيين من أقاليم الحضارة الحديثة، وهما غربي أوروبا وشرقي أمريكا الشمالية. وزادت أهمية المحيط وأصبح حلقة وصل بين هذين الإقليمين. وأصبح الأطلس الشمالي يتمتع بكثافة مرورية ضخمة سواء في السفن أو الطيران وهذا عكس الموقع الهامش لاستراليا أو نيوزيلندا.
وقيمة الموقع متغيرة بتغير الحضارات ففي الماضي القريب كان البحر المتوسط من أهم بحور العالم في الوقت الذي كان فيه الأطلس "بحراً للظلمات" مجهولً فعلى ضفاف المتوسط ازدهرت حضارات عديدة، ولكن عندما نقلت مشاعل الحضارة من مصر والعراق والإغريق والرومان إلى غرب أوروبا بدأت تقل أهمية المتوسط تدريجيا. وبالمثل زادت أهمية سنغافورة مع تزايد حركة التجارة بين اليابان والصين وكوريا ودول الشرق الأوسط وأوروبا. وكما زادت قيمة المحيط الأطلسي الشمالي بالتقدم الهائل في اختراع السفن العابرة الضخمة. وأصبح من أكثف بحار العالم في حركة النقل البحري حيث يربط بين أكبر إقليمين من أقاليم العالم المتقدم وعلى جانبيه "وخاصة في الشمال" توجد معظم القوى العظمى الاقتصادية والعسكرية. كما أن قيمة المحيط المتجمد الشمالي زادت باختراع الطيران وتقدم استخدامه وأصبح هذا المحيط جسرا يربط بين شمال أوروبا وشمال آسيا وشمال أمريكا الشمالية، من هنا فإن التقدم التكنولوجي له أثره الواضح والبالغ على أي موقع بالنسبة للمواقع الأخرى. ومن ثم فإننا – من الضروري – يجب إعادة تقييم أهمية الموقع بما يقدمه من تسهيلات بصفة مستمرة فكم من موقع هام قديم يعيش في عالم النسيان حاليا.

الموقع الاستراتيجي
يقصد بالموقع الاستراتيجي الموقع الذي يضيف للمنطقة التي تسيطر عليه ميزة عسكرية وسياسية واقتصادية عن منافسيها، وأعلى درجات الأهمية الاستراتيجية يتمثل في المضايق المحيطية التي تقع على الطرق التجارية الهامة مثل : مضيق جبل طارق، والذي يربط بين المحيط الأطلنطي والبحر المتوسط ومضيقي الدردنيل والبسفور في تركيا اللذين يربطان البحر الأسود والبحر المتوسط عن طريق بحر مرمرة، والمضيقان الأخيران هما المنفذ الوحيد لروسيا وأوكرانيا إلى البحار  المفتوحة، مما أعطى لهما أهمية استراتيجية حيوية خاصة كما يتضح من الشكل ( 5 – 7 ).
والقنوات الملاحية التي تشق في اليابس لتسهيل ربط البحار والمحيطات المختلفة لها أهمية استراتيجية خاصة مثل : قناة السويس التي تربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر، والتي توفر أيضا طريقا قصيرا للربط بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهندي.
فقبل حفر هذه القناة كان المرور عبر رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا هو الطريق الوحيد رغم طول المسافة المقطوعة. وتمثل قناة بنما مثالا لاختصار الوقت والمسافة. فهي توفر طريقا مباشرا بين شمال الأطلنطي وشمال المحيط الهادي، وهي توفر أيضا طرقا أرخص للنقل بين سواحل المحيط الأطلنطي وسواحل المحيط الهادي للولايات المتحدة، فقبل حفر القناة كانت وسيلة الربط بين تلك السواحل هو الطريق الطويل الذي يمر حول أمريكا الجنوبية. أما في أيام النقل البري الواسع النطاق، فإن الأهمية الاستراتيجية كانت للممرات الجبلية الضيقة. الأمر الذي جعل سويسرا ذات أهمية استراتيجية في أوروبا.
والأهمية الاستراتيجية لأي موقع ما لا يمكن أن تبقى كما هي، ولكنها تتغير تبعا لتغيير موازين القوى والتقدم التكنولوجي في العالم، فقد زادت قيمة قناة السويس باكتشاف البترول في الخليج ورفع مستوى معيشة شعوب الخليج العربي، مما سهل وساعد على تدفق ناقلات البترول والحاويات بين أوروبا ودول هذه المنطقة، إضافة إلى الهند وإيران. كما تدهورت قيمة جزر فولكلاند بعد حفر قناة بنما، ففي القرن الثامن عشر احتلت بريطانيا جزر فولكلاند في جنوب الأطلنطي إلى الشرق من الأرجنتين، حيث كانت هذه الجزر تتحكم في الطرق الملاحية المؤدية للطرف الجنوبي لأمريكا الجنوبية. ولكن حفر قناة بنما أدى إلى تقليل الأهمية الاستراتيجية لتلك الجزر. وعلى النقيض تذبذبت أهمية جزيرة أيسلندا في الأطلس الشمالي، فنظرا لأن عبور الأطلنطي كان بالسفن وأن البحار المحيطة بتلك الجزيرة كانت خطيرة ولا يمكن اجتيازها وأيضا نظرا لتطرف موقعها وبعده عن الطرق الملاحية العابرة، فإن قيمة هذه الجزر تلاشت ولكن تجددت أهميتها عندما استفادت من موقعها كمحطة وقود للطائرات العابرة للأطلسي والتي تربط بين مدن أمريكا الشمالية وغرب أوروبا ولكن تدهورت قيمة موقعها مرة أخرى مع اختراع الطائرة النفاثة والتي تستطيع عبور الأطلنطي دون الحاجة إلى التوقف للتموين، فزالت تلك الأهمية الاستراتيجية لأيسلندا حيث أصبح عدد قليل من الطائرات تقف في مطاراتها.
والمحيط المتجمد الشمالي، والذي ظل نائيا ويصعب الوصول إليه وأصبح يعج بالخطوط الجوية التجارية، ويمثل خط الدفاع الأول الأمريكي بعد أن كان هذا الخط في السابق متمركزا في غرب أوروبا وفي جزر الكاريبي. فتلاحظ أن محطات الإنذار المبكر تركزت في شمال كندا وجرينلاند. وزادت قيمة الأراضي القطبية الكندية بعد اكتشاف واستخراج البترول منها.

الجغرافية السياسية والقيمة المتغيرة للموقع
من المناسب عند التحدث عن الموقع أن نضيف ملحوظة أخيرة وإعطاء نصيحة لدارس الجغرافية السياسية : (فعلى الرغم أن موقع مكان ما على سطح الأرض ثابت، فإن القيمة السياسية لهذا الموقع تتغير بصورة مستمرة. لأن التفاعل ما بين الثبات والتغير هو الذي يشكل القاعدة الأولى في الجغرافية السياسية : ومعظمنا سوف يهتم بدراسة الثبات الظاهري للموقع دون أن يعيروا اهتماما لتغيره مع الزمن).


       على ذلك من مهمة الجغرافي السياسي الاهتمام بهذا التكامل الذي يحدث بين الزمن والمساحة وأن يأخذ في الاعتبار المفاهيم التي تتغير مع الزمن خلال دراسته للمكان حيث إن هناك بعض مفاهيم أو وجهات نظر في الجغرافية السياسية تكون مثيرة للضجة، ولكن ذلك لا يدوم طويلا في حين أن بعض المفاهيم الأخرى ظلت واستمرت ذات فاعلية لفترة زمنية طويلة. المهم أن كلا النوعين ذو أهمية ولا يجب الخلط بينهما. حيث يقع المواطن العادي على حد سواء مع رجال الدولة في الخلط في بعض أمور أهمية الموقع الجغرافي. وذلك بسبب عدم القدرة على التفريق بين مفاهيم الجغرافية السياسية.
لذا فيجب على دارس الجغرافية السياسية أن يغير وجهة نظره دائماً عن قيمة المواقع على ضوء المتغيرات التي تحدثها بعض الأمور مثل :
·        التقدم في تكنولوجيا النقل والمواصلات، وما ينتج عنه من قطع مسافات كبيرة في وقت قصير بين الأقاليم والأماكن المختلفة.
·        النمط العالمي المتغير في توزيع مراكز القوى السياسية الحديثة وما تحدثه هذه القوى العظمى من تغيرات.
·        إدراك صانعي القرار لأهمية بعض المواقع النسبية الخاصة بمصالح دولهم خلال فترة معينة من الزمن.  
2- المساحة :
تعد دراسة المساحة من العناصر الرئيسية في الجغرافية السياسية للدولة. فمن الناحية النظرية كلما كبرت مساحة الدولة، وكلما استوعبت عددا أكبر من السكان وكلما تنوعت مراردها الطبيعية، وعدد السكان والموارد الطبيعية يعتبرا أهم عنصرين في التطور السياسي والاقتصادي لأي دولة.
فإذا قمنا بمقارنة بين أكبر الدول وأصغرها في العالم المعاصر، فإن القوة (سواء سياسية أو اقتصادية أو حربية) تكون مصاحبة للدول كبيرة الحجم في حين أن الدول صغيرة الحجم يستحال وصولها إلى مصاف الدول العظمى. وأن الدول قزمية المساحة دائما تكون تابعة لدولة كبرى. فإمارة موناكو قامت تحت الحماية الفرنسية عام 1861. وتعيش سان مارينو في كنف إيطاليا منذ عام 1862 وعقدت اتحادا جمركيا واتفاقية صداقة وتعاونا كاملا مع إيطاليا. وإمارة ليختنشتين تتبع سويسرا باتفاق جمركي بل ويتم تمثيلها دبلوماسيا عن طريق سويسرا. وتتبع إمارة أندورا فرنسا ويعين أميرها بموافقة الرئيس الفرنسي.
والعلاقة الإيجابية بين كبر الحجم والريادة السياسية والاقتصادية في العالم لم تظهر إلا في العصر الحديث، ففي العالم القديم، فإن معظم الدول الهامة كانت دولا صغيرة الحجم حيث كان سكانها أكثر تجانسا وتماسكا ويمثلون هيكلا واحدا ديناميكيا يمكنه التحرك بسرعة نحو تحقيق القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وكانت الدول كبيرة الحجم تعتبر (عيبا)، وذلك في فترة ما قبل ثورة وسائل النقل والاتصال السريع. وكان من الصعب بمكان إدارة دولة كبيرة الحجم مترامية الأطراف. وهذا ما يتكرر حاليا في كثير من الدول النامية التي تعاني من تخلف وسائل مواصلاتها. فمن الصعب عليها إدارة شئون الدولة وتقليل زمن السفر بين أرجائها، وخاصة الأطراف النائية منها.
والنموذج الفرنسي يثبت أهمية المساحة ودورها في تشكيل الجغرافية السياسية الداخلية للدولة، وخاصة فيما يتعلق بالتقسيمات الإدارية الداخلية. فبعد الثورة الفرنسية تم إلغاء الإقطاعيات التاريخية واستبدالها بتقسيمات إدارية منطقية. وتم التقسيم على أساس أن تكون مساحة المقاطعة الإدارية يسمح بأن يصل كل مواطن إلى عاصمة المقاطعة ويعود إلى بيته في نفس اليوم. ولكن بعد تطوير نظم الاتصال والنقل السريع، وأصبح هذا التقسيم الإداري لا قيمة له. وبعد الحرب العالمية الثانية أعيد تقسيم البلاد إلى وحدات إدارية أكبر لتتمشى مع التطورات والظروف الحديثة، ولكن قبل أن يتم ذلك عاد الأفراد إلى استخدام النظام التقليدي القديم.
وهناك علاقة إيجابية بين مساحة الدولة والموارد، فالعلاقة إيجابية بين المساحة وتقليل مصاريف الإدارة العامة. فالدول الكبيرة عادة ما تصرف أقل على خدماتها نظراً للقاعدة المتنوعة من الموارد، مما يجعلها أقرب إلى الاكتفاء الذاتي وتقليل الاعتماد على الخارج، وترتبط أنواع معينة من الصناعات بمساحة الدولة. فالصناعات الثقيلة تكاد تقتصر على الدول كبيرة الحجم التي تمتلك قاعدة صناعية متكاملة. فهذه الدول ينتشر بها مصانع الأسلحة والسيارات والطائرات والقطارات والمحركات ومعدات النقل الثقيل سواء كانت ميكانيكية أو كهربائية في حين أن الدول الصغيرة لا تمتلك أي من تلك الصناعات.
وبالنظر إلى قيمة أثر المساحة في تحقيق الأمن والطفاع، يلاحظ أنه كلما كبرت المساحة كلما زادت فرصة الدولة في الثبات ومواجهة الغزو الخارجي. فقد استغل الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية فكرة المساحة مقابل الوقت وانتصر في النهاية بعد أن تقهقر آلاف الأميال المربعة. ثم أعاد ميزان دفاعه بعد ذلك، وسرعان ما قامت قواته بهجوم مضاد مباغت واستطاعت أن تدمر قوى العدوان.
والدول كبيرة الحجم تمتلك مساحات بعيدة في العمق تكون بمنأى عن عيون الأعداء وتكون في أمان نسبي من الهجمات الجوية، وتصبح محطات الإنذار المبكر للهجمات الجوية فعالة، وعلى النقيض قد تكون المساحة الكبيرة لدولة أحد السلبيات إذا ما كانت هذه المساحة غير مرتبطة بقوة بشبكة جيدة من وسائل النقل. أو يكون عدد سكانها صغير. وتكون مساحات كبيرة من الدولة خالية – أو تكاد تخلو من السكان – في بعض الأجزاء يجعل هذه المناطق النائية الخالية ثقوبا واضحة يسهل اختراقها عسكريا أو تكون نقطة ضعف وتستغل في تهريب الأسلحة والمخدرات والأفكار الهدامة إلى الدولة.
وتلعب المساحة الكبيرة دورا هاما في قة الدولة، وهي تعني عمقا استراتيجيا لها وقت الحرب. فإذا ما تعرضت دولة كبيرة المساحة لعدوان، فمن الممكن تهجير السكان وتفريغ بعض المنشآت الصناعية الحيوية ونقلها إلى داخل الدولة بعيدة عن مرمى الطيران. أما الدولة صغيرة المساحة قد تكون لقمة سائغة سرعان ما تنهار ويسهل الاستيلاء عليها وإحكام السيطرة على عاصمتها في وقت قصير. 
أما فيما يتعلق بالأمن الداخلي فإن المساحة الكبيرة تكن عائقا أمام تكامل التجانس البشري داخل الدولة. فقد تؤدي إلى عزلة، وبعد المناطق إلى تعضيد شعور انتماء سكان هذه المناطق أو القبائل إلى شيخ القبيلة أو زعيم منهم أكثر من انتمائها إلى الحكومة المركزية، مما قد يساعد على ظهور حركات انفصالية عن الحكومة المركزية فكلما بعدت المسافة عن العاصمة، كلما قل شعور الأفراد بالانتماء القومي.
وعند تقييم عامل المساحة من وجهة النظر العسكرية والأمنية، فإن استخدام الصواريخ بعيدة المدى والطائرات الحديثة والأسلحة النووية. كلها أمور هدمت مفاهيم الأمن والسلام في كل العالم. ففي الدول صغيرة الحجم لن يكون هناك أي مكان آمن أو ملجأ من الخطر حتى في الدول كبيرة المساحة، فإن مميزاتها الساحلية مثل : العمق الاستراتيجي والبعد أصبحت غير ذات معنى، فمع النتائج الوخيمة والمرعبة للحروب النووية انتهت تماما ميزة المساحة الكبيرة للدولة. وتتساوى في قدر الدمار الذي يمكن أن يحدث إذا ما قامت الحرب.
وفي الوقت الحالي، فإن عدد دول العالم يبلغ 201 دولة تتباين بصورة كبيرة في مساحتها. ففي الوقت الذي تبلغ فيه دولة الفاتيكان مساحة لا تزيد عن 0.4 كم مربع (أو 44 هكتاراً) فإن روسيا الاتحادية تبلغ مساحتها 17.1 مليون كم مربع. وقد توصل باوندز إلى حساب متوسط مساحة الدول في العالم وقدره بمليون كيلو متر مربع. أي ما يعادل حجم دولة مثل : كولومبيا أو بوليفيا أو مصر، وقد صنفت دول العالم إلى ثمانية مستويات استنادا إلى متوسط مساحتها، كما يتضح من دراسة الجدول التالي :

التصنيف
المساحة (كيلو متر مربع)
العدد
دول عملاقة المساحة
دول متناهية الكبر
دول كبيرة جدا
دول كبيرة المساحة
دول متوسطة المساحة
دول صغيرة
دول صغيرة جدا
دول متناهية الصغر
أكبر من 6 مليون
2.5 – 6 مليون
1.25 – 2.5 مليون
650 ألف – 1.25 مليون
250 – 650 ألف
125 – 250 ألف
25 – 125 ألف
أقل من 25 ألف
6
3
11
15
29
21
35
25
وفي مقال نشره ثلاثة من الجغرافيين الإنجليز في عام 1965 وهم (هاجت وشورلي واستودارت) استنبطوا فيه مقياسا جديدا للمساحة، وهو مقيا للقيم المساحية أطلقوا عليه اسم مقياس الدرجة، وهو يعبر عن نسبة لوغاريتمية لمساحة أي دولة أو منطقة ما إلى مساحة سطح الأرض وقيم هذا المقياس يمكن الحصول عليها من المعادلة التالية :
GX = Log Ga/Rx
حيث إن مساحة الأرض = Ga
         مساحة دولة ما = Rx
ونتائج هذه المعادلة طبقت على بعض الدول ووضعت في الجدول التالي :
الدولة
المساحة بالكيلومترات المربعة Rx
لوغاريتم المساحة
Log, Rx
مقياس الدرجة
Log Ga/Rx
روسيا
كندا
الصين
الولايات المتحدة
البرازيل
استراليا
الهند
البحرين
بربادوس
المالديف
سان مارينو
نارو
موناكو
22402000
9976000
9561000
9363000
8511965
7868810
3268090
598
430
298
61
21
1.5
7.35029
6.99896
6.98051
6.87142
6.92948
6.88576
6.51429
2.77670
2.66347
2.47422
1.78533
1.32222
0.17609
1.35736
1.70869
1.72714
1.73623
1.77817
1.82198
2.18236
5.93095
6.07418
6.23343
6.92232
7.38543
8.53056

والقيمة الفعلية لمقياس الدرجة G. Scale قيمة محدودة جدا. ومبنية على أساس نسبة بين المساحة الجغرافية للدولة ومساحة الأرض. وكأن المساحة وحدها هي التي تعطي دليلا أو مؤشرا لمنظور القوة في الوحدات السياسية المستقلة. وكما عرفنا من قبل أن المدى المساحي وحده يعني القليل في هذا الأمر، وأن الذي يجب أن يعتد به هو الموارد سواء أكانت بشرية أو اقتصادية. وعلى ذلك فإن قيمة هذه الموارد يجب أن تحسب وتضاف إلى قيم هذا المقياس لكي يكون له استخدام فعلي وعملي. بالإضافة إلى أن هذا المقياس قد يكون فعالاً إذا أعطى النسبة بين المساحة الفعلية والمساحة المثالية. فليس من الضروري أن تكون الدول كبيرة المساحة دولاً عظمى. فقد تكون مساحات كبيرة منها لا قيمة اقتصادية لها "حالياً" فقد تكون بها مساحات من الصحارى الجافة مثل : استراليا والسودان أو جليدية مثل : كندا وروسيا أو تكون مغطاة بالغابات مثل : البرازيل والكونغو. من هنا فإن قيمة المساحة بمفردها لا قيمة لها.
3- الشكل :
في حين يتساءل البعض حول الدلالة السياسية للمساحة الجغرافية للدولة، فالبعض الآخر يشك في أهمية دراسة الشكل في الجغرافية السياسية، وفي حين كتب باوندز أن "الشكل الهندسي للدولة يمثل مشكلة أقل حدة بدرجة واحدة من تلك التي تنشأ عن الامتداد الجغرافي لها" وقد أعرب كثير من الدارسين أن الشكل في معظم الأحيان خاصية عشوائية ليس لها دلالة حقيقية. وعلى الرغم من ذلك فإنه "من العدل أن نذكر أن الشكل وحده لا دلالة له، ولكن مع اقترانه بعوامل أخرى يشكل (عنصرا هاما) في الجغرافية السياسية للدولة".
ولشكل الدولة دلالته وأهميته عند كل من الدفاع والإدارة الداخلية. فالشكل المحكم يؤدي إلى تقليل الوقت والمسافة بين قلب الدولة وأطرافها. وعلى ذلك فهو يحفز الوحدة والتماسك. والشكل المحكم المثالي هو الدائرة، فكلما اقترب شكل الدولة من شكل (الدائرة مع ثبات باقي العوامل) كان من السهل الربط بين المركز والأطراف ليمثلا وحدة وظيفية متماسكة. أما فيما يخص التماسك السياسي الداخلي في الدول دائرية الشكل. ومع وجود العاصمة في الوسط، فإن ذلك يحقق مميزات عديدة، ففي مثل هذه الحالة فإن المسافة بين العاصمة (المركز) وبقية الأطراف في الدولة دائما عند حدها الأدنى. ومن وجهة نظر الدفاع، فإن الشكل الدائري يحقق ميزتين : أقصر الحدود للدولة – حتى وإن كان حجمها كبيرا – فيكون لها عمق أكبر في استراتيجيات التقهقر أثناء الحرب.
وعلى النقيض من الشكل الدائري، فإن الشكل المطول للدولة يزيد من طول الحدود، بالإضافة إلى الصعوبات التي تواجه التنقل والاتصال بين أجزاء الدولة. على ذلك، فإن الشكل الطويل والضيق يمثل عائقاً (عيباً) للدفاع وللإدارة الداخلية. ولعل أصدق مثالين لذلك هما تشيلي والنرويج. فكلاهما لا يمتلك خطوط السكك الحديدية التي تغطي هذا الامتداد، المساحي مما يضطرها إلى الاعتماد على الملاحة الساحلية الكثيفة، وكان ينظر إلى كل من فرنسا وتشيكوسلوفاكيا على أنهما أمثلة للدول شبه الدائرية والمطولة على التوالي. ولما يحويه كل شكل من مميزات وعيوب فالاستقرار السياسي لفرنسا. كان يعزي دائما إلى شكلها الخماسي المحكم، في حين أن التوتر والتقلبات السياسية في تشيكوسلوفاكيا كان سببه الشكل المطول لها. وقد انتهى المطاف إلى تقسيمها إلى دولتين هما : التشيك والسلوفاك.
"وإدعاء أن الشكل الدائري هو الشكل المثالي للدولة، وهو مجرد استنتاج نظري ليس له أي تأكيد في الواقع العملي. والشيء الوحيد الذي له معنى في هذا الموضوع هو مدى تمشي شكل الدولة مع الخصائص والعوامل الطبيعية والبشرية لها. فالنرويج وتشيلي منسجمتان بصورة كبيرة مع الطبيعة الجغرافية للمنطقة. ففي حين أن النرويج تمتد إلى إقليم جبلي في الجنوب الشرقي لتشمل كل المناطق المتحدثة بالنرويجية. فإن تشيكوسلوفاكيا لم تستطع الحصول على مثل تلك الوحدة في أراضيها. فملامحها وخصائصها الفيزيوجغرافية لم تكن في أي وقت من الأوقات منسجمة مع اللغات والدول في المنطقة، ولهذا السبب فقط كان شكلها المطول أحد بواعث الاضطرابات والانقسام".
والشكل الدائري المحكم ليس بالضرورة يضمن المثالية والتماسك للدولة. فرومانيا وهي قريبة من الشكل الدائري شهدت العديد من مشكلات الأقليات في حين أن الدانمارك ونيوزيلندا ذات الشكل المطول نسبيا حافظت على ثباتها وتماسكها بصورة كبيرة.

بإيجاز :
يمكن القول بأن الشكل الدائري يعد الشكل المثالي للدول. وعلى النقيض فإن الأشكال المطولة تعد أحد المثالب التي تعاني منها بعض الدول، ولكن ليس هناك تأثير حتمي لتلك الأشكال. فالمثالية ليست مرتبطة كليا بالدائرة أو الشكل النموذجي للدولة. لأن هناك عوامل أخرى طبيعية وبشرية تتدخل في إضافة صفة النموذجية والمثالية.

تصنيفات أشكال الدول :
تبعا لشكل المساحة الجغرافية يمكن إدراج الدول تحت فئات متعددة على أساس التقسيم التالي، وكما يوضحه شكل رقم (2 – 5) إلى :
‌أ-     الشكل المطول، ويمثل الدول التي يتعدى طولها ستة أضعاف عرضها. ومن أكثر الأمثلة تعبيرا عن ذلك هي تشيلي(امتدادها 41560 كيلومتراً من الشمال إلى الجنوب، وعرضها 160 كيلومتراً)، وأمثلة أخرى مثل : السويد، النرويج، توجو، جامبيا، إيطاليا، مالاوي، بنما.
‌ب-            الشكل المحكم، وهو الشكل الذي يكون فيه المركز الجغرافي للدولة على مسافة منتظمة من الأطراف في جميع الاتجاهات مثال ذلك : فرنسا، أورجواي، بلجيكا، بولندا، أفغانستان.
‌ج-  الشكل ذو الامتداد، بعض الدول فضلا عن كونها محكمة ولها امتداد على شكل امتداد ضيق من أراضيها ليصل إلى منطقة استراتيجية مثال ذلك : زائير، ناميبيا، بورما، تايلاند. وفي معظم الحالات تكون لهذه الامتدادات أغراض استراتيجية، ومن تلك ما يطلق عليه قطاع كابريفي والذي يمتد على شكل قطاع ضيق من الركن الشمالي الشرقي لناميبيا غرب أفريقيا حين كانت مستعمرة ألمانية إلى نهر الزامبيزي ليقابل التوسع البرتغالي من موزمبيق إلى أنجولا في الساحل الغربي حتى يصل إلى النهر : وكذلك القطاع الساحلي الضيق في منطقة تناسريم غرب تايلاند، وهو امتداد لبورما "الإنجليزية" ليصل بريطانيا بالملايو.
‌د-    الشكل المجزأ، وهي الدول المكونة من جزئين جغرافيين أو أكثر، وهو شكل له عيوب كثيرة تواجه التماسك الداخلي للبلاد وتعيق إجراءات الدفاع عنها، ويوجد نوعان من هذا التصنيف الأول على شكل أرخبيل جزر مثل : الفلبين واليابان وأندونيسيا والثاني ويضم جزءا قاريا مثل باكستان وسلطنة عمان. والآخر يمثل جزءا قاريا وجزءا بحريا مثل ماليزيا واليونان.
‌ه- الشكل المثقب، ويضم الدول التي تضم بين أراضيها دولة أو أكثر تحتويها تماما حيث أنها تحيط بحدودها من جميع النواحي. ويضم هذا النمط من الأشكال دولا مثل إيطاليا، والتي تضم بين أراضيها دولا قزمية مثل : سان مارينو والفاتيكان. وفي جنوب أفريقيا فهي مثال شهير لهذا النمط من الأشكال المثقبة حيث تضم بين أراضيها دولتين ليسوتو (2 مليون نسمة) ودولة سوازيلاند (1.5 مليون نسمة)، وهذه الدول الثاقبة في الدولة الأكبر تكون تابعة كلية لها وهذا ما نجده في جنوب أفريقيا وإيطاليا اللتين تتحكمان كلية في كافة أمور هذه الدول الصغيرة، والتي لا تعد سوى جيوبا داخلية في أراضيها.
الأشكال المتطرفة : يحدث التطرف في شكل الدولة إذا كان للدولة امتداد جغرافي خارج حدودها متمثلا في صورة جيب. وظاهرة الجيوب تنقسم إلى قسمين الأول، وهو الجيب الخارجي، وهذا يعني وجود أراضي من الدولة تقع كلية في دولة مجاورة. والدولة التي توجد بها أراضي جيب ليست لها سلطة عليه هذه الأراضي تكون بمثابة جيب داخلي. وأشهر هذه الجيوب المتنازع عليها إقليم تاجورنو كارباخ في آذربيجان وتطالب به أرمينيا. أما الجيوب الشهيرة الأخرى فأهمها جيب لليفيا بالقرب من الحدود الأسبانية في فرنسا. وهناك أكثر من 92 جيبا لبنجلاديش في أراضي الهند. و21 جيبا في بنجلاديش بالقرب من الحدود الهنديو البنجالية. هذه الجيوب بقايا نظم تاريخية ودينية وسياسية قديمة أو كنتيجة لاتفاقات عسكرية عند ترسيم الحدود.

وهناك ثلاثة أنواع أخرى من أشكال التطرف في شكل الدولة وهي :
‌أ-     البروز أو النتوء الأرضي.
‌ب-             رأس الكوبري "الجسر".
‌ج-   الأخدود.
والبروز أو النتوء الأرضي، هو امتداد شريط ضيق من الأراضي يمتد من الدولة ليفصل بين أراضي دولتين متجاورتين عن بعضهما البعض أو ليفصل أراضي دولة عند الوصول إلى البحر. وأفضل الأمثلة على ذلك الامتداد الشرقي، وقي صنع بهذه الصورة ليفصل بين باكستان "الإمبراطورية البريطانية"، والاتحاد السوفيتي لمينع الصدام بين هاتين القوتين العظمتين السابقتين. ومن الأمثلة الأخرى المشهورة، نتوء إصبع كابريفي في إقليم ناميبيا. والهدف منه هو الفصل بين أنجولا وبتسوانا والوصول إلى نهر الزمبيزي. وهناك عدة صور للنتوء مثل ذلك النطاق الممتد في الكاميرون حتى تصل إلى بحيرة تشاد. (انظر الشكل رقم 2 – 7).
أما رأس الكوبري "الجسر" هو امتداد نفوذ لدولة على أرض دولة يفصلهما نهر كحد دولي. وأشهرها رأس الجسر الهولندي عبر نهر الميز عند ماسترخت، ورأس الجسر التركي في الأراضي اليونانية على نهر المارتزا.
والأخدود السياسي : هو امتداد لأراضي دولة ما عبر خط تقسيم المياه في منطقة منخفضة، وأشهر الأمثلة على ذلك هو امتداد الأخدود النمساوي في إيطاليا جنوب مدينة تيرول حيث إن هذا الأخدود يمتد جنوب ممر بيرنز ويسكنه سكان يتحدثون الألمانية. وقد استولت إيطاليا عليه بعد الحرب العالمية الأولى. ولكن لم تستطع حل مشكلة السكان المتحدثين بالألمانية.


استخدام الأساليب الكمية في تحليل شكل الدولة :
 استحدث استخدام الأساليب الكمية في الجغرافية السياسية بعد الهجوم الكبير والنقد الذي وجه إلى هذا العلم الذي لا يساير التقدم في الجغرافية الحديثة في القرن العشرين. واستخدمت عدة أساليب منها قياس شكل الدولة وتحديده. ومن الأساليب المستخدمة في قياس وتحليل شكل الدولة زتحديده، ذلك الأسلوب الذي استحدث لحساب الانحراف عن الشكل المثالي للدولة، وهو "الدائرة". أبسط الأساليب هو قياس طول الحدود الحقيقي ةإيجاد نسبته إلى الحدود التي يمكن أن تحيط بالدولة كشكل دائرة "أي ترسم دائرة تكاد تمس غالبية حدود الدولة وإيجاد محيطها". فإذا كان دليل الشكل الدائري 100 أو قريب منه، فإن هذا يعني أن شكل الدولة دائري أو مثالي وأنها أكثر تماسكا وتجانسا ولهذا يطلق على هذا الدليل اسم دليل التجانس أو التماسك. وبحساب هذا الأسلوب على بعض الدول استنتج باوندز الجدول التالي :
دليل التماسك والتجانس "الشكل الدائري" لبعض الدول
الدولة
دليل التماسك أو التجانس
أورجواي
رومانيا
المجر
سويسرا
بلجيكا
المكسيك
تشيلي
105
137
146
164
167
258
310

وهناك طريقة أخرى سهلة لقياس دقة الشكل على نفس منوال طريقة باوندز قدمها كول عام 1964، (في هذه الطريقة يتم قسمة مساحة أي وحدة سياسية على أصغر دائرة يمكنها احتواء تلك المساحة، ثم يقسم ناتج القسمة بعد ذلك على 100). إن الدليل الذي يتم الحصول عليه من هذه الطريقة يقل كلما قل إحكام الشكل. فدليل الشكل عند كول قيمته 100 للدائرة، و83 للشكل السداسي، 64 للمربع، 43 للمثلث متساوي الأضلاع. وعلى ذلك نجد أن دليل فرنسا قيمته (57.5) وتشيلي (5) والهند (35). وهناك طريقة أخرى سهلة قدمها هاجت وشورلي عام 1969. وأطلق عليها اسم دليل الشكل وصاغا لها المعادلة التالية :
دليل الشكل = (A 1.27) / L2
حيث طول أطول محور = L
مساحة شكل ما بالكيلومتر المربع = A
حيث إن (A) هي مساحة شكل ما (أي : وحدة المساحة) بالكم المربع، و(L) تمثل طول أطول محور، وهذه الطريقة تعطي دليلا شكل قيمته واحد صحيح للدائرة، وتقل قيمة هذا الدليل كلما طال الشكل، وعلى ذلك فإن قيمة دليل الهند تساوي 0.4053، ولعل أفضل طريقة قدمت لحساب أحكام الشكل تلك التي قدمها بويس وكلارك عام 1964. وقد اقترحا "قياس المسافة من المركز إلى الأطراف الخارجية للشكل على أساس نصف أقطار متساوية، ثم حساب النسبة المئوية لكل مسافة نصف قطرية كنسبة من مجموع نصف الأقطار ثم طرح تلك النسبة المئوية من النسبة المئوية لكل نصف قطر. ولقد أوجد هذه معادلة لاحتساب دليل إحكام الشكل لأي مساحة تتراوح القيمة الناتجة منها ما بين صفر للدائرة، 12 للمربع، 175 للخط المستقيم، وهذه الطريقة تعطي دليلا للشكل قيمته 27.27 للهند و20.6 لسريلانكا.
إن أسهل طريقة لإيجاد مركز الجاذبية الجغرافية لمساحة دولة معينة عو قطه شكل الدولة من على قطعة كرتونية ذات سمك منتظم ومحاولة وزنها على قلم. فالمكان الذي تزيد عنده الورقة الكرتونية تكون هي نقطة مركز الجاذبية الجغرافي للشكل.


ثانياً : النظام الإداري الفعال
تسعى كل دولة لخلق منطقة لها درجة عالية من الوحدة الوظيفية أو درجة عالية من الاستواء في أمورها الاقتصادية والأمنية، وهي تسعى لخلق ذلك فوق كل المناطق الجغرافية الواقعة تحت سلطتها المباشرة، والأقاليم الإدارية سواء أكات محافظات أو إمارات أو بلديات لا تستطيع أن تقوم بدورها كاملا دون إدارة حكيمة من حكومة أو من نظام إداري حكيم، وكما أوضح هارتسهورن أنه "من وجهة النظر الجغرافية أن الهدف الأساسي للإدارة المركزية هو خلق وحدة متماسكة وإضفاء صفة التجانس على كافة أقاليم الدولة. لأن غياب السلطة الإدارية يخلق الشقاق والفرقة وعدم التجانس بين أرجائها". ومن المثالي أن تمارس الحكومة المركزية كل السلطات السياسية على كل المساحة الواقعة داخل حدود الدولة، وهذا هو الاختبار الحقيقي لمدى فاعلية الإدارة المركزية، وفي الحقيقة فإن القليل من الدول تمتلك مثل هذه المثالية. ففي معظم الدول – ما عدا الدول الصغيرة ذات التعداد متجانسة السكان – نجد أن هناك مناطق تحدث بها انشقاقات وانقسامات وضعف الولاء، وتحاول الحكومات المركزية احتوائها من خلال منحها امتيازات خاصة والإغداق عليها.
"وجدير بالذكر أن دراسة شكل الحكومة الإداري وهيكلها وفق سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ليس محور اهتمام الجغرافية السياسية". بل يمكن أن تتساءل عما : إذا كانت هناك حكومة مركزية لتمارس سلطتها على جزء معين من سطح الأرض، ويصاحب هذا التساؤل من الاعتبارات المتعلقة بعدة أمور مثل :

1- نوعية السلطة السياسية :
والسلطة السياسية تحتوي على منظورين، أولهما : يعكس مدى وجود دول مستقلة أو غير مستقلة، والثاني الأنواع المختلفة من صور الوحدات السياسية فوق خريطة العالم. سواء المستقلة أو الأنواع الأخرى لتلك الدول غير المستقلة ومنها المستعمرات والمحميات والمناطق الدولية ومناطق السيادة المشتركة، والدول التي تحت الوصاية.
المستعمرة : هي وحدة سياسية غير مستقلة تمتلك اقتصادا ضعيفا وتكنولوجيا متأخرة وتحكمها قوة عسكرية خارجية ذات اقتصاد أقوى وتكنولوجيا متقدمة. ويمارس الحكم والإدارة العسكريون المنتمون إلى الدولة الأجنبية الاستعمارية دون وجود تمثيل لسكان الدولة المستعمرة ويتمتع المستعمرون بامتيازات عادة لا تعطى للسكان الأصليين. ويكون النموذج السياسي لها مصمما لخدمة الدولة المستعمرة. أما هذه المستعمرة فيكون دورها هو توفير المواد الخام والبضائع للدولة الأم (الاستعمارية) وتقوم بدور السوق الذي يستهلك المنتجات الصناعية لها. أما الدول تحت الوصاية أو الانتداب أقامت عصبة الأمم نظام انتداب تقع تحته مستعمرات الدول التي انهزمت في الحرب العالمية الأولى لصالح الدول المنتصرة، على أن تقدم تقريرا دوريا عن إدارة المناطق الواقعة تحت الانتداب، حيث يصبح من حق عصبة الأمم أن تبحث في الأمر إذا كانت نتائج التقرير غير مرضية. وعندما حلت منظمة الأمم المتحدة محل عصبة الأمم عام 1945، فإن حق الرقابة على المناطق الواقعة تحت الانتداب تحول إلى مجلس الأمم المتحدة للدول تحت الوصاية، وتم إطلاق اسم مناطق تحت الوصاية على مناطق الانتداب، ماعدا جنوب أفريقيا التي رفضت النظام الجديد واستمر حكمها على أنها منطقة واقعة تحت الانتداب.
المناطق الدولية : هي مناطق استراتيجية تستحوذ على اهتمام عدة دول. فتعقد اتفاقات بينها على الإدارة المشتركة لتلك المناطق تحت رقابة لجنة دولية، ومثال ذلك المدينة الساحلية تانزير على الساحل الشمالي الأفريقي عند مضيق جيل طارق حيث استمر حكمها دوليا من عام 1925 حتى عام 1956، ثم أصبحت أرضا مغربية، وأيضا نجد مدينتي سار ودانزج في بولندا.
مناطق الحكم المشترك : هي منطقة تكون إدارتها من حق دولتين أو أكثر، فالسودان حتى عام 1955 كانت تحت الإدارة المشتركة لبريطانيا ومصر.
المناطق المحتلة : هي جزء من مساحة دولة ما تحتلها قوات خارجية لمدة محدودة بعد صراع وعداء بين دولتين مثل أراضي الجولان في سوريا، والتي تحتلها القوات العسكرية الإسرائيلية بعد حرب يونيو 1967.

2-  مدى قوة السلطة المحلية :
تمارس الدولة – نظرياً – سلطتها المطلقة على كل الأراضي التي تقع داخل حدودها. وفي الواقع فإن مدى قوة قبضة الحكومة المركزية تتباين بصورة كبيرة من مكان لآخر داخل حدود الدولة. وخاصة في الدول كبيرة الحجم حيث تتباين ظروفها الطبيعية والبشرية. وعلى ذلك فإن إحدى أهم وظائف الجغرافية السياسية هي دراسة تلك الظاهرة وتحليلها. والمنهج الوظيفي الذي قدمه ريتشارد هارتسهورن في خطابه لاتحاد الجغرافيين الأمريكيين عام 1950 تحت عنوان "المدخل الوظيفي للجغرافية السياسية" يؤكد فيه أنه يجب على الجغرافيين الاهتمام بوظيفة الدولة كنظام إداري. ومن هذا المنطلق عليهم أن يحددوا ويعرفوا ويحللوا قوتها وسلطتها ونفوذها على كل أراضيها القريبة والنائية، وبيان دورها في توحيد الدولة لتصبح كيان واحد. وتهتم أيضا بدراسة القوى التي تعمل ضد هذه الوحدة وإثارة الأقليات للنزعات الانفصالية.

3- شكل حكم الأقسام الإدارية :
وللحكم على وظيفة الدولة يجب أن نعرف نظامها الحكومي، لأن طبيعة الهيكل الحكومي له أثره البالغ في الفعالية الإدارية. وبشكل عام هناك نوعان من الحكومات. الحكومة المركزية والحكومة الفيدرالية. ولعل الفرق الواضح بين النوعين، هو في المواد الدستورية المتعلقة بتوزيع سلطات الحكومة، ففي حالة الحكومة المركزية نجد أن كل السلطة تقع في يد الحكومة المركزية. أما في حال الحكومات الفيدرالية، فإن المحليات تستمد صلاحيتها من الدستور مباشرة، ولها سلطات قوية في كافة الأمور باستثناء الأمور الخارجية أو المتعلقة بالدفاع، ولكل إقليم قوانين خاصة تتفق مع طبيعة المنطقة. 

4- مدى فعالية سلطة الحكومة المركزية :
وكما أوضح ويتلسي أن الأنشطة السياسية تترك بصمتها الواضحة على المظهر الجغرافي للدول بصورة مشابهة لما تفعله الأنشطة الاقتصادية. وعلى ذلك فإن دراسة طبيعة عمل الحكومة المركزية وتحليلها باعتبارها عامل تعديل في معالم الأرض هو أحد الموضوعات التي تهتم الجغرافية السياسية بدراستها. 

ثالثاً : السكان كعامل في الجغرافية السياسية
تهتم الدراسات الجغرافية بالإنسان. لذا غدت دراسة السكان قاسما مشتركا لدراسة أية قضية في كافة فروع الجغرافية عامة والبشرية بصفة خاصة. وزاد الاهتمام بالدراسات السكانية في الجغرافية حت أصبحت أحد الفروع المستقلة عن الجغرافية البشرية منذ خمسينيات القرن العشرين. وما يهمنا في مجال دراسة الجغرافية السياسية هو إيضاح الموضوعات التي تؤثر جليا في الظاهرة السياسية ومنها : حجم السكان وتوزيعهم والتركيب العمري والنوعي ، والخصائص الديموجرافية ، والهجرة.
ونمو السكان هو أحد العوامل الرئيسية المؤثرة في تاريخ البشرية السياسي والاقتصادي. وقد زاد عدد سكان العالم الحديث بصورة كبيرة نظرا للتطور الهائل في مستويات المعيشة ومكافحة الأمراض ، مما أدى إلى تقليل معدلات الوفيات ، والذي تبعه ارتفاع معدلات النمو السكاني بصورة انفجارية تجسدت في القرن العشرين.
وقد بلغ جملة عدد سكان العالم 465 مليون نسمة عام 1650 وارتفع ليصل إلى 1098 مليون نسمة عام 1850 ، ثم قارب 3500 مليون نسمة عام 1970. وبلغ 6 مليار نسمة في نوفمبر عام 1999 . ولم يقتصر الأمر على الزيادة فقط ، ولكن يتغير توزيع السكان فوق سطح الكرة الأرضية بصورة كبيرة ، فمناطق مثل : الأمريكتان واستراليا كانتا غير آهلة بالسكان في الماضي القريب ، ولكنها الآن تحتوي على أقوى الدول في العالم اقتصادية أو سياسية.

1- حجم السكان :
تتباين دول العالم من حيث حجم سكانها ، فعلى قمة هرم الحجم السكاني في العالم وفقا لبيانات 1999 تجد دولة الصين التي يزيد عدد سكانها عن مليار وربع المليار (1242 مليون) نسمة ، تليها الهند التي اقترب عدد سكانها من المليار (988 مليون) نسمة ، ثم تأتي بعدها الولايات المتحدة الأمريكية (270 مليون) نسمة ، وتليها أندونيسيا (207 مليون) نسمة وروسيا الاتحادية (148 مليون) نسمة.
وعلى الجانب المقابل ، فإن أصغر دول العالم حجما هي نارو بالمحيط الهادي (7000 نسمة) ، وأندورا وسان مارينو (27 ألف نسمة لكل منهما) وموناكو (28 ألف نسمة) وليخنشتين (30 ألف نسمة) ، وهناك مجموعة أخرى من الدول التي يصل عدد سكانها إلى 100 ألف نسمة مثل الدول الجزرية التالية انتيجوا ، ودومينكا ، وجرانادا ، وسانتالوتشيا ، وسانتافينستا في البحر الكاريبي. وجزر مارشال وميكرونيزيا في الأوقيانوسيا.
ويعد حجم السكان ذا دلالة هامة في التوجهات السياسية للدولة. وخاصة إذا ما ربط هذا الحجم بالموارد الاقتصادية بالدولة. أو إذا ما قيس بمستواه التكنولوجي في عالم يسوده الاستقرار وأصبحت حدود كل دول العالم ثابتة ومعترف بها دوليا.
وكان الحجم السكاني في الفترة الاستعمارية وفترة تكون الإمبراطوريات أحد العوامل المؤثرة في نشر السيادة الأوروبية على بعض المستعمرات فيما وراء البحار. فإذا ما أخذنا فرنسا كمثال فقد كانت أكبر دول القارة في عدد السكان. وكان لعدد سكان فرنسا ، والذي قدر بحوالي 25 مليون نسمة إبان الثورة الفرنسية ، وبالإضافة إلى أفكار نابليون كان لهما دورا في شحذ همم الجنود الفرنسيين لبناء إمبراطورية منافسة لبريطانيا. في نفس الوقت كان عدد سكان روسيا 19 مليون نسمة وعدد سكان بريطانيا 11 مليون نسمة فقط (وذلك عام 1801).
وتغيرت هذه الصورة في منتصف القرن التاسع عشر. فقد تناقص معدل نمو سكان فرنسا بصورة اضحة حتى أصبح أقل معدلات النمو بقارة أوروبا. وزاد عدد سكان ألمانيا ليتخطى العدد في فرنسا عام 1870. وبالمثل تخطى عدد سكان بريطانيا نظيره الفرنسي في نهاية القرن. ولعل ذلك قد يساعد في تفسير تزايد القوة الألمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحلت محل فرنسا بعد حرب عام 1871 لتتغير موازين القوى في أوروبا.
ومع ذلك فإن تفسير أسرار قوة الجيش الألماني لم يكنكافيا في كثرة عدده فقط ، بل إلى الروح القتالية العالية التي اتسم بها. وقد كان التفوق العددي إحدى السمات الواضحة لألمانيا في صراعها مع فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى. أما الحروب الحديثة – ومنذ الحرب العالمية الثانية ، فلم تعد تحسم بالأعداد السكانية مع تقدم تكنولوجيا الحرب المعقدة واستخدام أسلحة أشد فتكا وتوجه من بعد نحو أهدافها فأصبحت الغلبة للتكنولوجيا العسكرية. وأصبحت قيمة عدد الجند محدودة إلا في حالات خاصة. ويكون الغرض منه تحرير منطقة أو الفصل بين فصائل متحاربة. ومن التجارب التي تؤكد ذلك في العصر الحديث حرب الخليج "عاصفة الصحراء" لتحرير الكويت من الغزو العراقي ، ففي فبراير 1991 وبعد قصف جوي وصواريخ مكثف أنهكت القوى العسكرية العراقية. مما سمح لقوات الحلفاء بتحرير الكويت.
ونفس الصورة تكررت في أبريل عام 1999. فلم يحسم قصف المواقع الاستراتيجية في صربيا – رغم تدميرها الشديد – الموقف ويتراجع ميلوزوفيتش – رئيس جمهورية الصرب – عن موقفه في طرد سكان غقليم كوسوفا. واستعان قادة حلف الناتو بالقوات البرية لتمكين المهاجرين من العودة إلى أراضيهم.

2- كثافة السكان وتوزيعهم :
وتعد أكثر تأثيرا في قوة الدولة سياسيا واقتصاديا من تأثير الحجم السكاني. وكثافة السكان كما نعلم نحصل عليها بقسمة عدد السكان على مساحة الدولة. وهي مقياس لضغط السكان فوق رقعة الأرض. ومن ثم فإنها توضح لنا معاني سياسية قيمة. ففي العصور القديمة عندما كان العدد يعني القوة ، فإن التزاحم السكاني في دولة من الدول القوية كان حافزا لها على الحرب والتوسع لاكتساب أراضي جديدة مثال ذلك كل من ألمانيا واليابان.
وأرقام كثافة السكان لا تعني الكثير في حد ذاتها. فهي لا تخبرنا ما إذا كان توزيع السكان متعادلا. أو ما إذا كان يمثل ضغطا على بعض أجزاء الدولة. وكما هو الحال في مصر التي يتركز غالبية سكانها (95% منهم فوق مساحة محدودة لا تتجاوز 4% من جملة أراضيها) في الوادي والدلتا. في حين تظل مساحات شاسعة خالية أو تكاد تخلو من البشر. وفي بعض الدول نجد كثافة السكان مرتفعة فوق كافة الأرجاء. والبعض الآخر يتم توزيع السكان وكثافتهم بالتركز فوق أقاليم تفصلها أراضٍ قفر ، وتتسم بتنوع ثقافي وديني واضح "روسيا الاتحادية". ومن ثم فإن أكبر هذه القوميات فوق باقي القوميات المكونة للدولة من هنا كانت دراسة التوزيع السكاني – جغرافياً – أحد أهم العوامل في دراسة الجغرافية السياسية للدولة.   

3- خصائص السكان النوعية :
في حضارة اليوم المتقدمة فإن نوعية السكان أصبحت أحد العناصر المؤثرة في الجغرافية السياسية للدولة أكثر من حجم السكان وكثافتهم وتوزيعهم. ففي بلدان العالم النامي ، فإن الغالبية العظمى من السكان من الأميين الفقراء ويعانون من أمراض سوء التغذية ، مما يصبغ الإقليم بصبغة سياسية متخلفة ، وتصبح قضية البحث عن الغذاء وسد رمق الأطفال الجياع الشغل الشاغل لشعوبها.
أما في البلدان المتقدمة ، فإنها معظم سكانها من المتعلمين وذوي الثقافة العالية ، ومستويات التقدم التكنولوجي مرتفعة بها وغذائهم جيد ومستوى الخدمات بما فيها الصحية راق ومستوى معيشتهم مرتفع وينعم السكان بحياة هادئة خالية من المشكلات – إلى حد ما – مما يجعلهم يفكرون في القضايا السياسية والديمقراطية بصورة أفضل.
بإيجاز فإن التزايد والتكدس السكاني في بلدان العالم النامي وقلة موارد الغذاء وانخفاض مستوى الدخل وتدني مستويات المعيشة يقلل من إنتاجية العامل ، ويجعل كفاءة العمال محدودة. ومن ثم فإن الفقر يؤدي إلى الفقر. مما قد يجعل السكان لا يشعرون بالولاء لحكومتهم وسرعان ما تشتعل الفتن والثورات من أجل رغيف الخبز. وأصبحت القلاقل السياسية والانقلابات العسكرية سمة تميز معظم بلدان العالم الثالث من أجل التغيير والقضاء على فساد الإدارة طمعا في سلام اجتماعي حقيقي للسكان.


4- التنوع السلالي والثقافي للسكان :
تعد دراسة كل من اللغة والديانة والسلالة أو الجنسية من الأمور الهامة وذات القيمة في دراسة التركيب السكاني. فدراسة مجموعة لغوية تتحدث لغة تختلف عن بقية أجزاء الدولة أو مجموعة تدين بعقيدة تختلف عن الديانة الرسمية للدولة الرسمية (خاصة إذا كان هناك صراعات بين هذه المجموعات). أو بين السلالات مثل الأبيض والزنجي ، كما كان الحال عليه في الولايات الجنوبية الشرقية من الولايات المتحدة الأمريكية أو تزايد أعداد فئة عرقية أو دينية على حساب أخرى ، كما حدث في دولة مثل بلجيكا (الوالون والفلمنك). أو بين المسلمين والمسيحيين في لبنان. كلها أمور من الممكن أن تثير كثيرا من المشكلات التي تواجه التجانس والوحدة الوطنية للدولة. فقد كان السبب لرئيسية وراء تقسيم الهند وباكستان عام 1947 ذلك الصراع الديني بين كل من المسلمين والهندوس في ذلك الوقت.
وعلى ضوء دراسة التجانس السلالي والثقافي يمكن أن نلحظ ثلاثة أنماط من الدول :
‌أ-     دولة يتجانس ويتماثل كل سكانها في سمات واحدة دينيا ولغويا وثقافيا.
‌ب-             دول بها غالبية متماسكة من سكان ذوي سمات واحدة وأقليات مبعثرة فوق رقعة الدولة.
‌ج-   دول بها غالبية متماسكة من السكان ، ولكن هناك أقلية (لغوية أو دينية أو سلالية) تعيش في تجمعات متماسكة فوق رقعة من الدولة – مثال لذلك : سكان كوبيك في كندا والأكراد في تركيا والمسلمون في الهند.
وبصفة عامة ، فإنه من حسن الحظ أن معظم بلدان العالم تنتمي للنوع الأول والتي نادرا ما نجد بها مشكلات عرقية أو دينية أو ثقافية. وإذا وجدت به اختلافات فإنها تكون في صورة أقليات ذائبة في المجتمع مثل النوبيين في مصر والأقباط في الدول العربية. أما المشكلات فإنها يمكن أن تثار في النوع الثالث من الدول عن طريق الاتحاد الفيدرالي وإعطاء حكم ذاتي لهذه الأقوام غير المتجانسة مع الدولة. وعندما توضع الحدود الإدارية بوضوح مع الاختلافات العقائدية أو اللغوية ، فإن الوحدات السياسية تعيش بعيدة عن المشكلات والصراع والعكس صحيح.
وقد تتغلب بعض الشعوب على المشكلات القدرية التي خلقت وارتبطت بدولتهم. وخير مثال لذلك دولة سويسرا التي تنقسم إلى أربعة عناصر ، وهم الرومانيون في الشرق ، والإيطاليون جنوبا ، والفرنسيون في الغرب ، والألمان في الشمال. ومن هنا انتشرت بها عدة لغات وطوائف دينية. ولكن الشعب السويسري في كل مقاطعة لا يحاول أن يخلق من هذا التفاوت بذورا للمشكلات. ومن ثم فهو مثال لشعب تعايش مع الاختلاف ليصنع التجانس في روح من المحبة والتجانس ، ومن ثم الرفاهية.
وعلى النقيض نجد في مقاطعة كويبك في كندا التي يتمسك سكانها بلغتهم الفرنسية وعقيدتهم "الروم الكاثوليكية" التي تختلف عن لغة البلاد الإنجليزية وديانتهم "بروتستانتية" ومن هنا في الخط السياسي الذي يحدد هذه المقاطعة يميز شعباً يختلف كليا في خصائصه ومستواه الاجتماعي والاقتصادي "الأقل" قياسا بباقي الدولة.
وتتكون قبرص من قوميتين القبارصة الأتراك "مسلمون" في الشرق ، والقبارصة اليونانيون "مسيحيون" في الغرب. وقد بدأت حالة من الصراع بين المجموعتين بعد أن عاشا في سلام حتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين حتى أصبح العداء المستحكم سمة تنتشر في أرجاء الجزيرة التي تضع غصن الزيتون رمزا على رايتها.
وكانت يوجوسلافيا مثالا للدول القلاقل القومية حيث تتسم كباقي دول البلقان بالتنوع الأثنوجرافي. وتتكون من الصرب (أرثوذكس) والبوسنيين (مسلمون) ، والكروات "كاثوليك". ويصعب أن نجد مقاطعة لا يوجد بها هذا الخليط الذي أصبح أحد مقومات تفتت هذه الدولة. وكان آخر معاقل هذا التفتت ما كان سببا لحرب البلقان في أبريل 1999. حينما ضرب حلف الأطلنطي "الناتو" المدن الصربية بعد حملة التطهير العرقي التي أحدثتها صربيا "يوجوسلافيا" ضد مسلمي وألبان إقليم كوسوفو.


الأقليات :
لا تخلو دولة من وجود أقلية سكانية بها سواء أكانت لغوية أو سلالية أو دينية أو قومية. ولما كانت أسباب وجود هذه الأقليات متفاوتة بين الدول فإن خصائصها أيضا أصبحت متفاوتة. وتختلف علاقة الأقلية بالدولة التي تعيش فيها وفقا لما يلي :
* شكل وتوزيع الأقلية والتمسك بتراث وملامح ثقافية محددة : فتزداد خطورة مشكلاتهم إذا ما كانوا يعيشون في إليم واحد وازداد تماسكهم بمرور الزمن في وطنهم القديم. وفي هذه الحالة فهم يحتفظون بكافة سماتهم الثقافية والحضارية من لغة وديانة وعادات وتقاليد. ومن ثم أصبحت القومية تمثل نغما شاذا في نسق التناسق والتماسك في الدولة ، وخير مثال على ذلك القطالونيون في أسبانيا والفريزيان في هولندا ، وتزداد خطورة الموقف إذا ما أهملت الحكومات المركزية الاهتمام بتوزيع الخدمات والثروة وبرامج التنمية على أرجاء هذه الأقليات ، مما قد يولد الإحساس بالنفور من هذه الحكومات ويقل أو يتقدم الانتماء للدولة الأم. وتصبح هذه الأقليات مثيرة للقلاقل السياسة إذا ما كانت تقع في المناطق الهامشية أو بالقرب من الحدود وتدعمها قوى أجنبية من أجل تحقيق الانفصال عن الدولة الأم. تصل قمة المشكلات التي تثيرها الأقليات عندما يحمل شبابها السلاح ويشهرونه في وجه الجيش النظامي ، مما يسبب قلاقل لا تنتهي مع الحكومة المركزية ، وخير مثال على ذلك جيش تحرير كوسوفو وجيش تحرير نمور التناميل في سري لانكا وجيش تحرير الباسك في شمال أسبانيا.
* حجم سكان الأقلية وقوتها الاقتصادية : إذا زاد عدد سكان هذه الأقليات وأصبحت تمثل نسبة لا بأس بها من سكان الدولة من الممكن أن ترصد كل تصرفات الحكومة تجاههم وتجاه باقي سكان الدولة وقد تنادي هذه الأقليات ببعض الحقوق الخاصة إذا كانت تعيش في منطقة بها موارد هامة زراعية أو تعدينية. وقد تتعامل الدولة بهدوء مع هذه المشكلات المثارة أو قد تسكت هذه الأصوات التي تنادي ببعض المزايا بأسلوب القهر وهناك طرق أخرى عديدة تسلكها الحكومات المركزية تجاه الأقليات مثل عقد الاتفاقات والمعاهدات أو الاستفتاء وإقرار حق تقرير المصير والاستقلال الذاتي أو الانفصال الكامل.

5- الهجرة :
لن نتطرق هنا لدراسة متخصصة عن الهجرة وأسبابها وأنواعها ، وسوف نركز الدراسة هنا على دراسة الهجرة المؤثرة في الظاهرة السياسية مثل الهجرة الدولية ذات المغزى السياسي والتهجير الإجباري وخاصة اللاجئين لظروف سياسية.
الهجرة الدولية : يمكن القول بأن القرنين التاسع عشر والعشرين هما قرنا حركة الأوروبيين واستعمارهم للعالم وتأثيرهم في رسم خريطة العالم السياسية عن طريق الهجرة والتوطين ، أما في الوقت الحاضر ونحن نطوي أبواب القرن العشرين فإن هناك عددا قليلا من دول العالم التي تعوض نقص سكانها بتشجيع الهجرة إليها مثل : كندا والبرازيل واستراليا والولايات المتحدة الأمريكية. هذه الدول تدعم وتشجع المهاجرين ليستقروا بها ليصبحوا مواطنين ، ولكن من هم المهاجرون الذين تستقطبهم هذه الدول ؟ .. الإجابة ببساطة أنهم يختارون وينتقون وفقا لحاجة هذه الدول ومعظمهم من المتعلمين وذوي المهارات الفنية العالية أو ذوي الدخل المرتفع ، والذين يستطيعون الاعتماد على مواردهم المالية – وبالطبع فإن هذه الفئة من المهاجرين تحتاجهم دولهم بشدة – ومن ثم فإن نزوحهم يعد استنزافا لعقول هذه الدول ومعظمهم من بلدان العالم النامي.
وبدأت بعض الدول تشجع على الهجرة المؤقتة إلى خارج بلدانها (نزوح) كأسلوب لتحسين أوضاع سكانها وتنمية موارد خزائنها. وهذه الهجرة المؤقتة تكون قاصرة على فئات محددة من السكان ، وفي نفس الوقت فإن الدول المستقبلة لهذا النوع من الهجرة تكون في حاجة شديدة لهؤلاء الوافدين لسد عجز واضح في قواها البشرية العاملة في بعض المجالات. ففي العقود الأخيرة من القرن العشرين تحركت عدة ملايين من المهاجرين إلى دول غرب أوروبا ودول الخليج العربي والولايات المتحدة الأمريكية وجنوب أفرقيا.
وعودة المهاجرين المؤقتين تؤثر سلبيا على اقتصاد الدولة الأم ، فعودتهم تعني ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض في مستوى الدخل بصورة فجائية ، مما يؤدي إلى إرباك اقتصادي وسياسي داخلي. ففي أوائل السبعينيات ومع الكساد الاقتصادي الأوروبي تم الاستغناء عن أعداد كبيرة من الأتراك واليونانيين واليوجوسلاف والإيطاليين والبرتغاليين ، مما أثر سلبيا على دول هؤلاء المهاجرين.
وعلى نفس الوتيرة كانت لعودة مهاجري جاميكا والمكسيك وسكان الجزر الكاريبية إلى بلادهم بعد حفر قناة بنما نفس الأثر في الإرباك الاقتصادي والسياسي. وتكررت نفس الصورة مع عودة العمال اليمنيين من دول الخليج العربي ، إضافة إلى انكماش أعداد العمال الأردنيين في هذه الدول بعد الغزو العراقي للكويت أثره الواضح في عدم استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في هذه الدول.
ويظهر الدور السياسي للمهاجرين إذا ما استقروا في مناطق هامشية لاستغلال موارد طبيعية ، فإذا ما طالت فترة إقامتهم وحصولهم على جنسيات الدول المستقبلة ، فإن ذلك يؤدي إلى زرع أقليات عرقية داخل البنيان السكاني للدولة ، وهذه سمة تميز دول أمريكا الجنوبية مثل : الصينيون واليابانيون والهنود واللبنانيون والمكسيكيون في باراجواي والبرازيل وغيرها ، والجزائريون في جنوب فرنسا ، والأتراك في ألمانيا.
وفترة الهجرة الدولية متباينة فهناك أقليات استقرت واندمجت مع دول الاستقبال وانفرط عقد رباطها بالوطن الأم مع الأجيال ، وهناك نوع آخر من المهاجرين الذين استقروا فترة أطول ولا يريدون الاندماج الكلي مع الدولة المستقبلة ، وقد يكسرون قوانينها باستمرار مما يسبب مشكلات سياسية عدة : ومثال ذلك الأتراك والأكراد في أوروبا وعرب تونس والجزائر والمغرب "وأفريقيا الزنجية" في فرنسا. وقد تكون هذه المشكلات مقلقة لسياسة الدولة وحكومتها ، مما يولد أحزابا مناهضة لبقاء هؤلاء المهاجرين ، كما هو الحال في فرنسا وألمانيا حاليا ، فمن أكبر الأمور المقلقة لساسة هذه الدول ازدياد المد الإسلامي في غرب أوروبا وبناء أعداد ضخمة من المساجد وانتشار الحضارة الإسلامية بين هذه المجموعات المتمسكة بثقافتها الشرقية. وكما يتضح من الجدول التالي فإن خمس سكان ألمانيا تقريبا ينحدرون من عدة قوميات ، ولكل منها سمات مغايرة.

أعداد المهاجرين إلى ألمانيا مع بداية عام 1990
الدولة
العدد
الدولة
العدد
تركيا
يوجوسلافيا
إيطاليا
اليونان
بولندا
النمسا
أسبانيا
هولندا
بريطانيا
الولايات المتحدة
إيران
فرنسا
1612600
610500
519500
293000
220000
171100
127000
101000
85000
85700
81000
77600
البرتغال
المغرب
فيتنام
سري لانكا
التشيك
المجر
لبنان
تونس
الهند
أفغانستان
رومانيا
اليابان
74900
6180
33400
32700
31700
30100
24300
23900
22500
21100
20100
الإجمالي
4.845.900

وفي جنوب أفريقيا صورة مماثلة حيث تمثل منطقة جذب قوي للمهاجرين من الدول المجاورة الفقيرة ، ففي منتصف عام 1985 قدر عدد المهاجرين المسجلين رسميا نصف مليون نسمة (وقد يزيد العدد غير الرسمي إلى أربع أمثال هذا الرقم) ولكن جنوب أفريقيا عالجت هذا الأمر بصورة مغايرة تماما فلا تسمح لهؤلاء المهاجرين أن يحضروا أسرهم معهم وتأمرهم بأن يعيشوا في معسكرات تحت إشراف رسمي وأن يعملوا في حرف محددة لهم ولفترة محددة وقد اتبعت هذه السياسة الحكومة العنصرية السابقة حتى تقلل وتمنع الصراع الطبقي داخل الدولة.
وبالطبع فإن كل الدول التي تستقبل عمالة مؤقتة لا تستطيع أن تستغني عنهم جميعا حيث إنهم يعملون في حرف شاقة ووضيعة لا يرضى أن يعمل بها السكان الوطنيون. وهؤلاء المهاجرون الذين قدموا إلى أوروبا مثلا منذ الستينيات والسبعينيات واستمروا في أعمالهم أصبحت لهم أسر وأولاد ولدوا في أوروبا أصبحت لهم هوية ، وتمتعون بكافة حقوق المواطن المقيم والجنسية. وقد يحس أبناء هؤلاء المهاجرين بسوء المعاملة والتفرقة بين أبناء الدولة ، مما يؤدي إلى حدوث صدام مستمر بين بعض جماعات الوطنيين وأبناء هؤلاء المهاجرين مع تزايد التعصب القومي. ويعد عامل تفاوت مستويات الأجور بين دول الإرسال ودول الاستقبال أحد الأسباب التي تؤثر في جذب مهاجرين إلى الأرجنتين من الدول المجاورة ومن المكسيك ودول الكاريبي إلى الولايات المتحدة ومن موريتانيا ومالي إلى السنغال ومن مصر والأردن وسوريا والسودان واليمن إلى دول الخليج العربي. والملاحظ أنه مع ارتفاع أسعار النفط يشتد تيار الهجرة والعكس صحيح. وهذا ما لوحظ مع انخفاض الأسعار حين طردت نيجيريا وفنزويلا أعدادا كبيرة من المهاجرين. وبدأت دول الخليج تستغني عن أعداد كبيرة من المهاجرين ، وأصبحت سياسة العمالة الوطنية "إحلال الوطنيين محل الأجانب في الوظائف" سائدة وإن ظلت هذه الدول في حاجة إلى وظائف محددة لا يمكن الاستغناء عنها.
وفي دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واستراليا يشغل المهاجرون من الدول الفقيرة وظائف هامة في مراكز البحوث والجامعات والمستشفيات ووحدات الكمبيوتر والمصانع والبنوك وفي كافة المجالات الاقتصادية الحساسة. وهذا النوع من المساعدات الأجنبية التي تلقاها الدول الغنية لا تتحدث عنه في المؤتمرات. بل دائما تتحدث عن بضعة ملايين من الدولارات التي ترسلها لفقراء العالم في صورة دعائية.

اللاجئون :
ليست كل حركات عبور المهاجرين للحدود السياسية من النوع الاختياري ولكن تاريخ البشرية مليء بأمثلة من قصص المجازر والرعب التي مارستها بعض الحكومات ضد أقليات ، فقد تعيش مجموعات بشرية ضعيفة في وطن آمن لفترات زمنية طويلة وفجأة يجد هؤلاء البؤساء أنفسهم مضطرين إلى مغادرة وطن لا يعرفون سواه إلى خارج الحدود بدون وطن وبدون هوية وبدون سكن وفي أحوال بائسة. وفوق خريطة العالم نلاحظ أن حدودا كثيرة فوق سطح المعمورة شهدت حركات عبور إجبارية مثل حركة تبادل السكان بين الهند وباكستان إبان حركة تقسيم الهند بعد استقلالها عام 1947. وحركة تبادل السكان بين الأتراك واليونان بعد تصدع الدولة العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وهذا يخلق نوعا من الهجرة القسرية ، ولكنهم يذهبون إلى وطن معلوم من أجل الاستقرار الدائم.
وأسوأ أنواع الهجرة المؤثرة في الجغرافية السياسية للدولة هي الهجرة الإجبارية أو ما تعرف بهجرة اللاجئين ، والمشكلة التي تواجهنا عند الدراسة هو تعريف مصطلح اللاجئ ، ووفقا لتعريف الأمم المتحدة الذي خرج إلى النور عام 1967 يقول : "أي فرد يضطر لترك وطنه لأنه في خوف من الاضطهاد أو القتل أو كليهما معا لعدة أسباب سواء اجتماعية أو عرقية ، أو أحد أعضاء مجموعة سياسية أو طرد من دولته لآراءه السياسية المعادية للحكومة ، أو هؤلاء الذين يعيشون بلا هوية قومية ، ولا يستطيع العودة إلى وطنه حرصا على حياته". وهذا التعريف يشوبه بعض الغموض ، فكيف يثبت هذا اللاجئ أنه في خوف على حياته أو أنه مضطهد ؟ وهذا التعريف للأسف لم يتناول هؤلاء الفارين من الحروب الأهلية والدمار المرتبط بها والذين يضطرون لعبور الحدود الدولية.
وتزداد المشكلة سوءا إذا ما وضعنا في الحسبان هؤلاء الذين يعبرون الحدود نتيجة الخوف على حياتهم بسبب ظروف اقتصادية "مجاعات" أو ظروف مناخية وطبيعة سيئة (زلازل وفيضانات). ولكي نتخلص من هذا الخلط يمكن أن نفرق بينهم. فالنوع الأول يمكن وصفه باللاجئ السياسي الذي قد يحصل على جنسية دولة جديدة تستقبله ، أما النمط الثاني فإنها غالبا ما تكون في جماعات ضخمة وتعيش في معسكرات لحين حل مشكلتهم ، وهم يعيشون في معاناة كبيرة سوف يكون الحديث هنا قاصرا على اللاجئين بسبب ظروف سياسية للاضطهاد والحروب الأهلية أي أن خروجهم في جماعات بسبب ظروف سياسية.
وأشهر لاجئي العالم هم الفلسطينيون ، فقد أدى غرس دولة إسرائيل فوق أراضي من فلسطين إلى طرد سكانها خارج الحدود وتشريدهم منذ عام 1948 ومازال معظمهم يعيش في الضياع والتشتت في معسكرات في لبنان والأردن. أو صرح لهم بالعمل في بعض الدول العربية المجاورة ، أو في كثير من دول العالم الأخرى.
وتعد الحروب هي العامل الرئيسي وراء ظاهرة اللاجئين سواء كانت الحرب دولية أو حروب عرقية. ففي النصف الثاني من القرن العشرين رصدت عدة حركات للاجئين عبر حدود السودان والصومال وأثيوبيا ونيجيريا ورواندا وبوروندي وليبريا وأوغندا وكينيا. أما في أوروبا فقد كان للحرب العالمية الثانية أثرها في تشتت أعداد كبيرة من سكان بولندا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا. أما أحدث حركات هجرة اللاجئين والتي لم يشهد لها القرن العشرين مثيلا سوى في فلسطين هي إجبار سكان إقليم كوسوفو في يوجوسلافيا على ترك الإقليم ، فقد خرج أكثر من نصف مليون لاجئ في شهر واحد فقط "أبريل 1999" إلى دول الجوار ممثلة في مقدونيا وألبانيا بسبب حركة التطهير العرقي التي يمارسها الصرب.
وفي آسيا نجد أفغانستان وباكستان وكمبوديا وبورما وفيتنام والهند دولا تعاني من مشكلات اللاجئين الناجمة عن صراع وحروب لا دخل للأبرياء من الأطفال والنساء وكبار السن فيها ، وتكون النتيجة هي أنهم وحدهم هم الذين يعانون من التشرد والضياع.
وتتعقد مشكلات اللاجئين وإعادة توطينهم حيث تتدخل العوامل السياسية فيها. فقد يضطر المهاجر أن يغادر مكان الاستقرار إلى مكان أو دولة ثالثة حتى تحل مشكلتهم. أو تعد لهم معسكرات يعيشون فيها لفترة قد تطول على الحدود وفي كلتا الحالتين فإن الدعم والمساعدة المحدودة للمهاجرين هي المصدر الأساسي للعيش حيث لا عمل ولا مورد للعيش.
وهناك منظمتان دوليتان تتوليان أو تحاولان حل مشكلة اللاجئين في العالم وهما : مكتب الأمم المتحدة لغوث اللاجئين ، ومنظمة الهجرة الدولية ، وكلاهما يتخذ من جنيف مقرا له ، ومكتب غوث اللاجئين مسئول عن حماية حقوق اللاجئين وتوفير الطعام والأمن لهم وتقديم المساعدات واستخراج الوثائق الرسمية وتقديم خدمات التعليم وبرامج التدريب ولكنها كمنظمة تقع أسيرة إمكاناتها المادية المحدودة. ويجب عليها أن تنسق مع هيئات أخرى متخصصة تهتم باللاجئين مثل الصليب الأحمر ، والهلال الأحمر ، ولكن يجب الإشادة بأن مكتب غوث اللاجئين يعمل ببطولة في مواجهة صعاب سياسية كبيرة دون سلطة حقيقية تمتلكها ، ولكنها أنجزت بنجاح عملها في فلسطين وجنوب شرقي آسيا وموزمبيق وأفغانستان وفي ليبريا.
وتتجسد مشكلة اللاجئين إذا ما استمرت مشكلتهم لفترة زمنية طويلة ، فأبناء هؤلاء المهاجرين يولدون في بيئة تمثل بحق بيئة غضب وحقد شديدين ، ومن ثم فإن إثارة المشكلات سمة تميزهم ، بل إن العمليات الفدائية الانتحارية تكون أمرا طبيعيا لشبابها الثائر دائما. واستمرار معسكراتهم على الحدود من الممكن أن يصدر الإرهاب إلى دول الجوار ، بل وقد يتدخلون في شئون بعض الدول التي تستضيفهم ، مما يزيد من آلامهم إذا ما اكتشفت الحكومات ذلك فيكون المصير القتل والشتات والطرد مرة أخرى.
وتتفاقم مشكلة اللاجئين لأنها ظاهرة مستجدة ، فلاجئ الأمس قد يعود إلى وطنه اليوم ، ولكن قد يضطر مواطن آمن آخر لترك وطنه اليوم بعد أن يجبر على ذلك مع استمرار القلاقل السياسية وخاصة في بلدان العالم الثالث فقيرة الموارد ، وقد أعلنت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين أن هناك ما يقرب من ثلاثين مليون لاجئ بين أرجاء العالم ، وأن من تشرف عليهم المفوضية لا يصل إلى نصف هذا العدد ، وقد نجحت المفوضية في إعادة استقرار أكثر من أربعة ملايين لاجئ في 126 دولة طوال الفترة من 1952 إلى 1989. والواقع يؤكد أن مشكلة اللاجئين لا تستطيع أن تحلها هيئات اللاجئين ، بل الحكومات فقط هي القادرة على ذلك ، والحقيقة المرة تقول: "أنه على الرغم من تقدم البشرية الهائل إلا أن أعداد اللاجئين تتزايد".


رابعاً : التركيب الاقتصادي للدولة
تعد القوة الاقتصادية عنصرا معضدا للقوة السياسية والعسكرية للدول ، وهذا ما تجسده صورة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد الأقوى في العالم المعاصر. ويعد عنصر الاكتفاء الذاتي للدولة من أهم عناصر القوة التي تظهر أهميتها في وقت الحروب. فقد كان لقوة اقتصاد ألمانيا واكتفائها الذاتي أثره الواضح في مقاومة الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية. وهناك قليل من الدول التي يمكن أن توصف بأن لديها اكتفاء ذاتي في مواردها. وفي الواقع فإن معنى الاكتفاء الذاتي يكون نسبيا في تفسيره. فقد تكتفي دولة في بعض السلع ، وقد تنقصها موارد أخرى ولكن تستطيع أن تتغلب على النقص بصورة أو بأخرى.
وترى الحكومات أن تحقيق الاكتفاء الذاتي في أوقات معينة أمر مرغوب فيه للأمن الذي تحققه هذه السياسة ، وخاصة في أوقات الأزمات أو إذا ما تعرضت الدولة لحصار. وتحظى الموارد الاستراتيجية والسلع الغذائية السائدة الاستهلاك بنصيب كبير من اهتمام الحكومات التي تقدم كافة أنواع المغريات للمزارعين في صورة تشجيع برفع الأسعار وتوفير مستلزمات الإنتاج الحديثة وخفض الضرائب. وقد شجعت بريطانيا الفلاحين على زراعة البنجر وبتمويل زراعة السكر من البنجر ، واستطاعت ألمانيا أن تنمي صناعاتها وتصل إلى درجة الاكتفاء الذاتي قبل الدخول في الحرب العالمية الثانية.
ولما تغيرت تكنولوجيا الحروب حديثا وأصبحت السيادة والتفوق مرتبط بالتفوق في سلاح الجو والحركة السريعة فوق سطح الأرض ، فقد أصبح للبترول أثره الكبير باعتباره عنصرا حيويا أثناء الحروب. وأصبح الصراع للوصول إلى مناطق إنتاج البترول هدفا للقوى العظمى ، وزادت أهمية الدول المنتجة وتغيرت صورتها الاقتصادية والحضارية مع زيادة الطلب عليه ، أما الموارد المعدنية الاستراتيجية الأخرى والتي لا يمكن أن تستغنى عنها الدول العظمى لتطوير دفاعها وتعمل دائما على توفير كميات مناسبة منها كونها مخزونا استراتيجيا لتطوير معدات القتال تتمثل في القصدير والمنجنيز والكروم والتوتيا والميكا والحديد والزئبق والنحاس والألمونيوم والجرافيت والفانديوم ، وتسعى الدول الصناعية في الحصول على حاجتها من هذه المعادن من مواطن إنتاجها وتحاول احتكار مناجم إنتاجه.
أما على مستوى التصنيع ، فإن مفتاح التقدم الاقتصادي والعسكري ارتبط ارتباطا بالتقدم الصناعي ، ويمكن استخدام قدرة الدولة صناعيا كأحد المقاييس الهامة لقوة الدولة سياسيا. وخير دليل على ذلك أن القوى العظمى الكبرى "مجموعة السبعة الكبار" هي الدول الصناعية العظمى في العصر الحديث ، فتقدم الصناعة يؤدي إلى تقدم كل وسائل الإنتاج وزيادة الدخل وتحسن مستوى المعيشة في الدولة ، ومن هنا ازداد تأثير الدول الصناعية وأصبحت من القوى السياسية العظمى المؤثرة في أحداث وخريطة العالم السياسية.     
ومن وجهة النظر الاستراتيجية ، فإن هناك مجموعة من الصناعات الاستراتيجية مثل صناعة صهر المعادن والصناعات الثقيلة المتمثلة في صناعة تشكيل المعادن وصناعة السفن "مجمعات الحديد والصلب والترسانات البحرية" ، والصناعات الهندسية "قاطرات وسيارات وطائرات" والصناعات الكيماوية ، والصناعات الكهربائية ، وصناعة المنسوجات ، والصناعات الغذائية. وكل هذه الصناعات من الممكن توجيهها كلية لتخدم العمليات والإنتاج العسكري المطور.
ويجب أن تتوطن المناطق الصناعية في مكان آمن ، وأن تكون بعيدة عن متناول وسائل الحرب المعادية. وهي لا تتركز في المناطق الساحلية حتى لا تكون في متناول ضرب الأساطيل والغواصات البحرية. ولذا لاحظنا أن روسيا قد ركزت صناعاتها الثقيلة فيما وراء جبال الأورال لتحقيق أقصى درجات الأمان ، ولكن مع تطور أساليب الحرب الحديثة وشدة فعالية أسلحة التدمير التي تدار من بعد زاد من إمكانية تدمير المناطق الصناعية عن طريق الطيران الحربي ، أو عن طريق الصواريخ أرض أرض التي تطلق من قواعد ثابتة ، أو من الأساطيل العسكرية ، ويكون تأثيرها دقيقا بصورة فائقة. ولعل حربي الخليج ضد العراق ، وحرب حلف شمال الأطلنطي "الناتو" ضد المواقع الصناعية ومشروعات البنية الأساسية والمطارات في صربيا والجبل الأسود خير دليل على مدى تقدم وسائل الحرب الحديثة في تدمير قوة الدولة متمثلة في صناعاتها. وستكون الصورة أكثر تدميرا إذا ما استخدمت الأسلحة النووية ، والتي لم تستخدم إلا مرتين أثناء الحرب العالمية الثانية فقط.
ولا تكتمل صورة الدولة إلا بدراسة الرابط الهام بين عناصرها ، فطرق المواصلات تعد أهم عنصر يؤدي إلى تماسك أجزاء الدولة ، فهي تربط مراكز الإنتاج الزراعي والتعديني والصناعي بمنطقة القلب أو النواة.
ولكي تكون الإدارة ذات كفاءة في قيادة الدولة وإدارة شئونها وتوزيع الرخاء والمرافق والخدمات الحكومية وحل مشكلات السكان يجب أن تكون لديها شبكة جيدة من طرق النقل والمواصلات السريعة ، فوسائل المواصلات السريعة تذيب الفوارق بين أجزاء الدولة وجعل يد الدولة فوق كل الأحداث في كل الأرجاء وتساعد المنظمة السياسية في الدولة لفرض نفوذها الإداري القومي على كل أراضي الدولة التي تقع ضمن حدودها السياسية. ويجب على دارسي الجغرافية السياسية أن يهتموا بدراسة التركيب الاقتصادي للدولة التي يدرسونها ويؤكدون هذه الدراسة بإيضاح أهمية طرق ربط أرجاء الدولة ووسائلها بمنطقة القلب الإداري.

خامساً : تحليل قوة الدولة
بذل المتخصصون في الجغرافية السياسية وعلماء السياسة والعسكريون وكبار موظفي وزارات الخارجية وغيرهم جهودا مضنية لتعريف مضمون قوة الدولة وتحليلها. وليس هذا الجهد المبذول كنوع من التدريب للطلاب المهتمين بالشئون السياسية فحسب ، بل لأن إيضاح تباين مضمون القوة بين الدول من الأمور التي تهتم بها دراسة الجغرافية السياسية ، فهناك ضرورة لترتيب أقوى 12 دولة من دول العالم أو أكثر من ذلك بقليل فيما قبل عام 1950. وما تزال حتى هذه اللحظة وبدون شك هناك رغبة بين الكثيرين من القادرة العسكريين والساسة لمعرفة مدى الضعف والقوة لأعداء الدولة وحلفائها.
ومنذ الحرب العالمية الثانية تغيرت عدة مفاهيم للقوة. وإن نمط التغير الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي قد تغير بصورة كبيرة بين الدول. من هنا فإن تقييم مدلول القوة أصبح من الأمور الصعبة وأصبح قياسه من الأمور القابلة للجدل.
ولكن الحقيقة التي يدركها الجميع – ومن خلال اطلاعه على الصحف اليومية ومتابعة الأحداث العالمية الحالية – إن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر القوة العظمى الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن العشرين. ولكن لا أحد ينكر مدى القوة العسكرية لروسيا الاتحادية رغم ضعف اقتصادياتها نتيجة لتحولها إلى الاقتصاد الحرج ، ومن ثم تأتي ثانية أقوى دولة.
ويلي القوتين العظمتين ما بين الاستراتيجية إلى ثماني دول من الدول القوية ، ويلي هذه المجموعة الكبرى من الدول بقية دول العالم ، والتي ترتب بصورة تعتمد على التخمين أكثر من اعتمادها على أسس دقيقة. حتى إن استخدام أجهزة الكمبيوتر في التخمين لم يعط ترتيبا فعليا وواقعيا لمدى تفاوت القوة بين دول العالم المتبقية. وإذا ما نجحنا في وضع ترتيب فإنه سرعان ما يتغير ويصبح غير فعال ويجب إعادة الحسابات مرة أخرى لتغير عدة أمور تدخل في حساب القوة.
من هنا فإن دراستنا في هذا المجال معتمدة على استقصاء ومؤشرات من الصعب تحليلها أو إعطائها قيم تتفق وحجمها الحقيقي. ولكن هناك محاولة لمعرفة كوامن القوة والضعف في الدولة ، ومؤشرات القوة التي سوف تركز الدراسة عليها هي : رقعة الدولة – السكان – الحكومة – اقتصاديات الدولة – نظم الربط – القوى العسكرية – والعلاقات الخارجية ، وعناصر التحديد ليست من الضروري أن تكون مرتبة وفقا لتسلسل أهميتها ، بل كلها متداخلة في بعضها البعض. وفيما يلي عرض موجز لكل مؤشر.

1-  رقعة الدولة :
فقد سبقت دراسة أهمية حجم ومساحة الدولة وشكلها. وقد استنتجت الدراسة أنه لا يوجد حجم أو شكل مثالي ولكن عند قياس مقومات دولة مستقلة ، فإن هذه لعوامل من الممكن أن تكون ذات مغزى وأهمية. فإذا ما تساوت باقي المقومات الأخرى ، فإن الدول كبيرة المساحة ترجح قيمتها بالعمق الاستراتيجي الهام جدل في حالة الحرب. فتستطيع أن تدافع عن نفسها من العمق. كما أن هذه المساحة تقدم فرصة تنوع الموارد الطبيعية وكثيرا من الإيجابيات. والدول صغيرة المساحة تكون أكثر تجانسا وتماسكا ويسهل ربطها ومن ثم يسهل الدفاع عنها أكثر من الدول ذات الشكل المجزأ. ولكن الدول صغيرة المساحة قد لا تتوافر بها كثير من الموارد. وأن الدول كبيرة المساحة وذات الحدود السياسية الطويلة من الممكن أن تكون عرضة للهجوم من عدة اتجاهات.
والموقع الاستراتيجي عادة ما يكون قاصرا على بعض الدول وتحدد قيمته دول أخرى لها مصالح في هذا الموقع. وقد درس سابقا بالتفصيل ، ولكن يجب أن نشير بأن أهمية المواقع الاستراتيجية تتغير باستمرار بتغير الظروف السياسية والاقتصادية وغيرها. فدولة تطل على واجهة بحرية أو واجهتين أو أكثر من البحار تختلف أهميتها وقيمتها عن تلك الدول الحبيسة ، أو تلك الدول العازلة. وقد تقع دولة عند موقع هامش على حافة بحرية لفترة طويلة ، ثم سرعان ما تتغير قيمتها وتكون في بؤرة الاهتمام الدولي لتغير الظروف الاقتصادية أو الرؤية الاستراتيجية للقوى العظمى. ألم يكن ميناء فالبارايسو ميناءا هاما وذا موضع استراتيجي هام قبل حفر قناة بنما ؟.
        وحين أغلقت قناة السويس فيما بين عامي 1967 و1974 فإن موانئ شرق أفريقيا وجنوبها اكتسبت أهمية جديدة ثم ضاعت منها قيمتها مرة أخرى مع إعادة فتح القناة. وكم من مئات الآلاف من الجنود قتلوا في معارك عسكرية عند نقاط استراتيجية أما الآن فإن قيمتها الاستراتيجية قد ولت. من هنا فإنه يصعب التنبؤ بالدولة التي سوف تحتل موقعا استراتيجيا في المستقبل.
        ونظرا لأن الموارد الطبيعية ذات أهمية بالغة ، فإنها توضع على رأس القائمة عند المحللين. ولكن ما الموارد الطبيعية ؟ فمنذ أكثر من خمسين عاما مضت كان التيتانيوم يستخدم كأحد مواد الطلاء ، أما الآن فإن البحث عنه استدعى فتح المناجم القديمة وإعادة استغلال مخلفاتها. فقد زادت قيمة هذا المعدن بعد أن أصبح أحد مكونات تصنيع الطائرات النفاثة. وكانت الحروب تقوم بين الدول من أجل النترات الطبيعية ، أما الآن فإن عددا قليلا من البشر يعرفون اسم هذه المادة. والموارد الطبيعية يجب أن تضم التربة والمياه والإنتاج الغابي والمعدني والعديد من عناصر البيئة الطبيعية التي يصعب تعويضها. ويجب أن نعرف أين توجد هذه الموارد؟ هل هي بالقرب من الحدود السياسية أو في أعماق الدولة ؟ هل في منطقة مأهولة أم في منطقة منعزلة ؟ وما قيمتها الاقتصادية وجدوى استغلالها. وما الموارد التي تحتاجها الدولة ، ولكن لا تمتلكها ؟ هل يمكن جلبها من دول صديقة ؟ وما تكلفتها ؟ وما البديل في حالة نضوبها أو صعوبة الحصول عليها ؟

2-  السكان :
في أي دراسة لمقومات القوة للدولة فإنه من المفروض أن تكون الدول ذات الحجم السكاني الكبير ذات مميزات واضحة أكثر من الدول صغيرة الحجم السكاني. فإذا ما تساوت باقي عناصر تكوين الدولة. وهذا أمر مستحيل تحقيقه. ومن الصعب تقييم دور السكان كعامل مؤثر في قوة الدولة لأن أهميته من الممكن أن تزدهر أو تلاشى بسبب بعض العوامل الأخرى المؤثرة في توزيعه فوق رقعة الأرض أو بسبب نمو السكان أو تناقصه.
والخصائص النوعية للسكان من الممكن أن تكون ذات أهمية أكثر من الخصائص الكمية. فكما سبق فإن دراسة التركيب العمري والنوعي هام في تحديد القدرة العسكرية لمن يحمل السلاح ، ونسبة النشطين اقتصاديا ، ونسبة المستهلكين للسلع في المجتمع. كما أن نوع الهجرة سواء الدولية أو بين أرجاء الدولة ، ومستوى التعليم والمستوى الصحي وتوزيع الثروة ودرجة الفقر كلها نقاط هامة يجب أن توضع في الاعتبار عند قياس قوة الدولة.
وتلعب عناصر مثل التركيب السلالي واللغوي والديني دورا واضحا في تقوية الدولة أو إضعافها ، وهذا يتوقف على عوامل نفسية داخل الأفراد ، ومدى تجانس الأفراد مع بعضهم. كما أن دراسة الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للسكان من الممكن أن تكون ذات أهمية كبيرة لقوة الدولة ، فالحراك الاجتماعي في المجتمع ، ونظام إيجار الأرض وتوزيع الأراضي الزراعية الجيدة وحجم طبقة الصفوة في المجتمع. ومستوى الدخل للطبقة الوسطى في الدولة كلها أمور تفيد في حالة تعبئة موارد الدولة عند الحاجة. كما أن نظام الدولة الاشتراكي أو الرأسمالي أو غيره من المقومات من الممكن أن تعمل على تقوية قوة سكان الدولة وتقويضهم.

3-  الحكومة :
تلعب الحكومة دورا متغيرا في قوة الدولة ، ولكن دورها يصعب حصره. ويمكن تقييم دور الحكومة من خلال مدى كفاءتها في فرض سيطرتها وتنفيذ القانون على كل أجزاء الدولة. وهل الحكومة من عامة الشعب ؟ وهل هناك أحزاب معارضة لنظام الحكم ؟ ومدى قوة أحزاب المعارضة؟ هل الأحزاب يمكن أن تتحالف أم أن وجهات النظر السياسية فيما بينها متباعدة ؟ هل النظام الإداري والموظفون من الشرفاء الكفاءة ؟ أم أن الحكومة ضعيفة في إدارة أمور الدولة بالعدل وأن المحسوبية والرشوة هي التي تسود نظام الإدارة ؟
كما أن حكومة الدولة قد تجر البلاد إلى مشكلات نتيجة تبنيها أفكار استعمارية توسعية. مما يؤدي إلى اشتعال حروب كان من الممكن ألا تدخلها الدولة. وتستنزف مواردها بسبب رغبات طائشة لحاكمها. وهل حاكم الدولة ناضج سياسيا ويبذل كل الجهد من أجل رخاء ورفاهية شعبه ، ويوطد علاقات الحب بين كثير من قادة الدول مما يزيد من الحلفاء الذين يقدمون العون لدولته في وقت الشدة. لذا فإن زعامة قد تقوي الدولة أو تؤدي إلى تدمير مواردها.

4-  اقتصاديات الدولة :
من المعروف أن الثروة في عالمنا صورة للقوة أو قد تكون وسيلة تؤدي إلى القوة. من هنا فإن الدول الغنية تصبح مثل الدول كثيفة السكان والموارد تكون لها مميزات وحظ أكبر من تلك التي لا تمتلك ثروة. ولكن ثروة الدولة تتجاوز تملكها لموارد معينة وارتفاع متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي. فإن الدول القوية اقتصاديا تكون ذات قدرة إنتاجية كبيرة. ولا يقتصر الإنتاج على تلبية حاجة أفرادها فحسب بل يجب أن يكون لها فائض ضخم للتصدير إلى الخارج في وقت السلم ويغطي حاجة البلاد لفترة طويلة أثناء الحرب. والدولة القوية تتسم بتقدمها العلمي والتكنولوجي المطور. وتنفق بصورة جيدة على البحوث والعلم. كما أن صناعاتها يكون لها الدور الرئيسي في التنمية وجذب رؤوس الأموال والعمالة إليها. والقوى العاملة بها ماهرة ، والإدارة ذكية وتستخدم أحدث أساليب الإنتاج. وللزراعة دورها الفعال في سد حاجة الغذاء إن لم يكن بها فائض للتصدير. كما أن كافة وسائل الإنتاج يجب أن تعمل وفقا لسياسة العرض والطلب وبحرية تامة في سوق حرة.
وجدير بالذكر أن شبكة البنوك والتأمينات تعمل على نطاق واسع لتنظيم حركة المال بين منشآت الدولة ، وبين الدولة والدول الأخرى وتدعم المشاريع الاستثمارية وتؤثر بصورة كبيرة على تسعير المنتجات المحلية. ولكن كيف نقيس قيمة قوتها المؤثرة وحجمها ؟ يمكن أن يقاس بحجم البضائع المنتجة والخدمات المقدمة وحجم فائض ميزان المدفوعات وحجم رصيد الدولة الاستراتيجي من الذهب ، والذي يؤثر على قيمة عملة الدولة.

5-  نظم الربط والاتصال :
تعد طرق النقل والمواصلات وحركة البضائع والسكان والأفكار من الأسس الهامة المؤثرة في قوة المجتمع الحديث. ولا يمكن لأي دولة حديثة أن تنهض دون أن يكون لديها نظام اتصال قوي ليربط كافة أرجاء الدولة ، وكل عناصر السكان وكل الوحدات المحلية وكل قطاعات الإنتاج. وكل ما سبق مع دول أخرى. من هنا فإن وسائل النقل والمواصلات قد تؤدي إلى تقوية الدولة أو إلى إضعافها ، وليست العبرة بوجود هذا المرفأ الحيوي كأحد مشروعات البنية الأساسية ولكن الأهم أن تكون به كوادر فنية لتشغيله وصيانته.
تضم نظم الاتصال الهاتف ، والإذاعة ، والتلفزيون ، والبريد وكل وسائل النقل البري ، والبحري والجوي ، ووسائل الاتصال الأخرى من صحافة وإعلام. ويجب أن يرتبط السكان بوسائل إعلامهم ، وخاصة في وقت الأزمات والشدة.

6-  القوى العسكرية :
كل العوامل السابق ذكرها ما عي إلا عناصر من الممكن ترجمتها إلى قوة عسكرية. وكل مكامن القوة تحسب بقياس كل صغيرة وكبيرة من المعدات العسكرية ، وكل فرد يلبس الزي العسكري. ولكن هل هذا يكفي ؟ هل من الممكن أن نقول أن دولة ذات جيش كبير مجهز بعتاد حديث تكون أكثر قوة من دولة أخرى صغيرة فقيرة في عتادها العسكري ؟ بالطبع فإن الإجابة هنا لا. فلكي نقيس مدى كفاءة القوة العسكرية يجب أن نضع في الاعتبار عدة أمور هامة مثل المستوى التعليمي والمهاري للأفراد ومدى كفاءة القيادة العسكرية ومدى قدرة هذه الجيوش على ممارسة القتال. ومدى شجاعتها وارتفاع معنوياتها.
ويدعم القدرة العسكرية للدولة وجود قواعد للأسلحة الاستراتيجية في أماكن بعيدة عن متناول مدى الأسلحة المعادية "قلت القيمة حاليا مع وجود الصواريخ عابرة القارات" وأن تكون هناك موارد مالية كافية لتوفير سبل الدفاع الحديث عنها. وتدعيم القوة العسكرية يدعمها أيضا التحالف مع الأصدقاء لصد العدوان عند الضرورة وتكوين درع قوي لكل دولة. ولكن هل من المضمون أن يكون التحالف عاملا مستديما في ظل ظروف دولية متغيرة ؟ 

7-  العلاقات الخارجية :
نحن نعيش في عالم لا قوة فيه لدولة تعيش منعزلة مثل ألبانيا أو ميانمار ، واللتان تعيشان على مواردهما الطبيعية والبشرية فقط. فاليوم كل فرد وكل دولة معتمدة على الآخر بشكل أو بآخر. حتى تلك الدول التي لم تدخل في تحالفات عسكرية إلا أنها تلجأ إلى أصدقاء مقربين لمساندتهم في وقت الحروب. فالدول التي لها دور عالمي سياسي واقتصادي وحضاري يصبح لديها قدرة كبيرة على التغلب على المشكلات التي تواجه تقوية دفاعها القومي وتجارتها الخارجية ورباطها الثقافي والحضاري. كما أن مساهمة الدولة في منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإقليمية والعالمية الأخرى يزيد من قيمتها وتعاطف الدول الأخرى معها ، وخاصة في حال حدوث أية مخاطر تحيط بها سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا ، فالمحبة والاحترام أصبحا أقصر الأساليب لكسب ود باقي الدول في عالمنا المعاصر.
التحليل :
إنه من الصعب أن نعرف أو نقيس مدلول القوة على كافة دول العالم ، فإذا كان الأمر سهلا لتقييم مجموعة الدول العظمى وبعض الدول المتقدمة الكبرى ، أو بمعنى أدق يمكن أن تتضح صورة التقييم على مجموعة السبعة الكبار. ولكن يستحيل أن ينطبق مدلول تقييم القوة على باقي دول العالم الأخرى. إذن كيف نرتب دولا صغيرة قوية جدا اقتصاديا مثل : سنغافورة أو سويسرا التي تتوافر بها كل مقومات القوة الاقتصادية ، ولكنها ضعيفة عسكريا. وكيف نرتب الكيان الإسرائيلي الذي اغتصب الأرض الفلسطينية وتعضدت قوته بالدعم الأمريكي وأموال الصهيونية العالمية ، وأصبحت تمتلك سلاحا نوويا ، وكيف نرتب قوة اليابان أو كوريا أو أوكرانيا ، وإذا ما وضعنا كوبا في الحسبان فإن قوتها العسكرية لا تتوافق وشبح الفقر الشديد وضعف بنيانها الاقتصادي. وهل أفغانستان أفقر دول العالم أو بالمثل فيتنام ، استطاعا قهر أكبر قوتين عسكريتين في العالم ، فانسحبت الولايات المتحدة من فيتنام بعد فشل عسكري شهد بع العالم ، وخرجت القوات السوفيتية من أفغانستان ، وكانت آخر مسمار في نعش الاتحاد السوفيتي ، والذي تفرقت دولته بعد ذلك. وهل الهند ومستوى دخل الفرد فيها لا يزيد عن 340 دولار سنويا ، والتي نجحت في امتلاك السلاح النووي قوية فعليا. أما دولة العراق قبل حرب الخليج عام 1991 اعتبرها بعض الخبراء أنها تمتلك رابع أكبر جيش في العالم ومسلحة بأسلحة متقدمة وذي عزيمة وخبرة قتالية عالية ، اضطرت للطرد من الكويت وتحطمت قواها العسكرية ولم تعد لديه القدرة على حماية سمائه من الطيران الأمريكي والبريطاني الذي يقوم برحلات استكشافية يومية طوال أعوام 1998 ، 1999 وحتى هذه اللحظة. ونيجيريا ذات الموارد البترولية والمواد الخام الكبيرة ، لماذا لا تعد من أكبر القوى في أفريقيا. وإيران التي أنفقت مليارات الدولارات على التسليح لتصبح قوتها لا مثيل لها في الشرق الأوسط. كل هذه الأسلحة لم تنجح في تثبيت جلوس الشاه على عرشه ، بل أنها لم تنجح في رد الهجوم العراقي عليها. وفي حالة مصر ، فإنها في الستينيات كانت من أكبر قوى بلدان عدم الانحياز. ومع انتعاش اقتصادي واضح خرجت بعض جيوشها لدعم قوى التحرر في كثير من الدول ، لقيت هزيمة كبيرة وخسرت 6% من أراضيها في سيناء في عام 1967 ، وعلى النقيض في عام 1973 ومع انخفاض حاد في مستوى الدخل وخزائن شبه خاوية التي استطاعت أن تقهر الجيش الإسرائيلي المسلح بأرقى أنواع الأسلحة وعبرت جيوشها عائق قناة السويس المائي وخط بارليف الحصين.
أما الدول التي لا تمتلك قوة عسكرية ، ولكن اقتصادها جيد فتمثلها اليابان (متوسط نصيب الفرد من الدخل 39 ألف دولار سنويا) تأتي كأكبر قوة اقتصادية عالمية ولكن يعيب قوتها الضعف الواضح في اقتصادياتها ، فهي دولة بلا موارد وتعتمد على استيراد غالبية مواردها من الخارج (فهي تستورد الغذاء والوقود والمواد الخام) وتعتمد كلية على تصدير منتجاتها الصناعية. من يصدق اليوم ونحن في الألفية الثالثة أن يصبح الاقتصاد الياباني بهذه الصورة من الضعف قياسا بالأمريكي حتى أنه أصبح مثيرا للسخرية والتساؤل ، هل اليابان مارد بأقدام من طين ؟
وتعد سويسرا إحدى القوى الاقتصادية العظمى ومتوسط نصيب الفرد من الناتج القومي (41 ألف دولار سنويا عام 1998) وتعتمد أساسا على النشاط البنكي والسياحة. ولا تمتلك نفس البنيان الصناعي الياباني ولا تمتلك جيشا. وألمانيا الموحدة حالياً هل هي أقوى أم اضعف منها قبل التوحيد ، وهل لها دور في المنظمات الدولية مثل : فرنسا أو بريطانيا أم أنها ما تزال تعيش منفردة (يبدو أن الصورة سوف تتغير فقد ساهمت بعض وحدات من جيشها مع الناتو لضرب الصرب في شهر أبريل 1999 ، وهي أول مشاركة دولية منذ الحرب العالمية الثانية).
ومنظمة "الدول المصدرة للنفط الأوبك" والتي حققت أموالا طائلة وارتفعت مستويات الدخل لغالبية دولها خاصة في السبعينيات هل دولة من دولها تعد إحدى القوى العظمى الاقتصادية أو العسكرية ؟
وأخيرا من كان يتوقع أن يهوى الاتحاد السوفيتي وينهار بهذه الصورة السريعة ، فبعد أن كان يوما ثاني أكبر قوة عظمى في العالم "أين قواه اليوم ؟" وما ترتيب روسيا حاليا بين دول العالم ، وهي عاجزة عن دفع رواتب أفراد جيشها أو تصرف على علمائها أو تصرف على برنامجها النووي أو البرنامج الفضائي ، وأين حلف وارسو ودوله التي انفرط عقدها وانضمت دولة واحدة تلو الأخرى إلى حلف شمال الأطلنطي.
نعتقد أنه من الأفضل أن نترك الحديث عن ترتيب الدول من حيث القوة وأن نتحدث عن تأثير الدول على غيرها من الدول. أو ما يعرف بحجم الدولة دوليا أو تأثيريا ، وهذا أمر بالطبع أقل جغرافيا ، وهو أيضا متغير بتغير ظروف الدولة والظروف العالمية. بإيجاز تنتقل كرة القوة بين أقدام الدول ، ولا تثبت فأين القوى العظمى ف بداية القرن العشرين ، وأين دول الإمبراطورية العظمى التي سادت في الماضي ؟ وما الدول العظمى مستقبلا. ؟ الإجابة بسهولة جدا هي : لا نعرف.


الفصل الثالث
الحدود السياسية "جغرافيا"

-       مقدمة
-       التخوم والحدود
-       تصنيف الحدود السياسية
أولاً : التصنيف التكويني أو الوظيفي (الحدود السابقة – الحدود اللاحقة – الحدود المنطبعة – الحدود الأثرية)
ثانيا : التصنيف المورفولوجي أو الوصفي (الحدود الطبيعية – الحدود الهندسية – الحدود الأنثروجغرافية)
-       الأهمية المتغيرة للحدود الدولية باعتبارها عنصرا مؤثرا في علاقات الدولة.


دراسة الحدود السياسية جغرافيا
مقدمة :
على الرغم من أن مصطلحي الحدود والتخوم تتداخل معانيهما في العلوم غير الجغرافية ، إلا أن الأمر يختلف في الجغرافية السياسية. فكل منهما له دلالته المختلفة ، ولا يمكن اعتبارهما متشابهين. فالحدود هي الخطوط التي تشكل الإطار الخارجي للمساحة التي تقع تحت سلطة الدولة ، أما التخوم فهي مناطق مختلفة المساحة تفصل بين سكان دولتين. وتمثل مساحات للصلاحيات الحدية حيث إن الدولة التي لها تخوم مشتركة لا يوجد لديها الرغبة في تحديد حدودها السياسية ، لذلك فإن الحدود والتخوم تمثلان مرحلتين من تطور ظاهرة واحدة ، وهو ما يفسر تداخل معانيها أحيانا.
وقبل أن يتم تقسيم سطح الأرض إلى دول مستقلة ، كانت هناك مناطق غير آهلة بالسكان تستخدم كحوافز للحماية تستطيع وراءها أن تنمو الدول في أمان نسبي تدريجيا ، هذه الحواجز تم استيطانها لاحقا ، نظرا لأن التخوم تم دمجها مع أرض (مساحة) الدول ، وهكذا تم استبدال مناطق التخوم بخطوط الحدود ، وهذا التبديل فرضته طبيعة الدول المعاصرة والتي التزم تطورها بضرورة تأسيس حدود جغرافية واضحة لتحديد مناطق سلطانها ومنظماها وحماية سكانها وأنشطتها الاقتصادية من المؤثرات الخارجية وتحديد المناطق التابعة لها إداريا ، والتي تكفل لها حق الدفاع ونشر النشاط التجاري ، وغير ذلك من الأنشطة ، وتطلب ذلك وجود حدود واضحة لمناطق التخوم ، ثم تطور إلى حدود دولية غير قابلة للخطأ بدونها يتقلص النظام المعاصر للدولة ويتحول إلى حالة فوضوية حيث يصبح من المستحيل تحديد موضع ابتداء سلطات دولة موقع ابتداء سلطات دولة أخرى.

الحدود والتخوم :
يتضح الفرق بين الحدود والتخوم من خلال تتبع معانيهما في ايتمولوجيا (وهو العلم الذي يعني بدراسة أصل الكلمات وتاريخه) الكلمتين. فالتخوم هي المنطقة التي تقع في المقدمة أو منطقة الظهير لأي دولة ، ولهذا كان يطلق عليها أحيانا الأرض الأمامية أو المنطقة الحدودية وبالمثل في ايتومولوجيا فإن الحدود تعني تلك الخطوط التي تحد وحدة سياسية ، وإن كل ما هو داخل هذه الحدود يربطها بعضها البعض برباط قومي ، وتعد الحدود المصطلح الذي يلاءم المفهوم المعاصر للدولة كوحدة مستقلة.
ونظرا لأن سيادة الدولة سيادة مساحية Territoria , فان المساحات التي تحكمها الدول يجب أن يتم تحديدها بوضوح. وقد أوضح كريستوف Kristof الفارق بين الحدود والتخوم فيما يلى:ـ
1- التخوم ذات دلالة خارجية في حين أن الحدود ذات دلالة داخلية. ففي حالة التخوم يكون الاهتمام الأساسي منصبا على المناطق الخارجية والتى تشكل مصدر خطر, وأيضا غنيمة مشتهاة. أما الحدود فهى على العكس ذات دلالة داخلية حيث يتم ترسيمها والحفاظ عليها بواسطة الحكومة المركزية
2- تمثل التخوم نتاجا لقوى الطرد المركزية (أي المناطق المجاورة التي ترغب في تفتيت الدولة) في حين أن الحدود هي نتاج للتجانس والتماسك داخل الدولة. وهذا التمييز تم اشتقاقه من التوجه الخارجي والداخلي للمنطقة وعلاقته بالمعمور.
3- التخوم Frontiers عامل تكامل Integrating Factor بين الدول الواقعة على جانبيها, في حين أن الحدود عامل فصل Separating factor بكونها منطقة انتقالية ( متوسطة ) ما بين منطقتين مختلفتين في أساليب المعيشة. والتخوم توفر فرصة ممتازة للتداخل المتبادل بين المجتمعات فى كل من الدولتين, ولذا فان التخوم عامل تكامل. على النقيض, فإن العديد من العوامل الطبيعية والثقافية والسياسية جعلت من الحدود حواجز تعرقل التكامل عبر الخطوط الحدودية.
4- التخوم مناطق انتقالية بين الأقاليم الجغرافية, وليس بين الدول وعلى ذلك فهي جغرافية في طبيعتها, وليست سياسية. وعلى العكس تجد أن الحدود سياسية في أصلها ووظيفتها.
5- تشكل التخوم طبيعة مساحية Area في حين أن الحدود ذات طبيعية خطية Linear فالتخوم يمكن وصفها بأنها طبيعية حيث أنها جزء من سطح الأرض. في حين أن الحدود ظاهرة صناعية اختارها وحددها ورسمها الإنسان.
6- تنتمي ظاهرة التخوم إلى الماضي, أما الحدود فتنتمي بصورة كبيرة إلى الحاضر, حيث إن الحدود شئ لا غنى عنه في العالم المعاصر.
7- أخيرا, فان التخوم سواء أكانت ظاهرة طبيعية أم لغوية أم دينية أم عرقية, لا يمكن تحريكها, فهي قد تتغير فيما يتعلق بوظيفتها الحدودية ولكنها. تبقى في ذات المكان الذي كانت به. أما الحدود فهي بكل المقاييس غير ثابتة فحتى الحرب العالمية الثانية كان كل نزاع بين أي دولتين متحاربتين يصاحبه تغيير في موقع الخطوط الحدودية.

تصنيف الحدود الدولية :
هناك نظامان مستخدمان في تصنيف الحدود الدولية : أولهما التصنيف الوظيفي, والذي يعتمد على طبيعة العلاقة بين خط الحدود، وانتشار المظاهر الثقافية للدولة فالمفروض أن تكون الحدود فاصلة ومحددة لهذه الثقافات.
فحدود بعض الدول في العالم المعاصر تم تحديدها ورسمها قبل أن يتم استيطانها. وفي بعض الدول فحدودها رسمت بعد أن اكتملت المظاهر الثقافية للمجموعة السكانية في المنطقة وفى مثل هذه الحالات, فان مناطق التخوم قد تضمها الدولة, ويتم تبديلها بخطوط حدودية من خلال مراحل طويلة من التعديل وفقا للتحديد الدقيق.
ثانيا : يمكن تصنيف الحدود على أساس مكانها ومدى ثباتها فوق سطح الأرض, فقد تم تعيينها تبعا للملامح الطبيعية الواضحة مثل : الجبال أو الأنهار أو البحيرات أو المستنقعات أو أطراف الغابات والصحارى, وهذه يطلق عليها الحدود الطبيعية.
وأيضا قد يتم ترسيم الحدود تبعا لخطوط هندسية (أي : الحدود الهندسية) أو يتم رسمها للفصل بين المجتمعات العرقية (أي : الحدود العرقية أو الحدود الأنثروجغرافية) , وتتطلب معظم الحدود الكثير من المعايير لتخطيطها أو تعيينها. وعلى ذلك فان معظم الحدود ذات طبيعية معقدة. وهذا التصنيف المبنى على أساس شكل الحدود الدولية يطلق عليه التصنيف المورفولوجى.

أولا : التصنيف التكويني Genetic أو الوظيفي:ـ
وهذا التصنيف وصفه هارتسهورن عام 1939 , ويهدف إلى ربط نشأة الحدود بوقت وجود المظاهر الحضارية واختلافها في المنطقة عند ترسيم هذه الحدود ويمكن الاستدلال على نمطين مختلفين : نمط الحدود التي نشأت قبل مظاهر الحياة البشرية Nomencluture, ونمط الحدود التي نشأت بعدة وينقسم كلاهما إلى أنواع وهى :ـ 

(1)    الحدود السالفة (السابقة) Antecedent
هي حدود تم ترسيمها قبل تطور معظم المظاهر الحضارية أو تقدمها وهي حدود شائعة في دول العالم الجديد حيث إن تعيين الحدود الدولية بمناطق نفوذ القوى الاستعمارية المتنافسة تم الاتفاق عليه على مائدة المؤتمرات قبل أن يتم استكشاف المناطق المعنية واستعمارها. وفى هذه الحالة تم اعتبار تلك الحدود حدودا طبيعية قامت الدول المتجاورة بتكييف تطورها السياسي الاجتماعي تبعا لتلك الحدود منذ البداية. رغم طبيعة الحدود المتحركة والمتغيرة, فتلك الحدود تمثل حدودا ثابتة وخطوطا فاصلة ناجحة بين الدول, ومثل تلك الحدود هي الحدود ما بين أمريكيا وكندا.
(2)    الحدود اللاحقة(التالية) :Subsequent
الحدود اللاحقة هي التي تم تحديدها وتخطيطها بعد تطور المعالم الحضارية أو تقدمها. تلك الحدود خططت وفقا للتقسيمات السياسية العريقة, وخاصة تقسيمات اللغات والأديان. ومثل تلك الحدود هي التي توجد في شرق أوروبا أو الموجودة بين الهند وباكستان.
(3)    الحدود المنطبعة المفروضة Superimposed
وهى حدود لاحقة لكنها من نوع خاص, ومثل هذه الحدود قد تم تعيينها بعد التطور الكامل للمعالم الثقافية للدول. وفى حين أن الحدود اللاحقة رسمت على أساس تقسيمات ثقافية بين المجتمعات المعنية. وثم تحديدها بعد مفاوضات, ونجد أن الحدود المفروضة تم فرضها على المجتمعات المعنية بواسطة قوى خارجية أو بواسطة الدولة الأقوى وتمثل, الحدود الاستعمارية في مناطق الاستيطان بأفريقيا تلك الحدود. وهى أيضا حدود فرضت لتفصل بين أفراد مجتمع واحد وتقسمه إلى دولتين أو أكثر فمثلا : شعب الايفى (715 ألف نسمه) مقسم بين كل من غانا وتوجو وشعب الصومال المقسم بين ثلاث دول (بريطاني ـ فرنسي ـ ايطالي). بالمثل وهناك حدود خطوط الهدنة Truce Line Boundaries كتلك الموجودة بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية. وقد تتلاشى هذه الحدود لاحقا عندما تتغلب الدول عليها بتوحيد الشعوب مثل : جمهوريه الكمرون وفيتنام والصومال واليمن وألمانيا.

(4)    الحدود الأثريةRelict Boundaries
وهى تمثل الحدود السياسية التي فقدت وظيفتها السياسية, ولكنها مازالت موجودة في المعالم الحضارية, ومثل هذه الحدود نجدها عندما تحتوى دولة كبيرة أخرى صغيرة أو عندما يتم تجاهل الحدود السابقة, ويتم إعادة رسمها لتحديد التقسيمات الحضارية, وكما أشار هارتسهورن أن مثل هذه الحدود قد نجدها بين روسيا وألمانيا في المنطقة الصناعية سيسيليا Silesia وذلك من خلال ملاحظة (دراسة) الأسلوب الهندسي للمنازل والمنشآت العامة والتي اختلفت من إمبراطورية إلى أخرى. وهناك مثال آخر مثل تلك الحدود هي التي تقع بين بولندا وألمانيا, أو تلك الموجودة بين أمريكا الإسبانية المكسيك والإقليم الجنوبي الغربي من الولايات المتحدة الأمريكية.

ثانيا : التصنيف المورفولوجى الوصفي Morphological
ويربط هذا التصنيف بين الحد السياسي والمظاهر الطبيعية التي تمر بها من جبال أو هضاب أو مسطحات مالية أو بحيرات أو سبخات ومستنقعات أو صحارى وما إلى ذلك. ويمكن تقسيم هذه الحدود إلى قسمين :
الأولى وهى الحدود الاصطناعية Artificial, والتي صنعها الإنسان لتسير مع مظاهر بشرية ثقافية.
والثانية, وهى الطبيعية التي تسير مع ظواهر طبيعية مختلفة, وفيما يلي عرض لكل منها:ـ

الحدود الطبيعية :
وهى الحدود التي يتم رسمها على أساس مظهر طبيعي واضح مثل السلاسل الجبلية أو مجارى الأنهار أو المستنقعات أو الغابات الكثيفة أو الصحارى. ونظرا لأنها تخطط على أساس المظاهر الطبيعية التضاريسية, فأحيانا يطلق عليها الحدود الطبيعية على خلاف الحدود الهندسية أو تلك المبنية على أساس التقسيمات اللغوية أو الدينية, والتي يطلق عليها الحدود الاصطناعية. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التمييز (الاختلاف) غير صحيح حيث إن كل الحدود من صنع الإنسان, وعلى ذلك فكلها حدود اصطناعية. لذا يجب أن نقول إنها حدود تسير مع الظواهر الطبيعية. والدول الأوربية تقدم أفضل مثال لاستخدام هذا المنط من الحدود. فحينما بدأت مرحلة ترسيم الحدود بين دول القارة فإن سلاسل الجبال ومجارى الأنهار والمظاهر الطبيعية الأخرى, والتي كان لها مظهر حدودي, قد تم اختيارها لتكون بمثابة حدود بين الدول. والميزة الرئيسية لتلك المظاهر الطبيعية تكمن في أنها كانت خطوطا حدودية واضحة في الوقت الذي كان فيه رسم الخرائط وأساليب المسح لسطح الأرض لم يتطور بعد. وعلى ذلك فقد اعتبرت أساسا لرسم الحدود الدولية, واعتبارها حواجز أمنية تحقق الحماية وأصبحت مفضلة باعتبارها حدودا بين الدول عن باقي أنواع الحدود الأخرى. وفيما يلي عرض موجز لأنواع الحدود الطبيعية :

أ‌-     الحدود الجبلية :
كانت دائما النوع المفضل لترسيم الحدود حيث إنها تشكل خطوط دفاع طبيعية فضلا عن كونها ثابتة على الأرض, مما جعلها مستمرة بصورة كبيرة. لكن مع التغيرات والتطورات التي طرأت على وسائل النقل والاتصال واختراع الطيران قلت القيمة الدفاعية للحدود الجبلية.
وفى خرائط الحدود السياسة ذات المقياس الصغير نجد أن الجبال تظهر في صورة خطوط تقسيم ذات قيمة, إلا أن الدراسات المفصلة أظهرت أن مناطق الجبال لها وحدة وظيفية خاصة بها. فلا تعنى وعورتها استحالة الانتقال بين أجزائها ولا تشكل عوائق أمام البشر. فلم تحد جبال روكى من نوغل الرواد الأوائل صوب الغرب. كما أن الجبال لم تكن عائقا أمام تقسيم دول أمريكا الوسطى. وقد تكون بعض حواف الجبال في المناطق الجبلية أسهل في عبورها من الأدوية.
ويعيب الحدود الجبلية أنها سكنى مفضلة لجماعات بشرية متجانسة ذات حضارة واحدة. وتقسيم الجبال بين الدول يعني إعاقة حركة الهجرة الفصلية Transhumance لهؤلاء الرعاة. وينتشر هذا النمط من الحدود الجبلية بين كثير من دول العالم. مثل : الحدود الهندية الصينية لمسافة تزيد عن 3500 كيلو متر. والحدود بين تشيلي والأرجنتين. وبين النمسا وإيطاليا وبين فرنسا وإيطاليا. وبين فرنسا وأسبانيا, وبين بولندا وجمهورية التشيك وبين السويد والنرويج.

ب‌-  الأنهار كحدود دولية:
كثير من الحدود الدولية رسمت على أساس مجارى الأنهار حيث تتعدد مميزات اختيارها باعتبارها حدا سياسيا لذلك:
1-   تظهر بصورة واضحة على الخرائط على صورة خط مثل الحد السياسي تماما.
2-   تمثل ملامح طبيعية واضحة على سطح الأرض على خلاف الجبال واسعة الانتشار.
3- تعتبر الأنهار الواسعة قنوات اتصال, وعلى ذلك كان لها قيمة حربية لأنها توفر خطا دفاعيا ومانعا مائيا. ويصعب على الجيوش الغازية اجتيازه.
وعلى الرغم من المميزات السابقة لاختيار الأنهار باعتبارها حدودا فلقد أثبتت عدم صلاحيتها, وذلك لأن أحواض الأنهار لها تأثير موحد وليس مفرق. حيث إن الأنهار تمثل قنوات للنقل والتحرك, مما يشجع التبادل التجاري والاجتماعي. وأحواض الأنهار تضم بين جنباتها سهولا فيضية خصبة تجذب أعدادا سكانية مرتفعة الكثافة. فإن استخدام الأنهار كونه حدا دوليا يعني تفرق في المجتمعات الزراعية المتماسكة اجتماعيا, والتي تعيش في أمان على ضفاف الأنهار وتخلق صعوبات في استخدام مياه النهر وإدارتها.
وتستخدم الأنهار على أنها حدود إدارية داخل الدولة. وتستخدم أيضا على نطاق واسع كحدود دولية لتفصل بين القوميات والدول المختلفة وفيما يلي عرض موجز لكل منها :

1-   الأنهار باعتبارها حدودا إدارية داخلية :
تستخدم الأنهار في معظم الأحيان كحدود بين المحافظات والأقاليم داخل الدولة. فالأنهار والمجارى المائية التي يصعب اجتيازها أو يتخوف الناس من عبورها تشكل حدودا واضحة المعالم لهذه الوحدات الإدارية. وهناك أمثلة كثيرة لحدود الأنهار الداخلية. ففي مصر فالحدود بين محافظات الدلتا عادة ما تسير مع النيل أو فروعه وقنواته المائية مثل حدود محافظة المنوفية مع القليوبية شرقا والجيزة غربا. ومحافظة الغربية مع البحيرة غربا والدقهلية شرقا وحدود محافظة البحيرة مع كفر الشيخ.
أما حدود محافظات الوجه القبلي فإنها لا تسير مع النيل حيث تمتد مراكز العمران غالبا في الجانب الغربي, والامتداد الشرقي غالبا ما يقل به العمران أو بعض المناطق الزراعية في بعض المحافظات (باستثناء أسوان).
وفى استراليا يفصل نهر موراى Murray بين مقاطعتي نيوسوث ويلز وفيكتوريا. وفى الولايات المتحدة نجد الأنهار أكثر استعمالا في الحدود الإدارية. فالمسيسبي وأوهايو غرب الأبلاش يعتبران وروافدهما حدودا إدارية بين الولايات. وفى الواقع فإن كل الدول التي تخترقها أنهار, فإنها تستخدم بنجاح حيث إنها حدود بين مقاطعاتها.


2-   الأنهار كحدود دوليه:
يعد استخدام الأنهار ـ كحد سياسي دولي ـ من أكثر الأساليب المتبعة في ترسيم الحدود بين الدول في كافة قارات العالم. ففي آسيا فإن نهر الميكونج  Mekong ( بين تايلاند ولاوس ). ونهر الآمور Mmur بين الصين وجمهورية روسيا. ونهر أموداريا Amu-Darya في جزئه الأعلى يفصل بين أفغانستان وجمهورية طاجكستان. أما في أوروبا لم تستعمل الأنهار كثيرا كونه حدودا دولية إلا في مناطق محدودة في نهر الراين Rhin ونهر الدانوب Danube فهناك أجزاء من حدود سويسرا مع ألمانيا, وبين ألمانيا وبولندا (الأودر). والحدود بين فرنسا وألمانيا وبين رومانيا وبلغاريا تسير مع الأنهار. وفى أفريقيا فإن الحدود بين جمهوريتي الكونغو تسير مع نهر الكونغو. ويفصل نهر الأورانج أراضى جنوب أفريقيا عن ناميبيا. ونهر اللمبوبو يفصل بين جنوب أفريقيا وزيمبابوي.
وفى الأمريكتين. فقد لجأ الساسة إلى ترسيم الحدود الدولية لتتفق مع الأنهار, وفى أمريكا الجنوبية تسير الحدود مسافات طويلة على مجرى نهر البوتومايو ونهر الأورجواي Putumayo ( بين كولومبيا وبيرو ) وأجزاء من جويورى Guapore ( بولكومايو Bilcomayo ( بين الأرجنتين وباراجواي ) ونهرى الأورجواى ونهر بارانا Parana ( بين البرازيل والأرجنتين )
أما في أمريكا الشمالية, فإن الحدود الشمالية للولايات المتحدة مع كندا تسير في معظمها مع الحدود المائية نهرية أو بحيرية. ويصل طول الحدود المائية بين الدولتين إلى حوالي 2198 ميلا تقريبا (55% من طول الحدود). وتسير الحدود المكسيكية وحدود الولايات المتحدة الأمريكية مع الحدود النهرية لمسافة تبلغ 1210 ميل على طول نهر ربوجراند Grande Rio وامتداد يصل إلى عشرين ميلا مع نهر كولورادو في أقصى الغرب.

المشكلات المرتبطة بالأنهار كحدود سياسية :ـ
تواجه تحديد الحدود النهرية وترسيمها عدة مشكلات معقدة, وخاصة في المناطق المأهولة بالسكان ونوجزها في نقطتين :ـ
1-   قد تغير الأنهار مجاريها.
2-   تقسيم مائية النهر بين الدول, وخاصة المناطق الجافة.
وتزداد مشكلة النهر كونه حدا سياسيا إذا كان مجرى النهر غير مستقر.
ومن ثم يمكن أن يثير المشكلات من وقت إلى آخر. وفى حالة يكون الحل الأفضل ولتحاشى المشكلات المستقبلية ـ هو كبح جماح النهر وتثبيت مجراه بالإنشاءات الهندسية ((سدود)) باتفاق الطرفين.
وأكثر الأمثلة تعبيرا عن مثل تلك الصعوبات المرتبطة باختيار الأنهار كحدود بين الدول, هي حالة الحدود الأمريكية المكسيكية عبر نهر الريوجراند Rio Grande في الشرق, فنهر ريوجراند ينحدر من الباسو El Passo ويمر من خلال سهول فيضية واسعة, وهذه السهول التي يشكلها النهر لها مسار متعرج ذو موقع متغير بصفة دائمة, مما أدى إلى تغير مجرى القناة الرئيسية ففيما بين عامي 1917 , 1933 ارتفع قاع النهر بسبب الإطماء الأكثر من 8 قدم مما أدى إلى تغير مجرى النهر وكان من نتاج ذلك تقسيم الأراضي الناجمة عن تغير المجرى (3500 هكتار) بين الدولتين وفى عام 1933 تم إعداد برنامج للتحكم في الفيضان وتعديل مسار نهر ريوجراند. وحاليا يمثل خط المنتصف لأعمق نقط في مجرى النهر الخط الفاصل بين الدولتين
وعلامات الحدود من الصعب وضعها في المياه وخاصة إذا كان النهر يجرى بسرعة أو يستخدم في الملاحة وصيد الأسماك. وعلامات الحدود تظهر على الخرائط فقط. ويتم التحديد الدقيق للحدود النهرية بعدة طرق مثل :
1-   تلتزم الحدود بأحد شطوط النهر.
2-   الخط المتوسط في مجرى النهر.
3-   محور الوادي (أكثر النقاط عمقا في قاعة).
4-   الخط المحدد بواسطة المحكمين والقوانين الدولية.
والنوع الرابع هو السائد حاليا باتفاق الدول فيما بينها. أما النوع الأول فإنه نادر الحدوث والمثال الرئيسي له هو الحد الشمالي الشرقي للعراق مع إيران في منطقة شط العرب.
حيث تم في عام 1914 رسم الحدود لتسير بمحازاة خط المياه في الضفة الإيرانية ومن ثم فهو يحرم إيران من استعمال النهر للملاحة. لذا نشأت عدة منازعات بين البلدين على شط العرب قبل توقع اتفاقية صداقة بين البلدين. وقضت الاتفاقية بعمل منافذ لإيران على شط العرب في منطقتي عبادان وخور مشهر Khoriamashar ( انظر الخريطة رقم 4-2).


والنوع الثالث لا ينتشر كثيرا بين الدول ، أما النوع الثاني ، وهو رسم علامات أو تحديد الخط بوسط النهر ، ينتج عنه دائما مشكلات مع تغير مجرى النهر مثلما رأينا في الحدود الأمريكية المكسيكية ، أو بين الأرجنتين وتشيلي في منطقة التقاء ريوبالينا مع نهر يوإينكونترو التي تغيرت بتغير مجرى النهر وانتهت المشكلة بالتحكيم الدولي في عام 1966 لصالح تشيلي.

ج- الحدود في مناطق البحيرات :
أما في مناطق البحيرات فإن المشكلة أقل حدة لاتساع المسطح المائي واستقرار حركة المياه ، وأصبح من السهل تحديد خط الحدود الدولية في المناطق الوسطى إذا كانت البحيرة تقع بين دولتين مثل الحدود الأمريكية الكندية في بحيرات إيري وأونتايو وهورن وسوبريور. أما في أفريقيا فأشهر الأمثلة للحدود تلك التي تسير داخل بين بحيرة تنجانيقا بين تنزانيا والكونغو الديمقراطية ، وبحيرة إدوارو بينها وبين أوغندا ، وأيضا بحيرة كيفو التي تفصل بين الكونغو أيضا وبين رواندا. أما إذا كانت البحيرة تقع بين عدة ول فإنها تقسم بالتساوي بين دول الجوار باتفاق دولي ومثال ذلك بحيرة فيكتوريا بين كل من أوغندا وكينيا وتنزانيا. "انظر الشكل رقم 4 – 3".


د- الحدود السياسية في أقاليم الغابات والمستنقعات والصحاري :
تعد من مناطق الانقطاع البشري وتمثل فواصل بين الأقاليم (الحضارية) ، فعلى سبيل المثال فصلت الصحراء على مدى التاريخ ما بين أحواض البحر المتوسط ، والتي تسود فيها الحضارة الإسلامية عن مناطق الحضارة الأفريقية الزنجية في الجنوب ، كما فصلت بين الروس والفنلنديين ، وبين الشام وحضارة ساحل الجزيرة العربية الجنوبي.
والمستنقعات : تمثل حواجز حضارية أقل فاعلية ، فهي تمثل حواجز (فواصل) بين الدول. فالمستنقعات الموجودة جنوب نهري الراين والميز لم تلعب دورا قط كمناطق فصل على جوانبها. ومن خلال تأثيرها العسكري لعبت المستنقعات دورا مؤثرا في ترسيم الحدود بين بلجيكا وهولندا. ونادرا ما تستخدم هذه الظاهرة الطبيعية كونها حدودا دولية بين الدول ، وأهم المستنقعات التي يمكن أن تساعد في الفصل بين الدول بوصفها حدا سياسيا ، مستنقعات تشاد "غرب بحيرة تشاد" التي تمتد فيها الحدود السياسية لكل من تشاد مع النيجر ومع نيجيريا ومع الكاميرون.
الحدود الهندسية :
هي خطوط حدود مستقيمة تتبع خطوطا الطول ودوائر العرض ، وفي بعض المناطق يتم رسم أقواس مركزها نقط ثابتة ، مثال ذلك حدود غمبيا في الغرب الأفريقي التي رسمت حدودها على شكل أقواس مركزها نهر غمبيا (شكل 4 – 4).


واتخاذ خطوط الطول والعرض أساسا لتعيين الحدود هو أمر شائع في الأمريكتين واستراليا وأفريقيا ، حيث إن مثل هذه الحدود أحد خصائص المناطق المستعمرة الجديدة.
وقد تم ترسيم تلك الحدود ي الوقت الذي لم يتم فيه استكشاف تلك المناطق ولم تتوافر المعرفة الكاملة عن طبيعة الأراضي ، وعلى ذلك فإن الخطوط المستقيمة كانت فواصل مناسبة لإقامة حدود بين القوى الاستعمارية المتنافسة. وخاصة في تلك البقاع التي تخلو أو تكاد تخلو من السكان.
والعديد من الحدود الأفريقية المستقيمة الشكل تم تحديدها عام 1884 – 1885 في مؤتمر برلين لتحديد مناطق نفوذ القوى الأوروبية الاستعمارية المتنافسة.
أما في دول العالم الجديد (الأمريكتين واستراليا) فكان للفراغ النسبي للأرض من البشر ، وعدم دراية المستعمر بطبيعة الأراضي في تلك المناطق دور مؤثر في إقامة الحدود الهندسية. وكانت تلك الحدود حينئذ لا تثير المشكلات نظرا لترسيمها في المناطق الخالية من السكان. وتتعدد أشكالها على النحو التالي:

1-   حدود تسير فعليا مع خطوط الطول ودوائر العرض :
وهي سهلة التوقيع نظريا ولكن يصعب تحديدها فعليا وغالبا ما تثير المشكلات إذا كانت الاتفاقات التي رسمتها تجهل طبيعة المنطقة التي تخترقها. وأشهر الحدود السياسية التي تسير مع دوائر العرض الحدود المصرية السودانية التي تسير مع دائرة العرض 22 شمالا ، وخط الحد الذي يفصل بين الكوريتين ويتفق مع دائرة عرض 38 شمالا ، والخط الذي يفصل بين كندا والولايات المتحدة عند دائرة عرض 49 شمالا لمسافة حوالي 2400 كيلومتر.

2-   خط مستقيم رسم بصورة هندسية بين نقط معلومة في الطبيعة : 
وخير مثال له غالبية الحدود الأفريقية مثل : حدود ليبيا والجزائر وتونس وموريتانيا وغانا وتوجو ومالي والنيجر. وفي آسيا تمثلها حدود اليمن مع كل من سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية والحدود الأردنية ، وهذا النمط الحدودي يعتبر من أكثر الأنواع انتشارا بين غالبية دول العالم.
وأشهر أنواع الحدود الهندسية التي رسمت على أساس أقواس دوائر كل من خط الحدود الدولية لدولة غمبيا في غرب أفريقيا ، والذي يسير موازيا لنهر غمبيا. ولما كان النهر كثير التعاريج فقد رسمت الحدود على أساس أقواس دوائر يقع على النهر وبأنصاف أقطار متساوية.
والمثال الذي تمثله حدود الدول في قارة أنتاركتيكا "القارة القطبية الجنوبية" على أساس رسم قطاعات من الدائرة التي تتركز عند القطب الجنوبي وأصبح للدول التي تطالب بتملك أراضيها قطاع أرضي على شكل مثلث رأسه عند القطب وقاعدته عند الكتلة اليابسة للقارة.


ثالثاً الحدود الأنثروجغرافية :
هي حدود رسمت للفصل بين مجتمعات سياسية متجاورة تتحدث بلغات مختلفة أو تتبع ديانات مختلفة أو مقسمة تبعا لعناصر ثقافية أخرى تعبر عن الفروق القومية بينها.
هذه الحدود هي أحد ملامح فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى حيث تم تعديل الحدود في أوروبا الوسطى والشرقية بين الجنسيات المختلفة لتصبح كل جنسية ممثلة في وحدة سياسية مستقلة. وخير مثال لهذا النوع من الحدود هي حدود المكسيك والولايات المتحدة ، والحدود الهندية الباكستانية ، والحدود الهندية البنجلاديشية بين المسلمين والهندوس ، التي رسمت على أساس ديني.
والأفراد الذين يتحدثون لغات مختلفة ويتبعون ديانات مختلفة غالبا لا يعيشون في مساحات محدودة ومعرفة بدقة. وأحيانا يتداخلون في المجتمع في صورة أقليات متماسكة. وعملية التوزيع الجغرافي للعناصر العرقية على أساس السيادة السياسية قد يتطلب عمليات نقل للسكان واسعة النطاق ينتج عنها العيد من المصاعب للأفراد الذين يتم نقلهم ، فمشكلة اللاجئين عند حدود الصرب والبوسنة والهرسك في عام 197 هي أوضح مثال لعمليات تبادل عرقي واسعة النطاق في العصر الحديث كان من نتاجها العديد من المآسي الإنسانية ، كذلك فإن المثال الهندي الباكستاني يجسد كيفية إرباك الخطوط الحدودية للوحدة الاقتصادية في المنطقة ، وكيف أنها خلقت مشكلات خطيرة على مستوى الدول والأفراد.
ورسم الحدود على أساس أثنوجرافي يعد من أفضل أنواع الحدود السياسية ، ولكن للأسف فإن عدد الدول التي ترسم حدودها على أساس الفصل الثقافي قليلة لأن مناطق الحدود غالبا ما تكون مأهولة بالسكان في المناطق المعتدلة والدفيئة ، ومن ثم فإنها تصبح مناطق اختلاط حضاري واضح ، وتصبح الحدود الانثروجغرافية "أو الاثنوجرافية" واضحة ، وتصبح عامل فصل حقيقي إذا ما ارتبطت بعوائق طبيعية مثل : الحدود الفرنسية الإسبانية "جبال البرانس" ، وينتج دائما عن رسم الحدود في المناطق المأهولة وجود أقليات داخل حدود الدول ، ويتم التغلب عليها أحيانا بحركة تبادل بين الدولتين أو تنصهر هذه الأقليات مع الدولة الجديدة ، أو تظل منطقة جيب للدولة داخل جارتها.

الأهمية المتغيرة للحدود الدولية المؤثرة في علاقات الدول
منذ أكثر من تسعين عاما مضت ، كتب كرزون عام 1908 أن الحدود أو (التخوم) بمثابة حد السيف المعلق عليه مسألة الحرب أو السلام أو الحياة أو الموت للأمم. وبعده بثماني سنوات لاحظ اللورد هولديش أن في التاريخ المعاصر للعالم كانت معظم لحروب الهامة والصراعات الدولية التي أدت إلى حتمية الحرب كانت صراعات حول الحدود.
وفي الوقت الحاضر ومنذ كتابات هولديش وكرزون لم يتغير معنى الحدود السياسية عن ذلك كثيرا ، بل وأصبحت أقل أهمية ، ويعود الفضل للمنظمات الدولية التي يطالب بعضها بحرية التجارة ويطالب البعض الآخر بحرية التحرك والعمل ، مما أدى إلى حرمان الحدود من وظيفتها. ومع الانفتاح وزيادة المد الثقافي قل التعصب القبلي والقومي ، مما أدى إلى زوال عدم الثقة بين الأفراد والمجتمعات ، وإلى حد ما فإن مشكلات الحدود طغت عليها المشكلات الداخلية التي لها ضرورة وأهمية أكبر ، وأصبحت المطالب الحدودية بين الدول الأوروبية ومعظم دول العالم منعدمة في وقت تسعى فيه كل الدول إلى التحالف الإقليمي الاقتصادي والعسكري ، بل يسير العالم بخطى واسعة نحو العالمية ، وكلما ابتعدت الدولة جغرافيا وأيديولوجيا عن مناطق القلق بين القوى العظمى ، كلما خفت صراعات الحدود. وإثارة مشكلات الحدود قد تأتي من الخارج ، وكما كتب ستيفن جونز أن المصدر الأساسي للصراعات الحدودية هو الحالة الاقتصادية فضلا عن ترسيم الخط الحدودي نفسه. وعلى ذلك فإن كل تغير لمواقع الحدود يضمن السلام. بالفعل حتى وإن تم حل المشكلة الحدودية التي تهدد سلام الأمم ، فإن الصراع يظل باقيا والحدود ستظل أبدا كحد السيف. 

الحدود كحواجز اقتصادية :
في كتاباته القوية التي نشرت عام 1932 ابتعد بوجز تماما عن المنظور التقليدي لدراسة الحدود في الجغرافية. قام بوجز بانتقاد الدراسات السابقة في هذا المجال. وقد أسف لاعتقاده بالافتراض الخاطئ بأن الحدود لها وظيفة منتظمة وساكنة (غير متغيرة) ، ولقد لفت الانتباه إلى أن وظائف الحدود في تغير مستمر ، ونادى بأن تؤخذ مثل هذه الوظائف المتغيرة للحدود السياسية في الاعتبار.
وقد عرض بوجز أول محاولة لإيجاد مدخل علمي يقيس أثر الحدود على حركة المواصلات في دراسات الجغرافية السياسية ، وعلى الرغم من أن هناك محاولات سابقة قام بها هارتسهورن من خلال دراسته (الحدود السياسة والجغرافية) في منطقة سيلزيا العليا (1933) وتعتبر تلك الدراسة أول دراسة جغرافية تحليلية لآثار التغيرات الحدودية.
ومنذ السنوات التالية للحرب العالمية الثانية كان الاهتمام الرئيسي في دراسة الحدود في الجغرافية السياسية متعلقا بالتصنيف والتحديد والتعيين ، وكان ذلك أمرا طبيعيا خلال الفترة التي كان فيها الدارسون للسياسة مهتمين بالبحث حول أسباب الصراع الذي ينشأ بين الدول وكيفية تجنبه.
أما بعد نهاية الحرب بدأت الأمور تتغير وبدأ الاهتمام بدراسة الحدود يرتبط بحقيقة أن الحدود السياسية هي بالضرورة نتاج للحس الإنساني للأرض ورغبته في تحديد المساحة التي يستطيع فيها الإنسان أن يحفظ هويته الثقافية ، ويشكل مستقبله السياسي ، هذا التغير في النظرة لدراسة الحد السياسي كان أمرا حتميا في وقت الروح الاستعمارية وبداية تكوين نظام دولي ينشر نظام الحرية وحقوق الإنسان في العالم.
وللحدود قيمة هامة ودور هام في حياة البشر حيث تقوم بوظيفتها كحواجز حماية للدول من القوى الخارجية ، مما يؤثر على كافة الملامح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة.
ومن الناحية النظرية أو (المنهجية) فإن من أقيم المساهمات لإبراز قيمة وظيفة الحدود الدولية كحواجز ظهرت في عام 1931 من خلال كتاب أغسطس ليش المكتوب بالألمانية تحت عنوان اقتصاديات الموقع ، والذي ترجم إلى الإنجليزية في عام 1954 ، وقام ليش بمقارنة المبيعات السنوية للمدينتين الكنديتين وندسور ولندن (أونتاريو) اللتان لهما نفس عد السكان ، ووجد أن مبيعات التجزئة للبضائع الرخصية في كندا كانت أكبر في وندسور ، والتي تقع على الحدود الدولية ، في حين أن لندن تقع على مسافة بعيدة عنها ، ولكن نظرا للبضائع الرخيصة في الولايات المتحدة كان الأمر مختلفا ، حيث لاحظ ليش أن وجود حدود سياسية يخلق اختلافات في أسعار بعض السلع ، وأن هذه الاختلافات لها تأثير على مخارج بضائع التجزئة بصفة خاصة.
ولعل أعظم إسهامات ليش إبرازه للتأثير الذي تحدثه الحدود الدولية على تدفق السلع والبضائع ، ونموذج توزيعها الجغرافي ، وحيث قام بمسح خرائط النفوذ المالي لمدينة الباسو في تكساس على جانبي الحدود الأمريكية المكسيكية. فالنموذج الناتج عن إعداد خرائط تدفق رأس المال كان مماثلا تماما لاستنتاجه النظري لحركة البضائع. وعلى ذلك فإن لوش يعد أول من درس تأثير الحدود السياسية على العمليات الاقتصادية عبر تلك الحدود ، ومن خلال النموذج التوضيحي وتحليل المثال الفعلي لمدينة الباسو ، وقد أوضح أغسطس ليش كيفية قياس تأثير الحدود السياسية على النواحي الاقتصادية على جانبي الحد.
وفي عام 1958 قدم ماكاي دراسة تحليلية أوضح فيها أثر الحدود الأمريكية الكندية على الاتصالات التليفونية بين مدن كندية مختارة (مونتريال) ومدن أخرى على الجانب الآخر من الحدود.
وأحدثت كتابات ماكاي تقدما ملحوظا في دراسة الحدود ، وتعتبر كتاباته أول تعبير كمي عن أثر الحدود كحاجز منذ كتبات لوش
وباستخدام معادلة خط الانحدار استنتج ماكاي أن التفاعل بين مدينتي كويبك وأونتاريو يتراوح ما بين 20% و10% من نظيره بين المدن داخل كويبك.
وبمقارنة التفاعلات بين مدن كويبك ومدن الولايات المتحدة وجد ماكاي أن معدل التفاعل بين مدن كويبك ومدن الولايات المتحدة يعادل 50 مرة ذلك التفاعل بين مدن كويبك نفسها ، وعلى ذلك فإن الحدود اللغوية والثقافية بين كويبك وكندا المتحدثة بالإنجليزية لها أثر أقل كحاجز للاتصالات من الحدود الأمريكية الكندية الدولية مهما كانت علاقات الصداقة بين الدولتين.
وفي دراستهما عن الحدود كحواجز نشر عام 1968 لكل من رينولدز وماكنولتي تحت عنوان (تحليل الحدود السياسية كحواجز مدخل إدراكي) والذي نشر بعد عشرات السنين من دراسة ماكاي ، كتبا فيه أن الأفراد الذين يعيشون عند الحدود – ولكن بعيدا عن نقط العبور – لا يمتد نشاطهم الاقتصادي إلى المناطق الواقعة على الجانب الآخر من الحدود نظرا لبعدهم الوظيفي عن تلك المناطق. وهم أقل تأثرا بانتشار المعلومات المتبادلة بين المنطقتين ، بالإضافة إلى أن المسافة الوظيفية التي تفصل بين الأفراد على الناحيتين أكبر من وقت السفر الفعلي بسبب وجود مناطق أسهل للوصول داخل المساحة المسكونة على أحد الجانبين. على ذلك الذين يعيشون بعيدا عن نقط العبور فالأفراد تعتبر حدودهم حواجز لا يمكن عبورها ، أما بالنسبة للذين يعيشون عند نقط العبور ، فإن نظرتهم إلى الحدود أنها مجرد عقبة يمكن تجاوزها.

الحدود كحواجز لتدفق المعلومات :
استخدم كل من جولد ووايت كتابات ماكاي لقياس قيم المسافات التي تنتشر بها المعلومات عبر الحواجز التي تصنعها مجموعة مختلفة من الحدود السياسية سواء أكانت طبيعية مثل : الجبال والبحيرات ، أم لغوية أم دينية ، وقد أوضحا أنه في مساحة متجانسة لغويا وحضاريا يمكن قياس تدفق المعلومات ، حيث تنساب المعلومات والتيارات الفكرية بسهولة عبر الخط السياسي ولمسافات تتفق وميولهم والعكس. وتفرض كثير من الدول قيودا صارمة على حدودها لمنع تسرب ودخول ثقافات ومعلومات وأيدلوجيات غير مرغوب فيها ، ولا تتفق وتقاليد وديانة الدولة ، فقد تسرب مطبوعات أشد خطرا على الدولة من المخدرات.
أما في الوقت الحاضر ومع وجود السماء المفتوحة وانتشار أقمار البث التلفزيوني الموجه زاد خطر تدفق المعلومات ، وأصبح الحدث ينتشر عالميا في نفس لحظة وقوعه ، وأصبح العالم بمثابة قرية صغيرة ، فأحداث كوسوفا وضرب حلف الناتو للصرب والجبل الأسود وتشريد اللاجئين ، ألبان كوسوفا (أبريل 1999) حدث يسمعه ويقرأه ويراه سكان العالم بسرعة البث والنشر. كل ذلك أدى إلى تدمير قيمة الحد كمانع لانتشار الفكر والمعلومات بين الدول.
بإيجاز :
فإن دراسة الحدود الدولية في الجغرافية السياسية أخذت اتجاهين مميزين :
أولهما : اختيار المفاهيم العامة التي تؤدي إلى وضع تصنيف للحدود السياسية.
الثاني : اختيار دراسات الحالة لبعض مناطق الحدود ، وتأثير الحد على المساحات الملاصقة.
وقد أكد هاوس في بحث عن مناطق الحدود أن الجغرافيين السياسيين السابقين ركزوا بصورة زائدة على دراسة تصنيف الحدود كونها نهاية في حد ذاتها وتناسوا النتائج التي تحدث بسبب وجود هذه الحدود وما تحدثه من مشكلات أو تصبغ المنطقة بصبغة حضارية وثقافية مميزة.
وكما يذكر هاوس أن الدراسة في الجغرافية السياسية يجب ألا تتوقف عند دراسة أشكال الحدود وأنواعها ، وهذا ما كرره هارتسهورن في دراسته عن الحدود ، أي يجب أن يكون الاهتمام الرئيسي لدارس الجغرافية السياسية عن مناطق الحدود وليس الحد السياسي ، حيث إن التركيز سابقا في معظم الدراسات الحدودية كان منصبا عن قضايا الدفاع والأمن وتعديل التغيرات التي تفرضها الاتفاقيات ، وكان ذلك أمرا طبيعيا في الوقت الذي كانت فيه دول غرب أوروبا منشغلة بالاستعمار والتوسع.
وكما لاحظ هاوس أنه كان من المناسب في أواخر القرن التاع عشر وبدايات القرن العشرين أن يكون المنظور العام لوظيفة الحدود السياسية هو الدفاع وسلامة حدود الدولة الأم ، ولكنه من غير المناسب أن نفكر من خلال هذا المنظور القاصر فقط في الوقت الحالي ، فالدفاع والأمن ليس لهما الاهتمام الرئيسي في معظم الحدود الموجودة في العالم المعاصر ، فغالبية الحدود الدولية لا نزاع عليها ولها وظائف اقتصادية واجتماعية. على ذلك فإن على الجغرافيين السياسيين في الوقت الحالي أن يركزوا على دراسة الحدود كونها عنصرا مؤثرا في المعالم الاقتصادية والاجتماعية للمناطق المجاورة للحدود.

المظاهر الجغرافية عند منطقة الحدود :
في عام 1965 نادى بريسكوت بدراسة المظاهر الجغرافية في منطقة الحدود ، ويرى أنه يجب على دارسي الجغرافية السياسية أن يهتموا بتعريف الأقاليم السياسية ووصفها ، وتأثير العوامل السياسية على مظاهرها الجغرافية ، وقد وضع في الاعتبار هذه النقاط الأربع ذات الدلالة الخاصة عند دراسة الحدود كظاهرة في الجغرافية السياسية وهي :

1-   اعتبار الحدود عنصرا من المظاهر الحضارية :
تنتج النشأة الطبيعية للحدود من ترسيم الحدود على الأرض وتشييد المباني وأنظمة الدفاع ووسائل النقل والاتصالات لتظهر الوظيفة كحقيقة في منطقة الحدود على الجانبين. ويمكن الاستدلال على طبيعة وظائف الدولة والعلاقة بين الدولتين المنفصلتين من طبيعة التعيين الفعلي للخط الحدودي. وكما أوضح بسكوت أنه إذا لم يتم ترسيم الحدود الدولية فإن ذلك يعود إلى ثلاثة أمور :
الأول : فقد ترى الدول المعنية أن تعيين الحدود غير ضروري ، والعديد من الحدود الدولية لم يتم تعيينها خلال المرحلة الاستعمارية نظرا لتكلفتها المرتفعة أو بسبب حسن العلاقة بين الدول الاستعمارية المعنية.
الثاني : قد لا يتم تعيين الحدود نظرا لأن موقعها المحدد قد يكون محل جدال وصراع أو بسبب الغموض الذي يشوب التعريف الأصلي للحدود.
ثالثا وأخيرا : هو مرور هذه الحدود عبر مناطق غير مأهولة وبعيدة جدا عن مراكز العمران مثل : المستنقعات والجبال والصحاري.

2- تفسير درجة التباين في المظهر الجغرافي واستخدام الأرض في منطقة الحدود على جانبي الخط السياسي في الوحدتين السياسيتين :
يزداد مدى اختلاف المظاهر الحضارية على جانبي الحدود باختلاف مستويات الحياة الاقتصادية والحضارية بين الدولتين. ولكن كل الحدود مهما كانت طبيعتها تعد عوامل مؤثرة في تغير المظاهر الأرضية ، فوجود نقطة حدود بين دولتين يخلق تناسقا في النقل والخدمات الأخرى الضرورية على الجانبين ، وتعكس هذه المظاهر مستويات المعيشة والدخل في كل دولة. وتتضح الفروق إذا كانت الأحوال الاقتصادية في الدولتين مختلفتين ، كما إن توزيع السكان ونشاطهم الاقتصادي إن وجد في منطقة الحدود يرتبط بوظيفة الحد السياسي. فتنتشر حوانيت بيع العاديات إذا كانت حركة السياحة قوية ، وتنشط حركة التجارة أو تقل وفقا لحجم الحركة عبر نقاط الحدود.

3-   دراسة الأثر الذي تحدثه الحدود على سلوك الأفراد الذين يعيشون في المناطق الحدودية :
هذا ألثر غالبا ما تحدثه فرص الكسب السريع للأفراد عند منطقة الحدود ، والمعوقات التي تمثلها الحدود للحياة ليومية ، ومدى إدراك متطلبات الأمن للدولة. وفي مناطق الحدود التي تشهد صراعا بين دولتين فمن الطبيعي أن يكون هناك إدراك لضرورة الاستعداد العسكري عند الأفراد الذين يعيشون في مناطق بعيدة عن الخطر والاحتكاك العسكري. فسكان الجنوب اللبناني مثلا تختلف خصائصهم ومطالبهم عن سكان الشمال. وقياس سلوك الأفراد الذين يقطنون المناطق الحدودية عن طريق إجراء أو دراسات ميدانية أمرا حيويا في دراسات الجغرافية السياسية ومنه يمكن استنتاج واستخلاص معلومات في غاية الأهمية.

4-   اختبار أثر الحدود على سياسات الدول :
وكما أشار برسكوت أن هناك صعوبة في تحديد أثر الحدود على سياسات الدولة نظرا لأن المادة التي تحوي تلك المعلومات غالبا ما تكون في سجلات لا يمكن الوصول إليها ، ولكن يمكن الحصول على تلك المعلومات من التقارير البرلمانية والمقالات الإخبارية المتعلقة بذلك ، وهذا التحليل يجب أن يتضمن مجموعتين هامين من السياسات :
1)    الاقتصادية خاصة الجمارك وسياسات التصدير والاستيراد.
2)    سياسات الدفاع ودراسات المظاهر الجغرافية في المنطقة الحدودية قليلة العدد.
ويمكن أن نذكر بعض الدراسات الجغرافية التي تناولت منطقة الحدود منها دراسة الحدود الهولندية الألمانية لبلات. المنطقة الحدودية الفرنسية السويسرية في جورا لدافو ، الحدود الفرنسية الإيطالية في جبال الألب لهاوس ، والدراسة التي قام بها منجي (1963) عن الجنسية واختيار البرامج التلفزيونية في منطقة الحدود الكندية والأمريكية ، ودراسة الحدود الكندية الأمريكية والتي قام بها ريتسما عام 1962 ، ودراسة إقليم الحدود الألمانية الفرنسية التي قام بها مارتن عام 1973 ، ودراسة الحدود اللبنانية الإسرائيلية التي قدمها دافيدي عام 1975 ، وأخيرا دراسة سينغ عام 1981 عن الحد السياسي الهندي الباكستاني وتأثيره على السكان واستخدام الأرض في ولاية البنجاب.

مميزات الحياة وعيوبها في المناطق الحدودية
عادة ما نجد الحياة الاقتصادية والاجتماعية على الحدود ذات التجهيزات الحربية والعسكرية غير مستقرة ، وذلك لعدة أسباب ، فنظرا للقرب من حدود غير آمنة يتم وضع قيود على استغلال الأرض ، ويؤدي هذا في أغلب الأحيان إلى بوار الأرض الزراعية. وأبرز أنواع المشكلات تلك التي نجدها في المجتمعات التي تشطرها حدود دولية حديثة ، فمع مرور الوقت قد تتأقلم من النموذج الجديد من الحياة الذي يفرضه عليهم وجود الحدود الدولية ، إلا أن الحدود في حد ذاتها تظل عاملا مؤثرا على ظروف المعيشة المحلية ، إذا كانت منطقة الحدود فقيرة الموارد أو من الصعب الوصول إليها ، فهنا قد تتضخم المشكلة بوجود العامل السياسي وعوامل أخرى مثل تناقص أعداد السكان الريفيين أو انعدام كثير من الخدمات الضرورية في المدينة ، كنتيجة مباشرة لعدم الاستقرار والهجرة أو التهجير الإجباري.
وعلى النقيض ففي مناطق الحدود الآمنة فإن كثيرا من المميزات يتمتع بها بعض قاطني منطقة الحدود عند أو بالقرب من نقاط العبور ، حيث تتركز تجمعات للخدمات تقع بالقرب من الحدود بقدر المستطاع من أجل التمتع بالبضائع المهربة ، والتي يقل سعرها عنه في الداخل ، ومن يرصد البضائع الموجودة في كثير من المجال التجارية في مدينتي السلوم ومرسى مطروح (عند أو بالقرب من الحدود المصرية الليبية) يؤكد ذلك. كما تنشط الوظيفة السياحية فالفنادق والمطاعم الواقعة بالقرب من نقاط العبور هي أكثر المعالم شيوعا في تلك المناطق.
وقد ينشط النشاط الصناعي في بعض الأحيان ، ففي منطقة الحدود الأمريكية الكندية وعبر البحيرات العظمى تتجمع المنشآت الصناعية التي تتمتع بالتخفيضات الجمركية ومن ثم فإن العمالة تأتي من جانبي الحدود. وفي بعض الأحيان يكون لرخص الأيدي العاملة أثره في تشجيع بعض المصانع لإنشاء أفرع لها بالقرب من الحدود للاستفادة من هذه العمالة الرخيصة الموجودة عبر الحدود. بالطبع فإن هذا النوع من التفاعل يحدث عندما يكون الخط الحديدي  يفصل بين دولتين صديقتين مثل : الولايات المتحدة وكندا. وقد نجد مثل هذا التعاون والتفاعل موجودا عند الحدود الهندية النيبالية ، ولكن لا نجده عند الحدود الهندية التبتية أو الحدود الهندية الباكستانية – وهذا بسبب وجود حدود مفتوحة بين نيبال والهند. وعلى النقيض فالحدود مغلقة بين الهند وباكستان وبين الهند والتبت ، وهذا الأمر الذي يجب أن ينتبه إليه الراغبون في دراسة أثر الحدود.

الفصل الرابع
خريطة العالم السياسية

-       مقدمة
أولاً : خريطة أوروبا السياسية :
·        في بداية القرن العشرين
·        بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى
·        الخريطة الحالية
·        المشكلة الأيرلندية (مثال لمشكلات القارة السياسية)
ثانياً : خريطة أفريقيا السياسية :
·        النفوذ الاستعماري في القارة
·        الخريطة السياسية الحالية
·        مشكلة شعب الإيفي (مثال لمشكلات الحدود السياسية الأفريقية)
ثالثاً : خريطة آسيا السياسية :
·        تغير الخريطة السياسية طوال القرن العشرين
·        خريطة آسيا السياسية الحالية
·        مشكلة التاميل (مثال لمشكلات آسيا)
·        المشكلة الأكراد (مثال لمشكلة ترسيم الحدود السياسية)
رابعاً : خريطة الأمريكتين السياسية :
·        خريطة أمريكا الشمالية
·        خريطة أمريكا الوسطى ودول البحر الكاريبي
·        خريطة أمريكا الجنوبية
·        خريطة استراليا 

خريطة العالم السياسية
مقدمة :
من ينظر إلى خريطة العالم السياسية يلحظ مدى تعدد وحداتها السياسية التي تصل إلى ا99 دولة متباينة في مساحاتها وأحجامها السكانية ، فهذا العالم الواحد مقسم ومجزأ ، وهذا أمر طبيعي يعكس التباين البشري فوق المعمور. وخريطة العالم السياسية متغيرة باستمرار ، وتتفاوت صور التغير من تغير بطئ إلى تغير جذري وفقا للمتغيرات الدولية المؤثرة على تكون الدول وتغير حدودها السياسية ، ومن ثم فإن الخريطة السياسية الحالية للعالم في بداية الألفية الثالثة ليست سوى إحدى مراحل تطورها وتغيره المستمر المرتبط دائما بالصراع البشري الذي لن ينتهي فوق سطح الأرض.
والجغرافي عند دراسته لخريطة العالم السياسية يضع في اعتباره أن هذا التغير نتاج لتغير الحدود السياسية ، وهي في الحقيقة ظاهرة صنعها الإنسان. ودائما يجب على الجغرافي أن يدرس أثر التغيرات السياسية على تغير أشكال الدول وأحجامها واقتصادياتها. كما أنه يجب أن يضع في الاعتبار دراسة القوميات المختلفة في العالم ، والعوامل التي أدت إلى ظهور هذه القوميات وتوسعها وانتشارها أو انكماشها خلف حدود سياسية محددة. وسوف يوضح هذا الاهتمام للجغرافي مناطق الاستقرار وعدم الاستقرار وإثارة المشكلات والقلاقل فوق بقاع العالم سواء أكان ذلك في دولة أم في جزء منها.
سوف يظل سلام العالم واستقراره مرتبطا بتغير حدود العالم السياسية ، والذي يحدده ساسة الدول وزعماء القوميات. ونظرا لأن خريطة العالم السياسية دائمة التغير فهناك دول جديدة تظهر على خريطة العالم وترفع رايتها فوق سواري الأمم المتحدة. وقد تختفي بعض الدول عندما تندمج مع بعض الدول لتصحح أوضاع قوميات ظلت مقسمة بسبب قوى خارجية. وعلى النقيض قد تنقسم دولة إلى عدة دول. من هنا فإن خطوط الحدود الدولية بين الدول دائمة التغير ، وإن خريطة العالم السياسية الحالية تمثل المرحلة الأخيرة لتطور صراع القوى في العالم ، وهي نتاج لمجموعة متباينة من العوامل تعمل على بلورة الشخصية السياسية للإقليم السياسي.
وتعد التغيرات السياسية التي شهدتها خريطة العالم السياسية في القرن العشرين خير دليل على عمق التغيرات السياسية الضخمة فوق أرجاء قارات العالم القديم ، فقد تغيرت خريطة أوروبا بعد زوال الإمبراطوريات التي سادت خلال العصور الوسطى ، ثم تغيرت مرة أخرى وأعيد رسم الخريطة السياسية لها بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بهزيمة ألمانيا وإيطاليا.
وتغيرت خريطة أفريقيا وآسيا كثيرا بعد أن تحررت كثيرا من بقاعها من الاستعمار الأوروبي ، وظهرت كثير من الدول الحديثة. كما أثر الصراع الدين والأيديولوجي على انقسام بعض دولها إلى أكثر من دولة ، كما حدث في جنوب شرقي آسيا ، وفي شبه جزيرة الداكن وشبه الجزيرة الكورية ، والاتحاد السوفيتي.
ومع نهاية الألفية الثانية بلغ عدد دول العالم 199 دولة موزعة بين قارات العالم بصورة غير متناسقة. فهناك قارات غيرة المساحة وبها عدد كبير من القوميات (أوروبا) ، وعلى النقيض تجد قارة أمريكا الشمالية ، والتي تقترب من مساحة أوروبا لا يوجد بها سوى دولتين فقط. وهذا ما توضحه بيانات الجدول رقم (6-1) والذي يوضح تباين الصورة السياسية بين قارات العالم.
جدول رقم (6-1) : أعداد الدول بين قارات العالم وفقا لبيانات عام 1999* 
القارة
عدد الدول
المساحة بالألف كيلومتر
عدد السكان "مليون نسمة"
آسيا
أفريقيا
أوروبا
أمريكا الشمالية
أمريكا الجنوبية
أمريكا الوسطى
الأوقيانوسيا
48
55
43
2
13
25
13
31782
30298
22986
19940
17870
3551
8563
3637
771
728
303
339
172
30
الجملة
199
134996
6 مليار
·        ضمت مستعمرة ماكاو البرتغالية إلى دولة الصين في ديسمبر 1999.
·   يقل عدد دول أفريقيا إلى 54 دولة في حالة ضم إقليم الصحراء إلى المغرب ، ويزيد عدد دول أوروبا إلى 44 دولة في حالة ضم دول الفاتيكان.

وتشير بيانات الجدول أن قارة أفريقيا – على الرغم من كونها ليست أكبر قارات العالم مساحة – تعد أكثر القارات تفتيتا وتقسيما سياسيا وبها 55 دولة ، تليها قارة آسيا وبها خمسون دولة ، فأوروبا وبها 42 دولة. أما أقل قارات العالم تقسيما فتمثلها قارة أمريكا الشمالية ، وبها دولتان فقط وهما كندا والولايات المتحدة الأمريكية. كما تكثر أعداد الوحدات السياسية القزمية – سواء مساحيا أو حجما سكانيا – في أمريكا الوسطى وجزر الكاريبي حيث توجد 25 دولة إجمالي مساحتهم جميعا 3.5 مليون كيلومتر مربع فقط. وجزر المحيط الهادي (الأوقيانوسيا) ، والتي تبلغ عدد دولها 13 دولة تنتشر فوق رقعة تبلغ 8.6 مليون كيلومتر مربع ، مع العلم بأن أكبر جزرها هي جزيرة استراليا والتي تبلغ مساحتها بمفردها 7.7 مليون كيلومتر مربع (87% من جملة مساحة الإقليم).
وشهدت قارة آسيا أحدث التغيرات السياسية فوق خريطة العالم ، فمع نهاية القرن العشرين ، وفي شهر ديسمبر من عام 1999 ، استقلت إمارة ماكاو البرتغالية (400 ألف نسمة ، وبمساحة لا تتجاوز 21 كيلومترا مربعا) وضمت رسميا إلى دولة الصين. وسوف تسجل قارة آسيا أيضا ظهور أحدث دولة "تيمور الشرقية" بعد انفصالها عن إندونيسيا في أواخر القرن العشرين.
وصفوة القول إن خريطة العالم السياسية متغيرة ، وإنها مستمرة في تغيرها ، وإن خريطة اليوم تختلف تماما عن نظيرتها قبل الحرب العالمية الأولى ، أو بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كما أن خريطة العالم السياسية سوف تتغير في السنوات القليلة القادمة سواء بظهور دول جديدة ، أو باتساع رقعة بعض الدول ، أو بانسلاخ بعض الدول من دول أكبر.
وفي الدراسة التالية عرض موجز عن التغيرات السياسية التي انتابت الخريطة السياسية لقارات العالم المختلفة. 
أولاً : خريطة أوروبا السياسية
اتسمت خريطة أوروبا السياسية بعدم الثبات منذ القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر ، ويمكن إيجاز أهم السمات التي تميز قارة أوروبا فيما يلي :
قارة أوروبا تأتي في مقدمة قارات العالم من حيث مدى تقسيم أراضيها إلى عدد كبير من الدول قياسا بصغر مساحتها ، وكما يتضح من دراسة الجدول (6-1) يلاحظ أن قارة أوروبا مساحتها ما يقرب من 23 مليون كيلومتر مربع (بما فيها جمهورية روسيا الاتحادية) ، ومساحتها بدون روسيا لا تزيد عن 5 مليون كيلومتر فقط. هذه الرقعة الأخيرة بها 42 وحدة سياسية. وأن متوسط حجم الوحدة السياسية لا يزيد عن 120 ألف كم مربع فقط ، وتزيد متوسط المساحة إذا ما أضيفت مساحة روسيا الاتحادية ليصل الرقم إلى نصف مليون كم مربع ، وهذا يعني كثرة القوميات في هذه القارة.
والملاحظ على خريطة أوروبا السياسية أن الأجزاء الغربية منها قد استقرت أمور دولها في كل من فرنسا وإسبانيا والبرتغال وبريطانيا وهولندا والدانمرك وبلجيكا والسويد والنرويج وفنلندا ، في حين لم تستقر أمور دول شرق وجنوب شرق أوروبا في دول البلقان وبولندا والتشيك والسلوفاك. وجدير بالذكر أن الاستقرار الذي تنعم به دول غرب القارة لم تحصل عليه بين ليلة وضحاها ، فالقارة تغيرت صورتها السياسية بسرعة ، وهذا ما توضحه دراسة خريطة القارة في ثلاث مراحل :
الأولى : في بداية القرن العشرين ، والثانية عقب معاهدة فرساي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ، والثالثة الخريطة الحالية.

1)    خريطة أوروبا السياسية في بداية القرن العشرين :
توضح دراسة الخريطة السياسية للقارة عام 1900 (شكل 6-1) أن أوروبا كانت تضم بعض الإمبراطوريات والقوى السياسية العظمى ، وكانت الخريطة بسيطة ولا تختلف صورتها كثيرا عن تلك التي رسمت في مؤتمر فيينا عقب حروب نابليون في الثلاثينيات من القرن الثامن عشر ، وأهم التغيرات التي ظهرت هي ظهور كل من ألمانيا وإيطاليا كونهما دولتين موحدتين ، كما ظهرت بعض القوى السياسية حينئذ مثل الإمبراطورية الروسية القيصرية وإمبراطورية النمسا والمجر.


وبريطانيا التي كانت قوة استعمارية ضخمة ، وفرنسا والتي كانت قوة برية دانت لها أقطار كثيرة ، وخاصة في عهد نابليون بونابرت ، كما أن أملاك الدولة العثمانية امتدت إلى دول شرق أوروبا في كل من رومانيا وبلغاريا واليونان وشبه جزيرة البلقان ، مع أن الأخيرة قد بدأت تترنح وتتفكك وكان من نتاج ذلك استقلال بعض الدول مثل : رومانيا ، واليونان. وفي تلك الفترة كانت الوحدة تضم كل دول الأراضي الواطئة بعد مؤتمر عام 1835 في فيينا وهذه الدول كانت هولندا وبلجيكا ولكسمبرج ، وهذه الوحدة لم تستمر طويلا حتى تفككت وظلت هذه الدول على حدودها حتى هذه اللحظة.
أما دول شبه جزيرة أيبريا والمتمثلة في إسبانيا والبرتغال فقد كانتا ثوى استعمارية ذات ممتلكات واسعة في قارات العالم ولكنهما فقدا معظم مستعمراتهما.
أما دول اسكنديناوه فقد ظلت بعيدة عن الصراع الأوروبي وكانت دولة واضحة الحدود استفادت من قوة بنيانها البشري ، والذي ورثته عن دولها الفايكنج القديمة التي سادت على أراضيها وكانت حدود كل من النرويج والسويد بعيدة عن مشكلات الحدود بعد انفصالهما عن بعضهما.

2)    أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى :
بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانتهت بهزيمة ألمانيا وحلفائها تركيا وإمبراطورية النمسا والمجر ، اختلفت خريطة أوروبا نتيجة للتغيرات السياسية التي واكبت هزيمة هذه الدول وأهم ملامح القارة يمكن إيجازها في :
·   نشأت دول جديدة مثل : بولندا وتشيكوسلوفاكيا وفنلندا ودويلات بحر البطريق (استونيا ولاتفيا وليتوانيا) ، وهذا ما توضحه خريطة رقم (6-2).
·        استقلال دولة أيسلندا عن الدانمرك في عام 1918 ، وكوين دولة أيرلندا الحرة عام 1937.
·   انكماش رقعة بعض الدول مثل : النمسا والمجر وذلك بعد أفول نجميهما وأصبحت حدودهما هي الحدود الحالية ، وانكماش رقعة ألمانيا بعد أن فقدت أجزاء من أراضيها حين ضمت مقاطعتي أيوبين ومالميدي إلى بلجيكا ، ومقاطعة شلزفيج إلى الدانمرك والألزاس واللورين إلى فرنسا.
·   زادت مساحة أراضي بعض الدول مثل : رومانيا وبلغاريا واليونان والدانمرك وفرنسا وبلجيكا ، أما إيطاليا فقد زحزحت حدودها إلى الشمال حتى بلغت القمم العالية في جبال الألب واتسعت رقعتها شرقا بعد ضم جزيرة أستريا.
·   حصول بولندا على واجهة بحرية عن طريق ممر دانزج ، والذي أدى إلى فصل أراضي ألمانيا ، وكان أحد أسباب الحرب العالمية الثانية.
ومع سيطرة هتلر على الحكم في ألمانيا وقيام الحرب العالمية الثانية توسعت ألمانيا كثيرا في الأراضي الأوروبية ، وخاصة إلى الشرق والجنوب. كما حدثت تغيرات أخرى خلال الحرب العالمية الثانية ، والتي أدت إلى تغير كبير في الخريطة السياسية لأوروبا. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية زحزحت روسيا حدودها وضمت إليها أراضي من رومانيا وأجزاء من شرق بولندا وأجزاء من تشيكوسلوفاكيا ، ومنطقة بروسيا الشرقية من ألمانيا ، وضمت إليها أراضي دويلات البلطيق الثلاث وبعض أراضي فنلندا حول بحيرة لادوجا والأراضي الساحلية المطلة على المحيط المتجمد الشمالي.
وتوسعت أراضي تشيكوسلوفاكيا على نهر الدانوب عند منطقة براتسلافام واتسعت رقعة بولندا غربا على حساب أراضي ألمانيا في منطقة سيليزيا العليا وبعض أراضي بروسيا الشرقية ، كما انكمشت أراضي إيطاليا بعد أن اقتطعت منها أراضي شبه جزيرة أستريا وزرارا وجزر ساحل دالمشيا وضمت إلى يوجوسلافا.
وظلت الحدود السياسية للدول القومية (بواقي نظام الإقطاع القديم) الصغيرة واحتفظت بكيانها السياسي وتقاليدها التي عاشتها منذ العصور الوسطى وهى إمارات صغيرة الحكم والسكان مثل : إمارة موناكو وسان مارينو وأندورا وليختنشتين Liechtenstien.

3)    خريطة أوروبا السياسية الحديثة :
كما سبقت الإشارة, فإنه على الرغم من صغر مساحة القارة ( 5 مليون كم2 ) إلا أنها تضم 43 دولة. وهذا يعكس مدى التعقد السياسي والقومي لهذه القارة ذات كثافة السكان المرتفعة. ولم ينته التقسيم السياسي للقارة إلى هذا العدد الكبير من الدول, بل أن خريطة أوروبا السياسية قد تأثرت بالتغيرات الكبيرة التي انتابتها في النصف الأول من القرن العشرين. وانقسمت ألمانيا إلى دولتين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية التي اقتطع منها إقليم الألزاس واللورين وعاد إلى فرنسا في نفس الوقت ضمت ألمانيا الغربية إقليم السار من فرنسا. وقد انقسمت أوروبا أيديولوجيا إلى قسمين :
أحدهما : شرق أوروبا : ويضم الدول التي سارت في فلك الاتحاد السوفيتي والنظام الشيوعي وانطوت تحت لواء حلف وارسو, ويشمل ألمانيا الشرقية ورومانيا ويوغوسلافيا, وبلغاريا, وبولندة والمجر وتشكيوسلوفاكيا وألبانيا.
والآخر : غرب أوروبا : ويضم فرنسا وبريطانيا وألمانيا الاتحادية وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا وهولندة والنرويج, ودخلت هذه الدول مع الولايات المتحدة الأمريكية في حلف شمال الأطلنطي, وأطلق عليها دول المعسكر الرأسمالي (الغربي).
وكان نتاج هذا التقسيم الأيديولوجي أن ظهرت دول محايدة بين هذين المعسكرين ، وهي دول النمسا وسويسرا وفنلندا والسويد.
ومن دراسة الجدول رقم (6-2) والشكل (6-3) يمكن أن نلاحظ على خريطة أوروبا ما يلي:
جدول رقم (6-2) : دول أوروبا وعواصمها في عام 1999
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الدانمرك
استونيا
فنلندا
أيسلندا
ج. أيرلندا
لاتفيا
ليتوانيا
النرويج
السويد
بريطانيا
النمسا
بلجيكا
فرنسا
ألمانيا
ليختنشتين
لوكسمبرج
موناكو
هولندا
سويسرا
بيلاروسيا
بلغاريا
كوبنهاجن
تالين
هلسنكي
ريكيافيك
دبلن
ريجا
قلنيوس
أوسلو
استوكهلم
لندن
فيينا
بروكسل
باريس
برلين
فادوز
لوكسمبرج
موناكو
أمستردام
برن
منسك
صوفيا
43.2
45.2
339
104
70.2
65
65
325
452
129
83
31
553
356
0.1
2.5
0.2
41
41.6
208
111.8
التشيك
المجر
مولدافيا
بولندا
رومانيا
روسيا الاتحادية
سلوفاكيا
أوكرانيا
ألبانيا
أندورا
البوسنة والهرسك
كرواتيا
اليونان
إيطاليا
مقدونيا
مالطا
البرتغال
سان مارينو
سلوفينيا
إسبانيا
يوجوسلافيا
براغ
بودابست
شيزيناو
وارسو
بوخارست
موسكو
براتسلافا
كييف
تيرانا
أندورا
سراييفو
زغرب
أثينا
روما
إسكوبي
فاليتا
لشبونة
سان مارينو
جوبلجانا
مدريد
بلجراد
79
163
33.8
325
239
17139
50
606
28
0.4
52
57
133
302
26
0.32
92
0.06
20.8
507
104
لم يتضمن الجدول دولة الفاتيكان التي تحتل أحد شوارع مدينة روما في ميدان القديس بطرس والتي تصل مساحتها إلى 0.4 كم مربع فقط.


1-   معظم دول أوروبا صغيرة المساحة ، وأكبر دول القارة هي أوكرانيا وألمانيا وفرنسا والسويد ومساحة كل منها يتراوح بين ربع إلى نصف مليون كيلومتر مربع  ، وعلى النقيض يكثر عدد الدول التي تقل مساحتها عن 50 ألف كيلومتر مربع مثل سويسرا وبلجيكا والدانمرك ومولدافيا وسلوفينيا ومقدونيا وألبانيا.
2-   على الرغم من صغر مساحة القارة ، إلا أنها تتميز بكثرة الدول الحبيسة مثل المجر والنمسا وسويسرا ولوكسمبرج والتشيك والسلوفاك وبيلاروسيا.
3-   تخلو قارة أوروبا من المستعمرات باستثناء منطقة جبل طارق التي ما تزال تحت الحكم البريطاني. وكانت معظم دولها دولا استعمارية كونت إمبراطوريات لها فيما وراء البحار ، مثل إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا والدانمرك وهولندا.
4-   أكبر دول قارة أوروبا مساحة هي روسيا الاتحادية التي تصل مساحتها إلى 17 مليون كم مربع ، وهذه المساحة معظمها ذات امتداد آسيوي يصل إلى سيبيريا وساحل المحيط الهادي.
5-   ما تزال قارة أوروبا تشهد عدة تغيرات ، فمع نهاية القرن العشرين وخلال عامي 1991 ، 1992 شهدت أوروبا ثلاث ظواهر سياسية كبرى كان نتاجها زيادة عدد دول القارة وهي :
‌أ-  تفكك الاتحاد السوفيتي : وكان نتاج هذا التفكك انفصال دول بحر البلطيق ، وهي استونيا ولاتفيا وليتوانيا في عام 1991 ، وانفصال دول شرق أوروبا وهي : أوكرانيا وبيلاروسيا ومولدافيا ، إضافة إلى ثماني دول تقع في قارة آسيا "دول الكومنولث الروسي". وأكبر الدول التي تمخضت عن هذا التفكك هي دولة روسيا الاتحادية التي تعد أكبر دولة في مساحة أراضيها ، والتي تصل إلى 17.213 كم2.
‌ب-تفكك يوجوسلافيا : وما تزال آثار هذا التفكك تثير قلق ساسة العالم ، فعقب انهيار الاتحاد السوفيتي انتهت دولة يوجوسلافيا كونها دولة اتحادية في يونيو 1991. وكان نتاج هذا التفكك استقلال دول مثل : مقدونيا وكرواتيا وسلوفينيا ، وأخيرا البوسنة والهرسك التي لم تستقل بسهولة ، بل بعد أن دمرت بنيتها الأساسية وقتل وشرد أعداد كبيرة من سكانها. ولم يتبق من أطلال يوجوسلافيا الاتحادية إلا اتحاد جمهوريتي الصرب والجبل الأسود ، ولم تكتمل صورة الاستقرار تماما في هذه الدولة حيث طالب سكان إقليم كوسوفا بالاستقلال واستقطب سكان هذا الإقليم عطف دول حلف الأطلنطي الذي ساعدت في الحصول على حق تقرير المصير بعد ضرب يوجوسلافيا وحصارها في النصف الأول من عام 1999 ، وهناك أدلة على أن جمهورية مونت نجرو أو الجبل الأسود قد تنفصل هي الأخرى لتبقى الصرب دولة حبيسة رافعة راية يوجوسلافيا.
‌ج- انقسام دولة تشيكوسلوفاكيا : عام 1992 انقسمت دولة تشيكوسلوفاكيا بهدوء ورسمت حدود الدولتين لتفصل بين القوميتين السلوفاكية عن التشيكية بعد الاتحاد الفيدرالي الذي تكون عام 1918.
6-   توحيد ألمانيا : رغم العداء الشديد الذي شهده شطرا ألمانيا بعد هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية ، إلا أن رغبة الشعب الألماني وزعيمه هيلموت كول الذي أقنع حلف الأطلنطي بأهمية وحدة ألمانيا كان لهما الأثر في توحيد ألمانيا. ويعد شهر أكتوبر 1990 تاريخا لا ينسى للشعب الألماني الذي تحقق حلمه في هذا اليوم ، وكان اكتمال الأفراح بعودة برلين عاصمة موحدة لألمانيا الموحدة عام 1999 ، تلك الوحدة التي أدت إلى ظهور مارد قوي وسط أوروبا ، قد يغير خريطة أوروبا مستقبلا.

المشكلة الأيرلندية "مثال لمشكلات الحدود الأوروبية" :
تعود جذور المشكلة الأيرلندية إلى تاريخ الاستيطان والهجرة من أوروبا إلى الجزر البريطانية ، فقد استقبلت الجزيرة البريطانية الكبرى العديد من المهاجرين الأوروبيين الذين عمروا الجزيرة ، ودفعت السكان المستضعفين إلى سكنى ويلز وأيرلندا ، ونجح سكان الجزيرة الكبرى في تكوين وحدة قومية مستفيدة من موقعها الجغرافي الجيد بينها وبين أوروبا من جانب وحلقة للاتصال بالأمريكتين من جانب آخر ، وقد استفاد سكان هذه الجزيرة من إمكاناتها الاقتصادية الجيدة المتمثلة في كثرة إرسابات الفحم والحديد اللذين ساعدا على قيام الثورة الصناعية التي أدت إلى تقدم بريطانيا ونجاحها في السيطرة على العديد من دول العالم فيما وراء البحار.
أما الجزيرة الصغيرة "أيرلندا" فكانت أقل حظا حيث إن طبيعة الأرض بها تتسم بالاستواء النسبي وسوء الصرف مما أدى إلى تجمع العديد من المستنقعات والبحيرات ، مما جعل السكان الذين لا يزيد عددهم عن 5 مليون نسمة لا يجدون سوى الزراعة حرفة لهم ، في الوقت الذي تعاني فيه من إمكاناتها الزراعية الفقيرة نظرا لفقر التربة وسوء الصرف ولعدم وجود فصل جاف بمعنى الكلمة. من ثم فقد ساد بالجزيرة الحياة الرعوية "الأبقار والأغنام". هذه الظروف جعلت جزيرة أيرلندا إحدى البقاع المنعزلة التي لجأت إليها العناصر الكلتية التي احتفظت بسماتها السلالية والحضارية ، كما احتفظوا بصفاتهم الدينية "كاثوليكية".
وقد سيطرت بريطانيا على أيرلندا واستعمروها وقسموا الجزيرة إلى أجزاء يحكمها الأشراف والنبلاء ، وقد تعرضت أيرلندا لعدة أزمات نتيجة لسوء الأحوال الجوية مما أثر على إنتاجها الزراعي ، ففي الفترة من 1840 – 1850 كان لسقوط الأمطار بغزارة أثره البالغ في إتلاف محصولهم الرئيسي "البطاطس" مما أدى إلى شيوع المجاعة وانتشار الفقر ، وكان من نتاج ذلك نزوح أعداد كبيرة من الأيرلنديين إلى الولايات المتحدة ، وتعرضت أيرلندا لعجز في الأيدي العاملة ، في الوقت الذي شدد فيه الإنجليز من فرض الضرائب مما زاد من كراهية الأيرلنديين للإنجليز.
في نفس الوقت استقبلت الأجزاء الشمالية من الجزيرة في منطقة ألستر عناصر بريطانية حاملة معها المذهب البروتستانتي ولغتهم وخبرة صناعية. وتوالى وفود أعداد أكبر من الإنجليز وارتبطوا بالجزيرة الكبرى البريطانية بعلاقات اقتصادية قوية حتى أصبحت منطقة ألستر مرتبطة برباط وثيق ببريطانيا في الوقت الذي أهملت فيه بقية جزيرة أيرلندا ، وكان وراء هذا التمييز أن بدأ سكان جنوب أيرلندا المطالبة بالحكم الذاتي بعيدا عن سلطة الإنجليز.
وفي عام 1914 وبعد كفاح مسلح دامي أصدر البرلمان البريطاني قراره بمنح الحكم الذاتي لأيرلندا الجنوبية ، في نفس الوقت الذي مانع فيه سكان شمال أيرلندا البروتستانت أن تكون السيطرة على معظم الجزيرة للكاثوليك. وزاد سخط الكاثوليك حين أصدرت قوانين تفرقة عنصرية ضدهم ، والسماح للبروتستانت بالاحتفال بأول يوليو "ذكرى انتصار الملك وليم الثالث البروتستانتي في عام 1690 على جيمس الثاني الكاثوليكي".
ولم تحصل أيرلندا على استقلالها إلا بعد معاناة طويلة انتهت باتفاق عام 1921 ، والذي منح القسم الجنوبي من الجزيرة (85% من المساحة) استقلالا ذاتيا على أن تظل تابعة للكومنولث البريطاني ، بينما ظل إقليم الشمال ألستر تابعا لبريطانيا ، وهذا ما لا يرضاه سكان أيرلندا ورأت بريطانيا أن يترك تعيين الحدود بين ألستر وجمهورية أيرلندا إلى لجنة محايدة مكونة من مندوبين من ألستر وبريطانيا وأيرلندا.
وتتعقد خريطة توزيع الديانات في ألستر ، ففي الوقت الذي تسود فيه البروتستانتية ، فإن بعض مقاطعاتها من الكاثوليك مثل (سكان جنوب أيرلندا) ، واستمر الوطنيون الأيرلنديون في المطالبة بضم منطقة ألستر إلى الدولة الأم ، ولقى ذلك تأييدا كبيرا من الحكومات المختلفة في أيرلندا الجنوبية ، وفي عام 1937 نجح الحزب الجمهوري من الوصول إلى الحكم وأعلن الاستقلال عن أيرلندا وإطلاق اسم جمهورية أيرلندا ووضع دستورا للبلاد وطالب فيه بضم إقليم ألستر ، وبدأ الاهتمام بالتصنيع وتحسين الإنتاج الزراعي ودعم التجارة الخارجية ، مما أدى إلى تقدم أيرلندا.
ولم ينته الأمر عند حد إعلان الجمهورية والاستقلال التام من جانب واحد ، بل اتخذ قائد التحرير (دي فاليرا) قرارا شجاعا حين أعلن للعالم أن جمهورية أيرلندا لا تتقيد بسياسة بريطانيا وأنها (أيرلندا) اختارت الحياد التام أثناء الحرب العالمية الثانيى التي اندلعت عام 1939.
وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا الضغط على أيرلندا لتغيير موقفها ، ولكن تمسك الأيرلنديون بموقفهم ، بل وسمحت أيرلندا الحرة للغواصات الألمانية أن تتخذ لنفسها قواعد للتموين في عدة موانئ على سواحلها أثناء الحرب ، مما يعني تحدي الحلفاء في حربهم ، وهذا الموقف كان نتاجا للحقد الشديد تجاه البريطانيين.
ولم تنس إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية هذا الموقف لأيرلندا فوقفتا ضد اشتراك أيرلندا الحرة في عضوية الأمم المتحدة عدة سنوات ، ولكن نجحت أيرلندا بعد ذلك في الانضمام للمنظمة الدولية ، بل أصبحت عضوا فعالا في السوق الأوروبية المشتركة ، وعضوا في الاتحاد الأوروبي وسبقت بريطانيا في ذلك.


       وعلى الجانب الشمالي من أيرلندا في منطقة ألستر ومنذ عام 1936 تكونت خلايا عسكرية للمقاومة تحت اسم الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي وضع في استراتيجيته ضرب وتخريب الممتلكات البريطانية وقتل المسئولين البريطان لتحقيق أغرضاهم في ضم الإقليم إلى الدولة الأم "أيرلندا". وتبذل الحكومة البريطانية حاليا جهودا كبيرة للإصلاح الدستوري في أيرلندا الشمالية لتؤكد بقاءها كونها جزءا من بريطانيا مع إقامة هيئتين إحداهما تنفيذية والأخرى تشريعية تمثل كلا من الكاثوليك والبروتستانت. وتظل الحكومة البريطانية مسئولة عن الشئون الخارجية والدفاع. ولكن كل هذه الإصلاحات لم ترض السكان الوطنيين والجيش الجمهوري ، ولم تنجح في وقف ضرباته التخريبية داخل لندن أو في إقليم ألستر.
أخيرا ، قارة أوروبا صغيرة المساحة ومتعددة القوميات ، والتي تضم بين جنباتها ثلاث وأربعين وحدة سياسية تتعقد حدودها السياسية أيضا بصورة لافتة. وليست مشكلة أيرلندا هي الوحيدة بالقارة ، بل لا يوجد حد سياسي يفصل بين دولتين إلا واكتنفته المشكلات ، ومن هنا فإن الحدود السياسية الأوروبية من النوع المعقد المتشابك ، ويمكن سرد بعض الأمثلة عن مشكلات الحدود السياسية في القارة فيما يلي :
1- مشكلات الحدود السياسية الفرنسية مع كل من ألمانيا (ألزاس ولورين والسار) ومشكلاتها مع لوكسمبورج ومشكلاتها مع إيطاليا على ساحل الريفيرا وفي وادي أوستا.
2-  مشكلات الحدود بين هولندا وبلجيكا في منطقة مالميدي ومنطقة سانت فيث.
3- مشكلة الحدود الألمانية : تتعدد المشكلات على حدود ألمانيا نظرا لترسيم الحدود السياسية لألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية. ومن هنا تظهر مشكلات مع كل من الدائنمرك "شلزفيج" وبين ألمانيا والسلوفاك في إقليم السوديت ، وبين ألمانيا وبولندا "الممر البولندي".
4- تتعدد مسكلات الحدود السياسية في إقليم شرق أوروبا ، حيث لم تصل حدود هذه الدول بعد إلى مرحلة الاستقرار ، فحدود بولندا مع جيرانها تعد أفضل الأمثلة ، حيث إن بولندا تعاني من مشكلات بينها وبين سلوفاكيا وبيلاروسيا ورومانيا. وبين رومانيا وبلغاريا ، وبين اليونان وبلغاريا ، وبين بلغاريا ويوجوسلافيا ، وبين المجر وسلوفينيا ، وبين إيطاليا وتركيا. ومشكلات الحدود بين النمسا وجيرانها.
5-  مشكلات في منطقة وسط أوروبا وأهمها مشكلات الحدود المجرية مع رومانيا حول منطقة ترانسلفانيا.
6- مشكلات متعلقة بترسيم الحدود الإيطالية (معقدة ايضا نظرا لترسيمها بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية) ، وأهم هذه المشكلات تتعلق بالحدود الإيطالية مع النمسا في إقليم التيرول الجنوبي ، ومشكلة شبه جزيرة إستريا وميناء ترست "أغلبية إيطالية" ، والذي ضم ليوجوسلافيا "يتبع سلوفينيا حاليا" ، والحدود الإيطالية السويسرية في منطقة تشينو ومشكلاتها مع فرنسا.
7- مشكلات الحدود السياسية في البلقان التي ماتزال قائمة والتي أدت إلى اندلاع عدة حروب كان آخرها في أبريل 1999 ضد الصرب وبسبب اضطهاد شعب كوسوفا ، وارتبطت المشكلات بالتقسيم الذي انتاب دولة يوجوسلافيا.


ثانيا : خريطة أفريقيا السياسية
كانت أفريقيا في بداية القرن العشرين موزعة بين الدول الاستعمارية. فقد قسمت القارة بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبرتغال وبلجيكا ، غضافة إلى تركيا "الدولة العثمانية". ولم يسلم من الاستعمار سوى ليبريا والحبشة ومراكش ، وإن كانت الظروف قد تغيرت بعد ذلك ، وخاصة بعد استعمار كل من الحبشة ومراكش.
وتختلف الخريطة السياسية لأفريقيا حاليا عن تلك الخريطة عام 1900 وذلك بسبب حركات التحرر التي خلصت دولها من السيطرة الأجنبية. ولا يمكن فهم خريطة أفريقيا السياسية دون أن نتحدث عن النفوذ الأجنبي للقارة ، فالمستعمر الأوروبي الذي غادر القارة مازال مرتبطا بالقارة وعينه على مستعمراته القديمة ، ويتدخل دائما تحت بند المساعدات أو أحيانا تحت بند حل النزاعات الطائفية ، والتي كانت نتاجا مباشرا لتواجده سابقا.

النفوذ الاستعماري في القارة :
من دراسة أوضاع القارة في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين يمكن رصد الشكل الاستعماري على أراضي القارة فيما يلي:
1- كانت البداية الاستعمارية مرتبطة بحركة الكشوف الجغرافية ، وكانت البرتغال أول القوى الاستعمارية للقارة ، وكذلك كانت هولندا لها السبق الثاني وكان الاستعمار هنا في صورة محطات ساحلية استعمارية ، ثم تبعها كل من بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا وأسبانبا ، كما يتضح من الشكل رقم (6 – 5).
2- سيطرت فرنسا على ثلث مساحة القارة تقريبا ، أما بريطانيا فقد سيطرت على 19% تقريبا ، أما باقي القوى الأجنبية الأخرى فقد سيطرت على بقية القارة. وأهم هذه الدول بلجيكا التي سيطرت على حوض الكونغو (8% من مساحة القارة).
3- اتسمت المستعمرات الفرنسية بأنها تركزت في إقليم غرب أفريقيا وشمالها في المغرب العربي ، بالإضافة إلى منطقة العيس والعفر في القرن الأفريقي (جيبوتي) وجزر القمر ومدغشقر وريونيون. بالإضافة إلى هذه المستعمرات في شرق القارة فقد امتدت رقعة المستعمرات الفرنسية لتضم تونس والجزائر والمغرب وتشاد والنيجر ومالي وموريتانيا والسنغال وغينيا وفولتا العليا "بوركينافاسو حاليا" ، وساحل العاج "كوت ديفوار" وداهومي "بنين حاليا" وأفريقيا الوسطى والكنغو الأوسط "كينشاسا".
4- تركزت المستعمرات البريطانية ومناطق نفوذها على امتداد شرق وجنوب القارة على طول امتداد النيل في كل من مصر والسودان وأوغندا وروديسيا الجنوبية "زيمبابوي حاليا" ، وروديسيا الشمالية "زامبيا" وبتسوانا وكينيا وتنجانيقا "تنزانيا حاليا" ، والصومال البريطاني ، بالإضافة إلى مملكتي سوازيلاند وليسوتو وجنوب أفريقيا ، والتي ظهرت دولة مستقل عام 1910 في أعقاب حرب البوير الشهيرة. أما مستعمرات بريطانيا في غرب القارة فكانت تشمل نيجريا والكاميرون "كانت خاضعة لألمانيا" وغمبيا وسيراليون وتوجولاند "كانت مستعمرة ألمانية سابقا" وساحل الذهب (غانا حاليا) ، بالإضافة إلى بعض الجزر الهامة مثل جزر موريشيوس وجزر سيشل وسانت هيلانة وجزيرة سوقطري وأبريم في مدخل البحر الأحمر في خليج عدن.
5- وكانت لأسبانيا مستعمرات أفريقية ، وإن كانت مساحتها صغيرة وهي ماتزال متمسكة ببعضها إلى الآن ، هذه المستعمرات هي ريودي أورو ، وريوموني "في خليج غانة وجزر كناري وجزر فرنانديز" وبلاد الريف في المغرب.
6- أما المستعمرات البرتغالية ، فكانت أكثر اتساعا من الإسبانية وتشمل كل من أنجولا وموزمبيق وكابنده وبعض الجزر مثل ساوتومي وبرنسيب في خليج غانة وجزر كيب فرد "الرأس الأخضر" وماديرا وجزر آزور في المحيط الأطلنطي.
7- وكانت لبلجيكا مستعمراتها في حوض الكونغو ، ولإيطاليا مستعمراتها في كل من ليبيا وأريتريا والصومال الإيطالي ، وتم تصفيتها جميعا بعد الحرب العالمية الثانية وأصبحت دولا مستقلة ، أما أريتريا فقد اتحدت مع أثيوبيا عام 1953 ، ثم استقلت أخيرا عن أثيوبيا وأصبحت دولة مستقلة.
8- وكان لألمانيا بعض مستعمرات في أفريقيا مثل إقليم أفريقيا الجنوبية الغربية ، والتي خضعت تحت وصاية جنوب أفريقيا ، ثم استقلت حاليا تحت اسم ناميبيا ، ومن المستعمرات الألمانية الأخرى الكاميرون وتوجو وتنجانيقا.
واستمر استعمار القارة السوداء حتى العقد السادس من القرن العشرين والذي بدأت معه انطلاقة التحرر لغالبية الدول (75% من إجمالي عدد الدول) ثم تبعتها بعض الدول في العقد السابع من القرن العشرين حتى أصبحت كل القارة محررة حاليا باستثناء بعض البقاع الاستراتيجية التي ماتزال خاضعة لإسبانيا في سبتة ومليلة وجزيرة سانت هيلانة. وارتبط التحرر بخروج أعداد ضخمة من المستوطنين الأوروبيين ، وإن كانت أفريقيا قد تحررت سياسيا إلا أنها ماتزال تحت سيطرة الاستعمار اقتصاديا ، فالموارد الطبيعية ماتزال تحت السيطرة الأوروبية. من هنا فما تزال أفريقيا تعاني كونها أكثر قارات العالم فقرا وتخلفا حيث إنها مسرحا للمجاعات والأمراض والانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي.
الخريطة السياسية الحالية لأفريقيا :
تختلف الأوضاع السياسية في القارة حاليا عما كانت عليه من قبل فقد استقلت دول القارة وأصبح عدد الدول بالقارة الأفريقية يصل إلى 55 دولة. هذا العدد يفوق مثيله في كل قارات العالم الأخرى وأصبحت تمتلك قوة سياسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذه الدول تتضح بياناتها في الجدول رقم (6 – 3) والشكل رقم (6 – 6) ومنه يمكن أن نستنتج عدة حقائق نوجزها فيما يلي:


جدول رقم (6-3) : دول أوروبا وعواصمها في عام 1999
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الجزائر
مصر
ليبيا
المغرب
صحراء غربية
تونس
السودان
بنين
بوركينافاسو
الرأس الأخضر
كوت ديفوار
غمبيا
غانا
غينيا
غينيا بيساو
ليبريا
مالي
موريتانيا
النيجر
نيجيريا
السنغال
سيراليون
توجو
بوروندي
جزر القمر
جيبوتي
أريتريا
أثيوبيا
الجزائر
القاهرة
طرابلس
الرباط
العيون
تونس
الخرطوم
بورتونوفا
واجادوجو
سداد ديبرايا
أبيدجان
بانجول
أكرا
كوناكري
بيساو
مونروفيا
بماكو
نواكشوط
نيامي
أبوجي
داكار
فري تاون
لومي
بوجمبورا
موروني
جيبوتي
أسمرة
أديس ابابا
2399
1000
1765
447
252
163
2537
112
276
4
322
117
239
247
44
112
1245
1029
1011
928
198
73
57
28
2.2
23.1
117
1107
كينيا
مدغشقر
مالاوي
جزر موريشيوس
موزمبيق
جزر رينيون
رواندا
جزر سيشل
الصومال
تنزانيا
أوغندا
زامبيا
زيمبابوي
أنجولا
الكاميرون
أفريقيا الوسطى
تشاد
الكونغو
الكنغو الديمقراطية
غينيا الاستوائية
الجابون
جزر ساوتومي
بتسوانا
ليسوتو
ناميبيا
جنوب أفريقيا
سوازيلاند
نيوبي
تناناريف
ليلونجو
بورت لويس
مابوتو
سانت دينيس
كيجولي
فيكتوريا
مقديشيو
دار السلام
كمبالا
لوزاكا
هراري
لواندا
ياوندي
بانجي
بنجامينا
برازافيل
كينشاسا
مالايو
ليبرفيل
ساوتومي
جابورونا
ماسيرو
ويندهوك
بريتوريا
مابان

884
587
119
2.3
803
2.6
26
0.5
639
949
241
754
41
1250
475
624
1220
343
1353
28
267
.8
82
31
826
1224
17

1- معظم الحدود السياسية لأفريقيا تم ترسيمها في الفترة من 1884 – 1919 ، ومعظم هذه الحدود صناعية ، ولا تمثل أقساما طبيعية أو بشرية. فهي معظمها حدود هندسية وضعت من قبل المستعمر دون أن يدرس خصائص الأرض أو توزيع السكان لذلك فهي تحمل بذور الشقاق والخلاف.
2- معظم دول قارة أفريقيا ، والتي يبلغ عددها 55 دولة (أو 54 دولة في حالة ضم الصحراء الغربية إلى المغرب) ، ذات مساحة كبيرة ، وأن عدد الدول التي تتراوح مساحتها ما بين نصف إلى مليون كم مربع يصل إلى 21 دولة أي نصف عدد دول القارة تقريبا.
3- هناك تفاوت كبير بين دول القارة من حيث عدد السكان والشكل والموارد وما ينعكس على مستوى الدخل السنوي للفرد. والملاحظ نظرا للعوامل الطبيعية. فلا توجد تناسب بين المساحة وعدد السكان في كثير من الدول ، فهناك دول ات مساحة كبيرة وأعداد سكانها قليلة مثل ليبيا ومالي وتشاد وموريتانيا والكونغو وليسوتو والجابون. وعلى النقيض يلاحظ على بعض الدول ذات المساحة الصغيرة وعدد السكان الكبير ترتفع كثافة السكان بها بصورة كبيرة مثل معظم الدول الجزيرة (ساوتومي ، موريشيوس ، الرأس الأخضر وجزر القمر) ، وبعض الدول مثل أوغندا ، ورواندا ، وغمبيا ونيجيريا وتوجو وبوروندي.
4- كثير من دول القارة نمت بصورة غير طبيعية (أي لم تنم حول منطقة نواة) ، بل كانت نتاجا للتقسيم الاستعماري ، وينتشر هذا النمط في غرب القارة. هذه الدول تضم بين جنباتها عدة قوميات مثل بوركينافاسو وتوجو وبنين والصومال ومالاوي.
5- معظم عواصم الدول تقع على الساحل لتأكد تبعية هذه الدول وتوجيهها للدول المستعمرة سابقا. وكثير من هذه العواصم موانئ ساحلية وتتركز بها الوظائف الإدارية والمالية والاقتصادية أو بمعنى آخر فإن هذه العواصم تمثل نمطا للهيمنة وتركز الخدمات الصحية والتعليمية ، والتي تكاد تنعدم في باقي أرجاء الدولة أو في المناطق الريفية الأخرى.
6- كان تخطيط الحدود وترسيمها مؤكدا نظريا ، أو بمعنى آخر اصطناعيا ، مما أثر سلبيا على توزيع القوميات عند تطبيقه وترجمته إلى الواقع ، فالشعب الصومالي كان ضحية لهذا التقسيم وأصبح مشتتا بين عدة دول في جيبوتي والصومال وأثيوبيا وشمال كينيا ، كما قسمت كثير من القبائل والجماعات بين المستعمرات الأوروبية السابق. وخير مثال لذلك التفتت هو شعب الإيفي في غرب أفريقيا الذي يتوزع بين كل من توجو وغانا وأصبحت الأسر مشتتة بين هاتين الدولتين ، وهناك عدة قبائل قسمتها الحدود السياسية ومنعت توحيدها.
7- يكثر بالقارة الدول الحبيسة بصورة تفوق ما هو موجود في أي قارة أخرى (15 دولة حبيسة) وهذه الدول هي أثيوبيا وتشاد والنيجر ومالي وبركينافاسو وأفريقيا الوسطى ورواندا وبوروندي وأوغندا ومالاوي وزامبيا وزيبمابوي وبتسوانا وليسوتو وسوازيلاند. هذه الدول تقع تحت رحمة الدول الساحلية في تصريف تجارتها ، مما يجعلها توابع اقتصادية ، مما يزيد من ضعفها السياسي (انظر شكل 2 – 2).
8- هناك كثير من الدول شبه الحبيسة ، والتي لا تتناسب واجهتها الساحلية مع مساحتها ، وخير مثال لذلك الكونغو الديمقراطية ، والتي تزيد مساحتها عن مليون كم مربع وواجهتها البحرية لا تتعدى 40 كيلومترا فقط. انظر شكل (5 – 1).
9- كثرة الجيوب الساحلية والأسافين في جسم الخريطة السياسية سواء على هيئة دول مستقلة أو مناطق كانت خاضعة للاستعمار وإن كانت دول مثل سوازيلاند وليسوتو تعد جيوبا داخل جنوب أفريقيا ، ويرجع ذلك للظروف التاريخية مثل ذلك الصراع الذي دار بين شعب البوير والزولو وهزيمة الزولو وفرارهم إلى مناطق معزولة ، فقد استقرت قبائل الباسوتو إلى المناطق الجبلية هربا من الزولو وحين تدخلت بريطانيا لحماية الباسوتو للك لم يتسنى للبوير احتواء منطقتهم.
ويرجع السبب في وجود جيب كابندا بعيدا عن أنجولا لرغبة بلجيكا الحصول على منفذ على المحيط لدولة الكونغو. وكانت لألمانيا الرغبة في الوصول إلأى نهر الزمبيزي في مستعمراتها في أفريقيا الجنوبية الغربية "ناميبيا حاليا" وذلك على حساب هذا العنق أو الإصبع الممتد الذي يعرف بإصبع كابريفي. أما دولة غمبيا فكانت بين اوضح أمثلة هذه المناطق المتداخلة كأسفين داخل دولة ، فهذه الدولة تعد اسفينا بريطانيا داخل المستعمرات الفرنسية ، فدولة غمبيا دولة شريطية ضيقة عرضها لا يزيد عن 25 كيلومتر على طول نهر غمبيا وطولها يزيد عن 500 كيلومتر ، وقد شطرت السنغال إلى قسمين ، مما اثر في تأخر تنمية السنغال فأصبح جنوب شرق البلاد بعيدا عن العاصمة ، وحرمانها من نهر ملاحي والوضع الطبيعي أن تندمج السنغال وغمبيا لأنهما إقليم جغرافي واحد. انظر شكل (4 – 4).
10-  نظرا لأن معظم دول أفريقيا قد تحررت من الاستعمار الذي زرع بذور الشقاق بين قبائلها ليضمن البقاء. ولما كانت أعداد القبائل والشعوب أكثر من عدد الدول. من هنا فإن كثيرا من هذه القبائل والعشائر ماتزال تثير القلاقل لتلك الوحدات السياسية الحديثة ، فالصراع بين جنوب السودان وشماله ، وبين عشائر الكونغو ، وبين العشائر التشادية ، وبين قبائل الصومال ونيجيريا من صنع القوى الخارجية. من هنا فإن عدم الاستقرار السياسي وكثر الاضطرابات والانقلابات العسكرية الدامية سمة تميز معظم دول القارة ، فأصبح الحكم العسكري سمة أفريقية خالصة. وكان نتاج ذلك كثرة أعداد الفارين والمضطهدين في صورة لاجئين.

مشكلة شعب الإيفي (مثال لمشكلات الحدود الاضطناعية في أفريقيا) :
يتضح مما سبق أن معظم الحدود السياسية في قارة أفريقيا قد فرضها المستعمر الأوروبي ، ورسمت في فترة زمنية قصيرة لتحقق أغراضه ولتفصل بين قواته ، وكان من نتاج هذا التسرع في وضع الحدود السياسية أن أصبحت الحدود تخترق أحيانا أراضي قبيلة واحدة فتشطرها إلى قسمين. وفجأة يجد سكان هذه القبيلة أنفسهم منقسمين إلى دولتين وتزداد الأمور سوءا إذا كانت الحدود تقوم بدور الفصل بين دولتين متخاصمتين ، وهذا ما حدث بالنسبة لشعب الإيفي الذي قسمته الحدود بين غانا وتوجو ، وزاد الأمر تعسرا عندما وضعت حكومة توجو نقاط مراقبة شديدة على طول خط الحدود خشية تهريب السلاح.
ويقترب عدد سكان قبيلة الإيفي من المليون نسمة يعيشون في إقليم السهول الساحلية بين نهري الفولتا ونهر ناهو. والمنطقة تغطيها حشائش السافانا وأشجار نخيل الزيت ، وف\غالبية شعب الإيفي يعمل بالزراعة (انظر شكل رقم 6 – 7).
وقد قسمت أراضي الإيفي بعد الحرب العالمية الأولى ، حيث ضمت فرنسا غالبية أراضي القبيلة ، في حين ضمت بريطانيا ثلث أراضي القبيلة وضمتها إلى ممتلكاتها في ساحل الذهب (غانا حاليا). وقد أغلقت الحدود بين كل من غانا وتوجو عندما أغلقت حكومة فيشي الحدود في الفترة من 1941 إلى 1943. وقد زادت رغبة الشعب في الوحدة بعد ذلك وبدأ تحريك مشكلته دوليا.
وقد اهتمت الأمم المتحدة بمشكلة شعب الإيفي وأرسلت لجنة تقصي الحقائق وكتبت تقريرها في صالح شعب الإيفي وذكرت أن وحدة هذا الشعب هي الحل السريع لصالح نشر الاستقرار والسلام في هذه المنطقة. ورغم ذلك لم يتحرك أحد لتنفيذ توصيات لجنة الأمم المتحدة إلا بإجراء استفتاء كان من نتيجته تفضيل سكان الإيفي في توجو الفرنسية على رغبتهم في قيام دولة مستقلة ، وعلى النقيض ذكر سكان الإيفي في غانا رغبتهم في انضمام الجزء البريطاني من الإيفي إلى ساحل الذهب وهذا ما أثار علامة استفهام.


        وفي الواقع فقد خلقت المشكلة لتظل قائمة ، فإذا ما أعيدت أجزاء الإيفي من ساحل الذهب (غانا) لتوحيدها مع إيفي توجو لن يحل المشكلة ، وخاصة أن أجزاء كبيرة من توجو سوف تقطع مما سوف يخلق العديد من المشكلات لتوجو. والحل الأوحد لهذه المشكلة هو اتحاد كل من غانا وتوجو في دولة واحدة ، وهذا أمر صعب للغاية ، من هنا سوف يظل. من هنا سوف يظل شعب الإيفي يدفع ثمنا غاليا لظاهرة ليس له صالح في قيامها ، بل يدفع ثمنا لأخطاء الاستعمار الأوروبي لهذه القارة.
وعلى مستوى قارة أفريقيا يلاحظ أن الحدود السياسية في حاجة إلى تعديل لتتفق مع التقسيم البشري والظواهر الجغرافية التي تميز القارة ، وهذا أمر شبه صعب بين شعوب متناحرة فيما بينها وتستعل نيران الفتنة من حين لآخر ، وعلى أمور بسيطة والضحية دائما شعوب القارة الذين يعانون من الفقر من جانب وسوء الإدارة من جانب آخر. ومن أمثلة المشكلات السياسية في القارة :
1-  مشكلة الحدود بين لأريتريا والحبشة ، والتي كان من نتاجها اشتعال الحرب بين الدولتين ، ولم تنته حتى الآن.
2-  مشكلة السودان مع جيرانه في كل الاتجاهات وخاصة في الجنوب.
3-  منشكلة الصومال بين أجزائه وبين جيرانه وخاصة اثيوبيا.
4-  مشكلة الحدود بين الكونغو الديمقراطية وجيرانها في الشرق "بوروندي ورواندا".
5-  مشكلة نيجيريا مع الكاميرون.
6-  مشكلة المغرب مع الجزائر وموريتانيا.
7-  بإيجاز لا توجد دولة في أفريقيا لا تعاني من مشكلات ترسيم الحدود التي وضعت ، ولم يكن لها رأي في وضعها.


ثالثا : خريطة آسيا السياسية
تعد قارة آسيا أعظم قارات العالم مساحة وأكثرها سكانا ، فمساحتها تبلغ 32 مليون كم مربع وعدد سكانها يزيد عن نصف سكان العالم (3.6 مليار نسمة) ، ورغم ذلك لم تنعم دولها بالاستقرار السياسي وظلت تعاني من الاستعمار والقلاقل السياسية حتى هذه اللحظة.
ومن يتتبع الخريطة السياسية لآسيا يلاحظ أنها قد تغيرت كثيرا منذ عام 1900 وحتى الآن.

التغيرات السياسية طوال القرن العشرين :
انتابت خريطة آسيا السياسية عدة تغيرات طوال القرن العشرين ، ففي شبه جزيرة العرب تكونت دولة المملكة العربية السعودية وفرض الاستعمار سيطرته على دول بادية الشام تحت مسمى الانتداب ، وحصل اليهود على وعد بلفور عام 1917 الذي مكنهم من غقامة دولة غسرائيل بعد ذلك.
أما الدولة العثمانية (الرجل المريض) فقد تقلصت نفوذها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وانكمشت خلف حدودها الحالية في هضبة الأناضول والقسم الصغير الواقع في أوروبا وتفتتت إلى عدة مستعمرات ، وبدات الدولة تضمد جراحها مع قدوم كمال أتاتورك إلى الحكم وتأسيسه لتركيا الحديثة بعد القضاء على النفوذ الأجنبي.
وبدأت دول الشام والجزيرة العربية في التحرر في بداية النصف الثاني من القرن العشرين ، فظهرت القوميات العربية في كل من سوريا ولبنان والأردن والعراق واليمن ودول الخليج العربي بعد صراع طويل ضد المستعمر وتكوينت دولة الإمارات العربية عام 1971. وظل المستعمر محافظا على الجزر الاستراتيجية في جزيرتي كورياموريا وجزر كمران وقد استقلتا جميعا عام 1967 بعد استقلال اليمن الجنوبي.
أما قبرص ، والتي خضعت للسيطرة العثمانية فقد خضعت للتاج البريطاني منذ عام 1887 ، وظلت كذلك حتى عام 1959 ، ونجح الإنجليز في بث روح العداء بين القبارصة واليونانيين وإن اختفت روح العداء عقب إعلان الجمهورية عام 1960 تحت قيادة الأسقف مكاريوس الذي جعل السلام يشمل كافة أرجاء الجزيرة. وفي عام 1974 غزت تركيا شمال الجزيرة وسيطرت على 40% منها وأعلن قيام دولة اتحادية بين تركيا وقبرص التركية ، وهذا ما رفضه العالم ، وظلت قبرص حتى اليوم تعاني من انقسامها إلى شطرين أحدهما تركي والآخر يوناني.
أما بلاد فارس فقد ظلت مقسمة بين كل من بريطانيا وروسيا منذ عام 1907 ثم ظهرت على الخريطة باسم إيران منذ عام 1924 بعد أن تنازل الاتحاد السوفيتي عن إدعاءاته في أراضي بلاد فارس عام 1921 ، وفي عام 1925 أعلن استقلال إيران ، ثم تعرضت للغزو البريطاني والروسي مرة أخرى أثناء الحرب العالمية الثانية ، وأجبر الشاه رضا خان على التنازل عن العرش لابنه وتأكد استقلال إيران ، وظلت كذلك حتى قامت الثورة الدينية وطرد الشاه في أواخر السبعينيات ، وأعلنت إيران جمهورية إسلامية تحت رعاية الإمام الخوميني.
أما وسط آسيا فقد شهد بعض التغيرات ، وخاصة على طول الحدود التي تفصل بين روسيا وتركيا من جهة وبين روسيا وإمبراطورية إيران من جهة أخرى. هذه التغيرات واكبت انتهاء سيطرة الدولة العثمانية على أجزائها الشرقية وكان من نتاج هذا التغير :
-       ظهور بعض الوحدات السياسية المستقلة مثل جورجيا وأذربيجان وأرمينيا عام 1917 ، ولكنها اندمجت مع الاتحاد السوفيتي سريعا.
-       ظهرت جمهورية أذربيجان الإيرانية وماهاباد الكردية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ولكنهما اختفيتا سريعا وضمتا إلى إيران مرة أخرى.
-       أما شبه القارة الهندية فقد كان عام 1947 عام انقسام وتجزأ ، حيث تحولت إلى دولة الهند ودولتي باكستان الشرقية وباكستان الغربية. ولكن باكستان الشرقية سرعان ما انفصلت عن الغربية مكونة دولة بنجلاديش عام 1973 وظلت منطقة كشمير متنازع عليها بين كل من باكستان والهند.
-       وفي شمال الهند أنشأت دول سيكيم وبوتان ونيبال لتلعب دور الدول الحاجزة بين الهند والصين. وشهدت أفغانستان - وهي أيضا دولة حاجزة بين روسيا وممتلكات بريطانيا في شبه القارة الهندية – تكوين البروز الشرقي لأفغانستان والمعروف باسم قطاع واخان ، ولم تنعم أفغانستان بالاستقرار السياسي منذ انقلابها العسكري عام 1973 حتى الآن. وحصلت سيلان على استقلالها عام 1948 ، وظلت تحت الحماية البريطانية حتى استقلت أخيرا وتغير اسمها إلى سري لانكا ، وماتزال تعاني من القلاقل السياسية حتى الآن بسبب ثورة سكان شمال الجزيرة "التاميل" ضد الحكومة. كما استقلت جزر المالديف عام 1952 ، أما بقايا المستعمرات البرتغالية والفرنسية على سواحل الهند فقد اندمجت مع الهند بعد استقلالها عام 1952.
وتعد الهند الصينية أحد أقاليم قارة آسيا التي ارتبط بها التعقد السياسي ، فقد قسمت أراضي هذه المنطقة بين كل من فرنسا وإنجلترا ثم احتلتها اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية ، ثم عادت للسيطرة الأوروبية مرة أخرى بعد هزيمة اليابان ، وقد خاضت دول هذا الإقليم حروبا شرسة حتى نالت استقلالها تباعا ، فقد استقلت بورما (ميانمار حاليا) عام 1948 ، أما سيام (لاوس حاليا) فقد توسعت رقعتها على حساب جيرانها أثناء حكم اليابانيين ثم عادت إلى مساحتها الأولى بعد هزيمة اليابان ، ثم ظهرت على الخريطة دول مستقلة في النصف الثاني من القرن العشرين ، وهي لاوس وكمبوديا وفيتنام الشمالية والجنوبية (اتحدتا الآن تحت اسم فيتنام). ويعود التعقد السياسي في الهند الصينية إلى صراع القوى العظمى للسيطرة عليها. ففي الماضي كان النزاع فرنسيا بريطانيا ، أما بعد الحرب العالمية الثانية تغير الصراع ليقتصر على الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ودخلت الصين أخيرا في لعبة الصراع.
وحصلت الملايو على استقلالها من بريطانيا ونشأ اتحاد ماليزيا في عام 1963 ليضم أربع وحدات سياسية تضم اتحاد الملايو وسنغافورة وصباح وسرواك. وقد انفصلت سنغافورة عن هذا الاتحاد عام 1965.
أما سلطنة بروناي في شمالي جزيرة بورنيو ، فقد ظلت تحت الاستعمار البريطاني حتى حصلت على استقلالها أخيرا. كما استقلت إندونيسيا عن هولندا عام 1945 ثم ضمت إليها الأجزاء الغربية من جزيرة نيوغينيا ، أما الفلبين فقد نالت استقلالها من الولايات المتحدة عام 1956 وإن ظلت سيطرة الولايات المتحدة عليها حتى الآن.
أما اليابان فقد كانت إحدى القوى العظمى الاستعمارية في آسيا وعالم المحيط الهادي ، حيث ترامت أملاكها لتضم كوريا ومنشوريا وأجزاء كبيرة من الصين وجنوب شرقي آسيا وسيطرت على معظم جزر المحيط الهادي ، وذلك بعد تحطيم الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور. ويبدأ تاريخ فرض النفوذ الياباني من عام 1931 عندما سيطرت على منشوريا ثم تبعها بالسيطرة على الصين عام 1937 ، وفرضت سيطرتها على الهند الصينية عام 1941 ، ثم إندونيسيا والفلبين عام 1941 إلى عام 1943. انظر شكل رقم (2 – 1).
ولم يوقف الزحف الياباني إلا بعد ضرب مدينتي هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية في الحرب العالمية الثانية. وقد انكمشت إلى مساحتها الأصلية ، بل فرضت الولايات المتحدة سيطرتها على الجزر اليابانية في الوقت الي سيطر فيه الاتحاد السوفيتي على بعض الجزر الشمالية مثل كوريل والجزء الجنوبي من جزيرة سخالين ، وقد كان من نتاج هزيمة اليابان استقلال الصين وفرموزا وكوريا (التي انقسمت إلى جزءين كوريا الشمالية "شيوعية" والجنوبية "تتبع الولايات المتحدة" عام 1948) ، واتخذت دائرة عرض 38 درجة شمالا خطا سياسيا يفصل بين شطري كوريا.
أما جزر المحيط الهادي ، فقد انتقلت السيادة والسيطرة إلى الولايات المتحدة التي احتفظت بها وأصبحت قواعد بحرية ماتزال تابعا للولايات المتحدة رغم استقلالها أخيرا.
أما الصين فقد تحولت إلى دولة شيوعية بعد الانقلاب العسكري عام 1949 ، وارتبط هذا التاريخ بتكوين دولتي الصين الشعبية "على اليابس" وذات اكبر عدد سكاني فوق سطح الأرض ، والصين الوطنية فوق جزيرة فرموزا (والتي فر إليها أغنياء الصين خوفا من الشيوعية) ، وتحول اسم فرموزا إلى تايوان أخيرا. وفي نفس الوقت أصبحت الصين الشعبية تحت قيادة ماوتسي تونج دولة متقدمة في زمن قياسي واستعادت مقعدها في مجلس الأمن باعتبارها إحدى الدول العظمى على الرغم من بقائها خارج المنظمة الدولية حتى عام 1973.
أما دولة منغوليا ، فقد ظلت دولة حاجزة بين الصين والنفوذ الروسي ، وإن كانت أقرب في توجهاتها حاليا إلى الصين.

خريطة آسيا السياسية حاليا :
من دراسة خريطة آسيا السياسية الحالية يمكن ملاحظة أهم التغيرات التي انتابتها ، والتي تتمثل في :
1-  اتحاد شطري اليمن وإعلان الجمهورية اليمنية عام 1988.
2-  استقلال دول أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وكازاكستان وأوزبكتسان وطاجيكستان وقرغيزستان وتركمتنستان عن الاتحاد السوفيتي عام 1991. هذه الجمهوريات تتمتع بتقدم اقتصادي زراعي وصناعي ونووي لا بأس به.
3-  استقلال هونج كونج واضمامها رسميا للصين ، كما استقلت آخر المعاقل البرتغالية على سواحل الصين في إمارة ماكاو والتي دخلت الحظيرة الصينية في شهر ديسمبر عام 1999.
4-  قيام الثورات والغضب الشعبي في بعض جزر إندونيسيا ، وتدخل المجتمع الدولي لنصرة شعب تيمور الشرقية ليستقل عن إندونيسيا ، وحدث ذلك أيضا في نوفمبر 1999 ، وقد يتبعه انفصال أجزاء أخرى عن الدولة لاحقا.
5-  نجاح مباحثات السلام بين الإدارة الفلسطينية وإسرائيل والتمهيد لقيام دولة فلسطين على ا{اضي التي تنسحب منها إسرائيل ، وهذا سوف يتم في المرحلة الأخيرة من مراحل السلام والمقرر لها نهاية عام 2000.
ومن دراسة خريطة آسيا السياسية لعام 1999 شكل رقم (6 – 8) والجدول رقم (6 – 4) يمكن أن نستشف بعض الحقائق عن آسيا منها :
·        على الرغم من أن روسيا قد سجلت مع قارة أوروبا إلا أن آسيا ظلت أكبر قارات العالم مساحة ، ومن ثم ضمت دولا شاسعة المساحة مثل الصين والهند وكازاخستان والمملكة العربية السعودية وإيران ومنغوليا.
·        على النقيض توجد بآسيا عدة دول قزمية المساحة مثل جزر المالديف (300 كم مربع) ، وسنغافورة (600 كم مربع) ، والبحرين (670 كم مربع).
·        هناك بعض الدول التي ترتفع كثافة سكانها نظرا لصغر المساحة قياسا بأعداد سكانها مثل البحرين ، ولبنان ، وبنجلاديش ، وجزر المالديف ، وكوريا الجنوبية ، وتايوان.
·        تضم الخريطة السياسية لآسيا 48 دولة وبتغير هذا العدد بصورة متكررة ، فحتى عام 1990 كان العدد لا يصل إلى 40 دولة وزاد بعد تفتت الاتحاد السوفيتي ، وقد يتزايد عدد الدول عن ذلك إذا ما أعلن قيام دولة تيمور الشرقية أو انفصال إقليم آتشه ، أو جزيرة مالوكو (جزر البهار) التي تصارع للانفصال عن إندونيسيا.
·        كان من نتاج اتساع رقعة القارة كثرة عدد الدول الحبيسة ، وتضم القارة 12 دولة حبيسة وهي أفغانستان ، وبوتان ، ولاوس ، ومنغوليا ، ونيبال ، وأرمينيا ، وآدربيجان ، وطاجيكستان ، وكازاخستان ، وتركمانستان ، وأوزباكستان ، وقرغيزستان. 

جدول رقم (6-4) : دول آسيا وعواصمها في عام 1999
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
أرمينيا
آذربيجان
البحرين
قبرص
فلسطين
جورجيا
العراق
فلسطين المحتلة
الأردن
الكويت
لبنان
سلطنة عمان
قطر
السعودية
سوريا
تركيا
الإمارات
اليمن
أفغانستان
بنجلاديش
بوتان
الهند
إيران
كازاخستان
بريفان
باكو
المنامة
بيقوسيا
غزة حاليا
نبليسي
بغداد
تل ابيب
عمان
الكويت
بيروت
مسقط
الدوحة
الرياض
دمشق
أنقرة
دبي
صنعاء
كابول
داكا
سيمفو
نيودلهي
طهران
إستانا
30
87
0.67
9
2.4
70
439
21
91
17
10.4
213
10.5
2158
184
780
83
530
655
144
46
3377
1638
2610
قرغيزستان
نيبال
باكستان
سري لانكا
طاجيكستان
تركمنستان
أوزبكستان
بروناي
كمبوديا
إندونيسيا
لاوس
ماليزيا
ميانمار
الفلبين
سنغافورة
تايلاند
فيتنام
الصين
اليابان
كوريا الشمالية
كوريا الجنوبية
منغوليا
تايوان
جزر المالديف
بيشكيك
كاشمندو
إسلام أباد
كولومبو
دوشمير
عشق أباد
طشقند
بندرسيري
بنوم بنه
جاكرتا
فينيتال
كوالالمبور
يانجون
مانيلا
سنغافورة
بانكوك
هانوي
بكين
طوكيو
بيونج يانج
سول
أولان باتور
تاييه
مالي
199
148
798
65
143
488
449
5.2
208
1927
237
330
679
302
0.6
515
333
9633
380
121
99.6
1573
36
0.3

1- مشكلة التاميل في سري لانكا :
تعد مشكلة شعب التاميل في سري لانكا مثالا صارخا لمشكلة الأقليات التي لا تندمج مع نسيج الدولة البشري ، وتقع جزيرة سري لانكا ، والتي اشتهرت في الماضي باسم سيلان في أقصى جنوب شرقي الهند ، ويفصلها عن شبه القارة الهندية مضيق بالك ، والذي لا يزيد عرضه عن 32 كيلومتر ومساحة الدولة لا تزيد عن 65 ألف كم مربع وعدد سكانها وفقا لتقدير الأمم المتحدة في عام 1999 بلغ 19 مليون نسمة. وينقسم السكان إلى قسمين :
أحدهما : السنهال ، ويمثلون غالبية السكان (70%) ومعظمهم من البوذيين.
والآخر : التاميل 23% من جملة السكان ومعظمهم من اصول سريلانكية ، والبعض الآخر من اصول هندية جلبهم الإنجليز للعمل في مزارع الشاي (6% من جملة السكان) وغالبية التاميل من الهندوس ، وفي حين يدين بالإسلام 20% من جملتهم ، و6% منهم "التاميل" يدينون بالمسيحية ويتركزون في شمالي الجزيرة وحول ميناء تريتكومالي في الشرق.
وتمثل العناصر الأخرى من أصول عربية وملايوية وإندونيسية ولا يختلف السنهاليون عن التاميل في صفاتهم الجسمانية ويشبهون جميعا سكان الهند في ملامحهم ولون بشرتهم وأجسادهم النحيلة.
ولغة الجزيرة هي السنهالية ، وهي لغة السكان الأقدمين الذين يمثلون غالبية السكان ، وللتاميل لغتهم الخاصة ، وهي التاميلية "خاصة التاميل الذين جاءوا من الهند".
وتمثل مشكلة التاميل واحدة من أهم المشكلات السياسية والأثنوغرافية ، والتي تركت آثارها على الاستقرار الاقتصادي والسياسي للبلاد. وبرزت المشكلة بصورة لافتة للنظر فيما بين عامي 1983 – 1987 تمثلت في حرب عصابات من ثوار إيلام تاميل تركزت في شمال وشرق الجزيرة ويطالبون باستقلال أراضيهم وإقامة دولة لهم وعاصمتهم مدينة جافنا. وكان ذلك نتاجا لسوء العلاقة بين الشعبين.
وعلى الرغم من أن السنهال يمثلون الأغلبية العددية إلا أن معمهم من الأميين الفقراء ، في حين يمثل التاميل 23% من السكان ولكنهم أسا الحياة الاقتصادية في البلاد لنشاطهم الملحوظ. ومن ثم وبفضل تعليمهم ونشاطهم وبمساعدة المستعمر استطاعوا أن يتولوا أمور الإدارة لعدة عقود. ومن هنا تحركت الروح العدائية بين السنهال والتاميل وبدأت الحكومات بعد الاستقلال "ومنذ الستينيات" إلى دفع السنهاليين إلى وضع أفضل. وأصدر البرلمان قرارات بتحويل بعض المناصب القيادية إلى السنهاليين بعد إعدادهم لذلك. والتوسع في فتح المدارس بأعداد كبيرة في الأقاليم الجنوبية ولو على حساب التاميل ، وجعل اللغة السنهالية هي اللغة الرسمية ولغة التعليم ولغة التخاطب الرئيسية.
وقد أدى ذلك غلى إيذاء مشاعر التاميل ، واستمرت الكراهية تتزايد بين الشعبين حتى نفذ صبر التاميل وبدأوا يحملون السلاح لتحقيق حلمهم في تكوين دولة خاصة بهم وتسود فيها لغتهم ، وتكونت جماعات التاميل المقاتلة ، وأهمها تلك المعروفة باسم نمور تاميل الذين يتركزون في شبه جزيرة جفنة في الشمال ، وهم يتلقون مساعدات مالية وأسلحة من تاميل جنوب الهند (عددهم 50 مليون نسمة ويتركزون حول مدينة مدراس).
ةنشطت حرب العصابات ضد حكومة سري لانكا وبلغت ذروتها عام 1987 ، مما دفع راجيف غاندي (رئيس وزراء الهند حينئذ) إلى التدخل والضغط على الطرفين لإلقاء السلاح ، وقبلها الطرفان بعد التدخل العسكري الهندي وكانت الاتفاقية المفروضة في شهر يوليو 1987 تضم البنود التاية :
-       تكوين إدارة تاميلية تدير شئون المقاطعات الشمالية والشرقية ويقتصر عملها على الإدارة وحفظ الأمن فقط كخطوةللوصول إلى الحكم الذاتي.
-       نزع سلاح التاميل وخاصة (نمور تاميل) على أن تدخل قوات هندية لمنع حرب العصابات ، وينتهي عملها بفرض السلام في الجزيرة.
-       إعادة توزيع السكان التاميل وعودة التاميل الهنود إلى أراضيهم ويعود من نزح من تاميل سري لانكا إلى أراضيهم.
وقوبلت الاتفاقية بمعارضة قوية من الشعب السنهالي الذي رأى أن التاميل قد حصلوا على عدة مميزات ، ومن ثم واجهت الحكومة معارضة شديدة من البرلمان ورجال الدين ، وفي المقابل أظهر التاميل معارضتهم أيضا للاتفاق ، ولم يسلم (نمور تاميل) أسلحتهم ، بل خاضوا حربا شرسة ضد القوات الهندية ، مما دعا إلى زيادة عدد القوات الهندية إلى ما يقرب من 30 ألف مقاتل وحاصرت مضيق بالك لمنع الإمدادات العسكرية للتاميل.
وتمسك التاميل بالحصول على حق تقرير المصير ، حيث يرى نمور التاميل أن الصراع العرقي مستمر رغم التنازلات العديدة التي قدمها السنهاليون ، لذا خرج زعيم نمور التاميل أمام وكالات الأنباء العالمية وممثلي الصحافة بقوله (نحن لسنا انفصاليون ، ولكننا نريد الاعتراف بحق شعبنا في تقرير مصيره في وطنه ، فنحن شعب لنا جذورنا التاريخية في أرضنا ، ولنا لغتنا وثقافتنا ، وحق تقرير المصير الذي نطالب به هو حقنا في إقامة دولتنا المستقلة بعد استفتاء شعبي عام).
وقد استخدم نمور إيلام تاميل أسلوب بث الرعب والتدمير ضد الممتلكات الحكومية في كل أنحاء سري لانكا ، وانتقلت المعركة من الشمال إلى العاصمة كولومبو لضرب اقتصاد البلاد في عمليات انتحارية دقيقة كان من نتاجها :
·        تفجير المركز التجاري الدولي في كولومبو.
·        تفجير البنك المركزي لسري لانكا.
·        تفجير فندق الميريديان.
وقد انحسر تيار نمور التاميل حاليا حيث استطاعت القوات الحكومية أن تفرض سيطرتها على مساحات كبيرة من الجزيرة ، ولكن ماتزال هذه الميليشيات قادرة على مواجهة القوات الحكومية ، بالرغم من دفع الحكومة بتعزيزاتها إلى الشمال وجزيرة "جافنا" بصفة خاصة. ونزول الجيش مدعما بالطيران والقوارب السريعة لوقف عمليات التمويل والأسلحة التي تأتيهم من الخارج ، رغم كل ذلك استمرت حرب لعصابات والعمليات الانتحارية ، مثل اغتيال زعيم الاستقلال "باندرانيكا" في الخمسينيات واغتيال رئيس البلاد "بريماداسا في مطلع التسعينيات واغتيال راجيف غاندي رئيس وزراء الهند في موكبه عام 1941 بباقة زهور ملغومة لتدخله في حل المشكلة نواغتيال المرشح القوي لرئاسة الجمهورية في سري لانكا عام 1994 وهو جاميني ديسكانيا. وكان آخرها تدمير موكب رئيسة الوزراء "شاندريكا باندرانيكا" وإصاباتها بإصابات مباشرة في عينها ومقتل عدد كبير من حرسها الخاص في شهر ديسمبر 1999 ، وهي ابنة الرئيس باندرانيكا الذي اغتيل سابقا.
ويمارس التاميل الإرهاب ضد أي فرد يرفض التعاون معهم ضد الحكومة وهذا ما وجدناه من قتل وتدمير منازل المسلمين وطردهم حيث رفضوا التعاون معهم ضد الحكومة ، مما أدى لانتشار مخيمات اللاجئين من الأبرياء الذين يرفضون اسلوب القتل لتحقيق أهداف الاستقلال أو فرض حق تقرير المصير.
وفي الواقع فإن الصراع الطائفي في سري لانكا هو نموذج للصراع المحلي بين الطوائف غير المتجانسة داخل الدول ويصعب حل مشكلتهم بالسلاح أو بالهجمات العسكرية الانتحارية ، فالنتيجة الظاهرة امام أعين الجميع والتي تسجلها عدسات وسائل الإعلام العالمية هو المزيد من الضحايا الأبرياء.

2- مشكلة الأكراد :
تعد مشكلة الأكراد تجسيدا لسوء تخطيط الحدود وترسيمها بين الدول في قارة آسيا ، فقد قطعت الحدود السياسية أوصال هذا الشعب ومزقته ليتوزع الأكراد بين أكثر من دولة في وسط غرب القارة.
ويتوزع الشعب الكردي الذي يصل عددهم إلى 18 مليون نسمة في منطقة جغرافية تمتد من شمال العراق وغرب إيران وشمال شرق سوريا وجنوب غرب تركيا وغرب آذربيجان. هذا الشعب الكردي لم يكون دولة طوال التاريخ ، بل يشعرون بالفرقة والتشتت طوال فترات وجود الدولة العثمانية وسيطرتها على إقليم وسط آسيا.
واللغة الرئيسية للأكراد هي اللغة الكردية ، والتي تقترب من اللغة الفارسية ، وقد تأثرت باللغة العربية والتركية. وديانة الأكراد هي الإسلام وهم من السنة. وهناك قلة زيدية "العراق في الموصل" ، ويعيش الأكراد في بيئة جبلية شديدة الوعورة بعيدة عن اهتمام حكومات الدول التي يخضعون لها ، ومن ثم عاشوا في عزلة وتوطدت لديهم الروح الانفصالية. ويتسم الشعب الكردي بسمات مميزة مثل : العناد ورفض الظلم وسرعة الغضب ، وهو عظيم التضحية من أجل أهله والنظام القبلي يبث روح الجدية والاستقامة بين أفراد المجتمع ، وهم لا يعرفون القيود ، وحين أنشأت الحدود الدولية عبر أراضيهم وجدوا أنفسهم وقد مزقتهم هذه الحدود ، ومن ثم فقد قامت مشكلتهم مع كل دولة من الدول التي مزقت أراضيهم وكانت ثورتهم المتواصلة من أجل توحيد أوصال عشيرتهم. وكثيرا ما كانت هذه الثورات تقابل بالقسوة والظلم والاضطهاد من قبل الدول الخمس التي اقتسمت أراضيها.
وبرزت مشكلة الأكراد في المحافل الدولية بعد الحرب العالمية الأولى عندما طالبوا بإنشاء دولة كردستان على أرضهم التي عاشوا فوقها منذ آلاف السنين ، ولكن هذه المطالب باءت بالفشل الام بعد أن وقفت تركيا أمامها ، وظل الوطن الكردي ممزقا. وبدأ يعرف ما يسمى بكردستان العراق ، وكردستان الإيرانية ، وكردستان التركية.
وتستخدم القوى الخارجية المتمردين الأكراد في محاربة الأنظمة المحلية ، فقد ساعدت بريطانيا أكراد تركيا ضد حكومة تركيا في العشرينيات ، وقدمت أمريكا وإسرائيل الدعم للأكراد ضد نظام البعث العراقي في السبعينيات ، كما ساعد السوريون الأكراد ضد تركيا وساعدت أمريكا الأكراد ضد إيران. وعلى النقيض استخدم العراق الأكراد الإيرانيين ضد دولتهم ، وفي المقابل دعم إيران أكراد العراق ضد صدام حسين.
وقد ظلت مشكلة الأكراد مستعصية على الحل حيث لم تنجح أي من الدول التي تنتشر القبائل الكردية على حدودها في علاجها والاستجابة لأمنيات الشعب الكردي. واستغلت مشكلة الأكراد لإثارة القلاقل بين الدول أو بين الفصائل الكردية ذاتها. وزاد من المشكلة الكردية تغير الولاء لزعماء العشائر والقبائل الكردية ، وفيما يلي عرض للتوزيع الجغرافي للأكراد :
الأكراد في شمال غرب إيران : ويقدر عددهم 5 مليون نسمة تقريبا وتعتبر أراضيهم امتدادا لأرض أكراد العراق في مرتفعات كردستان وشمال مرتفعات زاجروس.
وقد تمرد أكراد إيران أكثر من مرة على الحكومة الإيرانية أهمها تلك التي قامت بين عامي 1920 – 1925. وانتصر الأكراد مما اضطر إيران أن تستعين بحكومتي العراق وتركيا اللتين أرسلتا قوات لمساندة غيران. وتمت هزيمة الأكراد وقتل أعداد كبيرة منهم وحرمانهم من حقوقهم القومية. واستطاع الأكراد إقامة دولة بمساعدة الاتحاد السوفيتي في شمال إيران عام 1946. ولكن شاه إيران وبمساعدة الغرب استطاع أن يسيطر على الموقف عام 1956. ومع مجئ الحكومة الإسلامية بعد رحيل شاه غيران عام 1979 ساعد السوفيت أكراد إيران ومدوهم بالأسلحة لتكوين دولة وكان ذلك بغرض مد السيطرة الروسية على آبار البترول الإيرانية مما حفز الولايات المتحدة على دعم إيران ومساعدتهم في التخلص من هذا المأزق.
الأكراد في شمال العراق : ويقدر عددهم 4 مليون نسمة تقريبا أي ما يعادل خمس سكان العراق ، وينتشرون في كل من لواء السليمانية ولواء أربيل ولواء كركوك ولواء الموصل. وجميع آبار البترول العراقية في شمال العراق في أراضي كردية ، ويعمل معظم السكان بالزراعة والرعي.
وقد قام الأكراد بعدة ثورات ، مما اضطر العراق إلى وضع دستور يسمح لهم بتولي مناصب قيادية ، ومن حقهم أن يكون نائب الرئيس كرديا ، واعترف الدستور بأن أرض العراق شركة بين العرب والأكراد وأن يكون لهم نصيب في الوظائف.
والعراق متهم بالظلم الفاحش ضد الشعب الكردي ، فبعد توقف الحرب العراقية الإيرانية تناقلت وسائل الإعلام محاولة صدام حسين إبادة الأكراد بالغازات السامة وقنابل النابالم وإزالة مدن وقرى بالكامل من الوجود مثل مدينة حلبجة شرق لواء السليمانية ، وكانت تهمة الأكراد أنهم ناصروا إيران في حربها ضد العراق.
وقد أعلنت حكومة العراق عام 1974 أن الشعب الكردي له حق الحكم الذاتي. ولكن يبدو أن ما ينفذ على أرض الواقع غير ذلك حيث القتل والإبادة. ومن ثم فرت أعداد ضخمة منهم إلى كردستان التركية وللاسف لم يتدخل أحد لنصرة هذا الشعب البائس.
الأكراد في شرق وجنوب شرق تركيا : يقدر عدد سكان اكراد تركيا 8 مليون نسمة يتركزون في المناطق الجبلية حول ديار بكر وهم يعملون بالرعي ولا يخضعون لنظام الدولة ، ولم يذكر لهم ثورة ضد الدولة العثمانية إلا في عام 1880 حين ارادوا تكوين دولة مستقلة لهم تحت اسم "أرض كردستان" ، وكان رد الفعل العثماني هو إبادة أعداد كبيرة منهم.
وكانت ثورتهم الثانية عام 1925 عندما أحكم أتاتورك قبضته على الأكرادن مما اثار الأكراد ، وخاصة عندما رأى الأكراد أن حكومة تركيا تقطع كل صلة لها بالإسلام واختيار دستور بعيد كل البعد عن الشريعة الإسلامية. وأثارت هذه التحولات العلميانية الشعب الكردي المسلم والمتمسك بإسلامه. ومن هنا استمرت ثوراتهم ضد الدولة في أعوام 29 ، 30 ، 1933 مطالبين بعودة الإسلام أو بالاستقلال الذاتي في كردستان التركية ، مما دفع بحكومة أتاتورك باستخدام العنف والبطش ضد الأكراد وإعدام زعمائهم وقيد حرياتهم. وماتزال الحكومة التي تستخدم العنف ضد الأكراد ، مما دفع بالأكراد بالقيام بأعمال العنف والقتل ضد تركيا. وتكونت فصائل قتالية من حزب العمال الكردستاني ، مما حث الأتراك بملاحقتهم بالطائرات المسلحة في شمال غرب العراق ، وزاد من خطورة الموقف إلقاء القبض على زعيم الأكراد "عبد الله أوجلان" ومحاكمته ، مما دفع الأكراد بالثورة والمظاهرات الدامية ضد المصالح التركية في الدول الأوروبية وداخل تركيا وعرض البلاد لخسائر كبيرة وانحسار تيار السياحة عن هذا البلد السياحي. وقد صدر حكم من المحكمة التركية العليا بإعدام أوجلان ، مما أثار غضب دول أوروبا ودفع برئيس وزراء تركيا بإرجاء تنفيذ الحكم "وهناك فرصة لتخفيفه" لاسترضاء الجماعة الأوروبية. وحتى لا يثير غعدامه حفيظة الأكراد فيقومون بأعمال انتحارية أشد ضراوة ضد المصالح التركية.
الأكراد في شمال شرق سوريا : ةيقدر عدد سكانهم نصف مليون نسمة تقريبا. والأكراد في سوريا أكثر اختلاطا بالسكان وأكثر تجاوبا معهم ، وبعيدين عن الاحتكاك بالدولة ويمكن تفسير ذلك بطبيعة الشعب السوري ، فهو أكثر هدوءا ، ومن ثم فالأكراد لا يتعرضون للإيذاء بنفس الصورة التي يعاني منها الأكراد من العراق وتركيا الفارين من القهر والقتل من سلطات الدولتين. وكم من مرة تتهم سوريا بإيواء قيادات الأكراد ، وهذا إدعاء تقوم به تركيا للتربص بسوريا.
الأكراد في آذربيجان وأرمينيا وجورجيا : كان الاتحاد السوفيتي ينظر إلى الأكراد في هذه المناطق على أنهم مناهضون للثورة الشيوعية بكونهم مسلمين متطرفين يعرفون بشدة تمسكهم بدينهم ، وحاول السوفيت أن يحولوا ولاء الأكراد لصالح أهدافهم الاستراتيجية ، وحاولوا بث الأفكار الإلحادية بين الأكراد وإثارة الأحقاد بينهم وبين القوميات العربية والإيرانية والتركية وأثاروا فكرة تكوين دولة كردية على أراضي كردستان في الدول المجاورة ليتسنى لهم التدخل في هذه الدول.
مما سبق يتضح أن الشعب الكردي مشتت بين عدة دول وتبخرت آماله تماما في تكوين دولة كردستان لتحالف هذه الدول ضد الأتراك ، مما أدى إلى مقتل أعداد كبيرة منهم ، وجعلهم أكثر الشعوب شراسة في حروبهم ، بل من السهل أن يقوم شبابه بعمليات انتحارية أمام مرأى ومسمع وكالات الأنباء العالمية.


ومن دراسة خريطة آسيا يلاحظ تعقد المشكلات السياسية داخل القارة ، تكمن هذه المشكلات في :
1-  مشكلة فلسطين والاستعمار الإسرائيلي لجنوب لبنان والجولان.
2-  مشكلة إقليم عربستان وشط العرب بين إيران والعراق.
3-  مشكلة الحرب الأهلية في أفغانستان.
4-  مشكلة كشمير بين الهند وباكستان.
5-  مشكلة سينيكانج بغرب الصين ومشكلة تايوان.
6-  مشكلة الحدود بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية.
7-  مشكلة الجزر اليابانية المحتلة.
8-  مشكلة الصراع الدائر بين الفصائل المختلفة في كمبوديا.
9-  مشكلة الاختلافات العرقية في إندونيسيا.
10-    مشكلة شعب المورو في جنوب الفلبين.
11-    مشكلات التعدد اللغوي والديني في الهند.
12-    مشكلات ترسيم الحدود في الجزيرة العربية ، وهي في طريقها للحل سلميا.
13-    مشكلة قبرص بين الأتراك واليونان.


 رابعا : الخريطة السياسية للأمريكتين
قارة أمريكا الشمالية :
على الرغم من كونها ثالثة قارات العالم من حيث المساحة بعد آسيا وأفريقيا ، إلا أنها لا تضم سوى وحدتين سياسيتين ، وهما كندا والولايات المتحدة الأمريكية (يمكن اعتبار الدانمرك التي تسيطر على جرينلاند ذات المساحة الضخمة دولة أمريكية أوروبية). وتعد قارة أمريكا الشمالية من أغنى قارات العالم وأكثرها تقدما ورفاهية ، وهذا ما يعكسه ارتفاع مستوى الدخل لسكان دولها (متوسط دخل الفرد يصل إلى 28 ألف دولار سنويا). والقارة لا يقطنها سوى 300 مليون نسمة فقط معظمهم يتركز في الولايات المتحدة الأمريكية 272 مليون نسمة وفقا لبيانات عام 1999.
ويطلق اسم أمريكا الأنجلوساكسونية على أمريكا الشمالية ، والتي تسود بها اللغة الإنجليزية باستثناء مقاطعة كويبك في كندا التي يتحدث سكانها اللغة الفرنسية ، وهي قارة متجانسة حيث تسودها العناصر الأوروبية والديانة المسيحية "وخاصة البروتستانتية" ، ورغم وجود أقليات ثانوية من العناصر السكانية القديمة "الأمر إيند" أو الهنود الأمريكان بالإضافة إلى الزنوج وبعض المجموعات الآسيوية الوافدة للعمل في القارة ، وهم يتركزون في بعض لولايات ، وكان لوضع نظام ودستور جيد لكل ولاية أثره في إذابة الفروق بين الأقليات.
ويفصل نهر ريوجراند بين المكسيك والولايات المتحدة. ويعد حدا فاصلا بين أمريكا الشمالية الأنجلوساكسونية. وأمريكا الجنوبية أو اللاتينية التي تتحدث الإسبانية أو البرتغالية.
ولم تشهد خريطة أمريكا الشمالية تغيرات تذكر منذ بداية الديمقراطية ، وغن استقرت الأمور بعد تنسيق الأوضاع واستقرار الأمور بالنسبة لبعض الجزر والأقاليم التي كانت ماتزال معلقة مثل :
·        تحديد خط سياسي بدلا من التخوم بين لبرادو "التابعة لنيوفوندلاند" وبين مقاطعة كويبك عام 1927.
·        اعتراف النرويج بملكية كندا لمجموعة جزر سيفردروب في المحيط المتجمد الشمالي ، ومن ثم أصبح لكندا السيادة على القطاع القطبي الواقع شمالها.
·        سيطرت الدانمرك على جرينلاند منذ عام 1380 ونالت تأييد محكمة العدل الدولية في نزاعها والنرويج حول ملكيتها ، وتستأجر الولايات المتحدة عدة محطات للإنذار المبكر وبعض القواعد العسكرية من الدانمرك بموجب اتفاقية بينهما منذ عام 1953.
ومن دراسة الجدول رقم (6 – 5) والشكل رقم (6 – 11) يمكن وصف الخريطة السياسية لأمريكا الشمالية كالتالي :

جدول رقم (6-5) : الملامح الجغرافية لدول قارة أمريكا الشمالية عام 1999
الدولة
العاصمة
المساحة "مليون كم مربع"
عدد السكان "مليون نسمة"
نصيب الفرد بالدولار سنويا
كندا
الولايات المتحدة الأمريكية
أوتاوا
واشنطون
9.9
9.6
30.6
272.5
19640
29080

1)    على الرغم من قلة عدد دول القارة إلا أن حدود دولها تتسم بالأطوال المفرطة حيث يصل طول الحد السياسي بين الولايات المتحدة وكندا إلى أكثر من 6400 كيلو (لم تحسب حدود كندا مع آلاسكا) وحدودها مع المكسيك تبلغ 3000 كيلومتر.
2)    معظم حدود القارة تسير مع المجاري المائية مثل نهر سانت لورانس والبحيرات العظمى وبحيرة وودز. أما الحدود الجنوبية مع المكسيك فإنها تسير مع نهر ريوجراند لمسافة تصل إلى 1900 كيلومتر من خليج المكسيك حتى مدينة الباسو ، إضافة إلى 50 كيلومتر في الغرب تسير مع نهر كلورادو.
3)    نظرا للتجانس والتشابه بين الملامح العامة لسكان دول القارة فإن الحدود الطويلة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية لا تمثل مشكلة في حراستها ، وتأتي المشكلة فقط في حدود الولايات المتحدة مع المكسيك التي تعاني من الضغط السكاني ومشكلات دول العالم الثالث.
نظرا للقوة البحرية والعسكرية للولايات المتحدة فإنها تفرض سيطرتها على عدة جزر تتخذها قواعد عسكرية وتتبعها سياسيا وهي :
-       كومنولث يورتوريكو
-       ساموا الأمريكية
-       جزر فيرجن
-       جزر جوام إلى الشرق من الفلبين
-       جزيرة هاواي
-       كثير من جزر المحيط الهادي
-       منطقة قناة بنما (والتي عادت ملكيتها لبنما في ديسمبر 1999؟) وإن ظلت إدارتها وتشغيلها أمريكيا. 

خريطة أمريكا الوسطى ودول البحر الكاريبي
تتسم جمهوريات أمريكا الوسطى – باستثناء المكسيك – بصغر مساحتها وعدم استقرار أوضاعها السكانية. وهذه الدول قد نمت حول نوايا كانت موانئ للسفن الإسبانية. ويطلق على دول أمريكا الوسطى اسم الدول "البرزخية" أي أنها تطل على واجهتين بحريتين ، وهذه الدول تتفق في وجود مرتفعات جبلية في وسطها. وهذه الدول تدين بالمسيحية الكاثوليكية ، ومعظم سكانها يتحدثون الإسبانية مع استثناءات بسيطة كما هو الحال في جزر جاميكا الذين يتحدثون الإنجليزية.
وقد شهد هذا الإقليم حضارات قديمة عظيمة مثل المايا والأزتك والتولتك والأولمك وقد أثر ذلك كثيرا على خصائص سكانها. وتتعدد العناصر البشرية التي يتكون منها سكان هذا الإقليم وإقليم جزر البحر الكاريبي والذي يتكون من الأوروبيين والهنود والزنوج بالإضافة إلى العناصر المختلطة من المستيزو (أوربي وهندي) ، والزامبو (زنجي وهندي) ، والمولاتو (أوروبي وزنجي). ومعظم دول هذا الإقليم فقيرة الموارد وتنتمي إلى مجموعة دول الجنوب. وتتباين ملامح هذه الدول بصورة واضحة ويمكن استنتاج أهم الملامح المميزة لدول أمريكا الوسطى وإيجازها فيما يلي كما يتضح من دراسة الجدول رقم ( 6 – 6) والشكل رقم (6 – 12) :

جدول رقم (6-6) : دول أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي
دول أمريكا الوسطى :
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
بليز البريطانية
كوستاريكا
السلفادور
جواتيمالا
بلموبان
سان جوزيف
سان سلفادور
جواتيمالا
23
52
21.6
109.2
هندوراس
المكسيك
نيكاراجوا
بنما
تيجوسيجالبا
مكسيكوسيتي
ماناجوا
بنماسيتي
112
965
130
45

دول البحر الكاريبي :
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
أنتيجوا
جزر البهاما
بربادوس
كوبا
جزر دومينكا
جمهورية دوميكان
جرينادا
جواديلوب
هايتي
سانت جونز
ناساو
بريدج تاون
هافانا
روزيا
سان دومنجو
سانت جورج
باس تيري
بورت اوبرنس
0.4
14
0.4
112
0.8
49
0.3
1.8
28.6
جاميكا
جزر المارتينيك
جزر الانتيل
بورتوريكو
سان كيتس نيس
سانت لوتشيا
فينسيت
ترينداد وتوباجو
كنجر تاون
فورت ديفرانس
وليم ستاد
سان جوان
باس تيري
كاستريس
كينجز تاون
بورت اوف اسبان
11
1
1
9
0.3
0.6
0.3
5


·        عدد دول أمريكا الوسطى ثمانية دول ، أكبرها دولة المكسيك والتي تبلغ مساحتها 1.9 مليون كم مربع وتتفاوت مساحات باقي الدول من 21.6 ألف كم مربع في السلفادور إلى 130 ألف كم مربع في نيكاراجوا. ويتفاوت عدد سكان هذه الدول أيضا. حيث يصل عدد سكان المكسيك إلى 200 مليون نسمة أما باقي الدول فلا يزيد عدد سكانها عن 6 مليون نسمة باستثناء جواتيمالا 12 مليون نسمة ، وأقل الدول في عدد السكان هي دوة بليز 200 ألف نسمة فقط.
·        كل دول أمريكا الوسطى مستقلة باستثناء بليز البريطانية.
·        أما دول جزر الكاريبي فإنها تتكون من 17 دولة صغيرة المساحة واكبر الدول مساحة هي جزيرة كوبا 211 ألف كم مربع ، أما باقي الدول فإن مساحتها صغيرة وقد تصل إلى درجة القزمية ، حيث إن سبع دول لا تزيد مساحة كل منها عن بضعة مئات من الكيلومترات المربعة كما يتضح من دراسة الجدول ، مثل أنتيجوا والبربادوس وجرينادا وفينسيت وسانت لوتشيا وسان كيتس نيقس.
وتوضح خريطة أمريكا الوسطى وجزر الكاريبي أن دول الكاريبي تنقسم إلى مجموعتين : الأنتيل الكبرى وتتكون من أربع جزر وهي كوبا وهيسبانيولا (وتضم جمهورية الدومنيكان وهايتي) وجزر بورتوريكو. أما الأنتيل الصغرى فهي تتكون من عدد كبير من الجزر الصغيرة المنتشرة إلى الشرق من الكاريبي فيما بين ترينداد وبورتوريكو. وتقسم جزر فيرجن هذه الجزر إلى قسمين : الأول وهي مجموعة الجزر الشمالية وتتبع بريطانيا.
والثاني : وهي مجموعة الجزر الجنوبية وتخضع للاستعمار الهولندي والفرنسي والبريطاني ، أما جزر فيرجن فإنها تتبع كل من إنجلترا والولايات المتحدة. أما الدول المستقلة في مجموعة الأنتيل الصغرى فتضم دومينكان وبربادوس وسانت لوتشيا وترينداد وتوباجو وجرينادا.

الخريطة السياسية لأمريكا الجنوبية
تضم قارة أمريكا الجنوبية 13 دولة وكلها دول مستقلة باستثناء مستعمرة جيانا الفرنسية. وحدود دول أمريكا الجنوبية تتفق إلى حد كبير مع الأقسام التي وضعها الاستعمار. هذه الوحدات السياسية نمت وتوسعت من الساحل إلى الداخل. ولا تختلف خريطة القارة عام 1830 عن الخريطة السياسية الحالية.
ودول القارة تتباين فيما بينها جغرايفا ، رغم أن خصائص السكان لا تختلف كثيرا حيث تسود اللغة الإسبانية بين كافة أرجاء القارة ، لأما البرتغالية فتوجد في دولة البرازيل فقط. وتسود الديانة المسيحية الكاثوليكية كل دول القارة ، وسكان أمريكا الجنوبية خليط من كل السلالات البشرية المعروفة.
ومن أهم التغيرات التي انتابت القارة هو تحول دولة بوليفيا إلى دولة حبيسة بعد أن فقدت منفها البحري على المحيط الهادي بعد أن نشب نزاع بين بوليفيا وكل من بيرو وتشيلي وكانت الغلبة لدول تشيلي للسيطرة على المنطقة الساحلية الغنية برواسب التترات ، وانتهى النزاع في عام 1929 بعد أن سلمت تشيلي الأرض إلى بيرو وظلت بوليفيا حبيسة.
ويمكن أن نستنتج أهم المىمح التي تميز خريطة أمريكا الجنوبية كما يتضح من الجدول رقم (6 – 7)
جدول رقم (6-7) : دول أمريكا الجنوبية في عام 1999
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الدولة
العاصمة
المساحة "ألف كم مربع"
الأرجنتين
بوليفيا
البرازيل
تشيلي
كولومبيا
إكوادور
جيانا الفرنسية
بيونس ايرس
لاباز
برازيليا
سنتياجو
بوجوتا
كويتو
كايين
2790
1102
8580
760
1144
283
88
جيانا
باراجواي
بيرو
سورينام
أورجواي
فنزويلا
جورج تاون
اسونسيون
ليما
باراماريبو
مونتيفيديو
كاركاس
215
408
1290
164
177
915


من دراسة الجدول رقم (6 – 7) والشكل رقم (6 – 13) يتضح ما يلي :
·        على الرغم من أن مساحة القارة أكبر من أوروبا وتقترب من قارة أمريكا الشمالية إلا أن القارة لا يوجد بها سوى دولتين حبيستين فقط وهما باراجواي وبوليفيا.
·        معظم دول القارة ذات حجم كبير والذي يزيد عن مليون كم مربع وأكبر الدول مساحة هي البرازيل 8.6 مايون كم مربع ، والأرجنتين 2.8 مليون كم مربع ، أما أصغر الدول فهي جيانا الفرنسية والتي تصل مساحتها إلى 88 ألف كم مربع.
·        تتبع الجزر المجاورة لسواحل أمريكا الجنوبية الدول التي تواجهها ويستثنى من ذلك جزيرة فولكلاند التي تسيطر عليها بريطانيا وتطالب بها الأرجنتين والتي تعتبرها جزء منها وتطلق عليها اسم مالرناس ، وتتمسك بها بريطانيا كقاعدة للاسطول البريطاني في المحيط الأطلسي الجنوبي. وقد نشبت حرب بين الأرجنتين وبريطانيا في عام 1982 للسيطرة على الجزيرة وانتهت بهزيمة للأرجنتين.
·        تعاني بعض دول القارة من مشكلات ترسيم الحدود مما ترك بعض النقاط الساخنة فوق خريطتها نذكر منها :
-       مشكلة القطاع الشمالي من حوض الأمازون بين كل من كولومبيا والبرازيل والإكوادور وبيرو ، وفي هذا القطاع فإن الحدود الدولية لم تكن واضحة تماما أثناء حكم الأسبان وفي زمن الاستقلال.
-       منطقة إتكاما بين بوليفيا وتشيلي وبيرو
-       منطقة الجران شاكو بين باراجواي وبوليفيا
-       منطقة الحدود بين فنزويلا وجوانا

الخريطة السياسية لاستراليشيا "الأوقيانوسيا"
لفظ استراليشيا يطلق على قارة استراليا وجزر المحيط الهادي. وهناك اختلافات سياسية وجغرافية واضحة بين الإقليمين الجغرافيين ، وسنتناول بالدراسة كل على حدة :

أولا : استراليا :
وهي من اصغر قارات العالم مساحة ، وعلى الرغم من القارة تعد امتدادا جغرافيا لقارة آسيا إلا أنها مأهولة بسكان معظمهم من الأوروبيين ، وتمثل امتدادا حضاريا لأوروبا ، ولم يقتصر هذا المد الحضاري على القارة فحسب ، بل امتد لبعض الجزر المجاورة مثل نيوزيلندا وبعض جزر المحيط الهادي المجاورة. وبصمات الاقتصاد الأوروبي واضحة في كافة أرجاء القارة. مع ذلك تختلف القارة عن أوروبا في بساطة تكوينها السياسي حيث تضم وحدة سياسية واحدة ، ومعظم سكانها من المهاجرين الإنجليز مع أقليات صغيرة من المهاجرين غير الملونين (اتباعا لسياسة فرضتها الدولة بجعلها القارة البيضاء).
ودولة استراليا عضو في الكومنولث البريطاني وماتزال تتبع إداريا التاج البريطاني ، حيث رفض الشعب تغيير القانون الذي يجعل الدولة تحت حكم ملكة بريطانيا (شرفيا) رغم أن أمور الدولة تدار باستقلال تام عن بريطانيا "ولكنها تقاليد بريطانية".
واستراليا دولة اتحادية تتكون من ثمان مقاطعات ولكا مقاطعة حكومتها المحلية الخاصة. وهي نيوسوث ويلز وفيكتوريا ، وكونترلاند ، وجنوب استراليا ، وتسمانيا ، والمنطقة الشمالية ، والمنطقة الغربية ، ومنطقة العاصمة ، ويسمح القانون بتكوين مقاطعات جديدة إذا تغيرت الأمور وعند الحاجة. وعاصمة استراليا كانبرا ، ومساحة الدولة تبلغ 7.7 مليون كم مربع. وبلغ عدد سكانها 19 مليون نسمة في عام 1999. ومتوسط مستوى دخل الفرد مرتفع ويبلغ 21 ألف دولار سنويا وهي من دول العالم المتقدم. وينعم اقتصادها بفائض ضخم سواء في الإنتاج الزراعي والحيواني أو الصناعي ، وقد أدت ظروف موقع استراليا المتطرف في جنوب الكرة الأرضية إلى عزلتها السياسية. لذا فهي عضو في عدة أحلاف عسكرية غربية حتى لا تقف بمفردها إذا ما تعرضت للخطر.

ثانيا : جزر المحيط الهادي :
الخريطة السياسية لجزر المحيط الهادي مازالت معقدة على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية تبسط نفوذها سواء السياسي أو العسكري على كل الجزر التي تقع شمالي خط الاستواء مثل جزر هاواي ، وجزر ووك ، وجزر جوام ، وبالو ، وكواجالين ، ووتراك ، وياب ، وباقي جزر كارولينا ، وجزر مارشال وغيرها.
·        أما على خط الاستواء وإلى الجنوب منه فإن الموقف يختلف تماما فإن معظم الجزر تخضع للنفوذ البريطاني والفرنسي والأمريكي. أما استراليا ونيوزيلندا فهما دولتين مستقلتين. وأهم جزر هذا النطاق مجموعة جزر تونجا ، ومجموعة جزر ساموا الغربية ، وجزر تاهيتي الفرنسية ، وجزر فيتي ليفو البريطانية ، وفانوليفو ، وجزر ماورو ، ومجموعة جزر كانتون الأمريكية.
·        وجميع هذه الجزر نقاط صغيرة  وسط المحيط الهادجي لكنها عظيمة الأهمية لكونها نقط ارتكاز حيوية في المحيط الهادي ، وقد أنشئ بها العديد من المطارات والقواعد العسكرية تمثل قلاع دفاعية ، ونقاط أمان عن الولايات المتحدة ضد أي غزو قد يأتي من الغرب. وتمثل بعض الجزر محطات إجراء التجارب النووية.
·        وكانت إسبانيا هي المالكة لهذه الجزر. ولكن بريطانيا نافستها في ذلك منذ القرن الثامن عشر ثم تبعتها عدة دول أوروبية أخرى مثل هولندا وفرنسا. وبهزيمة إسبانيا في حربها مع الملايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر بدأ نجم الأخيرة يبرز كأحد القوى العظمى ، واستولت على عدة جزر وماتزال تحت سيطرتها حتى الآن مثل جزر هاواي ، ومدواي ، وجوام ، وساموا الأمريكية ، وهاولاند وجارفيس ، وبيكر.
·        أما الممتلكات الفرنسية فتتركز في جزر بولينيزيا مثل سوسيتي وتشمل تاهيتي وماركويزاس وكليبرتون وجزيرة نيوكاليدونيا.
·        أما المستعمرات البريطانية فتتمثل في جزر فاننج وفيتي ليفو ، وجزر وفانوليفو. ومجموعة جزر هندرسون ، ومجموعة جزر إيل أيس وجزر سولومون وفيجي وجزر تونجي وفونكس.
·        ونظرا لكثرة أعداد الجزر في عالم المحيط الهادي فقد قسمت إلى ثلاث مجموعات وهي بولينيزيا وميلانيزيا وميكرونيزيا "يجب الاستعانة بأطلس لتتبع الأسماء".

1-  مجموعة جزر بولينيزيا : وتقع في وسط المحيط الهادي ما بين دائرتي عرض 30 درجة شمالا ، و48 درجة جنوبا ، وبين خطي طول 110 درجة غربا إلى 165 درجة شرقا ويمكن تقسيمها إلى :
·        غرب بولينيزيا : وتضم جزر ساموا ومجموعة تونجا.
·        وسط بولينيزيا : وتضم سوسيتي وهاواي وكوك وإيستر.
·        حافات بولينيزيا : وتضم ماركيز وإيستر بيتكرن ونيوزيلندا.

2-  مجموعة جزر ميلانيزيا : وأغلبها تقع إلى الجنوب من خط الاستواء فيما بين خطي طول 150 درجة شرقا إلى 175 درجة غربا وتضم عدة جزر مثل جوادالكنال ، وبوجينفيل وموندا وتقع تحت السيطرة الأمريكية.
وجزر فيجي ومجموعة جزر لويزياد وجزر سانتاكروز وجزر سولومون "بريطانية" وجزر نيوكاليدونيا وجزر لوباليتي وجزر بسمارك ونيوهيبرديز وكلها تحت السيطرة الفرنسية.

3-  مجموعة جزر ميكرونيزيا : واسمها مرتبط بصغر حجم هذه الجزر وهي جزر دبوسية في وسط المحيط. ورغم صغر حجمها إلا أنها لها أهمية استراتيجية كبيرة ، وتقع إلى الشمال من ميلانيزيا وخط الاستواء إلى الشرق من جزر الفلبين وإلى الجنوب الشرقي من جزر اليابان وأهم جزر هذه المجموعة جزر بالو وجزر كارولين ، ومريانا ، وبونين ، وجزر جوام وجزر مارشال ، وياب.


جدول رقم (6-8) : الملامح الجغرافية لدول جزر المحيط الهادي عام 1999
الدولة
العاصمة
المساحة "مليون كم مربع"
عدد السكان "مليون نسمة"
نصيب الفرد بالدولار سنويا
اتحاد ميكرونيزيا
فيجي
بولينزيا الفرنسية
جوام
جزر مارشال
نيوكاليدونيا
نيوزيلندا
بالاو
بابو ونيوغينيا
جزر سولومون
فانيتو
ساموا الغربية
باليكير
سوفا
بابيتي
آجانا
ماجيرو
نوميا
ويلنجتون
كورو
بورت مورسبي
هونيارا
بورت فيلا
آبيا
7
18
4
5
2
18
184
5
488
29
12
3
100
800
200
200
100
200
3.800
20
4800
400
200
200
1920
2460
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1610
ـــــــــــــــــــــــــــــ
16000
ــــــــــــــــــــــــــــ
930
780
1340
1140

والتركيب السياسي لهذه الدول يبرز أن عدد دول جزر المحيط الهادي يصل إلى 12 دولة ، منها دول تشغل جزيرة كبيرة ، والآخر يضم مجموعة من الجزر "أرخبيل". ويمكن إيجاز أهم سمات جزر المحيط الهادي فيما يلي :
·        باستثناء دولة بابوا ونيوغينيا (488) ، ونيوزيلندا (184) ، فإن كل الدول لا تزيد مساحة كل منها عن 30 ألف كيلومتر مربع.
·        كل دول هذا الإقليم أيضا تتسم بقلة عدد سكانها والذي يتراوح بين 20 ألف نسمة ، و200 ألف نسمة. أما الدول ذات العدد الكبير والتي تزيد عن مليون نسمة فهي كل من نيوزيلندا (حوالي 4 مليون) وباوا ونبوغينيا (حوالي 5 مليون نسمة).
·        كل دول المنطقة باستثناء نيوزيلندا (والتي يبلغ متوسط نصيب الفرد فيها 16 ألف دولار سنويا) دول فقيرة ولا يزيد متوسط نصيب الفرد من الدخل عن 1500 دولار سنويا.
·        تتفاوت خصائص الدول طبيعيا وبشريا لاتساع المسافات بين هذه الجزر واختلاف مواردها المعدنية والزراعية ، واختلاف قيمة موقعها الجغرافي ونوع السيطرة اتلأجنبية التي سيطرت عليها.
·        أكبر وأهم جزر عالم المحيط الهادي هي جزيرتي نيوزيلندا ، وبابوا ونيوغينيا. وإن كانت الأولى تمثل مركز ثقل سياسي واقتصادي أفضل.


الفصل الخامس
آراء استراتيجية في الجغرافية السياسية

·        مقدمة عن أهم الآراء
أولاً : ماهان وأهمية الموقع البحري
ثانياً : ماكيندر ونظرية قلب العالم (الهارتلاند)
ثالثاً : سبيدمان ونظرية النطاق الهامشي (الرملاند)


آراء استراتيجية في الجغرافية السياسية
مقدمة :
كانت العلاقات الجغرافية في السياسة مجال اهتمام مستمر للدارسين منذ أيام الإغريق. واتسمت الدراسات في فترة ما قبل القرن التاسع عشر بالنظرة الإقليمية والمحلية ، حيث إن معرفة كل الأمور الخاصة بسطح الأرض كانت غير كاملة لتخلف وسائل التنقل والاتصالات مما جعل المسافة بين الأماكن المختلفة من الصعب اجتيازها. ولم تكن النظرة إلى العالم على أنه وحدة واحدة ترد في حساب أفضل المتفائلين. ومن ثم فإن المفاهيم الجغرافية الاستراتيجية كانت مقصورة على أثر البيئة الطبيعية على المناورات السياسية العسكرية. ومع بزوغ عصر كولومبوس بدأت بعض الدول البحرية في تأسيس مستعمرات لها ، ومع التحسن في وسائل النقل بدأ العالم ينكمش إلى عائلة واحدة ذات دول مختلفة. من هنا بدأ المنظور الجغرافي في الاستراتيجية يتغير مع بداية ظهور علماء مثل ريتر وهمبولت. هذا التغير في المنظور الجغرافي بدأ يتضح في الكتابات الاستراتيجية في نهاية القرن التاسع عشر ، خاصة كتابات كل من ماهان والجغرافي هارولد ماكيندر.
وجدير بالذكر أنه في الفترة التي ظهر فيها العالمان ماهان وماكيندر كان معظم سطح الأرض قد اكتشف ورسمت له خرائط ، وأصبحت العلاقة بين التاريخ السياسي والنموذج المساحي العالمي لتوزيع القارات والمسطحات المائية على سطح الأرض علاقة واضحة ومستمرة. وقد حاول كل من ماهان وماكيندر أن يفسرا النماذج السياسية العالمية من خلال النماذج المساحية للقوة في العالم على أساس أسباب رئيسية مرتبطة بالتاريخ والجغرافية ، وقد اختلفا عمن سبقوهما حيث إنهما حاولا تفسير المسرح العالمي المعاصر مع الأخذ في الاعتبار الاستمرارية التاريخية والتغيرات الجغرافية في توازن القوى العالمية والثورات التكنولوجية العالمية.
ويمكن حصر أهم كتابات الجغرافية السياسية التي أبرزت أهمية الموقع الاستراتيجي فيما يلي :
1-  ماهان والقوة البحرية.
2-  ماكيندر والقوة البرية.
3-  سبيكمان والقوة البرية والبحرية.
وفيما يلي عرض لكل من هذه الآراء وأثرها في توجيه القوى العظمى نحو بعض أقاليم العالم الهامة لفرض سيطرتها وهيمنتها عليها.

أولاً : أفكار ماهان في الاستراتيجية (الموقع البحري) :
يمكن القول بأنه لم يكتب أحد في توضيح أهمية الاستراتيجية للموقع البحري من وجهة النظر الجغرافية قبل الحرب العالمية مثل ألفريد ثاير ماهان (1840 – 1914) الذي شارك في إرشاد وتوجيه السياسة البحرية الأمريكية ، حيث إن كتاباته أثرت في نهج الفكر البحري في كل من فرنسا وروسيا واليابان وغيرها من الدول البحرية.
ومن خلال علاقاته المباشرة وبمساهمة أصدقائه السياسيين مثل ثيودور روزفلت وهنري كابوت لدج ، لعب ماهان دورا رئيسيا في إقناع الولايات المتحدة بتوجيه اهتماماتها نحو البحار خلال السنوات الأولى من القرن العشرين.
ولد ماهان عام 1840 وتخرج من الأكاديمية البحرية الأمريكية سنة 1859 ، وأمضى أربعين عاما في الأسطول البحري الأمريكي ، ثم تقاعد عام 1906 برتبة أدميرال. عندما بلغ أربعين سنة انضم إلى الكلية البحرية في نيوبورت ، والتي تولى رئاستها عام 1886 ، ثم انتخب رئيسيا للجمعية التاريخية الأمريكية عام 1902 – 1903 نظرا لمساهماته في التاريخ البحري.
وأفكار ماهان فيما يتعلق بالاستراتيجية العالمية لا يمكن رصدها من كتاب أو مقالة واحدة ، وإنما يمكن الحصول عليها وتجميعها من كتاباته المتعددة ، وأكبر إسهاماته العلمية ثلاثيته الشهيرة : أثر القوة البحرية على التاريخ (1660 – 1783) ، أثر القوة البحرية على الثورة والإمبراطورية الفرنسية (1793 – 1832) ، وكتابه الثالث كان عن حياة نلسون (1897). وكل كتاباته كان لها محور واحد ، وهو إبراز أن الشرط الأساسي للقوة العالمية هو التحكم في البحر ، فلقد كان مقتنعا بأن القوة البحرية في المحيطات لها اليد العليا في ترجيح الصراع في أي مشكلة عالمية ، وقد وضع ماهان أربعة مفاهيم أساسية حول دور القوة البحرية في العالم وهي :
1-  أن البحار والمحيطات تمثل نظاما للربط والاتصال بين أرجاء العالم.
2-  تمثل الإمبراطورية الروسية صورة للدول الحبيسة القارية.
3-  يحيط بالإمبراطورية الروسية عدد من الدول البحرية الأوروبية والآسيوية.
4-  هناك ثلاث دول جزرية قوية تقع خارج الكتلة الأوراسية ، وهي بريطانيا واليابان والولايات المتحدة.
ويرى ماهان أن البحر هو الطريق (أو المعبر) العظيم بين الدول فهو متسع ومشترك بحيث يسمح للإنسان بالتنقل في جميع الاتجاهات ، وأن له ممرات معروفة توضح أنه لأسباب تحكمية يختار الإنسان طريقا ما دون الآخر. وفي عالم تسود فيه التجارة العالمية ، فإن الموقع البحري المناسب أعطى ميزة سياسية اقتصادية بعيدة المدى ، ومن ثم فإن الموقع الحبيس يشكل عيبا نسبيا. وكتب ماهان أن "السفن التي تتحرك بصفة مستمرة في البحر في حاجة إلى موانئ آمنة تعود إليها وأيضا إلى حماية إلى أبعد حد خلال رحلاتها".
ويحدد كل من الإنتاج ، وهو ضروري في عمليات التبادل التجاري للضبائع في النقل البحري ، والذي عن طريقه تتم عملية التبادل ثم المستعمرات التي تسهل عمليات النقل البحري وتضخمها ، وتوفر الحماية من خلال مضاعفة النقط (المواقع) الآمنة تحدد هذه العوامل الثلاثة تاريخ وسياسة الدول الواقعة على البحر.
أوضح ماهان أن الإمبراطورية الروسية تشكل مثالا واضحا لنقط الضعف والقوة في الكرة الأرضية ، فالعوائق الجغرافية حدت بشكل كبير تحركات الإمبراطورية الروسية ، فمساحتها الكبيرة وعدم كفاية وسائل التنقل والاتصال أثرت بشكل كبير على التماسك الداخلي للدولة ، وذلك بالإضافة إلى موقعها الحبيس الذي جعل الإمبراطورية الروسية مغلقة. وبسبب هذه الظروف الجغرافية الصعبة فالإمبراطورية الروسية لا يمكن تحطيمها إلا أنه من السهل احتوائها.
وعلى النقيض تماما من روسيا ، فالموقع الجغرافي لبريطانيا (رغم صغر مساحتها) مكنها من تأسيس إمبراطورية مستفيدة من ميزة التفوق البحري والذي جعل منها أقوى قوة بحرية في العالم ، وعليه أصبحت بريطانيا قوة عالمية. وبغض النظر عن مساحة روسيا العملاقة الممتدة في أوراسيا ، فإن الأسطول البحري البريطاني يمكنه بسهولة احتوائها بما له من قواعد بحرية متعددة ومنتشرة على مستوى العالم.
وقام ماهان بدراسة الخصائص والملامح الأساسية للقوة البحرية العالمية البريطانية ، وقد وجد أن بريطانيا هي الدولة الوحيدة الجزرية في أوروبا ، وبسبب حالتها الجزيرية فلقد كانت آمنة من أي هجوم خارجي ، وبالتالي فإنها لم تكن في حاجة إلى تجهيزات دفاعية ، مما جعلها تستغل المال والأفراد للاستثمار في الأسطول البحري. وأعطى موقع بريطانيا الجغرافي لها ميزة التحكم في الطرق التجارية عبر القناة الإنجليزية وطرق التجارة عبر المحيط الأطلنطي ، ومن ثم فإن الأسطول البحري الإنجليزي يمكنه أن يعيق التجارة الأوروبية في البحار المفتوحة. ونجحت بريطانيا بفضل موقعها في التحكم في جميع طرق التجارة العالمية. وبفضل تحكمها في النقاط الاستراتيجية البحرية مثل مضيق جبل طارق ، وقناة السويس ، ورأس الرجاء الصالح ، سونغافورة ، وهونج كونج ، وغيرها أعطى بريطانيا مركزا قياديا ورياديا في أوروبا وآسيا والمحيط الهادي.
وانطلاقا من نوفاسكوتيا استطاع الأسطول البحري البريطاني أن يتحكم في المنقطة من الشرق الأقصى إلى الولايات المتحدة ، في حين أفاد سيطرتها على بعض جزر الكاريبي إمكانية تحكمها في التجارة التي تعبر عبر قناة بنما.
ورأى ماهان أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن يضاهي موقعها الجغرافي موقع بريطانيا ، فهي ليست لها أعداء أقوياء على حدودها (ومثل بريطانيا يمكن اعتبارها دولة جزيرية) ، وبالتالي تتوفر لديها جميع مميزات الأمن والدفاع. وبالرغم من أنها ليست لها مستعمرات ، فقد حباها الله بموارد اقتصادية عديدة وضخمة ، بالإضافة إلى موقعها المتوسط ما بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي الذي منحها مميزات أكبر للقوة البحرية. ولقد كان ماهان من أكثر مؤيدي فتح قناة بنما للربط بين المحيط الهادي والأطلنطي. وفي سنواته الأخيرة كان ماهان على اقتناع كامل بأن هذه الأمة العظيمة (أي الولايات المتحدة) يمكن أن تحل محل بريطانيا باعتبارها قوة بحرية.

محددات القوة البحرية :
من خلال تحليل القوة البحرية البريطانية ومن دراسة التاريخ البحري للعالم تمكن ماهان من تقديم ستة عوامل اعتقد أنها تحدد القوة البحرية :

1- الموقع الجغرافي للدولة :
هناك عدة مفاهيم هامة تحدد القوة البحرية مرتبطة بالموقع وهي :
أ‌-     واجهة أو أكثر على أحد البحار المفتوحة. وتزداد القوة البحرية للدولة ، إذا كان هذا الموقع يوفر للدولة المميزات المتعلقة بالتحكم في طرق التجارة الهامة عن طريق القنوات الملاحية أو الإشراف على المضايق وأيضا القواعد التي من خلالها يمكن احتواء العدو أو تهديده.
ب‌-                         مدى الحدود الأرضية ، فالموقع الذي يفرض حدودا أرضية طويلة اعتبره ماهان موقعا أقل أهمية في حين أن الموقع الجزيري بالنسبة له يعتبر ذا قيمة عظيمة.

2- الشكل الطبيعي للدولة :
يقصد ماهان بذلك شكل الخطوط الساحلية للدولة ، وعلى حد قوله (إن الأراضي الساحلية المطلة على البحر هي حدود الدولة ، وكلما كانت هناك سهولة في الوصول من هذه الحدود إلى البحر ، كلما زادت رغبة الأفراد في الاتصال بباقي العالم عبر البحر). فلنا أن نتخيل أن دولة لها سواحل طويلة ، ولكن ليس لها أي موانئ ، ولن تكون لها تجارة بحرية أو نقل بحري أو أسطول على هذه السواحل. والعديد من الموانئ تشكل نقاط قوة وثراء. وتزداد هذه القوة والثراء بوجود ألسنة ورؤوس بحرية ممتدة داخل البحر ، والتي تسهل إنشاء موانئ للدولة على تلك الألسنة ، ولكن سهولة الوصول إليها يجعلها نقطة ضعف في حالة الحرب ، إذا لم يتم الدفاع عنها بالصورة الصحيحة.

3- الامتداد المساحي للدولة :
قصد ماهان بذلك طول الشريط الساحلي للدولة وقدرته الدفاعية ضد الغزو ، ومن ضمن العوامل التي اعتبرها هامة هي قوة الدفاع عن الواجهات البحرية الطبيعية للموانئ والمرافئ على السواحل. ويزداد العمق الدفاعي بوجود مساحة شاسعة متسعة من الدولة "الظهير".

4- حجم السكان :
يعد حجم السكان بالنسبة لماهان أحد العوامل الهامة المحددة لقوة الدولة بحريا ، حيث إن الدولة ذات الحجم السكاني الكبير تستطيع بناء طاقم الأسطول وتوفيره. ومثل هذه الدول فقط هي التي تستطيع أن تمتلك القواعد والمستعمرات عبر البحار ، والتي تحتاج إلى أعداد كبيرة من الجنود الإداريين.

5- توجه السكان البحري :
قصد ماهان بذلك مدى استعداد الأفراد للإبحار والتجارة ، فإذا لم يكن لأفراد قابلية للحصول على الغذاء من البحر وإقامة معاملات تجارية مع العالم الخارجي ، فلن يستطيعوا بناء قوة بحرية. واعتبر ماهان أن التجارة فيما وراء البحار هي الخطوة الأولى في تطوير القوة البحرية.

6- توجه الحكومة البحري :
مما لا شك فيه أن الحكومات ذات الإدارة القوية ، والتي تتمتع ببعد النظر تلك التي تعطي اهتمامها للبحار المشرفة عليها بنفس قدر اهتمامها بامتدادها على اليابس لأن البحر يمثل مصدر رخاء واستقرار ودفاع وأمن للدولة. وقد فسر ماهان ذلك في حرص روسيا في القرن التاسع عشر للوصول إلى المياه الدفيئة (البحار المفتوحة) في اتجاه الشرق. أو من إثارة القلاقل في أفغانستان وإيران لتتمكن من الوصول إلى المحيط الهندي جنوبا ، وهذا ما فسره حرص الاتحاد السوفيتي لاحقا (بعد الحرب العالمية الثانية) على توطيد علاقاته بكثير من الدول ذات المواقع البحرية الاستراتيجية المسيطرة على الملاحة البحرية العالمية مثل كوبا في البحر الكاريبي ، ومصر المتحكمة في قناة السويس ، واليمن المتحكمة في مدخل البحر الأحمر ، وأثيوبيا وانجولا باعتبارهما نقاط استراتيجية في القارة الإفريقية ، بالإضافة إلى سيطرتها على جزر حيوية في المحيط الهادي مثل جزر كوريل.
ويرى ماهان أن السبيل الوحيد لوقف التوجه البحري لروسيا هو تقوية الدفاعات العسكرية على أطراف حدودها ، حيث إن الموقع الجغرافي للإمبراطورية الروسية يجعل منها قلعة حصينة ، وأن قلب الإمبراطورية لا يمكن اختراقه ، ومن ثم فإن الطريق من المركز يجب إعاقته ، وأن السبيل الوحيد للصراع ضد العملاق الروسي ينحصر بصفة رئيسية على الحدود الشرقية والجنوبية لآسيا.
وبدراسة التحليل الجغرافي المعاصر لفكر ماهان يمكن القول إن أول من توقع مفهوم قلب العالم ، وأنه وضع استراتيجية مواجهة الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر ، والتي أصبحت أساس استراتيجية احتواء الاتحاد السوفيتي التي اتبعتها الولايات المتحدة خلال الأربعينيات ، أي بعد نصف قرن تقريبا من وفاة ماهان عام 1914.
وجدير بالذكر أن آراء ماهان الاستراتيجية كانت تتناسب مع زمنها ، حين كانت أساطيل بريطانيا العظمى في عهد الملكة فيكتوريا (1837 – 1901) تفرض سيطرتها على بحار العالم. أما في الوقت الحاضر ومع التقدم التكنولوجي في وسائل النقل والحرب ، فإن القوات الجوية حلت محل القوات البحرية باعتبارها قوى مهيمنة على الرغم من ذلك. وقد ساهمت كتابات ماهان بشكل كبير في تشكيل فكر الجغرافيين الأمريكيين. وربما تعود الحياة لكتابات ماهان وآرائه إلى العصر المحيطي الجديد الذي تسود فيه السفن النووية وحاملات الطائرات العملاقة.

ثانياً : نظرية ماكيندر عن قلب العالم (القوة البرية) :
يعد السير هارولد ماكيندر (1861 – 1947) أشهر الجغرافيين في الوائر غير الجغرافية ، فهو صاحب أفضل نظرية استراتيجية عالمية في الوقت المعاصر. ولكن أفكاره ومعتقداته لم تكن على الإطلاق الأفضل ، حيث يرى البعض أنه من الصعب أن نجد مقالة في مثل طول مقالات ماكيندر وشهرتها ، والتي من السعب تفسير أفكارها ومصطلحاتها الفنية.
وقد ولد ماكيندر في اسكتلندا ، وأصبح أستاذا للجغرافيا في جامعة لندن ومديرا بكلية الاقتصاد في لندن ، وعضوا في البرلمان البريطاني.
وقد قدم ماكيندر منظورا سياسيا عن أهمية التوزيعات الجغرافية للأراضي والمسطحات المائية على سطح الأرض بأسلوب أكثر تنظيما من ماهان.
وجدير بالذكر أن مفاهيم كل من ماهان وماكيندر وفرضياتهما ونظرياتهما حول القوة الأرضية والبحرية تختلف تماما عن بعضها البعض في الوقت الذي تتشابه فيه تصوراتهما عن الاستراتيجية ، مما يؤدي إلى استنتاج أن ماهان وماكيندر قرأ كل منهما كتابات ومقالات الآخر ، إلا أن ماكيندر أوضح النظريات والفرضيات بصورة منهجية ، وهو من فسر التاريخ بأسلوب استراتيجي ومازالت أفكاره الجغرافية تستهوي العديد من الدارسين.

أساسيات نظرية قلب العالم "الهارتلاند" :
في عام 1904 قدم ماكيندر أمام الجمعية الملكية الجغرافية في لندن مقالته الرائدة تحت عنوان "المحور الجغرافي للتاريخ" ، وقدم في المقالة الأفكار الأساسية لمنطقة قلب العالم لأول مرة. أوضح ماكيندر أن في العقد الأول من القرن العشرين ، فإنه لأول مرة نستطيع أن نحاول بدرجة ما إيجاد علاقة متبادلة بين تعميمات جغرافية وتعميمات أخرى تاريخية أكبر ، ومن ثم نستطيع إيجاد معادلة "للمسببات الجغرافية في التاريخ العالمي" من خلال دراسته لخريطة العالم الطبيعية حيث وجد ماكيندر أن سطح الأرض مكون من كتلة يابس ضخمة تضم كلا من أوروبا وآسيا وأفريقيا وبعض الجزر المعزولة أي تضم الأمريكتين وأستراليا واليابان وبريطانيا ، ولقد سمى كتلة اليابس التي تضم أوروبا وآسيا وأفريقيا "بجزيرة العالم".
وفي مقاله الأصلي عام 1904 تكلم ماكيندر عن حدود العالم القديم المكون من أوروبا وآسيا وأفريقيا (شمال الصحراء الكبرى) ، ولكن في مقاله عام 1919 أدخل أفريقيا كلها في جزيرة العالم. ولاحظ ماكيندر أن سطح الأرض مكون من ثلاثة أرباع ماء وربع أرض ، وثلثي هذا الربع يشكل جزيرة العالم ، والثلث الباقي يشكل القارات الأخرى أيضا ، كما أن جزيرة العالم تشتمل على سبعة أثمان سكان العالم. ولقد رأى أن أرض العالم مرتبة على شكل ثلاث طبقات. توجد بالطبقة الأولى مساحة كبيرة من الأحواض النهرية الداخلية أو المتجهة صوب القطب الشمالي في أوراسيا ، وهي محاطة بالجبال من ثلاثة جهات ، والمحيط المتجمد الشمالي من الجهة الرابعة. وتلك هي "المنطقة المحورية" ، والتي أطلق عليها بعد ذلك قلب العالم ، وهي المنطقة الممتدة من نهر الفولجا غربا سيبيريا الشرقية في الشرق ، ومن جبال الهيمالايا في الجنوب إلى منطقة القطب الشمالي في الشمال.
وأشار ماكيندر أن الملامح المميزة لقلب العالم كونها منطقة محاطة من ثلاث جهات بجبال ويحدها المحيط المتجمد في الجهة الرابعة ، مما جعل منها حصنا طبيعيا من الصعب الوصول إليه ، ومن ثم فهو مكان آمن. وأن المنطقة يمكن اختراقها فقط من الجهة الجنوبية الغربية عن طريق أوروبا الشرقية وبين جبال الأورال وبحر قزوين حيث تغطي تلك المنطقة سهول خضراء واسعة تسهل عملية التحرك والانتقال.
والمنطقة المحورية أو منطقة قلب العالم ، كما صورها ماكيندر محاطة بنطاق (إقليم) هامشي يضم كل أراضي أوراسيا الموجودة خارج منطقة قلب العالم ، ويتضمن أوروبا غرب الأورال وجنوب غرب آسيا خارج الأراضي الإيرانية والهند وجنوب شرق آسيا ومعظم الصين ، كما يتضح من دراسة الشكل ، وخارج أراضي هذا النطاق الحدي أو الهامشي ، يقع النطاق الثالث الذي أطلق عليه الهلال الخارجي ، ومن ثم فإن قارتي أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والجزر البريطانية واليابانية اعتبرها كلها مناطق خارجية.


ومن خلال دراسته للتاريخ الأوراسي ، بالإضافة إلى الخريطة السياسية للعالم في ذلك الوقت اقتنع ماكيندر بالأهمية الاستراتيجية الكبيرة للمنطقة الأوراسية الداخلية وتأثيرها في علاقات العالم القديم. وتتكون الأجزاء الشمالية والغربية لقلب العالم من أراضي منخفضة واسعة فيما عدا جبال الأورال ، وتتصل بباقي سهول أوروبا الشرقية من خلال ثغرة أوروبا الشرقية ويصعب اختراقها من الشمال والغرب.
وأبرز ماكيندر دور معالم الصطح وتضاريسه بقارة أوروبا وتأثيره البالغ على تاريخها السياسي. وفسر ماكيندر التاريخ الأوروبي على أنه صراع دائم ضد الغزو القادم من داخل آسيا.
وقد أثرت نظرية ماكيندر عن قلب العالم على أفكار علماء الجيوبوليتكا الألمان أمثال هاوسهوفر. بل وامتد تأثيرها على مفهوم الاستراتيجية الألمانية في عهد هتلر.
وفي عام 1919 نشر ماكيندر نسخة معدلة لمقالته عن قلب العالم في كتاب عنوانه "المثل الديمقراطية والواقع". وفي هذا الكتاب أوضح أن القوى البحرية فشلت تماما في السيطرة على منطقة جزيرة العالم.
وتتلخص نظرية قلب العالم لماكيندر في الجمل التالية :
·        من يحكم شرق أوروبا ، يسيطر على منطقة قلب العالم.
·        ومن يحكم قلب العالم ، يسيطر على جزيرة العالم.
·        ومن يحكم جزيرة العالم ، يسيطر على العالم بأسره.
وقد أوضح ماكيندر أن من يتحكم في منطقة قلب العالم هي قوة أقوى بكثير من أي دولة بمفردها. لأن أي قوة تتحكم في منطقة جزيرة العالم فإنها تتحكم في ثلثي مساحة العالم وسبعة اثمان سكانه ، ومن ثم فهناك شك في قدرة اية قوة تستطيع أن تتحكم في إمبراطورية عالمية.

منطقة قلب العالم المعدلة سنة 1943 :
ركز ماكيندر اهتماماته على منطقة أوراسيا حتى عام 1919 على أساس أنها منطقة الهيمنة العالمية ، ولكن مع منتصف العشرينيات انتبه إلى أن غرب أوروبا وامتداده في الولايات المتحدة يشكلان مجتمعا وأمة واحدة ، وبهما منطقتا تكدس سكاني. واشار إلى أن غرب أوروبا وشرق الولايات المتحدة الأمريكية مكملان لبعضهما البعض.
هذا التغير في مدى إدراكه للحقيقة الجغرافية السياسية يعكس تعديلا آخر في آرائه الاستراتيجية العالمية عن مولد قوة سياسية جديدة ، جاء ذلك في مقاله الشهير بعنوان (العلاقات الخارجية) في عام 1943 وفي هذه المقالة ذكر ماكيندر تحت عنوان "العالم الدائري وانتصار السلام" أنه في الوقت الذي كانت فيه أللمانيا على حافة الانهيار ، فلم يعد ماكيندر يحبذ أن أن من يحكم قلب العالم يحكم جزيرة العالم ، وأن من يحكم جزيرة العالم يحكم العالم ، وذلك لأن جانبي الأطلنطي أصبحا مرتبطين من خلال الأساطيل البحرية والاتصالات الجوية وأن القوة الصناعية والحربية للولايات المتحدة وغرب أوروبا لا يمكن إغفالها.
وصف ماكيندر المنطقة الجغرافية الاستراتيجية ، والتي تتكون من شرق الولايات المتحدة وغرب أوروبا بأنها "حوض الأرض الوسطى".
ولقد اعتبر هذه المنطقة أرض التوازن المضاد للقوة السياسية لقلب العالم الأوراسية (والتي ألغى منها جزءا من الاتحاد السوفيتي الذي يقع شرق نهر ينسي. والتي أطلق عليها Lenaland بسبب قيمتها الاستراتيجية والاقتصادية الضئيلة نظرا لمظهرها الطبوغرافي القاسي حيث إنها منطقة مغطاة بالغابات والغطاءات الجليدية والمستنقعات.
ولاحظ ماكيندر أن من نتائج الحرب العالمية الثانية تغير الصورة الجغرافية السياسية للعالم بشكل كبير. فكتب "إذا خرج الاتحاد السوفيتي منتصرا في حربه مع ألمانيا (وهو ما حدث بالفعل) ، فإنها سوف تكون أقوى قوة على وجه الأرض ، بالإضافة إلى أنها تعتبر أقوى موقع دفاع استراتيجي. فمنطقة قلب العالم هي أقوى حصن على وجه الأرض. ولأول مرة في التاريخ يتم تزويدها بالقوة العسكرية الكافية من حيث العدد والكفاءة.
ما قصده ماكيندر أنه بعد الحرب والهزيمة الثقيلة لألمانيا تحولت منطقة قلب العالم من منطقة خاوية من القوة إلى مركز للقوة.
ولكن هل استمر صدق نبوءة ماكيندر في نهاية القرن العشرين ؟
فالتطورات السريعة التي انتابت الاتحاد السوفيتي وتفتته أوضحت أن هناك خطأ في تقدير قوة هذه الدولة ، كما أن سهولة اختراق المناطق القطبية الشمالية بواسطة الطيران قللت الأهمية الاستراتيجية للسواحل الشمالية له. مما جعل من الصعب على الاتحاد السوفيتي حماية مطاراته وقواعده العسكرية الحصينة سابقا في سيبيريا وأصبحت مساحته الأرضية الشاسعة في حاجة إلى شبكة جيدة من الربط حتى لا يزداد تفتته ، ويجب أن يوضع في الاعتبار مدى عدم التجانس البشري في هذه الرقعة الممتدة ، مما أدى إلى نفور كثير من القوميات ، وبالتالي مطالبتها بالاستقلال عن الاتحاد السوفيتي في صورة جمهوريات "آسيا الوسطى" مثل كازاخستان وقرغيزستان وأوزباكستان وأرمينيا وآذربيجان ، وغيرها ، واستقلت جمهوريات عدة عن الاتحاد السوفيتي. واصبحت جمهورية روسيا الوريث الشرعي لهذه القوة البرية السابقة ولكنها ورثت عبئا اقتصاديا وتدهورا في كثير من أمور الحياة ، مما جعل روسيا من أكبر الدول المدانة في العالم ، وتنتظر مساعدات الغرب لكي تقف ثانية على أرض صلبة. وزاد من سوء الأمور أن كثيرا من القوميات التي تشارك روسيا في تكوين جمهورية روسيا اتحادية بدأت هي الأخرى بالمطالبة بالاستقلال مثل الشيشان وداغستان ، مما أدى إلى استنزاف موارد هذه الدولة وسيزداد الاستنزاف حين تنجح هذه الجمهوريات في الاستقلال. وهذا يعني فقدان روسيا موارد معدنية وبترول وغاز ضخم في نطاق القوقاز الحيوي.
ولم يعد لهذه القوى العظمى – سابقا – سوى اسلحتها النووية التي ترعب العالم بأكمله ، ولولا ذلك لانحدرت روسيا من دولة تمثل إحدى القوى العظمى إلى دولة من دول العالم الثالث الفقير.

ثالثا : سبيكمان ونظرية النطاق الهامشي :
في عام 1942 نشرت النسخة الأصلية من كتاب ماكيندر السابق ذكرها تحت عنوان "المثل الديمقراطية والواقع" بمقدمة قوية للدارس الأمريكي إيرلي والذي كتب فيها أنه لا توجد بيانات أفضل عن الحقائق الجغرافية التي تحدد مصير عالمنا المعاصر عن تلك التي أوضحها ماكيندر في نظرية قلب العالم. وأضاف أن كتاب ماكيندر مادة ضرورية لقراءة الاستراتيجية وفهم الصراعات الدولية.
هذا التقديم المتحمس لكتاب ماكيندر الذي ألفه عام 1919 دون أن يلق كلمة نقد واحدة اثارت حماس نيكولاس سبيكمان (1893 – 1943) في جامعة يال على تقديم رد فعل لهذه النظرية في كتاب نشر عام 1944 بعد وفاته تحت اسم "جغرافية السلام" ، وفي كتابه أبرز أن تحقيق الأمن والسلام العالميين لن يتأتى إلا بمساهمة كل العالم في صنع السلام ، وعن طريق قوة مسلحة عالمية تحافظ على فرض السلام. وهذا ما حدث بالفعل في الكويت والبوسنة وكوسوفا وجزر تيمور الشرقية. وتناول المحور الثاني في كتابه بالنقد نظرية ماكيندر ، ومن وجهة نظر أمريكية قدم سبيكمان تفسيرا مختلفا للأهمية النسبية لمنطقة قلب العالم والنطاق المحيط بها سواء أكان قاريا أم بحريا ، والتي أطلق عليها سبيكمان اسم النطاق الهامشي أو الرملاند.
وقد جلب سبيكمان الانتباه والاهتمام إلى حركات القوات البحرية واثرها في فرض القوة ، حيث إن القوى البحرية تتحكم في التكتلات الأرضية. فالقوة البحرية من وجهة نظره هي العامل المؤثر في الاستراتيجية العالمية. وأوضح أن الأهمية التي ربطها ماكيندر بمنطقة قلب العالم "الهارتلاند" تعتمد على أساسين :
الأول : اعتقاد ماكيندر أن المميزات الاستراتيجية الهائلة للمساحة التي تشغل منطقة قلب العالم سوف يتم تقويتها بخطوط اتصال ونقل بري قوي ، مما سوف يؤدي إلى تدعيم وحدتها وقوتها.
الثاني : اعتقاد ماكيندر أن أراضي السهول الواسعة الداخلية "الاستبس" والتي تمثل منطقة إمكانات اقتصادية قليلة سوف تتحول إلى منطقة تقدم اقتصادي هائل.
من هذا المنطلق أدحض سبيكمان الأساس الذي قامت عليها تلك الفرضيات التي وضعها ماكيندر وأثبت عدم صحتها. فمن وجهة نظره أن الحقائق المرتبطة بجغرافية روسيا واقتصادياتها لا تعطي أساسا للافتراض بأن منطقة قلب العالم سوف تصبح في المستقبل القريب مركزا للاتصالات أو التنقل وتزداد إمكاناتها الاقتصادية ، واعتقد أن العديد من ألأدلة تؤيد رأيه وهي :
1-  أن ظروف المناخ التي تحيط بالمنطقة جعلت من المؤكد إن لم تظهر تغيرات ثورية رخيصة في تكنولوجيا إنتاج الغذاء والزراعة. فإن الإنتاج الزراعي السوفيتي سوف يظل محورا في منطقة غرب روسيا ومناطق محدودة من شرق الأورال. على ذلك فإن الجزء الصالح للزراعة يمثل جزءا صغيرا جدا من جملة المساحة ، وبالمثل فإن مقومات التصنيع تتوافر بصورة اساسية في منطقة غرب الأورال.
ورغم أن سبيكمان قد أكد أنه قد تحدق بعض التغييرات الطفيفة إلا أنه كان مقتنعا إلى حد كبير بأن منطقة قلب العالم لا يمكن أن تستقطب عددا كبيرا من السكان اعتمادا على إمكاناتها الأرضية.
2-  على الرغم من زيادة الحركة نسبيا في هذه المنطقة باستحداث خط للسكة الحديدية ، وطرق للسيارات ، والنقل الجوي ، إلا أن هذا لا ينفي أنها حركة محدودة. وأن منطقة قلب العالم محاطة من الشمال والشرق والجنوب والجنوب الغربي بالعديد من العوائق الكبيرة التي تعيق حرية التنقل وربطها بالعالم ، متمثلة في البرودة القارسة معظم فترات العام والجبال الشاهقة الارتفاع المحيطة بها.
وأخذ سبيكمان على ماكيندر تحيزه الكبير للإمكانات الزائدة لمنطقة قلب العالم "الهارتلاند" حيث أوضح أن مساحات كبيرة من هذه المناطق التي تقع بين بولندا ونهر ينسي قاحلة وأن القوة الحقيقية تكمن في تلك الأراضي التي تحيط بنطاق قلب العالم ، والذي أطلق عليه اسم النطاق الهامشي أو الرملاند. حيث يضم بين جنباته معظم سكان العالم وتتركز به مواد زراعية هائلة وزادت قيمته باكتشاف موارد بترولية ضخمة به. لذا فإن النطاق الهامشي يمثل منطقة حاجزة للقلب ، ولكنها غنية بالموارد وبالسكان ، ومن هنا فإن منطقة قلب العالم أقل أهمية من منطقة الرملاند. لذلك نادى سبيكمان بتغيير وجهة نظر ماكيندر ، وأن من يبغي السيطرة والقوة العالمية فإنه يجب أن يضع في الاعتبار ما يلي :
·        من يسيطر على الأراضي الهامشية يتحكم في أوراسيا.
·        من يتحكم في أوراسيا يتحكم في مصائر العالم.
وأضاف سبيكمان أن الصراع بين القوى العظمى سوف تكون على السيطرة على أراضي الرملاند. وكان من رأيه أن تتجه السياسة الأمريكية إلى فرض سيطرتها على دول هذا النطاق. وبما أن سبيكمان كتب مؤلفه في الوقت الذي كانت فيه رحى الحرب العالمية الثانية مازالت دائرة. فقد رأى أن القوات المتحالفة (الحلفاء) يجب عليها أن توظف سياستها المستقبلية على منع دمج أرض الرملاند وألمانيا.
ومع ظهور الاتحاد السوفيتي بصفته المسيطر الأوحد على قلب العالم (الهارتلاند) أصبحت آراء سبيكمان أساس السياسة الأمريكية في احتواء المد الشيوعي بشرق أوروبا. ونجحت في إنشاء حلف شمال الأطلنطي لمد نفوذها على الجانب الغربي من الرملاند ، ونجحت في كسر تحالف دول شرق أوروبا مع الاتحاد السوفيتي. بل إنها تلعب دورا في تقليص الدور الروسي بشرق آسيا ، وذلك بزيادة نفوذها العسكري في الفلبين وكوريا ، وإنشاء عدة تحالفات عسكرية استراتيجية مع دول آسيا باعتبارها جزءا من سياستها لاحتواء منطقة الرملاند.









[1]ا لمصدر: ــــــــــــــــــــــ، المركز العربي للدراسات المستقلية، على الرابط التالي:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا