التسميات

الاثنين، 30 يناير 2017

علم الاجتماع الحضري - المحاضرات من (الأولى إلى السابعة) ...


علم الاجتماع الحضري

المحاضرات من (الأولى إلى السابعة)

المحاضرة 1 

علم الاجتماع الحضري مفهومه ومجالاته

عناصر المحاضره:

أولاً: مفهوم علم الاجتماع الحضري ومجالاته.

• ثانياً: مفهوم التحضر.

• ثالثاً: مفهوم الحضرية.

أهداف المحاضره:

• إلمام الطلاب والطالبات بمفهوم علم الاجتماع الحضري .

• تعرف الطلاب والطالبات على مجالات علم الاجتماع الحضري.

• تفسير الطلاب والطالبات لمفهوم الحضرية.

مقدمة أو مدخل

• يرى كثير من الباحثين والعلماء أن القرن الماضي هو عقد التحضر السريع ، وهذا التصور ينطوي على كثير من الصدق ، فعلى الرغم من أن الدول الصناعية الغربية قد شهدت تحضراً مرتفعاً مع مطلع القرن التاسع عشر إلا أن هذا التحضر قد تعاظم خلال القرن العشرين .

• ثم واصل تعاظمه بعد الحرب العالمية الثانية حينما حصلت معظم الدول النامية على استقلالها السياسي، وبدأت تشهد انفجاراً حضرياً ، وبطبيعة الحال فإن هذا الانفجار الحضري يستدعيه بالضرورة كمية من المطالب والاحتياجات الطبيعية والمادية والمتغيرات في كثير من المجالات كالإسكان والتشييد والطرق والمواصلات والخدمات المختلفة .

• وإذا كنا بصدد دراسة الحياة الاجتماعية في تلك المناطق الحضرية الكبرى ، فبالتالي فنحن في حاجة إلى تكثيف الاهتمام بدراسة المشكلات الاجتماعية الحضرية في المستقبل .

• وبالتالي فإن الدراسات الحضرية – كما يقول رايسمان- ذات أهمية أساسية لعلم الاجتماع نفسه، ذلك أن دراسة عملية التحضر يمكن أن تخدم دراسة التغير في أي مجتمع من المجتمعات.

• هذا إلى جانب أن دراسة البناء والتنظيم الاجتماعي الذى يقوم على الحياة الحضرية يمكن أن يفيد في فهم البناء والتنظيم الاجتماعي القائم في أي مجتمع ، حتى لو لم يمكن مجتمعاً حضرياً.

• لكن مازال علم الاجتماع الحضري يفتقد إلى التكامل النظري وربما يرجع ذلك إلى أن ظروف نشأة علم الاجتماع الحضري التي ارتبطت بظروف اتساع نطاق المدن في الولايات المتحدة الأمريكية موطن نشأته الأولى.

• فقد فرضت في أول الأمر وحتى وقت قريب الاهتمام بتقديم المعرفة والوصول إلى صياغات نظرية تسهم في إثراء النظرية العامة لعلم الاجتماع، ولهذا يحمل علم الاجتماع الحضري حتى اليوم طابع الاهتمامات الأولى.

• ولعل هذا هو الذى يفسر تعدد المداخل التي قد تنتمي إليه ، والتي تنتمي في الواقع إلى فروع أخرى من المعرفة كالجغرافيا والأيكولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد وغيرها.

• لذا سوف نوضح خلال هذه المحاضرة مفهوم علم الاجتماع الحضري ومجالاته الأساسية، ثم ندخل إلى مفهوم التحضر والحضرية باعتبارهما من المفهومات التي يحدث فيها خلطاً كبيراً مستخلصين أهم خصائص الحياة الحضرية وأخيراً نشير إلى ما يتعلق بمستقبل الحياة الحضرية.

أولاً: مفهوم علم الاجتماع الحضري ومجالاته.

• يعرف علم الاجتماع الحضري Urban Sociology: بأنه علم اجتماع حياة المدينة وينظر إلى المدينة ويحللها كظاهرة اجتماعية في ذاتها إلى جانب دراسة المشكلات الخاصة بها، ولقد تطور تراث واضح ومميز لهذا العلم في أوروبا وأمريكا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

• وظهر بين الباحثين الأوربيين ميل إلى تبنى منهج تاريخي ، ولكن مع ذلك فسرت المدينة بطرق مختلفة فبينما يرى "فوستيل دى كولانج" مثلاً في كتابه المدينة العتيقة عام 1864 أن الدين هو السبيل أو النظام الهام والحاسم في المدينة.

• نجد أن "ماكس فيبر" في كتابه المدينة عام 1858 يحاول تحليل طبيعة المدينة وبحث وظائفها السياسية والإدارية واهتم بشكل خاص بحقوق وواجبات المواطنين وأهمية تمايز المكانة وتباينها.

• هذا في الوقت الذى حاول "السير هنرى مين" أن يحلل المدينة من منطلق اقتصادي بحت فميز بين المدينة الأم والمدن الصغرى المجاورة.

• أما في أمريكا فقد كان الباحثون الأوائل في علم الاجتماع الحضري من المهتمين بمسائل الأخلاق، بينما صاغ الباحثون قضاياهم وأفكارهم داخل إطار أيكولوجي بحت، فلقد ذهب "روبرت بارل" إلى أن المدينة عبارة عن بناء طبيعي له قوانينه التي ترتبط بالنظام الطبيعي والأخلاقي .

• أما "بيرجس" فقد اهتم بظاهرة توسع المدن وأثر ذلك على بنائها الأيكولوجي ، لذا فقد أشار مصطلح علم الاجتماع الحضري بشكل عام إلى الدراسة السوسيولوجية للمدن أو الحياة في المدينة أو الحياة الحضرية.

• وعلى هذا يعرف علم الاجتماع الحضري بشكل أكثر تحديداً بأنه فرع من فروع علم الاجتماع العام يستخدم مناهجه وأدواته ومفاهيمه في دراسة الحياة الاجتماعية داخل المجتمع الحضري )الذى يقابله ويرث بالمجتمع الشعبي أو الريفي(.

• تابع التعريف : والذي يتميز بالجماعات الثانوية وانقسامية الأدوار وتزايد معدلات الحراك )التنقل( الاجتماعي والمجتمع الحضري الذى يتميز بكبر الحجم، وكثافة السكان ، واللاتجانس هو العامل الأساسي الذى نفسر في ضوئه كافة الأشكال الاجتماعية التي تظهر في المدينة.

• وفي سياق هذا المعنى يهتم علم الاجتماع الحضري بالمدينة وما يتخللها من بناءات ودعائم ونظم وتيارات اجتماعية بالدراسة والتحليل كما يقوم بتفسير المظاهر المميزة للتنظيم الاجتماعي في مناطق الإقامة الحضرية في نشأتها وتطورها ووظائفها وأجهزتها الإدارية والفنية وتقسيمها الطبقي والمهني ومستوياتها التكنولوجية ومشكلاتها.

• وقد ضيق "روبرت بارك" تعريف علم الاجتماع الحضري وحصره في مقالته الكلاسيكية الشهيرة عن المدينة بأنه يهتم ببحث السلوك البشري في البيئة الحضرية.

• وفي ضوء ما سبق يتضح أن علم الاجتماع الحضري هو أحد فروع علم الاجتماع العام الذى يطبق مناهجه ونظرياته ومفاهيمه في دراسة للمدينة وأحوالها والظواهر الاجتماعية المرتبطة بها.

• ومدى تأثير الحياة الحضرية على السلوك الاجتماعي وأهم المشكلات المجتمعية التي تظهر في المدينة وفي إطار هذا يضيف "رايسمان" إلى أن هناك بعض الموضوعات التي لا يمكن دراستها دراسة حقيقية إلا من خلال مجتمع حضري كالطبقات الاجتماعية والبيروقراطية.

• ويمكن أن نعتبر المدن والمراكز الحضرية بمثابة المعمل الذى يصلح لدراسة عدد من ملامح المجتمع، من ذلك مثلاً الهجرة إلى المراكز الحضرية، وهنا لابد أن ندرس نوعية المهاجرين والدوافع وراء هجرتهم، وهل ترجع هذه الهجرة إلى الضغوط التي يتعرضون لها من جراء عوامل معينة كجاذبية المراكز الحضرية مثلاً.

• ومن المهم أيضاً التعرف على الأوضاع الطبقية للمهاجرين ، وما إذا كانت هذه الأوضاع الطبقية تتغير بسبب الهجرة كالتغيرات التي تحدث في الأنماط الأسرية .

• كذلك ضرورة التعرف على العلاقات الاجتماعية بين المهاجر كوافد حديث إلى المدينة وبين غيره من الحضريين المقيمين بالمدينة منذ البداية، كذلك ضرورة الاهتمام بدراسة البناء والتنظيم الاجتماعي على نطاق واسع في كثير من دول العالم.

• وبناء على ذلك يمكن تحديد أهم مجالات علم الاجتماع الحضري على النحو التالي:-
دراسة المدن والمراكز الحضرية والمناطق المتاخمة لها.

دراسة البناء الاجتماعي للحياة الحضرية.
دراسة خصائص الحياة الحضرية سواء من زاوية الوحدة الاجتماعية الصغرى micro- social أو زاوية الوحدة الاجتماعية الكبرى macro-social .
دراسة الأيكولوجية الحضرية بمعنى العلاقة بين الكائنات الحية وبيئتها الطبيعية.
دراسة المدينة ودورها التاريخي وتطورها وبناؤها.
دراسة المشكلات الاجتماعية في المدينة.
دراسة التأثيرات الاجتماعية للحياة الحضرية ودراسة
العلاقة بين التحضر والمجتمع والتصنيع.

• وهكذا يتضح أن علم الاجتماع الحضري هو العلم الذى يهتم بدراسة المدينة بوصفها مركز الحضر بدراستها في نشأتها وتطورها ووظائفها وأجهزتها الإدارية والفنية وتقسيمها الطبقي والمهني ومستوياتها التكنولوجية والمشكلات التي تعاني منها مثل مشكلات السكان وشئون الأسرة والتموين والمواصلات والخدمات العامة والخاصة والإسكان وغيرها.

ثانياً: مفهوم التحضر Urbanization

• تشتق كلمة التحضر من الكلمة اللاتينية urbas: وهي اصطلاح كان الرومان يستخدمونه للدلالة على المدينة وبخاصة مدينة روما.

• وقد حددت دائرة المعارف البريطانية مصطلح التحضر باعتبارها العملية التي يتركز خلالها السكان في المدن أو المناطق الحضرية وتتم هذه العملية بطريقتين متباينتين هما :-

أ- من خلال زيادة المناطق الحضرية.

ب- من خلال زيادة حجم السكان للمقيمين في المناطق الحضرية.

• وبالتالي فالتحضر هو العملية التي بمقتضاها تحتشد نسبة متزايدة من سكان أحد المجتمعات في المدن ، وهي عملية قد ترتبط أو لا ترتبط بعملية التصنيع Industrialization وعلى هذا يعرف "كينجزلى دافيز" التحضر بأنه نمو نسبة السكان الذين يعيشون في المدن في مجتمع معين.

• وبالتالي قد تنمو المدن في الحجم دون حدوث تحضر إذا ما تزايد عدد السكان الريفيين بمعدل أكبر وتلك نقطة هامة، ففي أوروبا كان معدل النمو الحضري السريع راجعاً إلى الهجرة الريفية الحضرية الضخمة أما في العالم الثالث فالتحضر أكثر بطئا لأن سكان الريف مستمرون في الزيادة السريعة بالرغم من الهجرة إلى المدينة.

• وعلى هذا فالتحضر هو عملية من عمليات التغيرالاجتماعي تتم عن طريق انتقال أهل الريف أو البادية إلى المدينة وإقامتهم بمجتمعها، بمعنى هي عملية إعادة توزيع السكان من الريف إلى المدن والمراكز الحضرية الأخرى.

• ويطلق على المستوى الذى يميل إليه المجتمع من تحضر درجة التحضر Degree of Urbanization ويقصد به عادة نسبة السكان الذين يعيشون بمراكز عمرانية يزيد حجمها على عشرين ألف نسمة إلى مجموع سكان الدولة.

• ومن الطبيعي أنه كلما ارتفعت نسبة سكان الحضر زادت درجة التحضر غير أن هناك حالات خاصة ترتفع فيها أعداد السكان بالمدن خلال فترة معينة إلا أن ذلك لا ينعكس على زيادة في درجة التحضر ويرجع السبب في ذلك إلى أن ارتفاعاً يكون قد أصاب الريف بنفس المعدل.

• ومن هنا كان مؤشر )معدل التحضر( Rate of Urbanization دالاً في التعبير عن التغير الذى يصيب درجة التحضر خلال فترة زمنية معينة، ويقاس هذا التغير بنسبة مئوية وكلما ارتفع معدل التحضر على معدل التريف زادت بالتالي درجة التحضر. 

• وتوصف عملية التحضر دائما بأنها عملية تراكمية accumulative ويقصد بذلك أن رصيد التحضر لا يظل ثابتاً على ما هو عليه وإنما يتعرض باستمرار لإضافات وزيادات تنجم عن الإقامة الدائمة والاستقرار بنطاق مكاني محدد مع ما يرتبط بذلك من انجازات يحققها الإنسان يوما بعد يوم ويضيفها إلى التراث الحضاري لمجتمعه.

• ولا نعني بالتراكم هنا زيادة سكانية فقط وإنما فوق ذلك هو زيادة موارد وخبرة لدى هؤلاء السكان على استغلالها والإفادة منها.

• وهكذا نلاحظ أن مفهوم التحضر قد ارتبط بمعاني كثيرة ومتعددة منها ما ذهبت إليه "هوب تيسدال" في تعريفها للحضرية إلى أنها عملية تتضمن حركة للسكان من حالة أو موقف أقل تركيزاً إلى آخر أكثر تركيزاً.

• وبهذا المعني لا توافق تيسدال على تصور الحضرية كعملية لانتشار الخصائص الحضرية خارج حدود المدن وذلك لأن هذا التصور يجعل المدينة على حد تعبيرها سببا للتحضر بدلاً من اعتبارها أي المدينة نتيجة لها كما أن هذا التصور لا يفسر في نظرها نشأة المدن وتطورها.

• وهكذا يمكن تعريف التحضر بشكل أكثر تحديداً بوصفه ضرب من ضروب التغير البنائي الذى لا يقتصر فقط على انتقال السكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية أو التحول من العمل الزراعي إلى العمل الصناعي، ولكنه يتضمن أيضا تغيرات أساسية تشمل تفكير الناس أو سلوكهم وقيمهم الاجتماعية.

ثالثاً: مفهوم الحضرية Urbanism

• يشير مفهوم الحضرية كما عرفه "مارشال جوردن" إلى أنماط الحياة الاجتماعية التي ترتبط بالسكان المقيمين في المناطق الحضرية والتي تتضمن تقسيم العمل والتخصص الدقيق وانتشار العلاقات الاجتماعية الرسمية والعلاقات القرابية وزيادة الروابط الطوعية والعلمانية وزيادة عملية الصراع الاجتماعي وزيادة الأهمية الاجتماعية لوسائل الاتصال.

• أي أن الحضرية هي اتجاه يتجسد في ظاهرة تشهدها كل المجتمعات البشرية وتعني إقامة الناس واستقرارهم في تجمعات حضرية )قد تأخذ شكل المدن( وتتبلور في التغير النوعي الذى يحدث في أنماط تفكيرهم وسلوكهم تجاه الأنشطة السائدة ونمو التنظيمات القائمة والحضرية.

• وبهذا الشكل تتضمن كل الجوانب الكيفية التي تتصل بالمعيشة في المدينة مع ما يرتبط بذلك من مشكلات حضرية. 

• ويعد " لويس ويرث" من أبرز العلماء الذين ناقشوا وفسروا مفهوم الحضرية كطريقة في الحياة يمكن تناولها ميدانيا من خلال ثلاث اتجاهات متشابكة ومتساندة فيما بينها هي:-
كبناء فيزيقي يتضمن أبعاد أيكولوجية وسكانية وتكنولوجية.
كنسق من التنظيم الاجتماعي يتضمن بناءاً اجتماعياً مميزاً أو مجموعة من النظم ونمطاً محدداً من العلاقات الاجتماعية.
كمجموعة من الاتجاهات والأفكار تشترك في تكوين نمط السلوك الجمعي والذى يخضع لآليات الضبط الاجتماعي السائدة.

• وعلى هذا فالحضرية تشير إلى حالة أو كيفية أو طريقة في الحياة ، ومن المتصور أن تكون خاصية مميزة للمدينة أو المجتمع المحلي الحضري.

• والواقع أن كثيراً من الأفكار استوعبها تراث علم الاجتماع الحضري والتي حاولت أن تلخص خصائص المجتمع الحضري مثل كتابات )جورج زيمل و بيتريم سودوكين و زيمرمان و لويس و برث ( تصدق في جانب كبير منها لمحاولة لتحديد خصائص الحضرية كطريقة للحياة فلقد أجمعت كل هذه المحاولات على الخصائص التالية:-
تطوير نسق أكثر تعقيدا لتقسيم العمل لكى يعتمد على بناء مهني يتسم بالتباين بحيث يشكل أساساً لنسق التدرج الطبقي الاجتماعي.
ارتفاع معدلات الحراك الاجتماعي والفيزيقي (المكاني).
الاعتماد الوظيفي والتساند المتبادل بين الأفراد.
انتشار وسيطرة نسق من العلاقات الاجتماعية يتسم بالطابع السطحي وغير الشخصي إلى جانب سيطرة الطابع الانقسامي على الأدوار الاجتماعية.
الاعتماد على الاساليب غير المباشرة للضبط الاجتماعي، ولقد لاحظ بعض الباحثين أن هذه الخصائص ليست قاصرة على المدن فقط وإنما قد يمكن انتشارها أو انتقالها خارج حدودالمدن إلى جوانب الريف المجاور ، الأمر الذى أدى إلى تحضر المناطق الريفية ولو بدرجة محدودة.

الخلاصه:

• والجدير بالذكر هنا أن الحضرية وإن كانت تحمل في طياتها الإشارة إلى انبثاقها من المدن إلا أنها في الواقع مجرد طريقة في السلوك وحسب، أي سلوك له طريقته الخاصة وسماته الخاصة التي تميزه عن غيره وهي ليست تعبيراً مقصوراً على الحياة في المدن.

• فقد نجد إنساناً متحضراً وسلوكه الكلي حضري بينما يحيا في الريف ونجد آخر يحيا في أكثر أحياء المدن تحضراً وهو مع هذا لا يزال قرويا في تفكيره وطريقة معيشته بل وفي سلوكه ، فالمسألة إذن مسألة سلوك وليست مسألة مظهر. 

المحاضرة 2 

تابع علم الاجتماع الحضري

(مفهومه ومجالاته)

عناصر المحاضرة

• رابعاً: خصائص الحياة الحضرية.

• خامساً: مستقبل الحياة الحضرية.

أهداف المحاضرة

• تحليل الطلاب والطالبات لخصائص الحياة الحضرية.

• استنباط الطلاب والطالبات لمستقبل الحياة الحضرية.

رابعاً: خصائص الحياة الحضرية

• تتميز الحضرية كطريقة في الحياة ونمط في التفكير بالتغير السريع سواء من حيث الحركة السكانية أو من حيث التغير في النظم الاجتماعية أو الاقتصادية أو من حيث التغير في القيموالعادات والتقاليد والنظرة إلى الحياة ، وتتمثل أهم خصائص الحضرية فيما يلي:-
تتناسب الحضرية طردياً مع عدد السكان.
شكل العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين الناس ونوع العمل.
اللاتجانس أو التغير الاجتماعي.
التسامح الاجتماعي.
سيطرة الضبط الرسمي والثانوي.
التنقل والحراك الاجتماعي.
الروابط الطوعية.
الفردية.
العزل المكاني.
الحياة الحضرية أوسع نطاقاً من الحياة الريفية.
تمتاز الحياة الحضرية بالتكيف السريع.

1. تتناسب الحضرية طردياً مع عدد السكان: بحيث كلما ازداد عدد السكان في مدينة ما ارتفعت فيها نسبة الحضرية ارتفاعاً ملحوظاً، وبالتالي يرتبط بسكنى الحضر ظاهرة لافتة ونقصد بها التركيز السكاني فهي أول ما يلفت النظر في أي مركز للنمو بصفة عامة. فهناك تيار من الهجرة يتدفق من المناطق المحيطة بهذا المركز إلى بؤرته بحثاً عن فرصة عمل جديدة أو فرصة عمل أفضل من السابقة، وهكذا تتكون ظاهرة التركيز السكاني بالمركز الحضري وتبدأ تأثيراتها بعد ذلك في الظهور وفي التأثير بدورها على أنماط الحياة بالمركز.

• ولذا فقد أكد بعض الباحثين على مقولة أساسية فحواها أن تركز السكان دالة للتحضر، ويحلو للبعض أن يسمي ظاهرة التركز السكاني بالتراكم السكاني ، وهي تسمية قريبة من الواقع إلى حد كبير ومتسقة مع طبيعة تلك الظاهرة التي لا تنشأ بشكل مفاجئ وإنما تتخذ السمة التدريجية. 

2. إن اهم سمه للحياة الحضرية هي شكل العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين الناس ونوع العمل: الذى يقومون به والتخصص وتقسيم العمل ومدى اتساع نطاقه، وليست المسألة في الحضرية مسألة عدد فقد نجد قرية من القرى يزداد عدد سكانها زيادة كبيرة جداً. وقد تجد أخرى عدد سكانها قليل فالعبرة ليست بعدد السكان ولكن بنوع وطبيعة العلاقات الإنسانية التي تميز الحياة الحضرية عن الريفية.

• وفي هذا الصدد يرى "لويس ويرث" أنه كلما كبر حجم المدينة قل احتمال معرفة عدد الأفراد ببقية سكانها معرفة مباشرة وشخصية، الأمر الذى يؤدى إلى تغير طابع الحياة الاجتماعية.

• لأن عدد الاشخاص الذين يتصل بهم الفرد أو يعتمد عليهم في المدينة كبير نسبياً فإن العلاقات الاجتماعية التي يكونها في المدينة تتسم بأنها سطحية وغير شخصية ولها الطابع الانقسامي.

• وبالتالي تتسم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد في المدينة الثانوية والنفعية أكثر من كونها أولية وتكاملية وعاطفية، وسكان الحضر يرتبطون ويتفاعلون باستمرار مع الغرباء، ومن ثم تحل اللامبالاة محل الاستجابة المباشرة لسكان الريف نحو الغرباء سواء كانت تعاطفاً أو نفوراً.

• وبوجه عام فإن ساكن الحضر يعامل هذا الحشد الكبير من الغرباء ممن يقابلهم ويتفاعل معهم في حياته اليومية كما لو كانوا آلات حية متحركة أكثر من كونهم كائنات بشرية، ولذلك كان سلوكه نحو معارفه يختلف تمام الاختلاف عن سلوكه نحو ما يحيط به من الغرباء.

• رغم أن هذا السلوك يتحدد في أكثر جوانبه بوجودهم، كما أنه يستخدم مستويات خارجية أو مظهرية للحكم على الآخرين حيث يقيم غيره من الأفراد من خلال مظهرهم وطريقة حديثهم وتفكيرهم وسلوكهم ، غير أنه نظراً لأنه لا يعرف عنهم شيئاً فإنه لن يستطيع أن يحكم عليهم.

• ولا ينال الأصدقاء والمعارف من حياته ساكن الحضر ووقته إلا جانباً محدوداً، فهو وإن اعتمد في حياته على عدد كبير من الأفراد إلا أن هذا الاعتماد يكون بهدف إشباع حاجاته وخدمة مصالحه، كما يكون أكثر ارتباطاً بجماعات منظمة عنه بأشخاص بعينهم.

• ومن ثم فارتباطه بالآخرين يكون محدوداً فقط بما يقوم به الغير من نشاط أو دور معين في حياته ، ولهذا السبب توصف التفاعلات الاجتماعية والارتباطات أو العلاقات التي تقوم بين سكان الحضر.

• وذلك على حد تعبير "ويرث" بأنها ذات طابع انقسامي بمعنى أن تكون العلاقات الاجتماعية وسائل لتحقيق أهداف شخصية وبالتالي تكون أكثر رشداً وعقلانية وأكثر بعداً عن العاطفية أو الانفعالية.

3. اللاتجانس أو التغير الاجتماعي: تعتبر خاصية اللاتجانس هي النتيجة الحتمية لظاهرة التحضر كعملية تركز مجموعة كبيرة من السكان في منطقة صغيرة ومحددة.

• ويبدو هذا الارتباط بين هذين المتغيرين واضحاً إذا وضعنا في الاعتبار حقيقة أن الكثافة السكانية الحالية تزيد إلى أقصى درجة ممكنة من عملية المنافسة سواء على المكان أو على الامتيازات والامكانات المتاحة .

• كما تدفع باستمرار إلى التخصص لذلك تغلب على الحياة المدنية أنشطة تطور بطبيعتها نسقاً أو نظاماً معقداً ودقيقاً للتخصص وتقسيم العمل لا يتوافر بالنسبة للأنشطة الزراعية، فإذا أضيف إلى ذلك ما يتميز به المجتمع الحضري أو المدينة من خصائص تجعل السكان يتوافدون اليها من بيئات مختلفة ومتغايرة .

• لهذا كله يصبح كل منها )المدينة والمجتمع الحضري( موطنا طبيعيا للتغاير واللاتجانس أو كما يسميها البعض بوتقة تختلط فيها الأجناس والثقافات المتغايرة لتسمح بل وتشجع على تأكيد الفروق الفردية باستمرار كأس النجاح. 

• ويتحقق تكامل المجتمع من خلال ما يطوره هذا الاختلاف والتغاير من تضامن بين الأفراد يقوم على أساس نفعهم لبعضهم البعض وليس على أساس تماثلهم وتشابههم، والنتيجة التي نخلص إليها على حد تعبير "ويرث" هي أنه كلما ازداد عدد الأفراد الذين يشتركون في عملية التفاعل كلما ازدادت امكانات التمايز بينهم .

• ولذلك فإنه من المتوقع أن تتدرج السمة الشخصية لسكان المجتمع الحضري ومهنتهم وحياتهم الثقافية وأفكارهم وقيمهم على امتداد تتسع فيه الهوه بين طرفيه أو قطبيه على نحو أكثر وضوحاً عنه في المجتمع الريفي.

4. التسامح الاجتماعي: ويعني التسامح هو الرغبة في منح الحريات المدنية للأشخاص وذوى الأقليات والديانات والرؤى السياسية المختلفة أو السماح للتعبير بحرية عن الأفكار المختلفة ومعاملة الآخرين وفقاً لمعايير عامة مستقلة عن الاختلافات القيمية.

• وقد أكد "ويرث" ارتباط هذا التسامح بطبيعة المجتمع الحضري الذى يتميز بتنوع الثقافات الفردية وتعدد أنماط الشخصيات وتمايز مستويات السلوك وسيطرة العلاقات السطحية.

•كل هذا جعل التسامح ضرورة لا غنى عنها في مجتمع يتطلب من أفراده أن يكونوا على وعى ودراية بالمعايير الثقافية المختلفة المتباعدة وأن يتفاعلوا مع بعضهم البعض على هذا الأساس.

• ولذلك تكشف المناطق الحضرية باستمرار عن حدود أكثر اتساعا للتسامح في كثير من المسائل المرتبطة بأنماط السلوك والأخلاقيات والعقيدة الدينية والحرية السياسية والأذواق والموضات ووسائل شغل أوقات الفراغ ...إلخ.

• لقد أصبح لساكن الحضر حياته الخاصة وأصبح أكثر انغماسا في ملذاته لأنه أصبح أكثر تحرراً من قيود الجماعة الأولية ، كما أنه لم يعد يتعجب من أي شيء بل يتوقع كل شيء من الآخرين وتبرير ذلك أن المجتمع الحضري مجتمع مفتوح لا يتمسك بعادات صارمة وتقاليد جامدة أو عرف حازم يورثها للأجيال المتعاقبة .

• كما لا يفترض نتيجة لذلك تشابها وتطابقا على جميع افراده بل بلغت فيه درجة اللاتجانس إلى الحد الذى جعله يضع حدودا للتسامح أوسع بكثير من المجتمع الريفي، ولا يعنى ذلك أن المجتمع الحضري مجتمع لا معياري يفتقد إلى ضوابط السلوك وإنما يعني أنه لا يهتم ولا يعني إلا بتنظيم السلوك العام.

• أما السلوك الخاص فأمر يتسامح فيه طالما أنه لا يتعارض مع الأنماط العامة للسلوك، كما أنه يسمح بتعدد الثقافات الفرعية طالما أنها لا تتعارض مع الإطار الثقافي العام.

5. سيطرة الضبط الرسمي والثانوي: حيث توفر المدينة او المجتمع الحضري لسكانها فرصة العيش في عالمين اجتماعيين مختلفين وهما :

الأول: عالم الأصدقاء والمعارف من ناحية أو عالم العلاقات الأولية الوثيقة،

والثاني :عالم من الغرباء الذين يرتبطون به فيزيقيا عن قرب ولكنهم يكونون أكثر بعداً عنه من الناحية الاجتماعية .

• ويستطيع ساكن الحضر نتيجة لذلك أن يهرب من الضبط القهري للجماعة الأولية عندما يريد، وذلك بأن يختفي في بحر من الغرباء (وتلك هي خاصية الغفلة التي تتميز بها حياة المدينة والتي تحرر سكانها من الضبط الأخلاقي الصارم).

• ولكنه يستطيع في نفس الوقت أن يهرب من اللامبالاة والعلاقات غير الشخصية بأن ينتمي إلى جماعة أولية كجماعة الأسرة أو شلة من الأصحاب والأصدقاء لكى يسترد أمنه ويشبع إحساسه العاطفي وشعوره بأنه كائن اجتماعي وليس مجرد رقما أو شخصا تافهاً.

• ومن ثم يتخلص من العزلة التي تفرضها عليه حياة المدينة، ومعنى ذلك أن المدينة رغم سيطرة علاقات الجماعة الثانوية عليها إلا أنها في الوقت نفسه عبارة عن مجموعة من الجماعات الأولية المتداخلة التي تمارس قدراً لا يستهان به من ضبط السلوك ولكن ليس بنفس الدرجة من الإحكام كما هو الحال في المجتمع الريفي.

• ونظراً لسهولة الابتعاد عن الضوابط الأولية للسلوك فإن المجتمع الحضري يلجأ إلى ضوابط ثانوية، حيث يتحتم كبح جماح روح الاستغلال المتبادل الذى ينشأ بالضرورة عن ذلك الاتصال أو الاحتكاك المتنوع والوثيق بين أفراد لا تربطهم علاقات شخصية وعاطفية.

• ومن هنا كانت مختلف التنظيمات أو المؤسسات كالقضاء والبوليس والمحاكم والأجهزة الإدارية ذات اليد الطولي في تنظيم العلاقات المعقدة والنفعية بين سكان الحضر.

• وحتى الضبط الديني فإنه يمارس تأثيره من خلال منظمات وروابط ثانوية تعمل ككيانات شرعية أو جماعات ضاغطة وكلما كبر حجم المجتمع الحضري كلما أصبحت مشكلة الضبط أكثر وضوحاً وكانت أجهزة التنظيم والضبط الثانوي أكثر تنظيماً ويحقق فيه الضبط القانوني والشرعي لتنظيم الحياة اليومية أي تفقد في الأعراف والطرائق الشعبية تأثيرها كموجهات للموقف.

6. التنقل والحراك الاجتماعي: تتسم المدينة او المناطق الحضرية ليس فقط بتحقيق قدر كبير من التنقل الجغرافي للأشخاص والسلع والأفكار ولكنها تشجع أيضا على تحقيق قدر أكبر من التنقل والحراك الاجتماعي.

• أن أهم ما يتميز به البناء الاجتماعي الحضري من تقسيم دقيق للعمل وإتاحة فرص المنافسة وتأكيد العلاقات الشخصية يؤكد عمليات الانجاز والاكتساب والتحصيل أكثر من وراثة المكانة.

• إن المجتمع الحضري يتكون أساساً من حشد كبير وغير متجانس من الأفراد ، كما أنه يستند فيما يقدمه من مكافآت لهؤلاء الأفراد على أساس التغذية والكفاءة والانتاج وهو لأجل هذا كله يحكم على المكانة أو بقدر مراكز الأفراد وفقاً لما يستطيعون أن يفعلوه أو يقدموه أكثر من الحكم عليهم من منظور النسب أو المكانة الموروثة.

• ولذلك فإن ساكن الحضر يستطيع بالتالي أن يحقق درجة ما كبرت أو صغرت من التنقل الاجتماعي بحيث تصبح المنافسة على المكانة وعلى الاحتفاظ بها شغله الشاغل ، فلقد قوضت الحضرية دعائم البناء الطبقي والطائفي التقليدي وجعلت من المدينة أو المجتمع الحضري مكانا تتوفر فيه فرص التنقل الاجتماعي خاصة عندما جعلت من التحصيل والمهارة والتعليم والثروة ومنافذ الكسب المكانة الاجتماعية للأفراد والارتقاء بها.

7. الروابط الطوعية: نظرا لتزايد حجم المدينة او المجتمع الحضري وزيادة كثافته السكانية والقرب المكاني الوثيق بين الأفراد وتنوعهم أو تغايرهم أصبح المجتمع الحضري مجتمع للروابط أو الجماعات الطوعية الاختيارية سواء على مستوى المهنة أو الهواية أو على مستوى الموطن الأصلي أو على مستوى السن أو السلالة.

• لكى يستطيع ساكن الحضر أن يجد دائماً آخرين لهم نفس المصلحة ولهذا السبب تميل كل الجماعات في المجتمع الحضري إلى أن تكسب خاصية الطوعية أو الاختيارية التي لا تعتمد فيها العضوية على أساس القرابة أو النشأة، كما نجد أن كثيراً من العلاقات التي تتميز بها الجماعات الأولية بدأت تميل إلى الطابع الرسمي .

• فلقد أصبحت روابط الزواج أكثر سهولة من حيث إقامتها وبالمثل غدت الصداقة أكثر انقسامية ونفعية فضلا عن ذلك ظهرت أشكالاً جديدة ومتنوعة من الجماعات تستند أساساً على المصالح المتخصصة نجد من بينها الشلل والنوادي والقوميات والمجاورات وغيرها من جماعات نوعية متخصصة.

• وقد ترتب على ذلك أن مصالح الفرد وآراؤه لن تكون ذات أهمية ونفوذ ما لم ترتبط بمصالح جماعة معينة، وربما كان التأكيد على الممارسة أو الاهتمام الجمعي بالمصالح الخاصة هو ما جعل المجتمع الحضري أو المدينة يفقدان طابع المجتمع المحلى بالمعنى الحقيقي للكلمة ليصبحا في النهاية مجرد كيانات إدارية أو سياسية أو جغرافية تقتصر باستمرار إلى الولاء والانتمائية .

8. الفردية: يتسم سكان المجتمع الحضري بالفردية حيث تشجع الحضرية وباستمرار على تأكيد روح الفردية ، فالحشد الهائل من الجموع البشرية في المجتمع الحضري والطابع الثانوي والاختياري والطوعي للروابط الحضرية إلى جانب تعدد الفرص وتنوعها وسهولة التنقل أو الحراك الاجتماعي وتنوع الجماعات التي قد ينتمي إليها الأفراد وتعدد المصالح التي توجد بينهم.

• وما تشجعه الحياة الحضرية من روح المنافسة كل ذلك من شأنه أن يجبر الفرد على أن يتخذ قراره بنفسه، وعلى أن يخطط لحياته بطريقة فردية مستقلة ، الحضرية إذن تصنع الأفراد دائما بعضهم من بعض وذلك من خلال ما تزكيه بينهم من تميزات وفروق.

• كما أن وعى الفرد لاختلافه عن الآخرين وتميزهم عنه ومعرفته بما يمكن أن يسميه بالنسبية البشرية يعطيه منظورا خاصا لنفسه بحيث يمكنه أن يرى نفسه بموضوعية أكبر وأن يفصل ذاته عن هذه الجموع المحتشدة من حوله، وفي تعامله وتفاعلاته مع الآخرين ينبغي على ساكن الحضر أن تكون لديه القدرة أن يتحايل عليهم وأن يحمى ذاته من تحايلاتهم نحوه، الأمر الذى يضطره دائما أن يميز ذاته عن الآخرين.

• ويتمخض ذلك كله عن نوع من تفتيت الحياة الاجتماعية وتميزها بالطابع الفردي حيث يقف الأفراد بما لهم من وعي ذاتي بالتميز والتفرد في جانب وتقف الروابط والمنظمات الكبرى في المدينة في جانب آخر ولا وسط بين الطرفين.

9. العزل المكاني: في الواقع ان التنافس على المكان في مثل هذا المجتمع الحضري الدينامي واللامتجانس من شأنه أن يؤدى إلى عزل واضح ومتميز للجماعات والأنشطة والوظائف ينعكس بوضوح على ما له من نمط مكاني، حيث نجد أن مركز المدينة أو المنطقة الحضرية يشغل بطبيعة الحال بالوظائف ذات الأهمية المحورية للمجتمع ككل.

• مثل أعمال الادارة والحكم والبنوك الأمر الذى يجعل القيمة الإيجارية في مثل هذه المراكز مرتفعة بدرجة ملحوظة وتؤثر المنافسة على المكان واستخداماته المختلفة وغيرها من عمليات أيكولوجية كالتوسع والغزو والتمركز والتشتيت ...الخ.

• تأثيراً باعثاً في تحديد ما تتمثله المدينة بصفة عامة من هيكل فيزيقي ومن بناء أيكولوجي والعزل المكاني الذى يتميز به البناء الأيكولوجي للمجتمع الحضري إنما يتيح وسائل أكثر ملائمة لفهم طبيعة التنظيم الاجتماعي لهذا المجتمع ، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن سكان أي منطقة من المناطق الحضرية يميلون إلى تطوير طابع اجتماعي وثقافي خاص ومميز لهم عن غيرهم من سكان مناطق أخرى.

• وبعد كشف ظواهر مثل الخصوبة والهجرة والجريمة وجناح الأحداث والطلاق والانتحار والأمية وغير ذلك من ظواهر السلوك الاجتماعي تختلف اختلافاً واضحاً من منطقة إلى أخرى داخل المجتمع الحضري في ضوء التوزيع المكاني أو ما يسمى بالأيكولوجيا الحضرية تجعل من المدخل الأيكولوجي واحداً من المداخل الهامة في الدراسة السوسيولوجية للمجتمع الحضري.

10. الحياة الحضرية اوسع نطاقا من الحياة الريفية: ففي الحياة الحضرية يكون الشخص حراً في نوع تعليمه وحرفته وسكنه وطريقة حياته الخاصة والعامة بينما في الريف نجد كل الظروف العائلية تفرض على الشخص كثيرا من أنماط السلوك يضطر إلى تنفيذها بحذافيرها .

• فهو ليس حراً طليقاً ولكنه مقيد ومكبل بقيود العادات والتقاليد التي تخضع لها قريته، وهو لا يستطيع أن يأتي بجديد أو يقوم بالتعبير الخلاق فهو يدور في إطار ضيق محدد تماماً بعكس الحياة الحضرية ففيها التجديد، والخلق والإبداع أي أن الحضرية دينامية وليست استاتيكية.

11. تمتاز الحياة الحضرية بالتكيف السريع: فالفرد الجامد الذى لا يستطيع التكيف سرعان ما يتخلص بل يتنبأ له الباحثون بالمرض النفسي ، ولكن الفرد المتكيف المتفاعل هو الذى يمكنه البقاء في المدينة ، فالتكيف السريع شرط أساسي للحياة الحضرية الناجحة.

• هذه أهم خصائص الحياة الحضرية بشكل عام ، ومع هذا فالحياة الحضرية لا يمكن اختزالها في هذه الخصائص الإحدى عشر فقط فهي أوسع من أن تحدد خصائصها بشكل حصري تماماً.

خامساً: مستقبل الحياة الحضرية

• لقد ظل الإنسان لأزمنة طويلة يعيش في المدينة دون أن يفكر في المستقبل ولكن في ظل التطور والتقدم التقني السريع بدأ الإنسان يواجه بحيره إزاء حياته في المدينة، وظهرت وجهتي نظر متباينة تجاه الحياة في المدينة ومستقبل العيش فيها وهما: وجهة النظر الأولى وتتمثل في تشاؤم الكثيرون من مستقبل المدينة لما لها من آثار سيئة على حياة البشر وما تؤدى إليه من تدمير للقيم الإنسانية.

• ف "أزولد شبنجلر" أكبر مفكر فيهم يرى أن المدينة ذاتها عبارة عن شر يدمر كل شيء وفي النهاية تعزف المدينة موتا في آثامها ويقول أن مولد المدينة يحمل في نفس الوقت علامة موتها.

• كما عبر "جون ايفلين" في القرن السابع عشر عن شكواه من الدخان والتلوث الذى أصاب المراكز الحضرية في لندن وقد أخذت هذه الشكوى تزداد في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وفي القرن العشرين في بريطانيا على وجه الخصوص كنتيجة للتغيرات التي طرأت على أساليب الحياة في ظل النمو الصناعي وتطور المصانع.

• والأمر على هذا النحو يختلف عما كان يبدو في المدن القديمة من شرور ظاهرة، كالأمراض الناجمة عن انخفاض مستوى الوقاية الصحية التي كانت تزداد تركزا في حياة المدن ، فالمراكز الحضرية تشهد ازدحاما سكانيا يعيشون معا في ظروف سيئة وبعض هؤلاء السكان قد وفدوا من الريف طلباً للعمل في الوقت الذى كانت فيه المراكز الحضرية قد أصبحت عاملاً من عوامل الجذب.

• ولقد استخدم "لويس ممفرد" عبارتين يصف فيهما الظروف بالغة السوء في المراكز الحضرية وهما صراع الفردوس وصراع الجحيم، فالمساكن المتزاحمة في شوارع رتيبة تبعث على الملل والمكتظة بأعداد هائلة من السكان التي تتحمل الازدحام الشديد والفقر إلى جانب الكثير من الأمراض الاجتماعية الأخرى .

• كل ذلك موجود بالمدن ويرى بعض المراقبين أن المرض والازدحام الشديد والفقر ليست مرعبة في حقيقتها بقدر ما يترتب عليها من نتائج كالجريمة والانحلال والانحطاط الخلقي الذى يستشرى في ظل الحياة الحضرية، والذي يتخذ صوراً وأشكالاً شتى مؤلمة .

• ولقد تناول الكتاب في كتاباتهم الشرور الحضرية من زوايا عديدة فقد تحدث "زولا" عن الأحياء المتخلفة في باريس، كما تحدث "سنكلير" عن نفس الشيء في شيكاغو ، كما تحدث في نفس الموضع "ديكنز".

• كما كان هناك أيضا "وليام بوث" الذى دعا إلى تكوين جيش الخلاص في كتابه المرسوم (انجلترا المظلومة) وطريق الخلاص الذى نشر عام 1980 صور شتى شرور الحياة الحضرية واقترح حلولاً لها.

• فالفقر في المناطق الحضرية الذى استشعره كثير من المفكرين الاجتماعيين لم يكن مقبولاً كظاهرة اجتماعية ناجمة عن الحياة الحضرية إلا بعد ظهور أول مسحين اجتماعيين علميين تم إجراؤهما حول الأوضاع الحضرية، فقد أجرى "تشالز بوث" عام 1902 مسحا لمدينة عظمى (لندن).

• كما أجرى "راونترى" عام 1901 مسحا لمركز حضري وهي مدينة (يورك) ، وقد أجريا هذين المسحيين وفقا لبحوث علمية دقيقة بذلا فيها عناية كبيرة ، وقد انتهيا إلى نتائج مزعجة مؤداها: أن هناك في بريطانيا وهي واحدة من أغنى بلاد العالم وأكثرها تحضراً قطاعا كبيرا من السكان ممن يعيشون ويموتون في فقر.

• غير أن هناك بعض الباحثين الذين يردون على هؤلاء المتشائمين والذين يرون أن المدينة والحضرية كطريقة في الحياة لا يمكن أن تكون مسئولة عن مثل هذه الكوارث لافتقارها إلى الدليل العلمي، حقيقة أن المدينة قد تسببت في وجود أنواع جديدة من الجرائم وزيادة في انحراف الأحداث .

• وزيادة كبيرة في تصدع الأسر واحتمالات كثيرة للمرض النفسي والانهيار العصبي وقيام فرص كثيرة لظهور التفكك والقلق والاضطراب في المجال الفردي والجمعي إلا أن جذور هذه المشاكل جميعاً كانت موجودة قبلا في الحياة الريفية وتضخمت أو ظهرت واضحة في المدينة تبعا لزيادة حجمها وازدحام السكان فيها.

• وعلى العكس مما يقوله المتشائمون فإن الحضرية كطريقة في الحياة تنمو باستمرار وتفرض نفسها على كل طريقة أخرى في المجتمع.

• لكن الجدير بالذكر هنا أن أولئك الذين يعارضون مساوئ وآثام المدينة ولديهم أفكار وتطلعات حول المستقبل فقد إلى قسمين هما: -

• أما أولهما: يرون أن بالإمكان ايجاد أحياء سكنية حديثة على نمط جديد داخل المدن أو المراكز الحضرية.

• أما الثانية: فإنهم يرون أنه من الأفضل إقامة مراكز حضرية أو مدن أو قرى جديدة تماما على شكل مجتمعات محلية يخطط لها تخطيطاً جيداً ، ومن أهم دعاة هذا الرأي الأخير "روبرت أوين" و "تيتوس سولت" وهما من أصحاب المصانع الأثرياء الذين يبدون اهتماما شديدا بالطبقة العاملة ، ويرون أن التغير أو التحسين في البيئة التي تعيش فيها العمال لابد أن يجعلهم يتغيرون إلى الأحسن.

• ومن المفكرين المعنيين بقضايا المدينة "ابنيزرت هوارد" الذى يعتبر من أكبر المؤثرين في هذا المجال ، ولقد كتب في مؤلفه الذى نشر عام 1946 حول مزايا وعيوب الحياة في الريف والمدن والذى أثار مبادئ لنظريات حول تخطيط المدن، والذى أكد فيها أن الإنسان يمكن أن يتغير بفعل بيئته . ومن هنا فقد رأى البعض أن تغير الإنسان يمكن أن يتحقق من خلال النهوض بالأحياء الفقيرة في المدن من النواحي التعليمية والاجتماعية وأيضاً عن طريق خلق مجتمعات محلية نموذجية ولقد تركت هذه الأفكار تأثيراً في دوائر تخطيط المدن.

• ومن هنا تبرز أهمية التخطيط للمدن بالتركيز على النظر إلى المدينة ليس على أسس مادية بحته لأنه يمكن أن ننجح في ترتيب كل شيء في الحياة الحضرية من الناحية المادية، ومع ذلك تظل الحياة الحضرية مثقلة بالهموم ومكانا قاتما للفرد.

• ومن أجل هذا تبرز أهمية التخطيط الحضري الذى لابد أن يواجه مسائل العلاقات والقيم الذى يجب أن تهدف إلى مزيد من العلاقات المباشرة بين الناس وإعادة بناء القيم على أساس يقلل فرص الانحراف ويضمن ايجاد مستوى موحد تقريباً في النظرة إلى الحياة ، فالمدينة ليسن مجرد أبنية وشوارع أو ميادين أو معدات للحياة اليومية توفر الوقت والمجهود .

• بل أنها نوع من الحياة جديدة على البشرية يجب أن نهيئ له الأساس المعنوي وما يتضمنه من تنظيم اجتماعي لابد أن يصل إلى مرتبة التضامن والتماسك الاجتماعي. 

المحاضرة 3

التوجهات النظرية في علم الاجتماع الحضري

عناصر المحاضرة

• مدخل

• أولاً: النظرية الايكولوجية

• ثانياً: النظرية النفسية الاجتماعية

أهداف المحاضرة

• تفسير المداخل المنهجية لعلم الاجتماع الحضري:

• أولاً: تطبيق النظرية الايكولوجية

• ثانياً: تطبيق النظرية النفسية الاجتماعية

مدخل

• رغم أن الاهتمام بدراسة المدينة والحياة الحضرية قد استقر حديثا وصارت له دراسات وبحوث متخصصة ويمثل جهداً أكاديميا محدد الأبعاد إلا أن ذلك لا ينفي وجود مصادر معرفة انبثقتمنها هذه الدراسات والبحوث المتخصصة، وقد عينت البحوث الحضرية في العقود الماضية بصفة خاصة وبشكل أكثر فهما بالبحث عن الحقائق وجمع المعلومات والبيانات أملاً في الوصولإلى تفسير منظم ومتقن للحياة الحضرية.

• خاصة وأن المدينة ظاهرة معقدة ومتشابكة يحتاج إلى فهمها منظورات نظرية أكثر شمولا وكفاءة إذا ما أريد لهذا الفرع من المعرفة أن ينمو وأن يتطور.

• وفي الواقع توجد عدد من المحاولات النظرية التي بذلت لتحديد معالم النظرية الحضرية أو تقييم الموقف النظري في علم الاجتماع الحضري وسنحاول في هذه المحاضرة أن نعرضبعض التوجهات النظرية لعل من أهمها النظرية الايكولوجية والنظرية النفسية الاجتماعية ونظرية الثقافة الحضرية ونظرية العولمة وثنائية الريفي والحضري.

• وتمثل هذه النظريات في الواقع توجهات نظرية معرفية يمكن من خلالها تناول أية ظاهرة تلحظ في المجتمع الحضري حيث أن الحياة الحضرية عملية مركبة ذات الأبعاد المتشابكةوالمعقدة وهي ظاهرة سائدة في كل المجتمعات بدرجات متفاوتة ، وبالتالي فإن محاولة تفسيرها من خلال تلك النظريات تساعد على الواقع الفعلي لطبيعة تلك الظاهرة.

أولاً: النظرية الايكولوجية

• يعزو استخدام مفهوم الايكولوجيا Ecology إلى العالم البيولوجي الألماني “أرنست هايكل" عام 1869 حيث استخدم كلمة Ockologie ليشير بها إلى علاقة الكائن الحي ببيئته العضوية وغيرالعضوية.

• وقد اشتق المصطلح من الكلمة اليونانية okios ومعناها منزل أو سكن ، والمعنى الواسع للفظ يشمل أيضا من يقيمون في السكن ونشاطهم اليومي ومبلغ تأديتهم لوظائفهم للإبقاء علىالحياة وضمان الحصول على مواردها ، وهو المعنى المفهوم من لفظ Homing وبذلك يكون المعنى العام لكلمة الايكولوجيا أنه العلم الذي يدرس الأفراد الذين يعيشون في بيئة واحدةوالوقوف على مبلغ نشاطهم وتفاعلهم مع عناصر البيئة.

• أما روبرت بارك وهو مؤسس هذه النظرية فقد حدد الإطار العام للنظرية حيث ذهب إلى اعتبار المدينة مكانا طبيعيا لإقامة الإنسان المتحضر ، حيث كان بارك مفتونا بكثير من خصائصالحياة الاجتماعية في شيكاغو ولذا فقد لاحظ بعض التصورات الهامة عن المدينة من أهمها:-

• أنه رأى أن المدينة الحديثة عبارة عن بناء تجاري يدين في وجوده إلى السوق التي تتوسع المدينة حوله ، وأكد على أن المدينة الحديثة تتميز بالتقسيم المعقد للعمل ، وهيمنة السوقالتي أدت إلى انهيار الطرق التقليدية في الحياة الحضرية.

• رأى بارك أن المدينة الحديثة تتسم بالبناءات الرسمية عن طريق وجود ما يسمى بسيطرة البيروقراطيات على نطاق واسع، وستلعب الأجهزة البيروقراطية مثل البوليس والمحاكموالمؤسسات التطوعية الخيرية ومؤسسات الرفاهية الاجتماعية دوراً متزايداً في الحياة الحضرية.

• كما تصور بارك المدينة – متأثرا بدراسات جورج زيمل – باعتبارها مكانا أصبحت الحياة فيه أقل عاطفية وأكثر عقلانية عن الحياة في أي مكان آخر ، بيد أن بارك كان واعياً في الوقت نفسهبأنه ربما يؤدى انهيار الروابط العاطفية التقليدية في المدينة إلى ظهور روابط اجتماعية جديدة معتمدة على جماعات المصلحة والعلاقات الثانوية.

• كما ذهب بارك في مقالته الرائدة (المدينة) بعض المقترحات حول دراسة السلوك الإنساني في البيئة الحضرية إلى أنه يحاول فهم المدينة بوصفها مكانا جغرافيا ، وكذلك باعتبارها نطاقاأخلاقيا، وهو يعتقد أنه يجب وصف المدينة بطريقة يمكن معها عن طريق التحليل الوظيفي إظهار إمكانات الحياة الثقافية والأخلاقية فيها.

• أما وصف بارك بأنه ايكولوجية المدينة فإنه لا يعني الاقتصار على تتبع التقسيم المكاني الداخلي للمدينة ، أو وضع خريطة لمختلف الأشياء التي توجد بها ، وإنما ما أراده في الحقيقةاكتشاف تأثير هذه الظواهر الفيزيقية في خبرة سكان المدينة الإنسانية والعاطفية ودورها في تشكيلها.

• ويفترض بارك أن الظروف النفسية والأخلاقية للحياة في المدينة سوف تعكس نفسها بصورة طبيعية في كيفية استغلال المكان وفي أنماط الحركة الإنسانية والانتقال.... الخ ، وافترضبارك بمعنى آخر أن الثقافة تتجلى في الأشياء المصنوعة وأن المدينة لها طابع عضوي.

• ورأى بارك أنه يمكن استخدام مناهج انثروبولوجية في دراسة جوانب حياة المدينة وخصوصا الثقافات الهامشية (كالعصابات) والمهاجرين المنعزلين والفروق بين الناس وفقاً لمحالإقامتهم ، وأما عن البيانات المتصلة بذلك فأمكن الحصول عليها من المصادر الإحصائية الرسمية.

• وقد ميز بارك في داخل المدينة ما يطلق عليه اسم (المناطق الطبيعية) وهذه المناطق هي مواطن للجماعات الطبيعية أو الفطرية كالبوهميين الذين يوجدون في المدن الكبرى بشكلطبيعي لأنهم غير مخططين ويعتبر وجودهم نتاجا للقوى التي تعمل باستمرار على توزيع السكان ووظائفهم على نحو مبين داخل مجتمع المدينة المعقد.

• كما رأى بارك أن المدينة عبارة عن بناء متكامل بمعنى أن ما يصدق عليها ينسحب على كل قسم من أقسامها الفرعية، بحيث تصبح لكل مجاورة من مجاوراتها خصائص متميزة استمدهامن خصائص سكانها لتكشف عن استمرار تاريخي خاص بها ، وعلى هذا الأساس فإن المدينة تمثل وحدة على درجة عالية من التنظيم من حيث المكان انبثقت وفقا لقوانينها الخاصة.

• ولقد انطلق بارك نتيجة لذلك من حقيقة أن العالم الطبيعي وحدة تتحرك وفقا لقوى منتظمة يمكن تحديدها بسهولة ، محاولاً نقلها إلى دراسة المدينة كبيئة طبيعية أيضا ومن ثم وضعهدفاً للدراسة الايكولوجية مؤداه : أن الكشف عن الأنماط المنتظمة في المكان للعلاقات الاجتماعية.

• ولقد تحقق اكبر انجاز للنظرية الايكولوجية في صورتها الأولى على يد أرنست بيرجس وبخاصة فيما قدم من تصور نظري خاص للنمط الايكولوجي للمدينة، وتعرف هذه النظرية باسمنظرية الدوائر المتمركزة أو بالتصور الحلقي ومؤداه: أن المدينة تتخذ في نموها شكل خمس حلقات متحدة المركز تمثل الحلقة الأولى منها منطقة الأعمال المركزية وفيها تدور أكثرنشاطات المدينة كثافة ، وتقع على أطرافها حلقة ثانية هي منطقة التحول والانتقال التي تتعرض وباستمرار للتغير نتيجة اتساع ونمو الحلقة الأولى ، كما تتميز بكثافتها السكانية العاليةوظهور التفكك الاجتماعي.

• أما الحلقة الثالثة فتضم منطقة سكنى الطبقات العاملة ويليها منطقة الفيلات وفى النهاية تقع الحلقة الخاصة خارج دود المدينة حيث تشكل الضواحي والأطراف مناطق سكنية لذوىالدخل المرتفع.

• عالج بيرجس نمو المدينة في ضوء امتدادها الفيزيقي وتمايزها في المكان، وإن هذه الحلقات الخمس تتمثل في نظره مناطق متتابعة من الامتداد الحضري، وهو في تأكيده لهذا الوصفالفيزيقي ذهب إلى أن ظاهرة النمو الحضري هي نتيجة لازمة لعمليات التنظيم والتفكك في نفس الوقت، تشبه تماما عمليات الهدم والبناء في الكائن العضوي.

• وإذا كان كل من بارك وبيرجس قد نجحا إلى حد ما في تصوير المدينة ككيان فيزيقي يتميز بحلقاته ودوائره الخمس، فإن ماكينزى جاء بدوره ليوضح القوانين والعمليات التي تعمل داخلهذا الكيان وتفسر بالتالي وجود هذه المناطق المميزة وذلك من خلال عمليات كالمنافسة والتركيز والإبادة والعزلة والغزو والتعاقب، ورأى أنها منشأ أو توحد هذه المناطق الطبيعية التيتشكل البناء الفيزيقي للمدينة.

• وهنا نطرح سؤالاً مؤداه : ما هو المقصود بالغزو والعزلة والإبادة ؟

• يقصد بالغزو العمراني هو انتقال الجماعات والأفراد من منطقة لأخرى ويسمى أحيانا الهجرة وقد يكون على نطاق واسع وقد يضيق نطاقه فيقتصر على تحريك بعض الجماعات بقدرمحدود.

• أما العزلة فتتخذ مظهران يمثل المظهر الأول العزلة الفكرية والمذهبية بمعنى أن الجماعات التي تمارس العزلة من الممكن أن تصاهر غيرها أو تدخل في علاقات اجتماعية مباشرة معالآخرين رغم التباعد الفكري أو المذهبي، أما المظهر الأخر فهو العزلة الكاملة من الناحيتين الاجتماعية والمكانية ، فلا تختلط هذه الجماعات بغيرها ولا تتعامل إلا في أضيق الحدود ،وتحافظ بقدر الإمكان على مقوماتها وخصائصها وتراثها الاجتماعي ويعبر عن المظهرين معاً بالعزلة البشرية.

• والإبادة الاجتماعية فتتضمن مظهران ويشير المظهر الأول إلى حملات الإبادة لجماعات بأسرها عن طريق الاضطهاد الديني أو الجنسي أو الاعتقال ، أما المظهر الثاني فيتضمن إفناءالتراث الثقافي والقضاء على مقومات الحضارة والدين وذلك عن طريق إغلاق للمدارس والجامعات وتخريب المكتبات وقتل الأساتذة والطلبة وتشريدهم.

• هذا وقد ازدادت عمليات الغزو والعزلة والإبادة والتعاقب في المجال العمراني إثر تطور الهجرة الداخلية والخارجية وقيام الحروب سواء كانت حروب عالمية أو حروب إبادة يقوم بهاالمستعمرون من البيض ضد الأجناس الآخرين مما وسع من نطاق الدراسات المتصلة بالايكولوجيا الاجتماعية.

• ولقد ساهم كل من دنكان وشنور وهاولى وهم من أقطاب النظرية الايكولوجية حيث توصلا إلى أن درجة التحضر بالمجتمع تتناسب طردياً مع طبيعة نظام تقسيم العمل بالمجتمعالحضري، بمعنى أنه كلما ازدادت درجة تقسيم العمل الاجتماعي نتيجة سيادة النظام الصناعي بالمجتمع الحضري ارتفعت درجة التحضر به.

• كما أن درجة التحضر تتناسب طردياً مع التطور التكنولوجي السائد وهي نتيجة منطقية تتسق مع نمط النشاط السائد بالمدينة وهو الصناعة في الغالب، حيث يؤدى هذا النشاط إلىاستخدام مخرجاته أي المقتنيات التكنولوجية الحديثة في زيادة تحضر المجتمع نتيجة استخدام موارده المتاحة بشرية كانت أم مادية أفضل استخدام ممكن.

• ولا يتوقف النشاط الحضري وينحصر داخل حدود المدينة فقط وإنما يمتد أيضا إلى المناطق المتاخمة أولاً ثم إلى المناطق الخارجية ثانياً، وبطبيعة الحال فإن التناسب هنا يكون عكسيابين البعد المكاني عن المدينة ودرجة التأثير الناجمة.

• وفي منتصف الأربعينات من القرن العشرين صاغ كل من هاريس وأولمان نموذج النوايات المتعددة الذي يذهب إلى أن نمو المدينة لا يعتمد على نواة واحدة وإنما على نوايات متعددة ،فهناك النواة الرئيسية في مركز المدينة وهي منطقة النشاطات التجارية والخدمات الرئيسية وهناك نواة تجارة الجملة والصناعات الخفيفة بالقرب من النواة الرئيسية ، كذلك توجد نواةالصناعات على أطراف المدينة ، وحول هذه النوايات تتوزع مناطق سكنية متنوعة بعضها للدخل المحدود وبعض آخر للدخل المتوسط وبعض ثالث للدخل المرتفع.

• وبرغم أهمية إسهامات النظرية الايكولوجية في تفسير البناءات الايكولوجية الحضرية إلا أنها تعرضت لنقد شديد، ولقد كان من أهم ما وصفت به النظرية الايكولوجية المبكرة أنها بدأتتحليلها من طريق خاطئ وذلك عندما وجهت كل اهتمامها إلى الجوانب الجيوفيزيقية للمدينة دون أن تهتم بحياتها الاجتماعية.

• فالحياة الاجتماعية – على حد تعبير مارتندال- هي بناء التفاعل وليست بناء الحجر والصلب والأسمنت والأسفلت ، وليس أدل على أن النظرية الايكولوجية قد ضلت طريقها إلى التحليلالسوسيولوجي من الاهتمام الكثير من الدراسات الايكولوجية باكتشاف خصائص المناطق المختلفة دون اهتمام بنوع الحياة الذي أدى إلى ظهور هذه الخصائص كمن يهتم بدراسةالجريمة ومسرحها دون اهتمام بالمجرم نفسه.

• كذلك فقدت النظرية الايكولوجية بشدة لبدائية مفاهيمها وعدم أهميتها في التحليل السوسيولوجي للموضوعات التي طرحتها، كمفاهيم للمناقشة والعزل والغزو ...الخ ، من المتصورفي نظر البعض مثل مارتندال أنه بالإمكان أن تعالج بعض المسائل المرتبطة بالحياة الاجتماعية الحضرية في ضوء هذه المفاهيم ولكن ليس بالإمكان أن تتحدد من خلالها لأنها تنطبق علىالحياة الريفية كما تنطبق على الحياة الحضرية.

• بل لا يقتصر استخدامها على الحياة الإنسانية فحسب فقد تمتد لمعالجة بعض الأمور المرتبطة بالحياة النباتية والحيوانية أيضا، أن النظرية الايكولوجية بهذا المعنى قامت على تصورات غير كافية لصياغة نظرية محددة المعالم عن المدينة يمكن أن تتميز عن نظرية أخرى تعالج موضوعاً آخر في إطار النظرية السوسيولوجية ، غير أن ذلك لا يعنى أن النظرية الايكولوجية كانت ضرباً من العبث ، فالحق أن للنظرية الايكولوجية في تاريخ علم الاجتماع الحضري لها وزنها وأهميتها وبخاصة في القدر الهائل من البيانات والمعطيات الأمبريقية التي قدمتها عن المدينة. 

ثانيا : النظرية النفسية الاجتماعية

• تشير هذه النظرية في علم الاجتماع الحضري إلى أعمال رواد مدرسة فكرية متميزة ظلت تسيطر على علم الاجتماع الألماني لفترة طويلة حتى وقتنا هذا ، كما تمثلها أعمال ثلاثة من روادها »ماكس فيبر ، و جورج زيمل ، و أوزفالد شبنجلر « الأوائل وهم وفيما يلي نشير إلى أهم إسهامات كل منهما على النحو التالي:-

1)  ماكس فيبر وتصوره للمدينة:

• لقد انتهج ماكس فيبر في معالجته للمدينة منهجا يختلف تماما عن ذلك الذي ذهبت إليه أعمال تونيز ودوكايم ولكنه كان مهتما بتطوير نموذج عام للمدينة ، ولكنه ذهب إلى أن تحقيق ذلك بدون الاهتمام الواعي بالمدن الفعلية في الأنماط المختلفة من العالم ، وفي أزمان مختلفة سيؤدى إلى نظرية حضرية ذات قيمة محدودة جداً.

  ولتوضيح هذا المنهج كتب فيبر معالجته الشهيرة عن المدينة والتي ظهرت لأول مرة عام 1921 حيث قام بمسح المدن في التاريخ الأوروبي والشرق الأوسط وقارن بينهما وفقاً لمعلوماته وبياناته عن المدن التاريخية ، وطور فيبر تعريفاً أسماه بالمجتمع المحلى الحضري المتكامل فإنه يجب أن تبدى المنطقة هيمنة نسبية للعلاقات التجارية هذا فضلاً عن تميز المنطقة الحضرية بالسمات التالية:-

أ- أن يعتمد المجتمع الحضري الكامل على التجارة أو العلاقات التجارية وأن المدينة على عكس المجتمع الريفي لا يمكن أن تحقق اكتفاء ذاتيا من الناحية الاقتصادية تقريباً ، فالسكان يعتمدون على بعضهم البعض اقتصادياً بمعنى التضامن العضوي الذي ذهب إليه دوركايم.

ب- أن المدينة يجب أن تكون مستقلة نسبياً حيث حدد فيبر أن تقيم المدينة محكمة وقانونا خاصة بها، أو على الأقل استقلال سياسي جزئي.

ج- ضرورة أن يكون المجتمع الحضري على شكل متصل من الرابطة بمعنى أن يقيم سكان المدينة علاقات تقوم على المشاركة في حياة مدينتهم.

• ولقد كان فيبر يقصد من تعريفه للمدينة أن يقدم نموذجا مثاليا لظروف المدينة أي كوسيلة للحياة الحضرية تستطيع أن تواجه القدرات الاجتماعية الكامنة في هذا التنظيم للإقامة البشرية، ويفترض هذا النموذج المثالي أنه من الممكن تقديم وصف عقلاني أو رشيد لظاهرة اجتماعية مثل المدينة.

• ولكن هذا الوصف العقلاني قد قام على المنظور التاريخي ومعني ذلك أن النظرية العقلانية عن المجتمع هي نتاج للتاريخ أي نتاج الخبرة الحقيقية للناس، وليست مستندة إلى فروض أو أبنية فرضية تنتمي إلى بعض المفكرين ، وباستخدام طريقة النماذج المثالية يمكن المقارنة بين الصور الاجتماعية المركبة ويستخدم العقل كوسيلة أو أداة للتعمق في الخبرة التاريخية تلك التي لا تظهر إذا حصر الملاحظ رؤيته في نطاق المادة التاريخية خلال الزمان .

• وبالتالي يفترض النموذج المثالي لفيبر عن إمكانية إيجاد وصف رشيد (عقلي( لأية ظاهرة اجتماعية مثل المدينة، إلا أن المناقشة الرشيدة غالبا ما تحدث خارج لغة التاريخ ولذلك نرى ماكس فيبر في معالجته للمدينة قدم تفسيراً جديداً حيث أن معاصريه لم يحاول تحليل أثر العوامل الحضرية في بعض جوانب الحياة الاجتماعية ، كما فعل معظم المعاصرين له ممن تأثروا بأعمال توينز ودوركايم.

• كما أنه من ناحية أخرى ابتعد تماماً عن الاتجاه التصوري أو الشكلي الذي تبناه زميله زيمل وحاول جاهدا أن يوضح الظروف التي تجعل دور المدينة ايجابياً أو ابتكارياً في الحياة العامة للإنسان مستعيناً في ذلك بدراسته لمدن الماضي أو المدن القديمة ومعتمداً في نفس الوقت على تصور خاص في تعريفه للمدينة.

• ومن الممكن أن يوصف الموقف النظري لماكس فيبر بأنه شكل من أشكال السلوكية الاجتماعية، فهو لم يرغب في أن يحدد أبعاد التحليل السوسيولوجي في مجرد وصف أو تصوير الأشكال النفسية فقط، بل اعتمد منذ البداية أن مهنة علم الاجتماع تتمثل في شرح السلوك الإنساني في أبعاده الهادفة وذات المغزى لا من وجهة النظر الخارجية فقط.

• وبمعنى آخر تمثلت مهمة علم الاجتماع في نظره في شرح وتفسير الأفعال الإنسانية والعلاقات في ضوء معانيها أو مغزاها بالنسبة لأطرافها وأيضاً ما يرتبط بها من تغيرات فيزيقية خاصة ، ومن هنا تبدو قيمة المدخل الذي قدمه ماكس فيبر لدراسة المدينة ومشكلاتها من وجهة نظر علم الاجتماع "الفعل الاجتماعي" بمقارنته بزيمل.

• ففي الوقت الذي ينحل فيه المجتمع في نظر كل منهما إلى تفاعلات اجتماعية وسلوك إنساني متبادل وهادف، نجد أن زيمل يقصر مهمة علم الاجتماع على دراسة الصور المختلفة للسلوك والتفاعل دون محتواها أو مضمونها، ليصبح العلم في النهاية مجرد عملية إحصاء للصور النفسية للفعل الاجتماع فقط، بينما يدع فيبر هذا التمييز بين الصورة والمحتوى جانبا ويقرر أن مهمة علم الاجتماع هي تقديم تفسير علمي للفعل الاجتماعي.

• وقد ترتب على ذلك أن احتوت نظريته في المدينة والتحضر على نظرية زيمل دون أن يكون العكس صحيحاً ، وكانت معالجته للمدينة على هذا النحو محاولة لبناء نموذج نظري متكاملللحياة الحضرية.

• لقد بدأ فيبر في دراسته للمدينة بالتصور الشائع للمدينة على أنها منطقة مستقرة وكثيفة من سكان متزاحمين ينعدم التعارف الشخصي والمتبادل بينهما، وفي هذا الصدد يطرح فيبر عددا من المفاهيم الأساسية التي يبدو أن لها صلة بالمجتمع المحلي يستطيع من خلال فهمها أن نمهد لتصوره للمجتمع الحضري منها:-

1- الأفعال الاجتماعية: وهي الوحدات النهائية أو المطلقة للتحليل السوسيولوجي ، أي أنها تصرفات إنسانية متداخلة ومتبادلة ذات مغزى أو معنى معين للأطراف المشتركين فيها.

2- العلاقات الاجتماعية: ويشير هذا المفهوم إلى ترتيب أو تنظيم ثابت للعناصر التي تظهر في الفعل الاجتماعي ، فهي - أي العلاقات – لا توجد بمعزل أو خارج الأفعال الاجتماعية ، بل هي ترتيبات متخيلة للفعل يمكن تصورها على نحو مجرد كأنماط للفعل الاجتماعي الظاهر.

3- النظم الاجتماعية: وينطوي مفهوم النظام على نفس العلاقة القائمة بين الفعل والعلاقة الاجتماعية ولكن على مستوى أكثر تجريداً ، فالنظام الاجتماعي يعرض دائماً أنماطاً أكثر ثباتاً للسلوك ومع تلك الأهمية التي تبدو للنظم الاجتماعية إلا أنها لا تكفي بذاتها لتفسير الحياة الاجتماعية برمتها، ونظراً لأنها تمثل جوانب مختلفة ومتعددة للحياة الاجتماعية، أن دراسة النظم تمهد الطريق للباحث ليصل بعد دراستها واحدا بعد الآخر إلى الوحدات الكبرى المنظمة للحياة الإنسانية المتداخلة .

4- المجتمع المحلي: هو وحدة كلية منظمة للحياة الاجتماعية لا يتميز بنظام واحد بعينه بل مجموعة منسقة ومتداخلة من النظم.

• وبصدد الحديث عن المجتمع المحلي الحضري وجد فيبر أن ما قدم قبله من تفسيرات كانت عبارة عن تصورات جزئية للمدينة ، فالمدينة بالمعني الاقتصادي أو بمعني كحامية عسكرية أو كجهاز إداري سياسي لا تكون مجتمعاً حضرياً كاملاً إلا إذا كان يمثل نوعاً من سيطرة أو غلبة العلاقات التجارية ويعرض ككل لمجموعة من الخصائص أهمها:-
التحصين.
السوق.
محكمة خاصة وقانون مستقل.
شكل مترابط من أشكال الرابطة.
الاستقلال الذاتي أو على الأقل إدارة ذات سلطات يشارك فيها المواطنون بالانتخاب.

• ويبدو أن تصور فيبر للمدينة واضحا إذا حددنا المصطلح المرتبط به ارتباطا وثيقا وهو مصطلح cosmopolitan أو مصطلح العالمية حيث نستطيع أن نصف أي منطقة للإقامة البشرية بهذه الصفة إذا ظهرت فيها أساليب متنوعة للحياة جنباُ إلى جنب مع وجود أفراد ذو اتجاهات مختلفة ، ولقد نقل فيبر هذا التعريف إلى ثقافة المدينة ذاتها.

• فالمدينة هي الشكل الاجتماعي الذي يسمح بدرجة عالية من الفردية، والتميز في كل مظهر واقعي من المظاهر الموجودة في العالم، ولتحديد معنى المدينة لا يمكن الاقتصار على وصف نمط حياة منفرد ولكن باعتبار أنها أحد البناءات الاجتماعية التي تعمل على إيجاد أساليب حياة ملموسة ومتعددة وهكذا تصبح المدينة مجموعة من البناءات الاجتماعية التي تعمل على تشجيع الفردية والتجديد ومن ثم تصبح أداة للتغير التاريخي.

• ومن هنا نستطيع أن نوضح دراسة فيبر للمدينة وحيث افترض أن المدينة الحديثة لا توضح أو تعبر عن المدينة باعتبارها ثقافة ، فقد نظر إلى المدن في أيامه على أنها نظم بدائية ومتخلفة، أكثر من كونها نتاجات لخط معقد من التطور التاريخي مثلما اعتقد كثير من المعاصرين له، فالقوة الرشيدة والبيروقراطية الكامنة في الرأسمالية الحديثة عبارة عن عمليات جدلية معقدة.

• إلا أنها تعمل على إيجاد نوع من انتكاس أو تقهقر البيئة الحضرية وعلى العكس من الماركسيين الذين عاصروه فقد ذهب فيبر إلى عدم الاعتقاد في التطورات التاريخية التي تظهر بصورة جامدة وموجهة، فقوى النمو الصناعي توجد حالة من التخلف الحضاري أكثر مما حدث في مدن العصور الوسطى، وهكذا استطاع أن يشف ويجدد الشكل الحضري في العصور الوسطى المتأخرة في البلدان.

• وأن يلقى الضوء على المدن الايطالية في عصر التنوير والتي بدت أكثر قربا من تنميط ظروف وحالات بناء المدينة التي نتج عتها أساليب حياة حضرية متنوعة وعديدة وهي بهذا على العكس من تلك المدن التي تسود أوروبا في العصر الحديث والتي يأمل فيبر في توضيحها دون دراسة تغيرها وكيفيته وإنما توضح ما يمكن أن يفقد منها الآن.

2)  جورج زيمل والحياة العقلية للمدينة:

• لقد كان زيمل صديق وزميل دراسة لماكس فيبر ، ولقد اشترك كل من فيبر وزيمل في تصور البناءات التي تكون المدينة الغريبة الحديثة إلا أن زيمل لم يوافق فيبر في تفسير سبب وجود المدينة بالإضافة إلى أن زيمل يرى إمكانية وجود حياة حضرية معقدة وجديدة في تلك الأشكال الحضرية للعصر الحديث.

 ويرى زيمل أن الحقيقة للحياة الحضرية لكل الأنواع سواء في الأسرة أو القانون الحضري كانت متمثلة في الشعور بالقهر ، ذلك الشعور الذي يحيط بالإنسان في المدينة التي يعيشها.

  ويرى زيمل أن الإفراط في الحافز النفسي يقود الناس إلى محاولة الدفاع عن أنفسهم برد الفعل العاطفي بالنسبة لمن يحيطون بهم في المدينة وهذا يعنى ألا تحاول القيام برد الفعل كما تفعل جميع الكائنات البشرية، وكدفاع ضد تعقيد الحياة الحضرية.

• ولقد توصل زيمل إلى صورة تشبه كثيراً ما توصل إليه فيبر عن خصائص حياة المدينة الحديثة تلك الخصائص المتمثلة في اللاشخصية والبيروقراطيات التي لا تتمثل فيها العلاقات المباشرة وعمليات السوق الفعلية إلا أن زيمل يعتقد أن هذه السمات ناتجة عن حالة نفسية اجتماعية تصيب طبيعة التحضر.

• ولذلك يرى زيمل أن الخصائص الوظيفية وغير العاطفية الأكثر ارتباطاً بالمدينة هي القوى التي تحفز الناس إلى النظر للنظام المبهم في الحياة ، وهي القوى التي تحرر الناس إيجاد دائرة السلوك الروتيني لمشاعرهم وآفاقهم الثقافية، وحيث أن روتين الحياة هو سلوك دفاعي فإن الشخص الذي يدافع عن نفسه يعتقد أن ذاتيته هو تكمن في مقدرته على الدفاع وارتفاع فوق المسائل الدنيوية والأشياء العاطفية وأن يعيش حياته بعيداً عنها.

• لذا فقد رأى زيمل أن ظهور العالم الحديث كان سببا للاهتمام بكيفية قدرة الفرد على تمكينه من إبقاء روح الحرية والإبداع في قلب العوامل الاجتماعية الشاملة ، وأكد في مقالته الميتروبوليس والحياة العقلية إلى أن الفرد سيتعلم القدرة على تعليم نفسه مع الحياة في المدينة، فالمدينة في تصور زيمل تمطر الفرد بوابل من المناظر المختلفة والأصوات والروائح .

• ومن أجل مقاومتها يجب أن يتعلم كيفية التمييز بينها بدقة ويتوافق مع الضروري ويبتعد عما لا يعينه ، وتصبح هذه العملية التي تحدث في الإنسان الحضري أكثر تعقيدا وعقلانية عنها في الإنسان في القرية، ونتيجة لعملية التمييز هذه فإن المدينة ككل تصبح أكثر عقلانية ورشداً، فالسكان يخططون وينظمون حياتهم اليومية لتحقيق أعلى فاعلية فمثلاً التنظيم المعقد للوقت في المدينة الذي يتمثل في المنبهات وساعات اليد .

• ورأى زيمل أنه لو توقفت فجأة كل الساعات في مدينة مثل برلين بألمانيا ولو لساعة واحدة فقط، فإن الحياة الاقتصادية والاتصالات في المدينة سترتبك لفترات طويلة، وبالإضافة إلى التنظيم الرشيد للوقت نظر زيمل إلى عقلانية المدينة التي تظهر في التقسيم المعقد للعمل، فالحياة الاجتماعية في المدينة هي تفاعل المتخصصين.

• كما أشار زيمل إلى أن الميتروبوليس (المدينة الأم) كان دائما هو المقر الرئيسي لاقتصاد النقود ، والتي تعتبر النقود أحد الأسباب الأساسية لتحقيق عملية التبادل، وأن النقود تهتم فقط بما هو مشترك بين الجميع كما أنها تختزل كافة الأنماط إلى السؤال بكم أو إلى قيمة عددية.

• وفي إطار الأسس النفسية التي تكمن وراء الحياة الحضرية الميترو بلقائية ذهب زيمل إلى أن ساكن الميترو بوليس يواجه دائما بالعديد من التوترات ، وأنه من المتعين عليه أن ينمى في ذاته (عقله) تقيه هجمات عناصر البيئة الخارجية التي تحاول دائما اقتلاعه والإطاحة به، وتتمثل هذه العقلية في ضرورة أن يستجيب ساكن الميترو بوليس أو يتفاعل بعقله لا بقلبه لأنه إذا استسلم لعواطفه ومشاعره في تفاعلاته كان الضياع قدره لا محالة .

• أن البيئة التي من حوله تكثف لديه إدراكاته وليس مشاعره أو عواطفه ، وتؤدى باستمرار إلى غلبة الذكاء الذي يسير جنباً إلى جنب مع تخصص البيئة الحضرية وتمايزها ويصبح في النهاية من أهم الخصائص المميزة للمدينة.

• وهكذا يتفق زيمل مع فيبر في بعض النقاط ويختلف معه في نقاط أخرى، فهو يتفق معه في أن الصورة الحضرية التي توجد في العصر الحديث تشير إلى إمكانية ظهور حياة حضرية ومعقدة، وفي أنه بالإمكان وصف هذه الصورة بالاعتماد على نماذج مثالية ولكن عناصر هذا الوصف يجب أن تكون سوسيولوجية أكثر منها بنائية.

• إن حالة الضياع التي يعيشها إنسان المدينة والابتعاد عن الاستجابات العاطفية بين سكان المدينة والعلاقات الجزئية والانفعالية بينهم وسيطرة البيروقراطية وإدارة السوق كميكانيزمات تدفع إليها الحياة الحضرية ، ولكن في الوقت الذي يرى فيبر أنه ظهرت بتأثير قوى اقتصادية متضمنة في الرأسمالية يرى زيمل أنها نتاج ظروف حضرية ذات طبيعة نفسية واجتماعية في الأساس.

3) أوزفالد شبنجلر وثقافة المدينة :

• يعتبر أوزفالد شبنجلر آخر ممثل للنظرية النفسية الاجتماعية ، والذي لم يكن صديقا شخصيا لأي من فيبر أو زيمل إلا أن كتاباته عن المدينة تعكس بعض أفكارهما وهي التي كان لها تأثير واضح على مدرسة شيكاغو بأمريكا .

ويعتقد شبنجلر أن مراحل تطور المدينة تشير إلى الحياة الحضرية ككل في الثقافات الغربية بهذا التصور تميز تماما عن تصورات فيبر وزيمل الذين اهتما بتتبع الخصائص المميزة للمدينة كبناء اجتماعي ، كذلك ذهب شبنجلر إلى أن مراحل نمو المدينة تتخذ شكل الدورة لأن نشأة المدينة الثقافية وتدهورها يتخذ نمطاً واضحاً يكشف عن مراحل النمو والتدهور في المجتمع إلا أن شبنجلر ابتعد عن المفكرين القدامى.

وذلك بوقوفه على مجريات النمو الحضري الذي يختلف عن النمو الصحي للمجتمع، فلقد اعتقد شبنجلر أن المدينة الكبيرة في عصره تعمل على إفساد نشاط وحيوية وطاقة من يقيم بها حيث تتميز بالطابع الروتيني وتصبح الحياة فيها قاسية، بحيث تتدهور المدن ويعود المجتمع إلى نوع من الحياة الزراعية وغير المتمدنة، وهكذا تعمل دورة النمو الحضري على إعادة تنظيم ذاتها.

• وفى كتابه الأساسي تدهور الغرب كان يعتقد شبنجلر أن ثقافة المدينة الغربية قد أخذت في التدهور والتفسخ منذ بدايات القرن العشرين ، كما يعتقد شبنجلر أن دورة الحياة الحضرية تنطبق على إفساد سكانها عن طريق اختفاء الطابع النظامي على عمليات العلاقات البشرية المتبادلة وعن طريق جعل هذه العمليات روتينية وغير عاطفية ، ولقد أدرك زيمل هذا من خلال تطور المدن الأكبر حجماً.

• إلا أن فكرة شبنجلر أن كل ثقافة غربية أو غير غربية لها روح شعبية تظهر في المراحل الأولى من تطورها وهذه الروح تمنع الثقافة هويتها وحينما تنمو المدن تدريجيا فإن ذلك يؤدى إلى تغيير هذا الطابع الثقافي نتيجة تشجيع الفردية والانفصالية بين أعضاء المدينة، وهكذا تتشابه جميع المدن الكبرى طالما أنها نشأت في الأصل عن ثقافة واحدة ، هذا التشابه هو علامة المرض والتغير والأفول الداخلي، أما التوازن بين القرية والمدينة فهو رأي شبنجلر مفتاح صحة كل المجتمعات النامية.

• والمدينة في تصور شبنجلر هي الميجابوليس وهي الفكر المتحرر ، فلقد تولد الذكاء أصلا في خضم مقاومة القوى الإقطاعية بتقاليدها من البورجوازية كطبقة مفكرة أصبحت أكثر وعياً بوجودها ، عندما نما هذا الذكاء أعاد المفكر الحضري تشكيل عقيدة العصر الذهبي ليحل الدين الجديد لطبقة العوام والعلم الليبرالي المتحرر، ليحل الدين القديم لطبقة النبلاء والقساوسة.

• وبنفس القوة والوضوح أطلعت المدينة بمهمة السيطرة على الأرض مستقبلة لتلك القيم التقليدية التي ارتبطت بها بفكرة النقود أو المال كفكرة متميزة عن السلع أو المنتجات ، وكذلك تضمنت حياة المدينة التأكيد على المال كفكرة متميزة عن السلع والمنتجات، وكذلك تضمنت حياة المدينة التأكيد على المال جنباً إلى جنب مع الفكر والذكاء.

• إذا لم يقتصر دور المال على مجرد فهم المعاملات الاقتصادية فحسب بل امتد أيضا ليخضع تبادل السلع والمنتجات لاتجاهات نموه ، وكلما نمت المدينة وزاد توسعها كلما تطور سوق المال، لأن المال أصبح هو القوة المسيطرة ، ولقد أصبح المال بالنسبة للإنسان شكلاً من أشكال النشاط الذي يوقظ باستمرار شعوره بالوجود والبقاء حتى أصبحت المدينة تمثل ديكتاتورية المال غير المحدود .

• وهكذا يتبين لنا أن هناك اتفاقاً واضحاً يجمع ما بين تصور فيبر وزيمل وشبنجلر مؤداه التأكيد على العقلية الحضرية رغم اختلاف كل منهما في تفسير هذه العقلية كلما كشف هذا التأكيد عن تصورهم النفسي الاجتماعي في تحليل ظروف الحياة في المدينة الحديثة.

المحاضرة 4 

استكمال التوجهات النظرية في علم الاجتماع الحضري

عناصر المحاضرة

• ثالثاً: نظرية الثقافة الحضرية

• رابعاً: نظرية العولمة والفروق الريفية والحضرية

• الخاتمة. 

ثالثاً: نظرية الثقافة الحضرية

• تنطلق هذه النظرية من أعمال كل من لويس ويرث وروبرت ردفيلد ، فمن اتخذ – على حد تعبير جوبرج - من المدينة متغيراً أساسياً لتفسير بعض الأنماط الحضرية جعلت المدينة تأخذمحتوى ثقافيا خاصا وتصبح تبعا لذلك متغيراً تحليلياً لتفسير هذا المحتوى ، بحيث تعرض الثقافة الحضرية باعتبارها طريقة للحياة.

• لذا فقد نظر مجموعة من العلماء المحدثين في علم الاجتماع الحضري مثل )لويس ويرث وكينجزلى دافيز وهاولى ولامبارد وهومز ومورس وجانيب أبو لغد( إلى التحضر من وجهة نظرمزدوجة ، من حيث رؤية التحضر كتمركز جغرافي للسكان والأنشطة غير الزراعية في موقع ذي شكل وحجم معينين.

• فهم في الوقت نفسه ينظرون إلى التحضر باعتباره انتشار جغرافي لأنماط القيم والسلوك الحضرية السائدة فضلاً عن المؤسسات الحضرية القائمة.

• فالحياة الحضرية على ذلك عملية تسعى في النهاية إلى إحداث التنظيم المكاني لعناصر البناء الاجتماعي السائد بمنطقة جغرافية محددة.

• وإذا كان البناء الاجتماعي يتكون من مجموعة متصلة ومنمطة من العلاقات الاجتماعية التي تبرز من خلالها أدوار الأفراد ووظائفهم فإن للبناء الاجتماعي الحضري أهمية حيوية فيتشكيل الشكل الحضري السائد فهو يتسم بخصائص معينة لعل أهمها سيادة العلاقات غير الشخصية التي تظهر في شكل التفاعلات والعلاقات المستمرة بين الأفراد .

• كما أن درجة التجانس الثقافي بالمركز الحضري تؤثر على كيفية ممارسة الأفراد لأدوارهم وعلى نوعية العلاقة الاجتماعية السائدة بين ساكني النمط الحضري والوافدين إليها منالمناطق الريفية ، ومن الطبيعي أن ترتبط ظاهرة تركز السكان بالمركز الحضري بحيث تؤثر على تكوين الطبقة وتحديد علاقتها بغيرها من الطبقات.

• غير أن البناء الاجتماعي في المجتمع الحضري لا ينشأ من فراغ ولا يتحرك إلى غير هدف، وإنما يتحدد إطاره بالهيكل الثقافي للمجتمع الكلي أولاً والحضري ثانياً، وفي هذا الإطار الثقافييحكمه نسق القيم السائد ومن الطبيعي أن يختلف هذا النسق بين أنماط المجتمع - ريفه وحضره – ومن هنا تتحدد درجة التجانس الثقافي بين نمطي المجتمع من ناحية وتتفاوت درجةانسجام الشخص الوافد إلى المركز الحضري مع الإطار الثقافي الجديد بالنسبة له من ناحية أخرى .

• ويعد "أورسكار لويس من الرواد الأوائل الذين تناولوا فكرة التغير الثقافي الذي تعرض له الوافد الجديد إلى المركز الحضري ، وتدارس بعمق عملية التكيف الاجتماعي أو التوافقالاجتماعي التي يحاول تحقيقها هذا الوافد مع إطار ثقافي مغاير.

• كما أنه عالج ليس فقط نظريا وإنما عن طريق الدراسات التجريبية أيضا أسلوب الحياة الذي يختاره في بعض الأحيان أو يضطره في غالبية الأحيان للمعيشة فقط بالنمط الحضري ، وفيإطار ذلك عرض لويس فكرته التي تأسست على تفرع ثنائي يميز بين نمطين للمعيشة في المجتمع الحضري وهما النمط الشعبي – الحضري والنمط الريفي الحضري .

• وكان يُجمع كثير من منظري النظرية الحضرية على أن مقالة لويس ويرث الحضرية كطريقة في الحياة أول عمل كلاسيكي أرسى فيه الدعوة الأولى لهذا التوجه النظري الذي ظهر لدىكثير من علماء الاجتماع في محاولتهم الإجابة على التساؤل الذي يدور حول الأنماط والعمليات التي تتضمنها عملية تحول طريقة الحياة السابقة على التصنيع والتحضر إلى نظام صناعيحضري.

• وقد حاول ويرث صياغة نظرية متكاملة من خلال طرح تعريف وسؤال وإجابات متتالية على هذا السؤال:-

• أما التعريف فهو الذي بدأ به ويرث وكان تعريفا للمدينة مؤداه: أنها موقع دائم يتميز بكبر الحجم وبكثافة عالية نسبيا وبدرجة ملحوظة من اللاتجانس بين سكانه .

• أما السؤال فيدور حول الصور والأشكال الجديدة للحياة الاجتماعية، والتي قد ينجم عن الخصائص الأساسية المميزة للمجتمع الحضري )الحجم والكثافة واللاتجانس( أما إجابته على هذاالسؤال والتي لخصت تصوره للمجتمع الحضري فكانت على النحو التالي:-

• يبدأ تصور ويرث بافتراض أن الحجم والكثافة والتغاير واللاتجانس متغيرات أساسية أو مستقلة أو خصائص مميزة للمجتمع الحضري تسلم بدورها إلى عدد من الخصائص التي ترتبطبطبيعة الحياة الحضرية وشخصية ساكن كبير الحضر.

• فمن ناحية يرى ويرث أنه كلما كبر حجم المجتمع الحضري )المدينة( اتسع نطاق التنوع الفردي وارتفع معدل التمايز الاجتماعي بين الأفراد، الأمر الذي يؤدى إلى زيادة انتشار العزلالمكاني للأفراد والجماعات على أساس السلالة أو المهنة أو المكانة .

• ويؤدى هذا العزل المكاني بدوره إلى إضعاف روابط الجيرة والعواطف التي تنشأ نتيجة المعيشة المشتركة ولأجيال متعاقبة تحت تقليد علم مشترك ويترتب على ذلك انتشار علاقاتاجتماعية ذات طابع انقسامي من خلالها يتعرف الحضري على عدد أقل من الأفراد وبدرجة أقل من المودة إلى جانب سيطرة علاقات المنفعة .

• وفي هذا الصدد يقول أن معرفتنا بالآخرين تميل إلى أن ترتبط بعلاقات المنفعة بمعنى أن الدور الذي يلعبه الآخرون في حياتنا ينظر إليه على أنه وسيلة لإنجاز وتحقيق أهدافنا ، وفيالوقت الذي يستطيع فيه الفرد التعبير التلقائي عن الذات والروح المعنوية والإحساس بالمشاركة، وبنفس الأسلوب عالج ويرث متغير الثقافة كخاصية أساسية ومميزة للمجتمع الحضري،يترتب عليها خصائص أخرى.

• لقد تصور ويرث أن الكثافة تؤكد الآثار الاجتماعية والنفسية الناجمة عن الحجم فهي تزيد من درجات التقارب الفيزيقي بين الأفراد في مقابل التباعد الاجتماعي ، كما أنها أخيراً تزيد العزلالمكاني بمعني انفصال الجماعات السكنية عن بعضها البعض في شكل مجاورات أو أحياء متجانسة نسبياً.

• أما متغير اللاتجانس فقد كان في ذاته نتيجة ترتبت على متغيري الحجم والكثافة فهو استجابة مباشرة لضرورة اقتصادية (تقسيم العمل) وأخرى اجتماعية تمثل الاختلافات والفروقالمتوقع وجودها في جماعات كثيفة من السكان .

• ولكن اللاتجانس (التغاير) يؤدى بدوره إلى سلسلة من المصاحبات الاجتماعية أهمها تطوير نسق أكثر تعقيداً للتدرج الطبقي وزيادة معدلات الحراك بأشكاله الفيزيقية والاجتماعية وتطويرشخصية عالمية، وتتفاعل هذه الأبعاد الثلاثة (الحجم والكثافة واللاتجانس) في نظرية ويرث مع بعضها لتؤدي إلى طريقة فريدة في الحياة أطلق عليها الحضرية .

• وكان ويرث متفائلاً بشأن الحضرية كطريقة في الحياة ، فقد نظر ويرث إلى المدينة باعتبارها حمض يذيب مع الوقت القيم التقليدية ويقوض مؤسسات وعلاقات ذات معنى، كما رأىإمكانات الحريات الكبيرة في المدينة ولكنه كان قلقاً من أن تتساوى هذه الجوانب الايجابية حتماً مع التفكك الذي لاحظه في مدينة شيكاغو المضطربة ، ورأى إمكانية تحقيق البيئةالحضرية الإنسانية فقط من خلال عمليات التخطيط للسيطرة على المدينة.

• كذلك من الإسهامات التي عنيت بالثقافة الحضرية ما قدمه روبرت ردفيلد عن فكرة متصل الفولك الحضري والتي صاغها من منظور التطور الثقافي والايكولوجي في حالة التقليد والفولكإلى حالة التحديث والحضرية.

• وتستند فكرة المتصل الريفي الحضري من الناحية النظرية على افتراض الأول هو أن المجتمعات المحلية تتدرج بشكل مستمر ومنتظم من الريفية إلى الحضرية وفقاً لعدد من الخصائصوالثاني أن هذا التدرج يصاحبه بالضرورة اختلافات أو فروق متسقة في أنماط السلوك .

• وأن المجتمع الحضري في تصور ردفيلد له خصائص وثقافة مميزة تبدو واضحة في ضوء اختلافها عن خصائص وثقافة مجتمع الفولك حيث تسود خصائص التفكك والفردية والعلمانيةعلى طرف نقيض مع خصائص فولكية أهمها سيطرة التقليدية والجمعية ونزعة نحو المقدسات.

• أما التطور فهو في نظره انتقال من المجتمع الشعبي إلى المجتمع الحضري من خلال زيادة عمليات التغاير أو اللاتجانس الاجتماعي وإمكانيات التفاعل وفقدان العزلة أو زيادة الاحتكاكالثقافي بالمجتمعات والثقافات الأخرى.

• لكن الدراسات الواقعية التي أجراها كثير من الباحثين الأمريكيين مثل ويليام جوردن وهويت وجانز قد أوضحت أن ويرث كان مبالغا إلى حد كبير في تقدير العلمانية والتفكك كسمات مميزةللمجتمع الحضري حتى في الولايات المتحدة الأمريكية .

• كذلك فإن تأكيد روبرت ردفيلد للتفكك الاجتماعي كنتيجة مصاحبة بالضرورة للتحول الحضري كان من أهم نقاط الضعف التي أبرزتها تلك الدراسات التي حاولت اختيار هذه النظرية منواقع مجتمعات أخرى فلقد توصل أوسكاريوس إلى أن التحضر في مدينة المكسيك لم يصاحب بالضرورة بتدهور النظام الاجتماعي أو الأخلاقي.

• وهذا ما أكدته أيضا الدراسات التي أجريت على المدن الأفريقية مثل دراسة مارس عن الأسرة والتغير الاجتماعي في المدينة الأفريقية فلقد أوضحت أنه برغم ما شهدته العديد منالبيئات الحضرية من عملية سريعة للنقد والتحول الحضري إلا أن الأنماط التقليدية لا تزال تعيش جنباً إلى جنب مع الأشكال التنظيمية الجديدة دون أن يترتب على ذلك أي نوع من التفككالاجتماعي.

• لكن الجدير بالذكر أن هذه الدراسات قد ازدادت ثراء وحضرية عندما دعم أسكارلويس بدراسته التطبيقية والتجريبية على الأحياء المتخلفة بالمدن الفقيرة في المجتمعات التي مازالت فيطور التخلف، ولم يكن لويس يدرس الأحياء الفقيرة من الطبقة الدنيا في هذه الأحياء المتخلفة .

• ولعل من أبرز دراساته في هذا الشأن هي التي هي التي أجريت على مدينة مكسيكو سيتي عام 1959 م ، وانتهى أوسكار لويس إلى التوصل إلى ما يشبه نظريه تدور حول ما أسماهثقافة الفقر وتركز على أنه إذا كان لكل مجتمع ثقافة عامة لها جذور راسخة تمتد لمئات بل آلاف السنين في بعض المجتمعات فإن الفقر أيضا ثقافة فرعية (مادية وغير مادية) تميز حياةالفقراء وأسلوب معيشتهم.

• وهذا ما جعل كلود فيشر يؤكد على أن الثقافة الفرعية تتمثل في الاختلافات بين السكان والاختلافات السلوكية والثقافية في المناطق ذات الأحجام المختلفة ، وترجع إلى عواملوسمات السكان مثل العمر والعوامل العرقية والعوامل الديموجرافية والثقافية وغيرها.

• وهكذا يتضح أن نظرية الثقافة الحضرية رغم ما تعرضت له من نقد إلا أنها قد ساعدت في إثراء الدراسات المقارنة حيث كانت المدينة على مر العصور مركزاً لكثير من النشاطات الهامة فيالمجتمع بل ومركزاً لكثير من التغيرات العميقة .

• فلقد هيأت المدن بطبيعتها الظروف المواتية لتطوير هذه الأنشطة وحدوث هذه التغيرات لتصبح الموطن الطبيعي لكل اختراع وتجديد خاصة وأن المراكز الحضرية تمثل مراكز التنظيموالقوى السياسية ويتركز فيها أنواع التعليم وتخضع لوسائل الضبط الاجتماعي الرسمي وتمارس قدراً من التأثير والضبط على المجتمعات الريفية ، الأمر الذي جعل هذا الاتجاه النظرييسهم في تطوير الدراسات الحضرية المقارنة.

رابعاً: نظرية العولمة والفروق الريفية والحضرية

• تعد محاولة تحديد الفروق الريفية الحضرية وتحديد الخصائص المميزة لكل نمط محاولة قديمة في تاريخ الفكر الاجتماعي وعلم الاجتماع بدأها المُصلِحٍ الصيني كونفوشيوس وفلاسفةالإغريق مثل أفلاطون وأرسطو ومفكرو العصور الوسطى كالقس أوغسطين وابن خلدون .


• وقد استمرت هذه المحاولات في علم الاجتماع وظهرت بشكل واضح في أعمال كل من فردينالد توينز و هوارد بيكر و هربرت سبنسر و ماكس فيبر وغيرهم ولعل أهم ما أثمرت عنه هذه المحاولات أنها طورت عدداً من الأدوات التصورية التحليلية التي وجهت ما بذل من جهود بعد ذلك لتطوير نظرية سوسيولوجية عن المجتمع المحلي فكرة النموذج المثالي والنمط التركيبي للمجتمع المحلى والتي كانت تمثل حجر الزاوية في نظريات التعارض كأداة تصورية متطورة لمعالجة المجتمع الحضري الحديث. 

• ثم قدم جوبرج إسهاماً واضحاً في تناول قضية الفروق الريفية الحضرية من خلال صياغة جديدة ترتكز على معالجة البناء السكاني للمجتمعات الريفية والحضرية عبر الزمان والمكان ، اعتقاداً منه بأن هذه المعالجة تخدم مناقشة الأنماط الريفية الحضرية في ثلاثة نماذج من المجتمعات الإنسانية :-
المجتمعات التي تمر بمرحلة ما قبل الصناعة.
المجتمعات الانتقالية أو النامية.
المجتمعات المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً.

• وذلك على اعتبار أن الجانب الريفي الحضري يختلف اختلافاً جوهرياً بين كل نموذج اجتماعي وآخر، أي أن هذا البعد في المجتمع قبل الصناعي يختلف عن مثيله في المجتمع الانتقالي،وأخيراً عن المجتمع الصناعي المتقدم، ويرجع هذا الاختلاف إلى طبعة الشكل التكنولوجي الذي يعتمد عليه كل من هذه النماذج الاجتماعية الثلاثة.

• وبرغم أن جوبرج اعتبر التكنولوجيا هي العامل الرئيسي في تفسير الفروق الريفية الحضرية إلا أنه استخدم عوامل أخرى أثناء عملية التفسير هذه، حيث أن طبيعة المدينة نفسهامسئولة عن بعض الظروف والاختلافات بين الريف والمدينة حيث أن النموذج الحضري غالباً ما يتأثر بشكل السلطة أو القوة أو النظام السياسي والاقتصادي .

• ولذلك فإنه في المجتمع الرأسمالي يختلف عنه في المجتمع الاشتراكي ، ومن جهة أخرى فإن التكنولوجيا وحدها لا تستطيع أن تجعل حياة المدينة ممكنة وإنما يتعين وجود عاملأساسي آخر يتمثل في نمو إطار من المعرفة التنظيمية المعقدة .

• لكن في ظل العولمة وآثارها على العلاقات الريفية الحضرية ذهب ميجى إلى أن مفهوم التقسيم الريفي الحضري المعتمد على التمييز المكاني تقسيم مصطنع يحتاج إلى مراجعةشاملة في إطار نظرية واسعة للنمو الاقتصادي والحضري.

• ولذا رأى أنه بدلاً من التفكير في ثنائية الريفي والحضري فإنه من الأجدى ضرورة الاهتمام بزيادة التنقل حيث تكون القدرة المتزايدة لانتقال الأشخاص ورؤوس الأموال والمعلومات هيالعنصر الرئيسي لعملية التقدم.

• وعلى هذا فإن الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه يتمثل في أن تدفق رؤوس الأموال والمعلومات هو تدفق سريع وغير مشروط بينما مازال تدفق الأفراد والسلع - بالرغم منانكماش بعدى الوقت والمسافة - خاضعاً لمحددات المكان .

• ولذا فقد أدرك كثير من المخططين على تركز العمليات على مركزية المناطق الحضرية وتقلص المناطق الريفية وبالتالي فإن ثورة التدفقات التي تتم على الصعيد العالمي وتحدث بحريةوفي قفزات سريعة جعلت من مهمة تعميم الديناميات الريفية الحضرية أمراً بالغ التعقيد.

• كما أكد ذلك كاسيل في كتابه المدينة المعلوماتية في عام 1989 م ذلك في قوله أن الاقتصاد الدولي الجديد قد خلق هندسة متغيرة للإنتاج والاستهلاك والعمالة وإدارة رؤوس الأموالوالمعلومات ، تلك الهندسة التي تنكر المعنى الخاص لأي مكان يقع خارج موقعه في شبكة ذات تغييرات حادة غير رحيمة استجابة للرسائل والإشارات غير المرئية والنماذج غير المعروفة ،وبالتالي يعتبر فهم أثر هذه العولمة على الديناميات الريفية الحضرية في الدول النامية أمراً عزيز المنال .

• لذا فمن الأهمية إدراك ضرورة استبدال التمييز بين الريفي والحضري بفكرة شبكات التفاعلات لأن تقسيم الريفي الحضري في نمط )دعه يعمل دعه يمر( التي تقوم على التنمية فيالوقت الحالي سيؤدى إلى انهياره تماماً وبالتالي فهناك حاجة ماسة للبحث عن مذاهب جديدة تبتعد عن ثنائية الريفي الحضري .

• فانهيار الوقت وتقلص المكان وتداخل الحدود بين الريفي والحضري يشير إلى اهتمام جديد بتدفق السكان والسلع ورؤوس الأموال عبر المكان الذي لا يكون ريفي خالص أو حضريخالص ولكنه خليط من الاثنين ويكون هذا الخليط بارزاً بشكل واضح في الدول النامية وبخاصة في المناطق الحضرية بمراكز المدينة الميتروبلتانية.

• ونظرا لتشابك وتداخل العلاقات بين المجتمع الريفي والمجتمع الحضري وما برز من ظواهر مثل تريف المدينة وتحضر الريف وبخاصة في المجتمعات النامية فهذا يتطلب تشكيل ما يسمىبالديناميات الريفية الحضرية وليس الثنائية التقليدية بين الريفي والحضري.

الخاتمة

• وهكذا يتضح من خلال عرض أهم النماذج النظرية السائدة في علم الاجتماع الحضري أن لكل نظرية من هذه النظريات مواطن من الضعف ، ومواطن أخرى من القوة ، وبالتالي لا يمكن أنتكون أي نظرية منها كافية لتفسير ظواهر الحياة الحضرية ذات الأبعاد والجوانب المتعددة المتباينة .

• كما أن هذه النظريات اهتمت بالتفاصيل الجزئية والبيانات الأمبريقية المحدودة على حساب التنظير السوسيولوجي العام ، وبالتالي فقد أغفلت القضايا النظرية الحيوية كما افتقدت إلىالمقارنات الحضرية عبر المجتمعات الإنسانية المختلفة مما جعل البعض يذهب إلى أن هذه النظريات كُتِبت بطريقة انطباعية.

• وأنها تفتقد إلى التحليل العلمي التفسيري والمعلومات المتعمقة عن الحياة في المدينة ومع هذا فإن هذه النظريات استطاعت أن تمس أهم المشكلات والقضايا التي تواجه الإنسانساكن المدينة و أن تقدم أسساً نظرية للدراسات والبحوث التي تجرى في علم الاجتماع الحضري المعاصر.

• وعلى هذا فإن علم الاجتماع الحضري مازال في حاجة ماسة إلى إطار نظري واضح المعالم ومتكامل للجوانب لكي يتمكن الباحثون والدارسون من البدء في إجراء دراسات أمبريقية علىأساس الانطلاق من فروض قابلة للاختيار تكون لها ثمرة في النهاية.

• حتى لا يضيع الجهد في إجراء دراسات عقيمة لا تسهم في تطور المعرفة في إطار النظرية أو إصلاح المجتمع حيث اتسمت الدراسات الحضرية التي أجريت حتى الآن بغلبة الطابعالوصفي المحدود ، كما اتسمت بغلبة الطابع النفعي والتسليم مسبقاً بمجموعة من المسلمات التي تقوم الدراسة على أسسها.

• ومن أجل هذا أصبحت معظم الدراسات تمثل نسخة واحدة ومكررة كدراسة ايكولوجية المدينة وعملياتها والتوزيع السكاني ودراسة النظام الطبقي والجوانب النفسية لساكن المدينةوغيرها دون الدخول في قضايا نظرية وتطبيقية جديدة تثري الإطار المعرفي والنظري لعلم الاجتماع الحضري. 

المحاضرة 5

التحليل الاجتماعي لدراسة المدينة

عناصر المحاضرة

• مدخل

• أولاً: تعريف المدينة

• ثانياً: نشأة المدينة وتطورها

أهداف المحاضرة

• التعرف على مفهوم المدينة ومضمونه

• استعراض نشأة المدينة وتطورها

مدخل

• لقد اهتم العلماء والباحثون بدراسة المدينة نظراً لأن الحياة الحديثة تتركز تدريجيا في المدن ، حتى أنه في بعض البلدان لا تكاد نسبة السكان الريفيين تظهر بجانب نسبة السكانالحضريين ، ولذا فإن الاهتمام العلمي بدراسة المدينة قديم نسبياً، أي أن علم الاجتماع الحضري لم يتطور بشكل ملموس إلا خلال العقود القليلة الماضية.

• حيث شهد القرن العشرين اهتماماً ملحوظاً بالظواهر الحضرية المختلفة وأصبحت المدينة تشكل موضوعاً أساسياً للعلوم الاجتماعية المختلفة بشكل متكامل ، حيث يصعب على علمبعينه فهم الواقع الحضري بمختلف جوانبه، وبالتالي فإذا كانت المدينة بحاجة إلى جهود علماء الاجتماع فإنها بحاجة ماسة إلى جهود علماء السياسة والاقتصاد والجغرافيا والأنثروبولوجياوالسكان والتاريخ.

• فإن تنوع مداخل دراسة المدينة لا يعنى إطلاقاً العزلة العلمية بقدر ما يعني تعدد الرؤى والثراء الفكري ، خاصة إذا ما كان الأمر متعلقا بظاهرة معقدة ومتعددة الجوانب ومتشابكة الأبعادبالمدينة وخاصة في ظل تنامي أحجام المدن وتعدد مشاكلها التي أصبحت تفرض نفسها على عالمنا المعاصر.

• وهذا يفرض ضرورة فهم المدينة في إطار السياق الأكمل ، فالمدينة ليست مجرد نسق اجتماعي محلي تابع لنسق اجتماعي قومي ولكنها وحدة أساسية من الوحدات المكونة للبناءالعالمي الشامل أيضا ، ومعنى هذا أن المدينة لا تتأثر فقط بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية القومية المحلية بل تتأثر أيضاً بالتحولات العالمية الخارجية.

• وفي إطار هذا الفهم نحاول في هذه المحاضرة تقديم تحليل اجتماعي لدراسة المدينة سواء من حيث المضمون والمحتوى وفي ضوء ماضيها وحاضرها ومستقبلها من أجل تقديم إطلالةسريعة لموضوع يتعلق بلب علم الاجتماع الحضري وبظاهرة عالمية تعاظمت معدلاتها خلال القرن العشرين ثم واصلت على استقلالها السياسي.

• وبدأت تشهد ما يمكن أن نطلق عليه الانفجار الحضري وظهور الكيانات الحضرية الضخمة في كثير من دول العالم النامي والمتقدم على حد سواء. 

أولاً: تعريف المدينة

• رغم أننا نعيش في المدينة ونحيا فيها وأن كثير من العلماء يدركون ماذا نعني بكلمة المدينة ولكن أحداً لم يقدم تعريفاً شاملاً للمدينة ، وعادة ما يستخدم علماء الاجتماع هذا المصطلح فيإطارها عن البيئة القائمة التي يسكن في نطاقها سكان الحضر، وبالتالي فإن تعبيرات المجتمع الحضري والحضرية والتحضر ما هي إلا عبارات تستخدم للدلالة على الحياة الاجتماعية فيالمدينة.

• ولعل أهم ما يميز المدينة عن المجتمع الريفي سواء من حيث البناء والثقافات هو أن المجتمع الريفي متجانس بينما المجتمع الحضري غير متجانس وأن البناء والوظيفة بين المجتمعينمختلفين، فالمدينة أكبر حجماً من المجتمع الريفي ومتكاملة وظيفياً لعناصرها المختلفة على هيئة وحدة كلية.

• وفي هذا الصدد يرى لويس ويرث أن أهم ما يميز المدينة ليس فقط بنسبة السكان الذين يعيشون في المدن وإنما في التأثير الذي تمارسه المدينة على الحياة الاجتماعية للإنسان أكبرمن معدل نمو السكان الحضريين لأن المدينة في تصوره ليست مجرد المكان الذي يعمل فيه الإنسان الحديث ويأوي إليه بل لأنها المكان أو المركز الذي يضبط ويمسك بزمام المبادئالاقتصادية والسياسية والثقافية .

• ولذا فإن التعريف السوسيولوجي للمدينة لابد أن يسعى لانتقاء عناصر الحضرية التي تميزها كأسلوب متميز للحياة الجمعية للإنسان، ولهذا فإن وصف المجتمع المحلي بناء على الحجمليس صائباً، وينطبق ذلك أيضا على بعض المقاييس الأخرى مثل عدد السكان والإمكانات الفيزيقية المتاحة ، والنظم وأشكال التنظيم السياسي.

• فإن أهمية هذه المقاييس ليس في وجودها في المدينة ولكن في قدرتها على توحيد وتعديل وصياغة طابع معين للحياة الاجتماعية في شكل حضري، وبهذا يمكن تعريف المدينة كمايرى ويرث بأنها مكان دائم للإقامة يتميز نسبياً بالكبر، والكثافة يسكنه أفراد غير متجانسين بينما المدينة عند روبرت بارك ليست مجرد تجمعات من الناس مع ما يجعل حياتهم فيها أمراً ممكناًمثل الشوارع والمباني والكهرباء ووسائل المواصلات.

• كما أنها ليست مجرد مجموعة من النظم والإدارات مثل المحاكم والمستشفيات والمدارس والشرطة والخدمات المدنية من أي نوع، فالمدينة فوق هذا كله اتجاه عقلي ومجموعة منالعادات والتقاليد إلى جانب تلك الاتجاهات المنظمة والعواطف المتأصلة في هذه العادات والتي تنتقل عن طريق هذه التقاليد ، وبمعنى آخر فالمدينة ليست مجرد ميكانزم فيزيائي أو بناءصيغة للإنسان.

• وإنما هي نتاج الطبيعة وذات طبيعة إنسانية على وجه الخصوص أيضا ، بينما ذهب جورج زيمل إلى البحث في الأسس السيكولوجية التي تكمن وراء الطابع المتروبوليتي للحياة، فيدرسالتوترات والعواطف ونوع الذكاء الذي يجب أن يتمتع به الأفراد الذين ينجحون في الحياة في مثل هذا النوع من المدن الكبرى.

• كما درس في الوقت ذاته التنظيم الاجتماعي المتناهي في التعقيد الذي يؤدى إلى قيام الروابط والجماعات المتعددة التي تعتمد على تقسيم دقيق للعمل، ولكن كان يعتقد أن أهمخاصية للمدينة (الميتروبوليس) هي امتدادها الوظيفي أبعد من حدودها الطبيعية.

• في ذهب ماكس فيبر في تعريفه للمدينة على أنها منطقة مستقرة وكثيفة من السكان المتزاحمين ينعدم التعارف الشخصي والمتبادل بينهم لأن المدينة تتكون من مجموعة أو أكثر منالمساكن المقترحة حيث نبني المنازل في المدن متقاربة مع بعضها البعض فيكون الحائط لصيق الحائط كما هو الحال في المدن الحديثة، ومن ثم فإن فيبر يعرف المدينة الحديثة على أنهانسق أو محل إقامة مغلق نسبياً لتجاور المنازل بشكل كبير ومن شروطها الضرورية توفر سوق ووضوح وظيفتها الاقتصادية.

• وبهذا يمكن تعريف المدينة بشكل أكثر تحديداً باعتبارها وحدة اجتماعية حضرية محدودة المساحة والنطاق ومقسمة إدارياً ويقوم النشاط فيها على الصناعة والتجارة وتقل فيها نسبةالمشتغلين بالزراعة ، وتتنوع فيها الخدمات والوظائف والمؤسسات وتمتاز كثافتها وسهولة مواصلاتها وتخطيط مرافقها ومبانيها وهندسة أراضيها وتتمايز فيها الأوضاع والمراكز الاجتماعيةوالطبقية.

ثانياً: نشأة المدينة وتطورها

• لاشك أن نشأة المدينة يمثل ثمرة لتطور تاريخي بعيد المدى ، حيث أن لكل مدينة تاريخها ، ولذلك فإن تاريخ الإنسان يمكن أن يكون في جانب كبير منه على أنه تاريخ المدن والحياة فيالمدينة ، وذلك أن المدينة قد أدخلت عنصراً جديداً في العمليات التاريخية لأن الإنسان قد خلق طريقة جديدة للحياة لا تعتمد على العمل في الزراعة .

• كما أن أصل ونمو وانتشار المدن قد أمكن تتبعه تاريخياً خلال فترات متميزة من الزمان، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هل هناك نمو تطوري أو دوري في التاريخ الإنسانيمرتبط بظهور المدن أو نموها؟

• وفي الواقع أنه من الصعب تتبع نمو المدن بدرجة ملحوظة من اليقين وذلك لأن كثيراً من الحقائق المتصلة بالمدن القديمة لها الطابع الأركيولوجي (علم الآثار يقوم بدراسة الرواسبالثقافية المادية) إلى جانب أنها متناثرة وتصور مسائل جزئية في الغالب، علاوة على أن كل المدن تقريباً في كل المراحل التاريخية وكل بلدان العالم لم تدرس بدرجة كافية من الدقة.

• كما أن بعض المدن غير معروف مثل مدن الشرق الأوسط وإن كان هناك بعض العلماء مثل جينيفز سكيرس في مؤلفها الثقافة الحضرية في مدن الشرق أوضحت الامتداد التاريخي لمدنالشرق العتيقة والتي تعود جذورها إلى ما قبل الإسلام ، وكيف نمت مع انتشار الإسلام في الأقاليم ، وازدهرت مع تشعب خطوط التجارة ثم أوضحت وضع الحياة في الشرق ضمن الإطارالعام للمدينة من حيث موقعها .

• وتوافر الماء وضواحيها السكنية وأسواقها ومنتجاتها والإصلاحات الحديثة التي غيرت من شكلها وبعض وظائفها وتشير إلى دور الإسلام في تعريف الخاص والعام، وفي تخطيط هذهالمدن والمنشآت والمرافق العامة في هذه المدن والمساجد والأسواق ، وارتباط هذه المرافق بتخطيط المدينة العام ونظام الحياة فيها.

• لذا يبدو أن هناك اتفاقاً عاماً بين المؤرخين وعلماء الاجتماع على أن المدن الحضرية الأولى قد ظهرت منذ سبعة آلاف عام في دلتا وادي النيل بمصر ومنطقة ما بين النهرين في العراق ،ثم نشأت بعد ذلك مراكز أخرى في وادي السند في باكستان وحوض النهر الأصغر في شمال الصين، أما في العالم الجديد فقد نمت المراكز الحضرية على ساحل بيرو وفي المكسيك قبلبداية العصر المسيحي.

• ولقد أوضحت الدراسات التاريخية أن هذه المناطق كانت تضم مساحات ضخمة من الأراضي المنزرعة التي تكفي في ظل الظروف الطبيعية لمعيشة أعداد كبيرة من السكان، علاوة علىذلك عرفت هذه المناطق نظام الري المنتظم مما أسهم في تدعيم الارتباط بالزراعة كمصدر أساسي للنشاط الاقتصادي، ومن المنظور الاجتماعي ارتبطت هذه العناصر بظهور حياةجماعية واضحة المعالم.

• فعلى سبيل المثال أوضح بعض الباحثين أن هذه المناطق قد شهدت ضرورياً من التدرج الاجتماعي تعكسه الاختلافات العديدة بين المباني وما يرتبط بذلك من سلع مادية، والمحقق أنظهور المدن قد ارتبط بازدهار الثقافة المادية والفنية فضلاً عن تطور صناعة المعادن ووسائل النقل والكتابة.

• كما يرى البعض أن المجتمعات المحلية الزراعية المتمثلة في القرى هي الشرط الأساسي الضروري لظهور الحياة الحضرية بمعنى أن الثورة الحضرية المبكرة قد نشأت في إطار عمليةالتحول نحو إنتاج الطعام ولكنها ارتبطت في الوقت ذاته بعدد من التغيرات التكنولوجية الهامة، ولذا يميل البعض إلى إبراز الأدوار التي لعبتها التطورات التكنولوجية في ظهور المراكزالحضرية في مختلف مناطق العالم .

• وكما تميل بعض الدراسات التاريخية إلى إبراز دور العوامل السكانية الناتجة عن التطورات التي طرأت على الزراعة وعلى الأخص فيما يتعلق بكميات الإنتاج الزراعي، كذلك كانت هناكعلاقة بين ظهور المراكز الحضرية وتحقيق الفائض الاقتصادي غير أن أكثر المحاولات النظرية للتعرف على نشأة المدن قدمها جوردن تشايلد حيث حدد بعض ملامح ما أطلق عليه الثورةالحضرية المبكرة .

• ومن هذه الملامح الاستيطان الدائم في صورة تجمعات كثيفة وبدايات العمل بالنشاطات غير الزراعية، وفرض الضرائب وتراكم رؤوس الأموال وإقامة المباني العامة الضخمة وظهور طبقةحاكمة مسيطرة ، وتطور فنون الكتابة، وتعلم مبادئ الحساب والهندسة ، واكتساب القدرة على التعبير الفني ونمو التجارة .

• وعلى الرغم من الانتقادات العديدة التي وجهت إلى هذه المحاولة النظرية إلا أنها تعد خطوة أولى نحو دراسة الظروف المهيئة لنشأة المدن، بل أن دراسات حديثة عديدة قد أوضحت أنالملامح التي حددها تشايلد قد توافرت تماما عند دراسة المراكز الحضرية المبكرة التي نشأت في منطقة ما بين النهرين (دجلة والفرات).

• ومن المحاولات الأخرى للتعرف على ملامح المدن في العصور الوسطى تلك المحاولة التي قدمها جدعون جوبرج في مؤلفه (مدينة ما قبل الصناعة) بعض الملامح الهامة التي يمكن منخلالها فهم واضح لهذا النمط من المدن وتصور ما يحدثه التصنيع فيما بعد ذلك وما يمكن أن يقال أن مدن ما قبل الصناعة تشكل مراكز أساسية للإدارة الحكومية وممارسة النشاطات الدينية، والأعمال التجارية الذين يحددوا طابعها.

• أما التخصص المهني فهو محدود ويكاد يقتصر على إنتاج السلع الضرورية باستخدام الطاقة البشرية والحيوانية ومعنى ذلك أن تقسيم العمل يكاد يكون أولياً حيث تتألف جماعات قليلةمن الصناع والحرفيين ، وفي هذه المدن يخضع العمل الإنتاجي للأساليب التقليدية ، كما أن الطوائف الحرفية تحول دون ظهور التجديد لأن ذلك قد يتعارض مع مصالحها وتسيطر على هذهالمدن اعتبارات الاكتساب لا الانجاز.

• بمعنى أن يرتبط الفرد بالمهنة التي يرثها عن آبائه ويظل هذا الفرد مقيماً في منطقة معينة من المدينة لا يغادرها إلا في القليل النادر، أما الضبط الاجتماعي فيتحقق من خلال الجماعاتالأولية لا الثانوية ، إذ أن الأفراد يعرفون بعضهم البعض ويرتبطون فيما بينهم بروابط القرابة والمصاهرة القوية، وتمارس الأسرة الممتدة التقليدية تأثيراً هائلاً على الأفراد بحيث لايستطيعون الفكاك من معاييرها والتزاماتها.

• وهناك بعد ذلك قيم عامة مشتركة تنظم سلوك الأفراد تنظيماً محدداً بحيث لا تسمح بحدوث انتهاكات إلا في أضيق الحدود، ولا توجد طبقة وسطى واضحة لأن الناس إما فقراء أو أغنياءكذلك تسيطر على هذه المدن اعتبارات الخصوصية لا العمومية، وباختصار فإن مدن ما قبل الصناعة تتميز بالغزو أكثر مما تتميز بالانجاز وتؤكد الخصوصية أكثر مما تؤكد العمومية.

• وعلى هذا يمكننا أن نميز في تاريخ المدن بين ثلاث نماذج وهي:-

1- المدن في العصر القديم : حيث نشأت في الأودية الخصيبة أعظم الحضارات الإنسانية مثل الحضارة المصرية في وادي النيل ، والحضارة السومرية بين الرافدين وحضارة هومنجودار فيالهند وهي حضارة معاصرة لحضارة الأسرة الرابعة الفرعونية .

• وكانت المدن الحضرية من أسبق مدن العالم القديم ظهوراً واستقراراً وكانت دلتا النيل أسبق من الوجه القبلي انتظاما لطائفة كبيرة من المدن وذلك بعد أن توحدت البلاد على أيدي الملكمينا ، كما لا يمكننا أن نقلل من شأن المدن القديمة التي نشأت في أحضان الحضارة البابلية والآشورية والفارسية والمدن الفينيقية التي ازدهرت على ساحل البحر الأبيض المتوسط مثلصيدا وصور وغيرهما .

• وقامت في بلاد اليونان المدن بالمعنى الصحيح ، بل أن أهم ظاهرة سياسية في حضارة اليونان هي نشأة المدن المستقلة التي يطلق عليها دولة المدينة ، وفي عصر الرومان قامت دولكثيرة لأسباب سياسية وإستراتيجية واقتصادية مثل الإسكندرية وروما ودمشق وغيرها.

2- المدن في العصور الوسطى: حيث تشهد تلك العصور ظهور الحضارة الإسلامية والتي نشأت طائفة من المدن أهمها مكة والمدينة والفسطاط وبغداد والقيروان، وفي أوروبا شهدتبعض المدن تقدماً ملحوظاً من القرن الثاني عشر فقد تقدمت الصناعة والتجارة خصوصاً وكانت معظم المدن التي ازدهرت في العصور الوسطى هي المدن الساحلية وترجع أهم العواملالتي ساعدت على تطور نظام المدينة في نهاية القرون الوسطى:-

أ- انتشار نظام المصانع اليدوية الكبيرة حيث اشتدت حركة المنافسة وكثرت المنتجات واتسعت الأسواق وزاد الطلب على الأيدي العاملة.

ب- قيام طبقات بورجوازية وسطى أثرت في التجارة سواء في الشرق أو في الغرب .

ج- انهيار النظام الاقتصادي وتحرر الفلاحين من رق الأرض مما أدى إلى ازدياد موجات الغزو العمراني من الريف إلى المدن.

د- تطور المعرفة الإنسانية وارتقاء الأنماط الثقافية وتقدم حركة الكشف الجغرافي العلمي ثم ظهور الجامعات. 

3- المدينة الحديثة: وقد شهدت تلك المرحلة تقدماً مذهلاً في مجال الاكتشافات الصناعية التكنولوجية كما كان لها عظيم الأثر فيها، وينبغي ألا يفهم أن جميع المدن الحديثة هي مدنصناعية بالضرورة بمعنى أنها تشتمل على عدد كبير من المصانع أو أن هذه المصانع تشكل أساس بنائها الاقتصادي.

• ولكننا نقصد أن ذلك النمط الحضري الذي ازدهر واتسع نطاقه في عصر التصنيع وبالتالي فقد شهدت مرحلة النمو الصناعي توسعاً كبيراً في نطاق المدن القائمة من ناحية وظهور مدنجديدة من ناحية أخرى، وقد صاحب ذلك تزايد في معدلات الهجرة الريفية للحضرية التي كانت أكثر وضوحا في مدن العالم النامي.

• وقد ترتب على نمو المدينة مشكلات وظهرت قضايا عديدة سواء تلك المشكلات كالطرق ووسائل النقل والمواصلات والإسكان أو الاجتماعية كالجريمة والتفكك الأسرى وغيرها، ومعاستمرار هذا النمو ظهرت الميترو بوليس والتي ذهب بعض علماء الاجتماع إلى أنه إذا كانت المدينة الحديثة ظاهرة القرن التاسع عشر فإن الميترو بوليس (ومعناها المدينة المهيمنة علىالمناطق المجاورة) تعتبر ظاهرة القرن العشرين.

• ولم يتوقف النمو الحضري عند مرحلة الميتروبوليس ولكن تخطاها إلى مرحلة جديدة سميت بالميجا بوليس (أي المدينة العظمى) والتي نشأت نتيجة اختلاف عدة مدن معاً واتحادهاسوياً، وقد ذهب " لويس ممفرد" في مجال حديثه عن مراحل تطور المدينة إلى أن مرحلة الميجا بوليس تمثل مرحلة بدء انحلال وانهيار المدينة بل وسقوطها.

• وذلك لأن مؤشرات الضعف تأخذ في الظهور في هذه المرحلة ثم تتزايد الفردية المطلقة والتحكم الرأسمالي، وينقسم المجتمع إلى فئات متنافسة ثم متصارعة ، ويحل الإنتاج الآليمحل الإنتاج الفني الأصيل ويتفاقم الصراع بين العمال وطبقة الرأسماليين وينتشر الاضطراب والتخريب والتمرد وفي المقابل تقوم الحكومات بأعمال القمع والتعذيب والتشرد ، وغير ذلكمن ظواهر تدل على تفكك المدينة واتجاهها إلى الاضمحلال.

• وفى الواقع أن المدينة الحديثة ترجع إلى مجموعة من العوامل والأسباب من أهمها في العصر الحديث ما يلي:-

1) الثورة الصناعية والتي ساعدت على ظهور المدن الصناعية الحديثة وانهيار العمل اليدوي وحل محله إقامة العمل الآلي واتسع نطاق استخدام الآلات في مختلف الصناعات وأصبحت المراكز الصناعية نواةالمدن الصناعية الكبرى.

2) ارتقاء وسائل النقل والمواصلات فقد أدت هذه الوسائل إلى اتساع نطاق المدن، وأدت إلى ازدياد نشاطها العمراني.

3) الهجرة الخارجية التي اشتدت موجاتها في أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ولاسيما في أمريكا مثل شيكاغو ودوترويت.

4) اتساع نطاق الاستعمار وظهور النزعات الإمبريالية الرأسمالية الضخمة التي ساهمت في خلق طائفة كبيرة من المدن ، فظهور مدينة جاكرتا وسنغافورة في الملايو وهونج كونج إنما يرجعا إلى انتشارالاستعمار الغربي في هذه المناطق.

• وفي هذا السياق يمكن تحديد العوامل التي تفسر نمو المدينة ودرجة التحضر فيها على النحو التالي:-

1) الثورة الزراعية: حيث أن نمو المدينة مرتبط ارتباطاً لا مفر منه بطبيعة الإنتاجية الزراعية وذلك لأنه يلاحظ أنه في حالة أمكان إنتاج فائض من مواد الطعام يصبح من الممكن الاستغناء عن جانب من قوة العملالمستخدمة في إنتاج المواد الغذائية وتوجيهها نحو إنتاج سلع استهلاكية أو رأسمالية والقيام بأنواع من الخدمات التي تغير الحياة في المدينة، ومن هنا يرى علماء الاجتماع أنه كلما ازدادت الإنتاجية في النظامالزراعي كلما ازدادت نسبة السكان الحضريين.

2) الثورة التكنولوجية: حيث يميل علماء الاجتماع إلى الربط بين المدينة الحديثة الصناعية وبين نظام المصنع الحديث ، فالمدينة الحديثة تحتاج إلى وسائل لإعاشة السكان المتزايدين الذين يستطيعون بدورهم أنيقطعوا شوطهم في الحياة دون حاجة إلى العمل في الأراضي طالما سمح الفائض في الإنتاج الزراعي بذلك.

3) الثورة التجارية: حيث أن نمو الأسواق العالمية وطرق التبادل حسنت من وسائل النقل وزادت من حجم التبادل الأمر الذي سمح للمدن بالنمو في ظل ظروف كانت تمنع ظهورها أو نموها في الماضي.

4) الكفاية المتزايدة في وسائل النقل: فإذا كانت المدينة تعتمد اعتماداً ضروريا على التجارة بنوعيها الداخلي والخارجي فإن الزيادة المستمرة في كافة وسائل النقل البعيدة المدى كالسفن والقطارات والسياراتوالطائرات كان له أثر بالغ جداً في تطور المدينة نحو النمو المتزايد.

5) الثورة الديموجرافية: حيث أن الثورات التي حدثت في الزراعة والتجارة والصناعة ووسائل النقل تعتبر دليل لوجود الثورة الصناعية ولكن يبقى عامل واحد وهو ما يسمى بالثورة السكانية أو الديموجرافية،وتعتبر هذه نتيجة حتمية للنمو في العوامل السابقة. 

المحاضرة 6 

استكمال التحليل الاجتماعي لدراسة المدينة 

عناصر المحاضرة

• ثالثاً: مداخل دراسة المدينة

• رابعاً : طبيعة المدينة ومشكلاتها

• الخاتمة

أهداف المحاضرة

• تفسير طرق ومداخل دراسة المدينة

• فهم طبيعة المدينة و تحليل مشكلاتها

ثالثاً: مداخل دراسة المدينة

• رغم أن الاهتمام بدراسة المدينة كموضوع مستقل في ذاته قد استقر حديثاً وصارت له دراسات وبحوث متخصصة وتمثل جهداً أكاديمياً محدد الأبعاد إلا أن ذلك لا ينفي وجود مصادرمعروفة انبثقت منها هذه الدراسات والبحوث ، وحيث أن المدينة عملية مركبة تنتمي إلى ظاهرة الحضرية ذات الأبعاد المتشابكة والمعقدة وهي ظاهرة سائدة في المجتمعات بدرجاتمتفاوتة .

• والمتتبع للمحاولات النظرية يلاحظ وجود ثلاث مداخل أساسية عند دراسة المدينة، كما تستخدم في الوصف السوسيولوجي والتحليل العلمي لهذه الظاهرة وهذه المداخل هي:-

1- المدخل الذي يصور المدينة على اعتبار أنها مجتمع محلي نموذجي..

2- المدخل الذي يصور المدينة على اعتبار أنها مجتمع محلي يتميز بمجموعة مركبة من السمات..

3- المدخل الذي يصور المدينة على اعتبار أنها امتداد للقرية.

• ومع ذلك نلاحظ منذ البدء أن هذه المداخل الثلاث تتداخل معاً على المستوى الواقعي ولكننا سوف نتناولها بشيء من التفصيل لاعتبارات منهجية محددة تتصل بأسلوب تحليل الظواهرالمتعلقة بالحياة الحضرية وبالتحضر عامة على النحو التالي:-

1) مدخل التحليل النموذجي

• ويقصد به تلك الصياغة أو البناء العقلي لصيغة معينة تشمل عناصر مميزة لفئة محددة من الظواهر تستخدم في التحليل الاجتماعي.

   ومن خصائص هذا البناء النظري أنه لا يكون مطابقاً تماماً لأية ملاحظة أمبريقية مفردة ويرجع استخدام الفكرة إلى ماكس فيبر الذي طور النموذج المثالي كمنهج أو أسلوب يستخدمان فيالوصف والمقارنة واختبار الفروض المتصلة بالواقع الأمبريقي وعلى أية حال يقوم النموذج المثالي بوظيفتين أساسيتين وهما:--

أ- حالة أو نموذج محدد يمكن مقابلة الظواهر الملموسة بها مما يعين على التصنيف والمقارنة.

ب- المعاونة في تطوير تعليمات نموذجية تشكل أساس التفسير السلبي للأحداث التاريخية.

• من هذا المنطلق تصور تونيز وجود نسقين مميزين من العلاقات الاجتماعية يقوم كل منهما على أساس متباين من الإرادة ، النسق الأول فهو ما يسمى بالمجتمع المحلي بينما يطلقعلى النسق الآخر اسم المجتمع أو الرابطة ، ويختص كل من النسقين بعدد من السمات المميزة التي تقف على طرفي نقيض من بعضهما، فالاعتماد والعون المتبادل إلى جانب الارتباطالعاطفي الوثيق والمتبادل ونسق السلطة الذي يرتكز على عوامل السن والحكمة والقوة والخبرة هم أهم ما يميز نسق العلاقات الاجتماعية في المجتمع المحلي .

• وفي هذا الموقف يربط بين الأفراد التقاليد المعتمدة وروح الأخوة وفي مقابل هذا فإن أفراد المجتمع يبدون أكثر انعزالاً لتصل الفردية إلى أقصى درجاتها، وأن العلاقات التي تقوم بينالأفراد ذات طابع تعاقدي وانقسامي تشتمل على تبادل السلع والخدمات والأموال وسيادة قانون الالتزام وتمثل المدن الصغرى إلى جانب القرية أمثلة واضحة لعلاقة المجتمع الأصليوفي الطرف المقابل تمثل المدن الكبرى والعواصم القومية والميتروبوليس ما أسماه تونيز بالمجتمع أو الرابطة.

• وبهذا يتضح أن النمط النموذجي للمدينة محاولة لرسم صورة الخصائص العامة اللازمة للحياة الحضرية التي توجد دائماً في المدينة لكن مما يؤخذ على هذا هو صعوبة تطبيق هذا النموذج على مدينة معينة ، كما لا يمكن تطبيق هذا المدخل عملياً نظراً للاختلافات بين أنماط المدن حسب الحجم والتاريخ والوضع الاقتصادي وتقسيم العمل.

2) مدخل مركب السمات:

• ويتميز مدخل مركب السمات في استخدامه صفات أو خصائص ملموسة أو متغيرات يمكن إدراكها على المستوى الواقعي، كما أن هناك متغيراً أصيلاً تنبع منه كل المتغيرات الأخرى ، ومن أشهر ممثلي هذا المدخل كل من سوروكين وزيمرمان في كتابهما مبادئ علم الاجتماع الريفي والحضري.

• حيث اهتما بالتفرقة بين المجتمعات الريفية والحضرية على أساس المهنة باعتبارها متغيراً مستقلاً وهي البيئة، وحجم المجتمع، وكثافة السكان والتجانس واللاتجانس، والحراكالاجتماعي ، ونسق التفاعل، ويذهبا إلى توضيح ذلك على النحو التالي:-

1 - المهنة: حيث أكد سوروكين وزيمرمان أن الخاصية الأساسية للمجتمع الحضري هو أن معظم الأفراد يشتغلون أساساً بأعمال الصناعة والتجارة والإدارة.

• وفي مقابل ذلك يغلب العمل الزراعي على المجتمع الريفي الذي تكون قوة العمل الأساسية فيه قائمة على الأعمال الزراعية والمهن المتصلة به، ويرتبط بذلك أن العمل الزراعي لا يتضمن التخصص بل يمكن للفرد الواحد أن يقوم بأكثر من عمل وتمثل الأسرة طاقة أساسية في حجم قوة العمل.

• وإذا ما كان هناك عمال من خارج الأسرة فعددهم محدود ويعتمد على العلاقات الشخصية بين الفلاح ومن يستأجرهم وفي مقابل ذلك نجد أن المجتمع الحضري تسود فيه انفصال جماعات المهنة عن الجماعات القرابية والتخصص الدقيق في مجال العمل ومقاييس مختلفة للنجاح المهني كالتحصيل الدراسي المتخصص والخبرة والثقة والكفاءة وغير ذلك.

2- البيئه: حيث يتصل الريفين اتصالا مباشرا بالطبيعة او الارض وهذه الصلة تحدد نشاط السكان ونظرتهم للحياة ويكون للبيئة في حياة الريفيين هيمنة على البيئة الاجتماعية الإنسانية، أما سكان الحضر فهم منعزلون عن الطبيعة بشكل واضح لأن البيئة في الحضر من صنع الإنسان فهو خالقها وهو الذي طور الحياة في المدن.

3- حجم المجتمع: يتناسب حجم المجتمع الريفي مع حجم الارض التي يمارس السكان نشاطهم تناسباً عكسياً ويرجع ذلك إلى طبيعة العمل الزراعي الذي يحتاج إلى مساحة واسعة وعلى العكس من ذلك فإنه كلما زادت نسبة التحضر تزداد معها أحجام المجتمعات وبالتالي فالمدينة تمثل مساحة صغيرة نسبياً من الأرض يعيش عليها عدد كبير نسبيً من السكان.

4- كثافة السكان: حيث تتسم المجتمعات الريفية بانخفاض الكثافة السكان بالمقارنة بالمجتمعات الحضرية ويرتبط هذا المحك بالمتغير السابق كما تربط في المجتمع الحضري الخصائص بعلاقات طردية مع ارتفاع معدل الكثافة.

5- التجانس واللاتجانس: كما اكد سوروكين وزيمرمان على ان سكان المجتمع الريفي أكثر تجانساً إذا ما قورنوا بسكان المجتمع الحضري سواء كان هذا التجانس في مجال السمات العنصرية أو السيكولوجية أو الاجتماعية.

6- التمايز الاجتماعي والتدرج: حيث راوا ان التمايز الاجتماعي او التدرج الطبقي الذي يؤدى إلى قيام الطبقات الاجتماعية أمر لا يظهر في المجتمعات الريفية بينما يظهر هذا الأمر بوضوح في المجتمعات الحضرية كما أنه من الملاحظ أن التمايز والتدرج الطبقي في مجتمع القرية مرتبط بمسائل شخصية بحيث أنه من السهل على الفرد في مثل هذا المجتمع أن يعرف ويمارس مهنة الآخرين، هذا على عكس المجتمع الحضري الذي تتدرج فيه المهن تدريجاً هرمياً وحيث تؤسس المكانة الاجتماعية للفرد على أساس ما استطاع أن يحققه من كسب مادي بعيداً عن انتمائه لجماعة قرابية معينة.

7 - الحراك الاجتماعي : حيث لاحظا أن الحراك الاجتماعي أمر يكاد يكون غير موجود في المجتمع الريفي، ولكنه غير محدود وواسع النطاق في المجتمع الحضري نظراً لاتساع نطاق العمل والسوق وإمكانية تحقيق التطلعات الفردية بشكل أكثر من القرابة لكن يستثنى من ذلك معدلات التنقل السكاني (الهجرة) من جوانب الريف إلى المدينة.

8- نسق التفاعل: ولعل اهم ما يميز نسق التفاعل في المجتمع الريفي ان نطاق التفاعل مجاله بالنسبة للفرد أو الجماعة فيكون أكثر ضيقاً وغلبة للعلاقات الأولية على انساق التفاعل حيث تبرز العلاقات الشخصية والدائمة والشمولية بين الأفراد وعلى العكس من ذلك كان اتساع وكبر حجم المجتمع الحضري وارتفاع معدلات التغير بين سكانه سبباً مباشراً في اتساع نطاق التفاعل وغلبة العلاقات غير الشخصية والمؤقتة والمصلحة كما تبدو هذه العلاقات بدورها ذات طابع سطحي ورسمي وثانوي في كثير من الحالات بالتعامل الشخصي في المدينة كرقم وعنوان على حد تعبير سوروكين وزيمرمان. 

3) مدخل المتصل الريفي - الحضري

• لقد أقام روبرت ردفليد تصوره لفكرة المتصل الريفي- الحضري في كتابه الشهير ثقافة المجتمع الشعبي (الريفي) عند اليوكاتان حيث قام بدراسة أربعة مجتمعات محلية في شبه جزيرة اليوكاتان بالمكسيك

• وافترض أن كلاً منهما يمثل نقطة متميزة على طول متصل متدرج يبدأ بمجتمع الفولك وتنتهي بالمجتمع الحضري أي أن هناك تدرجاً مستمراً بين ما هو ريفي وما هو حضري ، وبالتالي فقد كشف ردفليد من دراسته الميدانية عن عدد من الخصائص المميزة بالمقارنة بغيره من المجتمعات الأخرى على النحو التالي:-

- إنه أقل أو أكثر ارتباطاً بالعالم الخارجي.

- إنه أقل أو أكثر ارتباطاً تغايراً أو غير متجانس.

- إنه أقل أو أكثر تقسيماً للعمل.

- إنه أقل أو أكثر تطويراً لاقتصاد السوق والمال.

- إنه أقل أو أكثر احتواءً على تخصصات مهنية أكثر علمانية.

- إنه أقل أو أكثر بعداً عن الاعتماد على الروابط والنظم القرابية.

- إنه أقل أو أكثر اعتماداً على مؤسسات ذات طابع غير رسمي للضبط الاجتماعي.

- إنه أقل أو أكثر تمسكاً بالعقيدة المسيحية الكاثوليكية.

- إنه أقل أو أكثر بعداً عن التمسك بالعادات والأعراف الاجتماعية.

- إنه أقل أو أكثر تسامحاً وتأكيداً للحرية الفردية في الفعل أو الاختيار.

• حيث أكد أن تناقص درجة التغير يجعله أكثر قرباً من المجتمع الشعبي أو الريفي وتشير زيادته إلى الاقتراب من النموذج الحضري كما يتيح الاختلاف النسبي لمدى تمثيل كل متغير فيأي نمط من المجتمعات المحلية من إمكانية وضعه على إحدى نقاط المتصل الريفي – الحضري.

• كما لاحظ ردفليد أن الخصائص العشرة يمكن أن توحد في ثلاث دعائم أساسية للتغير إلى المجتمع الحضري وهي:-

- تزيد الحضرية من درجة التفكك الثقافي للمجتمع حيث تفقد الثقافة وحدتها التقليدية وتميع الأنماط السلوكية ويصعب تحديدها كما يفتقد مظهر التكامل والارتباط المتبادل بين مقومات الثقافة كما يظهر عدم الاتساق بين المستويات والمعايير الثقافية.

- تزيد الحضرية من اتجاه الفرد نحو العلمانية أو الدنيوية حيث ترتبط النشاطات الحضرية من خلال توجهات عقلانية برجماتية )نفعية(.

- تزيد الحضرية من انتشار الفردية وزيادة سيطرتها على موجات السلوك الإنساني واختفاء الوظائف الجمعية وإحلالها بنشاطات فردية بحته تهدف إلى تحقيق مصالح الفرد في المقام الأول.

• وهكذا يتضح أنه يمكن من خلال هذا المدخل أن تضع كل مقومات الإنسان ونتائج نضاله مهما اختلفت خصائصها في أحد حلقات تلك السلسلة المتصلة والمترابطة ، وبالتالي يمكن أن نعتبر هذا المدخل الذي ينظر إلى الريف والحضر على أنهما علامتين على طريق واحد مدخلاً مختلفاً إلى حد كبير عن المدخلين السابقين إلا أن هذا المدخل يواجه مجموعة من الصعاب لعل من أهمها:-

- أن الخصائص التي يحددها هذا المتصل متغيرة وغير ثابتة وبالتالي فالمقاييس التي تحدد هذه الخصائص تتغير تغيراً ملحوظاً في ظل مجتمع محلي.

- لا يوضح لنا هذا المدخل طبيعة المراحل المتضمنة في المتصل الريفي الحضري والميكانزمات المطلوبة في هذا الانتقال.

- والنقد الأخير يتمثل في أن الحياة الريفية والحضرية لا يمكن تحديدها أو رسمها بحيث نحدد أين تنتهي القرية وأين تبدأ المدينة فلا توجد حياة ريفية بحته ولا توجد حياة حضرية بحته.

• ويؤكد ذلك أن الدراسة المقارنة للمدن في الوقت الحاضر خاصة في الدول النامية توضح استمرار فعالية الرواسب القروية في توجيه الحياة في المدن إلى جانب طبيعة وضع المدن في بلادنا التي تقع وسط الأرض الخصبة كما في مصر والتي تجعل سكان محيطها الخارجي دائما يقتربون أكثر من غيرهم إلى داخل المدينة أكثر من الحياة الريفية سواء من حيث المهنة أو من حيث طبيعة الحياة.

رابعاً: طبيعة المدينة ومشكلاتها

• تواجه المدينة في معظم أنحاء العالم مشكلات وأزمات حادة مثل مشكلة الفقر والمناطق العشوائية والإسكان والتلوث وأزمة المواصلات، وتعد هذه المشكلات وغيرها نتيجة للتغير التكنولوجي وما ارتبط بذلك من نمو المدن وتضخمها في العصر الحديث، ولذلك يقرر بعض الباحثين إلى أن التكنولوجيا غير قادرة على حل المشاكل التي تخلقها إلا إذا استعانت بالعلوم الإنسانية وفي مقدمتها علم الاجتماع.

• وفي هذا السياق يحدد مصطفى الخشاب أهم الآثار الاجتماعية للتقدم التكنولوجي فيما يلي:-

أ- أن الأسرة تمثل أول وحدة اجتماعية استهدفت للتغير في حجمها وبنيانها ووظائفها والعلاقات التي تربط بين عناصرها والحقوق والواجبات الأسرية، فقد قضى التقدم التكنولوجي على الأسرة بوصفها وحدة إنتاج وأدى إلى تشتيت عناصرها وأتاح للأفراد الحرية وقضى على سيادتها وسيطرتها وتضيق نطاق الأسرة من ناحية الحجم ومن ناحية الإطار المورفولوجي الذي تشغله.

ب- أدى التغير التكنولوجي إلى نمو المدينة وتضخمها حيث أخذت في الاتساع والنمو على حساب القرى وبالتالي إلى تعقد مظاهر الحياة الاجتماعية فيها وتركز المشكلات كلما تركز السكان ، مما أدى إلى انتشار أزمات عديدة في المدن مثل أزمة البطالة والإسكان والفقر وتكدس المواصلات وتلوث البيئة الحضرية.

ج- ويرتبط بالتقدم التكنولوجي انهيار سلطة القيم الروحية للهيئات الدينية نظراً لانتشار التيارات العلمانية والاستعداء على مناطق نفوذ الدين، هذا إلى أن التقدم التكنولوجي قد طبع الحياة بالنزعة المادية وركز اهتمامات الأفراد على تحقيق الغايات الدنيوية دون الأخروية.

د- أما العامل بوصفه العنصر البارز في الإنتاج الصناعي فقد قلب التقدم التكنولوجي وضعه الخاص والعام رأساً على عقب ، وكان أكثر العناصر الاجتماعية خضوعاً لعمليات لا حصر لها وتغيرات واضحة المعالم في وضعيه الصناعي والاجتماعي حيث أصبح العامل يعاني من الآلام السيكولوجية التي تتمثل في الملل والسأم لأن التكرار المستمر لحركات رتيبة تؤدى إلى إجهاد الجهاز العصبي بأكمله.

• ومن هنا سوف نحاول أن نركز على أهم المشكلات الحضرية المزمنة التي تعاني منها المدينة في الآونة الأخيرة ليس حصراً ولكن نظراً لخطورتها وتفاقمها وهي على النحو التالي:-

1) مشكلة الفقر الحضري:

• أن الفقر حالة اجتماعية تتحدد من خلال ردود الفعل المجتمعية باعتبارهم فئة اجتماعية متميزة عن باقي أفراد المجتمع ، أي أن الفقر واقع اجتماعي يتطلب التفسير.

• ويذهب (الكردي) إلى أن فقراء الحضر ظاهرة قائمة واضحة القسمات تكونت أساسا نتيجة للتفاوتات الضخمة التي نلحظها في إمكانات الأفراد وطاقاتهم وأنصبتهم من الدخل من الدخل، والتعليم وأوضاعهم المهنية وما يتمتعون به من خدمات أتاحتها لهم المتغيرات السابقة، وبخاصة فيما يتعلق منها بالسكن والعلاج، وليس بلازم أن يكون الفقراء نازحون من المجتمع الريفي، وإنما هناك شريحة واضحة من أبناء الطبقة الفقيرة الحضرية ، ولم تمكنهم ظروفهم من تحقيق مستوى معيشي ملائم لحياة المدينة ومتطلباتها.

• ولهذا فقد أكد بعض الباحثين إلى أننا لو نظرنا إلى الفقر الحضري نظرة بنائية تاريخية فسوف نلحظ ثلاث عوامل أساسية للفقر فيما يلي:-

1. فشل توقعات كثير من الدول النامية بحجم وخطوات التحضر السريع وعدم القدرة على مواجهة قضايا التحضر ومشكلاته.

2. عدم قدرة القطاع الحضري الرسمي على النمو والتوسع وامتصاص قوة العمل الحضرية المتزايدة.

3. عدم قدرة النظم الحكومية الرسمية على توسيع الخدمات الحضرية الأساسية وبناء البنية التحتية لتساعد على تلبية حاجات السكان الحضريين المتزايدة.

• وفي الواقع إنه في ظل العولمة فسوف يتزايد عدد الفقراء الحضري في الحضر ، وعلى هذا فإن أي سياسة تقوم على الإصلاح الجزئي لأوضاع الفقراء في المجتمع الحضري سيكون محكوماً عليها بالفشل أن لم توضع إستراتيجية متكاملة لتطوير أوضاع الفقراء في الحضر ، وتكون جزءا من إستراتيجية شاملة للتنمية البشرية تكون قادرة على الارتقاء بالإنسان الفقير مادياً ومعنوياً وثقافياً ليباشر دوره الفعال في مسيرة التنمية .

• وبالتالي فهناك حاجة ماسة إلى تبني إستراتيجية شاملة للتنمية البشرية من أجل التخطيط من حدة مشاكل الفقراء وأن تحتوى على ثلاث ركائز أساسية وهي:-

1. منهج اقتصادي يقوم على إنشاء صندوق للخدمات الاجتماعية يوفر قروضاً بفوائد مخفضة لذوى الدخول المحدودة أو الضعيفة ، والاهتمام بتطوير الصندوق الاجتماعي للتنمية ليكون شبكة أمان اجتماعي وذلك من خلال مضاعفة موارده المالية حتى يستطيع أن يؤدي دوره بفاعلية.

2. منهج يقوم على مبدأ الرفاه الاجتماعي ويطبق فقط على الفقراء فقرا معدما ولا يستطيعون مساعدة أنفسهم للخروج من حالة الفقر مثل المسنين والأرامل واليتامى وغيرهم.

3. منهج يقوم على تكوين رأس المال البشري ويطبق على هؤلاء الذين يستطيعون مساعدة أنفسهم ولكنهم أضيروا من إعادة الهيكلة الرأسمالية ويحتاجون بشدة للحصول على خدمات الرعاية الصحية والتعليمية وخلق فرص العمل.

2) مشكله البطاله في المجتمع الحضري

• تعد ظاهرة البطالة واحدة من أخطر المشكلات التي يترتب عليها أثارا اجتماعية خطيرة، فقد أكدت غالبية الدراسات وبخاصة الأمبريقية منها إلى وجود علاقة طردية بين البطالة والتطرف والعنف حيث أن غالبية المتعطلين وبخاصة أن الذين يعانون من نمط البطالة يعانون من إحباطات اجتماعية ونفسية واقتصادية تسفر في كثير من الأحيان عن إفراز حالة من التطرف بمضمونه الأيديولوجي (الفكري) أو محتواه الديني (العقائدي) وقالبه العنصري (العرفي) الأمر الذي يتخذ صورة العنف تجاه الذات أو الجماعة أو المجتمع كله.

• وتعرف البطالة بشكل عام بأنها حالة عدم قدرة الشخص على أن يبيع قوة عمله في سوق العمل رغم رغبته في ذلك.

• وقد حدد "فالنتينو بيانا" أن البطالة تعنى هؤلاء الناس الذين يرغبون في العمل ولا يجدونه حالياً وبالتالي تشمل البطالة كل الأشخاص الذين فوق سن معينة ، وقد حدد ثلاثة شروطأساسية وهي:-

1. عدم وجود عملاً ، بمعنى الذين ليس لهم وظيفة مدفوعة الأجر أو يعملون أعمالاً حرة.

2. البحث عن العمل بمعنى اتخاذ اجراءات للحصول على الوظيفة مدفوعة الأجر، وتتمثل هذه الإجراءات في التسجيل بالمكاتب الخاصة والعامة للتشغيل وكذلك الذي يتابع الإعلانات فيالصحف والمجلات أو أجرى مقابلات من أجل العمل أو الوظيفة.

3. الرغبة في قبول الوظيفة مدفوعة الأجر أو العمل الحر.

• والجدير بالذكر هنا أن ظاهرة البطالة قد أخذت منحنى جديداً في الآونة الأخيرة تحت تأثير التطبيق الصارم لبرنامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي الذي يعتمد على سياسة التقشف وترشيد الإنفاق لتقليل العجز الكبير في الموازنة العامة للدولة، وبالتالي فكانت لتلك السياسات تأثيراً جليا في خفض الطلب على العمالة وزيادة معدلات البطالة في بعض الدول بسبب العوامل التالية:-

1. تخلى بعض الدول نهائيا على الالتزام بتعيين الخريجين وتجميد التوظيف الحكومي وعدم ارتباط سياسات التعليم باحتياجات سوق العمل.

2. تقليص دور الدولة والقطاع العام في النشاط الاقتصادي مما أدي إلى تراخي الاستثمار الحكومي في خلق طاقات إنتاجية جديدة تستوعب الأيدي العاملة العاطلة.

3. خفض معدل الإنفاق العام الموجه إلى الخدمات الاجتماعية الضرورية كالتعليم والصحة والإسكان الشعبي مما أدى إلى خفض موازي في طلب الحكومة على العمالة المشتغلة بهذه القطاعات.

4. ضعف النمو في القطاع الزراعي بسبب تناقص الرقعة الزراعيه وضالة الاراضي المستصلحة مما ترتب عليه خلق فائض سكان نسبي بالريف أخذ يتدفق إلى المدن بحثاً عن العمل.

5. زيادة أعباء الديون الخارجية لبعض الدول النامية.

6. الاتجاه إلى نزع الملكية العامة وتحويلها إلى القطاع الخاص وهي ما تعرف باسم سياسة الخصخصة والتي ترتب عليها تسريح للعمالة إلى المعاش المبكر.

7. استخدام وسائل تكنولوجية لا تسمح باستيعاب أعداد كبيرة من العمل سواء عبر الاستثمار العام أو الخاص أو الأجنبي. 

• ونتيجة لتعدد وتشابك العوامل المؤدية إلى ظاهرة البطالة وما يترتب عليها من مصاحبات اجتماعية خطيرة على المجتمع الحضري بصفة خاصة ، فقد تبنت الحكومات في الدول الناميةأربعة أنماط من السياسات العامة لزيادة فرص العمل تمثلت فيما يلي:-

1. سياسات إعادة التوزيع السكاني لمنع التركز السكاني الزائد للعمالة النشطة اقتصاديا في المدن الكبرى.

2. سياسات اعاده التكيف الاقتصادي على المستوى الماكرو بهدف خلق بيئة ملائمة لزيادة فرص العمل.

3. سياسات تنمية الموارد البشرية بشكل أفضل لمساعدة قوة العمل في التوظيف في القطاعات الاقتصادية الحديثة.

4. تشجيع الاستثمار الخاص والعمل على تطور المشروعات ذات الأولوية الهامة على المستوى الاقتصادي.

3) مشكله الاسكان الحضري

• يعد المسكن الملائم أهم مقومات حياة الأسرة، وفي ظله تقوم الأسرة بوظائفها وتنأى عن كثير من المشكلات الصحية والتربوية والأخلاقية وتتوفر لها العمل المثمر .

• أن سوء حالة المسكن وعدم استبقائه لوسائل الصحة وعدم تناسبه مع حجم الأسرة يؤثر تأثيراً بالغاً في جميع أنماطها ومظاهر سلوك أفرادها.

• ولهذه الأسباب وغيرها اهتمت الدول النامية بوضع سياسات ثابتة لتوفير المسكن الصالح على أساس من الدراسة والبحث وتقصى المشكلات ، ومما دفع الدول إلى الاهتمام بهذاالمرفق الظروف الخطيرة التي هددته وجعلته مشكلة المشاكل في العالم الحديث المعقد.

• لذا أصبح السكن أو المأوى من أهم المشاكل الحيوية التي تواجه التنمية في دول العالم النامي بوجه عام، والتنمية الحضرية بوجه خاص.

• ومشكلات الاسكان الحضرية عادة ناجمة عن عدم التوازن بين الموارد وبين الخدمات الحضرية ولاسيما حينما تصل الحضرية إلى مداها في درجة الحدية، وعليه يكون العجز في مواجهة أزمة الإسكان باعثاً نحو قيام العشوائيات الحضرية من منطلق المسكن، ولكن المشكلة بعد ذلك تعد أكثر تعقداً وتشابكاً في أبعاد كثيرة اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولكن الذي لاشك فيه أن سبب المشكلة ارتبط منذ البداية الأولى بالتضخم السكاني وعدم توازنه مع الموارد والفرص المتاحة أمام الناس .

• وفي هذا السياق يمكن تحديد أسباب أزمة الإسكان الحضري في الدول النامية في إطار مجموعة من العوامل البنائية والتي تتمثل فيما يلي:-

1. التناقضات الشديدة المرتبطة بتحديد وتوجيه سياسات التنمية القومية ويؤثر ذلك على اختيار أولويات التنمية وديمقراطية صنع القرار وتنفيذ الآليات على المستويات التخطيطية فيالكثير من الدول.

2. الاختلافات في التنمية الإقليمية والتفاوتات الإنتاجية وخاصة عند وجود درجة عالية من التصنيع التابع والهامشية الاقتصادية للمناطق الريفية.

3. طريقة التدخل الرسمي في التنمية الحضرية وبخاصة في توفير الخدمات والبنية التحتية بشكل لا يتلاءم مع حاجات المدن والنمو السكاني.

4. معدلات النمو الاقتصادي والتحولات الاجتماعية المتدنية والتي لا تتوافق عادة مع الحاجات الوظيفية ومعدل النمو السكاني ونوعية التحضر.

5. التفاوتات الكبيرة في توزيع الدخل القومي والتي تنعكس سلبياً في زيادة الفجوة بين المجتمعات الريفية والحضرية في مستويات المعيشة وظروف التنمية البشرية.

6. قلة السياسات التنظيمية الفعالة في الإسكان الحضري والتنمية الاستيطانية.

4) مشكله التلوث الحضري

• التلوث والبيئة أصبحا مرادفات ومتلازمات في الأداء الوظيفي لكل منهما، وعلى هذا أخذت الدراسات الحديثة في علم الاجتماع الحضري في توجيه مزيد من عنايتها لموضوع تلوث البيئة ، ولما كانت الاختراعات العلمية الحديثة تنطلق من المراكز الحضرية ولما كانت تطبيقاتها التكنولوجية تتخذ من المراكز الحضرية مستقرا ومستوطناً لها فإنه يترتب على ذلك تزايد فعال في حجم الآلات والمصانع والمركبات وغيرها مما ينفث نفاياته في المجتمعات الحضرية بشكل خاص.

• والبيئة في أبسط معانيها هل كل ما هو خارج عن كيان الإنسان وكل ما يحيط به من موجودات ، وهي الإطار الذي يمارس فيه حياته ونشاطاته المختلفة ، وأن أهم ما يميز البيئة الطبيعية هو ذلك التوازن الدقيق القائم بين عناصرها المختلفة، وأن أي تغير في جوانبها سرعان ما يكون له أثار واضحة في ذلك، ولذا فإن البيئة تسير في إطار مرسوم يطلق عليه النظام البيئي ويمثل الإنسان أحد العوامل الهامة في هذا النظام البيئي بل هو أهم عناصر الاستهلاك التي تعيش على سطح الأرض.

• ولذلك فإن تدخل الإنسان غير الواعي وغير القائم على سند علمي أو معرفي بعواقب هذا التدخل فإنما ينذر بنتائج وخيمة في إفساد ذلك التوازن، وقد كان الانفجار السكاني أثره الواضح في الطلب المتزايد على الغذاء والذي ألقى عبئاً كبيراً على الموارد الطبيعية التي تتوفر في البيئة المحيطة بالإنسان، فضلاً عن أن الزيادة الكبيرة في أعداد السكان تؤدى إلى فساد البيئة وتقلل من صلاحيتها للمعيشة الإنسانية.

• فتكدس السكان في المدن الكبيرة مثلاً ينتج عنه أضرار كثيرة ، فالطرقات المملوءة بالسيارات والمركبات وعوادمها السامة وزحامها الشديد، والضغط على محطات القوى والوقود والطلب المتزايد على مياه الشرب النقية والحاجة إلى توفير محطات الصرف الصحي الملائمة ، كل ذلك يجعل بعض الأجهزة المسئولة يعجز عن الوفاء باحتياجات السكان ، وذلك لأسباب عديدة وبذلك يكون الحد من التضخم السكاني غير المحسوب في مقابل الموارد المتاحة .

• من هذا المنطلق أصبح تلوث البيئة ظاهرة حية يحس بها الجميع ، فلم تعد البيئة قادرة على تجدي مواردها الطبيعية مما أدى إلى اختلال عناصرها المختلفة ، فلم تعد هذه العناصر قادرة على تحليل مخلفات الإنسان أو استهلاك النفايات الناتجة عن نشاطاته المختلفة ، فأصبح جو المدن ملوثاً بالدخان والغازات .

• ونتيجة خطورة مشكلة التلوث وضرورة الاهتمام بالبيئة طرح منذ أول السبعينات شعارات تنمية بلا تدمير، وتنمية أكيولوجية تشير إلى ضرورة تحقيق الوئام بين متطلبات مشروعاتالتنمية ومقتضيات حماية البيئة (موارد وتلوث) وفي أواخر الثمانينات طلعت علينا لجنة برونتلاند بشعار التنمية المستدامة أو القابلة للاستدامة وقد تبنى مؤتمر وزراء البيئة العرب هذاالشعار في الاجتماع الذي عقد في القاهرة عام 1991 تمهيداً للمشاركة العربية في قمة الأرض في ريو دى جانيرو عام 1992 .

• وبالتالي أصبح هدف التنمية المستدامة هو الوفاء بطلبات الحاضر دون المساس بحقوق الأجيال القادمة وقدرتها على توفير احتياجاتها والالتزام بشروط ثلاثة:

1. ترشيد استخدام الموارد غير المتجددة وهذا امر واضح ومبدأ اقتصادي عقلاني لا يحتاج إلى شرح أو تبرير ، فرصيدنا منها محدود وأحياناً غير معروف وحسن استخدامه واجب.

2. عدم تجاوز قدرة الموارد المتجددة )نباتية أو حيوانية ، أرضية أو مائية( على تجديد نفسها حتى لا تندثر وتفنى إلى غير رجعة.

3. عدم تجاوز قدرة النظام البيئي على هضم المخلفات حتى لا يتلوث النظام البيئي تلوثاً يضر بالإنسان والحيوانات على حد سواء.

5) مشكله المناطق المختلفة بالمدينه

• في الواقع تشكل المناطق المتخلفة بالمدينة موضوعاً أساسيا من الموضوعات المرتبطة بالمشكلات الحضرية ، كما أنها تكشف في ذات الوقت عن نوعية الحياة السائدة في قطاع حضري، ولاشك أن ظهور هذه المناطق المتخلفة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظاهرة الفقر، فتنمو في ظله وتستمد منه تأثيراتها في المجتمع الحضري بأكمله. 

• ويطلق على المناطق المتخلفة مسميات عدة ومن أكثرها استخداماً:-

1. مناطق واضعي اليد وتشير إلى المناطق السكنية التي يسكنها فئات اجتماعية معينة عن طريق وضع اليد على أراضي فضاء مملوكة للدولة وتتسم بمساكن منخفضة المستوى.

2. المناطق التلقائية أو الطفيلية وهي مناطق تقع على أطراف المدن وتتكون من مساكن متدنية المستوى من حيث المواد المستعملة في البناء كما أنها محرومة من الخدمات الحضريةمثل المياه النقية والكهرباء والصرف الصحي ولا يتمتع ساكنو هذه المناطق بأي سند قانوني للملكية أو إيجار لهذه المساكن.

3. المناطق المستقلة ، واستخدم هذا المصطلح المهندس المعماري جون تيرنر لتعريف مساكن واضعي اليد في أمريكا اللاتينية.

• وتعتبر المناطق الحضرية المتخلفة ظاهرة اجتماعية تعبر عن واقع اجتماعي واقتصادي وفيزيقي معين، ويقيم بها مجموعة كبيرة من الناس رغم أنها مناطق ضيقة المساحة وغير ملائمة للحياة والسكن بها، وترمز هذه المناطق إلى غياب العدل الاجتماعي وعدم المساواة وعدم المسئولية الجمعية .

• كما تدل على عدم التكافؤ الاجتماعي بين المواطنين ، وهذه المناطق عادة ما تكون مناطق تفريغ لمشكلات المدينة وينتشر بها كثير من مظاهر السلوك المنحرف، وهي تأوي مجموعة من الناس مقهورون على أمرهم يعانون من وجودهم بها، كذلك فالمجتمع الأكبر يعاني من وجود هذه المناطق التي ترمز إلى التخلف الحضاري.

• أن تطوير المناطق المتخلفة يجب أن ينطلق من فلسفة مؤداها: أنك إذا لم تستطيع مواجهتهم فإنك ممكن أن تتحالف معهم ، وقد حدد مارتن أربع مميزات لهذه الفلسفة البرجماتية تتمثلفيما يلي:-

1. أنها تحافظ على الإسكان منخفض التكاليف في المناطق الموجودة بها.

2. أنها تحافظ على البناء الداخلي للمجتمع المحلي.

3. أنها تحافظ على النظام الاقتصادي القائم والفرص المتاحة لفقراء الحضر..

4. أما البديل الآخر والذي يطلق عليه إعادة الإسكان فإنه يعمل على سيادة الاضطراب الاجتماعي وحدوث فوضى داخل المنطقة وبالتالي فهو موقعاً أقل تفضيلاً.

الخاتمة :

  على الرغم من وجود مشكلات مشتركة تواجه المدن المعاصرة إلا أن هناك عناصر ثقافية واجتماعية واقتصادية يجب أخذها في الاعتبار عند تناول هذه المشكلات ، وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة قد خلفت مشكلات حضرية عديدة ، إلا أنها ليست قادرة على حل هذه المشكلات كما يؤكد الكثير من الباحثين.

• ورغم هذا فإن المدن المعاصرة أياً كان حجم المشكلات التي تواجهها فإنها تكافح من أجل البقاء والاستمرار في إثراء الحياة الانسانية برغم ما تواجهه من صعاب ، فلقد وجدت المدن الحضرية لتبقى ومن هنا فإن البحث الحقيقي يجب أن يتجه نحو خلق حياة حضرية أكثر إشباعاً وهدوءاً وسعادة.

المحاضرة 7

التلوث البيئي والحياة الاجتماعية الحضرية 

عناصر المحاضرة

أولاً: موضوع البحث وأهدافه

ثانياً: المفاهيم الأساسية للبحث

ثالثاً: الإطار النظري للبحث

أهداف المحاضرة

- الإلمام بموضوع البحث وأهدافه

- التعرف على المفاهيم الأساسية للبحث

- توضيح الإطار النظري للبحث

أولاً: موضوع البحث وأهدافه

• يعتبر التلوث البيئي من القضايا المحورية التي شغلت أذهان علماء البيئة والاجتماع والأنثروبولوجي في الوقت الراهن، نظرا لأن هذه القضية تمثل أبرز التحديات الحضارية لأي مجتمع ،كما أن آثارها المدمرة تمتد لتشمل غالبية دول العالم.

• لذا فقد أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر عام 1990 بأن من حق كافة الأفراد الحياة في بيئة ملائمة لصحتهم ولرفاهيتهم ، وهذا الإعلان يؤكد على ضرورة تكاثف الجهودالدولية للقيام بدور مهم في النهوض بحماية البيئة العالمية من مخاطر التلوث لكي يعيش الإنسان في عالم خالٍ من التلوث المدمر من أجل زيادة الإنتاج وتحقيق الرفاهية.

• لكن الجدير بالذكر هنا أن قضية التلوث لا تقتصر على المجتمعات النامية فحسب، وإنما تمتد لتشمل المجتمعات المتحضرة والنامية على حد سواء، بل أن التلوث البيئي أصبح ظاهرةصارخة تدعونا للحذر والانتباه ليس في البيئة الحضرية المكتظة بالسكان فقط ولكن في البيئة الريفية أيضا حيث أنها أصبحت تتعرض للتدمير بشكل أكثر سرعة وعنفاً عما كان يحدث فيالماضي القريب وعما يحدث الآن في البيئة الحضرية.

• كما تتعرض البيئة على النطاق العالمي لأخطار حقيقية وكوارث بيئية ، غير أن قضية التلوث تبدو أكثر إلحاحاً في دول العالم النامي نظراً لنقص الإمكانيات التكنولوجية والمادية والثقافيةوضعف الموارد المادية بها وعجزها عن توفير الاحتياجات الأساسية لغالبية السكان.

• بل والأكثر من ذلك فما زالت هذه المجتمعات تعاني من تدني مستويات الخدمات الاجتماعية والصحية وتكدس السكان في الأحياء الشعبية المتخلفة ، وانتشار المناطق العشوائية فيالحضر فضلاً عن قلة الدراسات التي تكشف عن مصادر التلوث ومنابعه الأساسية مما يهيئ المناخ للتلوث البيئي على نطاق واسع.

• وبناءاً على ما سبق فإن دراسة هذه القضية يعتبر أمراً مهماً للتعرف على مظاهر التلوث وأبعاده المختلفة في الحياة الحضرية بصفة عامة والأحياء المتخلفة بصفة خاصة والعواملوالأسباب التي تقف وراء ذلك.

• وفي ضوء ذلك سوف نقوم بدراسة إحدى الظواهر التي يعاني منها المجتمع الحضري وهي ظاهرة التلوث البيئي في سياق الحياة الحضرية والمناطق المتخلفة وتحليل كافة الجوانبالمتشابكة المؤدية إلى هذه الظاهرة ومصادرها والآثار الناجمة عنها وهذه الدراسة مطبقة على المجتمع المصري.

• وفي ضوء أهمية البحث المطروحة وهدف الدراسة المعلن فإن هذه الدراسة تستند إلى متغيرين أساسيين هما:-

1. المتغير المستقل: ويتمثل في ظاهرة التلوث البيئي من حيث مظاهرها ومؤشرات وجودها واتجاهات انتشارها.

2. المتغير التابع: ويتمثل في التأثيرات الناجمة عن تواجد هذه الظاهرة وامتداد تأثيرها على حياة السكان وصحتهم في المناطق الحضرية المتخلفة.

• ولتحقيق أهداف الدراسة وأغراضها كان من الضروري اتخاذ إجراء منهجي يتمثل في صياغة مجموعة من التساؤلات تعتبر بمثابة إطار تنظيمي تتجمع من خلاله البيانات التي تساعد علىحل مشكلة البحث وهي:-

1. هل تلعب التغيرات الايكولوجية في الحياة الحضرية والأحياء المتخلفة دوراً رئيسياً في إحداث ظاهرة التلوث؟

2. ما أهم العادات والأنشطة اليومية المرتبطة بالتلوث البيئي في الأحياء الحضرية المتخلفة؟

3. ما مدى وعي سكان المناطق المتخلفة بمفهوم ومضمون التلوث البيئي والمخاطر الناجمة عنه؟

ثانياً: المفاهيم الأساسية للبحث

• ستتناول هذه الدراسة عدداً من المفاهيم المستخدمة وهي مفهوم التلوث ومفهوم التحضر ومفهوم المناطق المتخلفة على أساس أن هذه المفهومات تمثل مطلباً حيوياً في توجهالدراسة الميدانية وتوضيح منطلقاتها النظرية، ولذا يجب الإشارة إلى الاختلاف القائم بين هذه المفهومات ومدلولاتها النظرية وبين تطبيقاتها الواقعية.

(1) مفهوم التلوث البيئي: التلوث البيئي كمفهوم علمي ليس من السهل تحديد معناه بدقة ، إذ غالباً تعتبر المادة ملوثة في مكان بينما تكون مورداً نافعاً في مكان أو نسق آخر، ومن هنايعرف التلوث البيئي بأنه تغير غير مرغوب في الخصائص الفيزيقية أو البيولوجية أو الكيمائية للهواء والأرض والماء على نحو يؤذي الحياة البشرية أو حياة الأنواع الأخرى أو يؤدى إلى تدميرالوضع الطبيعي وتخريبه.

• وهذا ما يبين أن التلوث لا يمثل ظاهرة من صنع الإنسان فقط بل توجد بعض العوامل البيئية التي يمكن أن تكون بذاتها ملوثة دون أي تدخل من جانب الإنسان في إيجادها أو تغييرها،وعلى هذا يعرف التلوث البيئي بأنه عبارة عن حدوث خلل وتغيير في الحركة التوافقية التي تتم بين مقومات النسق الايكولوجي بحيث تضعف فاعلية النسق وقدرته على أداء دورهالطبيعي في التخلص الذاتي من الملوثات وبخاصة العضوية منها، عن طريق العمليات الطبيعية أي هو الإخلال في التوازن البيئي.

• ويرجع البعض التلوث إلى مصدرين أساسيين وهما:-

• التلوث البيئي بفعل العناصر البيئية ذاتها مثل الغازات والحمم البركانية التي تقذفها البراكين والأتربة التي تثيرها الرياح والعواصف الرملية، أما المصدر الثاني فهو التلوث البيئي بفعلالنشاط الإنساني خاصة في أعقاب الثورة الصناعية ومخلفات التصنيع .

• ووفقاً لذلك يعرف أحد الباحثين أن التلوث البيئي باعتباره كل ما يطرأ على الصفات الفيزيقية أو الكيمائية أو البيولوجية للبيئة مما يؤثر على الإنسان أو على ما يربيه من حيوان أو ما ينميهمن موارد الزراعة، والرعي أو على ما يكون لديه من مقتنيات ثقافية وحضارية.

• هذا وفي ضوء اتساع الخلاف في وجهات النظر حول تعريف التلوث البيئي فإن المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة يرى أن التلوث يوجد عندما تحدث تأثيرات مباشرةللأنشطة الإنسانية التي تحدث في حالة الوسط بشكل يخل بعض الاستخدامات أو الأنشطة التي كان من الممكن القيام بها في حالته الطبيعية.

• أي أن ظاهرة التلوث البيئي والأضرار التي تنجم عنها ومواطن الخلل في هذه العلاقة وفي إطار ذلك فإن الباحث يعرف التلوث البيئي بأنه كل تغير في الخواص الطبيعية للبيئة بشكليؤدي إلى اختلال التوازن البيئي الطبيعي، ويعطل من قدرة النظم البيئية سواء كان هذا التغير أتى بفعل الإنسان أو بفعل الطبيعة ذاتها.

• ( 2 ) مفهوم التحضر: التحضر في مفهومه العام هو ظاهره تتعلق بالحياه في المدن، وفي البداية يجب التفريق بين التحضر والحضرية كما يلي:-

• فالحضرية هي اتجاه يتجسد في ظاهرة تشهدها كل المجتمعات البشرية وتعني إقامة الناس واستقرارهم في تجمعات حضرية ) قد تأخذ شكل المدينة( وتتبلور في التغير النوعي الذي يحدث في أنماط تفكيرهم وسلوكهم تجاه الأنشطة السائدة ونمو التنظيمات القائمة.

• أما مصطلح التحضر فرغم صعوبة تحديده بشكل مغاير عن الحضرية إلا أنه لا يخرج عن كونه عملية ونتيجة في ذات الوقت فهو عملية من عمليات التغير الاجتماعي تتم عن طريق انتقال أهل الريف أو البادية إلى المدينة وإقامتهم بمجتمعها المحلي ، وبمعنى آخر هو عملية إعادة توزيع السكان من الريف إلى المدن والمراكز الحضرية الأخرى.

• أي أن مفهوم الحضرية يشير إلى حالة أو طريقة للحياة بينما التحضر هو عملية الحراك السكاني إلى المدن حيث يتم ذلك من خلال حركة الناس وانتقالهم إلى المناطق الحضرية.

• كذلك يشير أحد الباحثين إلى تعريف التحضر باعتباره يشير إلى حركة السكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية وما يتبع ذلك من تزايد نسبة السكان المقيمين في المناطق الحضرية عن نسبة الذين يقيمون في مناطق ريفية إلى جانب انتشار أنماط السلوك وأساليب الفكر الحضرية فضلاً عن الدور الذي تلعبه وسائل الاتصال في نشر الثقافة الحضرية إلى المناطق الريفية.

• وفي هذا الصدد يقسم – كوستيللو- عملية التحضر إلى عنصرين أساسيين وهما:-

1. التحضر الطبيعي ويعنى به أماكن الإقامة وحركة السكان الديموجرافية.

2. التحضر الاجتماعي ويعني به العمليات الاجتماعية التي يكتسبها الناس عن طريق الثقافة المادية وغير المادية أو أنماط السلوك والتفكير التي تمثل خصائص مميزة للمدينة.

• وعلى هذا فإننا نفهم ظاهرة التحضر على أنها ظاهرة اجتماعية دينامية يتم بواسطتها انتقال أهل الريف إلى المدن واكتسابهم تدريجياً أنماط الحياة الحضرية إلى جانب أنها عملية تحمل في مضمونها عناصر التغير الاجتماعي والثقافي السريع وذلك لرغبة الإنسان الأكيدة في التحضر.

• ( 3 ) مفهوم المناطق المختلفه: هناك من يرى ان المناطق المختلفه هي مجموعه من الأكواخ والعشش المبعثرة في أطراف المدينة ، وفي مقابل هذا الرأي يرى فريق آخر أن المناطق المتخلفة هي المساكن القديمة الآيلة للسقوط والمتهالكة والتي توجد في قلب المدينة، ومنهم من يعرفها في ضوء الأحوال المعيشية للسكان الذين يعيشون فيها والأوضاع الثقافية الخاصة بهم ، في حين يرى فريق رابع بأنها منطقة تضم مساكن الفقراء والغرباء والنازحين إلى المدينة سعياً وراء الرزق.

• هذا وفي ضوء اتساع الخلاف بين وجهات النظر حول تعريف المناطق المتخلفة ذهب بعض العلماء والدارسين إلى أنه قد يكون من المناسب تعريف المناطق المتخلفة بشكل عام بأنها المناطق غير الملائمة لحياة الإنسان وغالباً ما تقع بالقرب من مراكز المدن أو من المناطق الصناعية وتتسم بالازدحام السكني والتكدس السكاني ونقص الخدمات وعدم التنظيم الاجتماعي.

• وهذه المناطق ليست مقتصرة على مجتمع دون الآخر ولكنها كما يقول – ميللور- أنه أصبح من الواضح أن المناطق المتخلفة التي توجد في مدينة ليست هي المناطق المتخلفة التي توجد في أخرى أو حتى في نفس المجتمع الواحد.

• أن هذه المناطق تزداد بصورة أكثر حدة في دول العالم النامي نظراً لعدم وجود الإمكانات المتاحة لمواجهتها أو التقليل منها، وبرغم تباين آراء العلماء في تحديد مفهوم المناطق المتخلفة فمن الممكن دراستها دراسة علمية والتأكد من وجودها في كل مدن العالم ولكن بشكل متفاوت .

• وخلاصة القول يرى الباحث أن المناطق المتخلفة هي منطقة سكنية تعاني من نقص شديد في الخدمات والمرافق وتتسم بالتكدس السكاني والسكني وتفتقد إلى التيسيرات الحضرية والرعاية الاجتماعية والصحية وتكثر بها الحرف اليدوية والصناعات البسيطة ولها سماتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والفيزيقية المميزة لها.

ثالثاً: الإطار النظري للبحث

• تنطلق هذه الدراسة من فكرة محورية مؤداها: أنه إذا كانت المدينة تمثل المنبع الأساسي للتلوث باعتبارها مصدر الضوضاء والمخلفات الصناعية وعوادم السيارات أو كمراكز للتجارب البحثية والإشعاعية فإن الأحياء الحضرية المتخلفة التي انتشرت في أرجاء المدن أصبحت الآن تمثل خطراً داهماً ليس فقط باعتبارها بؤرة الفساد والإرهاب ولكن أيضا لانتشار مظاهر التلوث بها.

• حيث قامت هذه المناطق في وسط بيئي غير صالح للحياة الآدمية فضلاً عن وجود الملوثات في المساكن والشوارع نتيجة عدم مراعاة الشروط الصحية والخدمات الاجتماعية والمرافق وغيرها، هذا إلى جانب تفشي العادات السيئة والسلوك غير الأخلاقي لبعض سكان هذه المناطق المتخلفة، لذا قد شكلت المناطق المتخلفة بالمدينة موضوعاً أساسياً من الموضوعات المرتبطة بالمشكلات الحضرية التي شغلت اهتمام كثير من علماء الاجتماع ومنهم - جيدز وبارك- وزملاؤهم في مدرسة شيكاغو.

• وانطلاقا من هذا التصور اتجه الباحث لدراسة التلوث البيئي في سياق المجتمع الحضري بالتركيز على المناطق المتخلفة على أساس أن هذه المناطق نموذجاً واضحاً يعكس بوضوح علاقة الإنسان بالمكان، وما يحيط به من جوانب مادية وغير مادية ينتج عنها العديد من مصادر التلوث.

• وعلى هذا تتبنى الدراسة الحالية المدخل الايكولوجي باعتباره يساعدنا على رصد أبعاد التغيرات الايكولوجية في المناطق المتخلفة ودورها في حدوث التلوث بها مثل إنشاء الورش والمصانع والمخابز داخل المناطق السكنية أو بالقرب منها ، فضلاً عن إلقاء القمامة في الشوارع وزيادة القاذورات وتكدس المباني بالسكان وضيق الشوارع وبالتالي قلة المساحات الخضراء بها.

• وحتى تكتمل الرؤية النظرية للبحث وتتضح صورة البناء الكلي لقضية التلوث البيئي وانعكاساتها على حياة السكان وحياتهم الاجتماعية في المناطق الحضرية المتخلفة يرى الباحث أنهلابد من تناول أربع قضايا أساسية في هذا المدخل النظري وهي:-

أ- طبيعة المناطق المتخلفة وسماتها.

ب- العوامل المفسرة لنشأة المناطق الحضرية المتخلفة.

ج- ظاهرة التلوث البيئي ومصادرها الأساسية.

د- الجهود الدولية والمحلية لمكافحة التلوث البيئي.

وفيما يلي عرض موجز لهذه النقاط:-

أ- طبيعة المناطق المتخلفة وسماتها

• يغلب على هذه الأحياء اكتظاظ المساكن بالسكان نظراً لانتشار الإسكان منخفض السعر في هذه الأحياء، وقد تتخذ هذه المناطق أشكالاً متعددة كما أنها تحمل تسميات متعددة فمنها ما يسمى بأحياء واضعي اليد وهي الأحياء التي يقطنها بعض الجماعات دون وجود حقوق ملكية واضحة لديهم.

• أما الشكل الآخر فيطلق عليه أحياء الجيتو وهي التي تضم المهاجرين إلى المدينة وبخاصة من الجماعات العنصرية وتتسم بالفقر وفقدان بعض الحقوق الاجتماعية التي تتمتع بها طبقة الأغلبية من سكان المدينة.

• واعتماداً على هذا التصور العام للمناطق المتخلفة وفي ضوء هذا التعريف الإجرائي يمكننا تحديد أهم السمات الأساسية لها على النحو التالي:-

1. عدم توافر الإسكان الملائم للحياة الإنسانية.

2. ارتفاع الكثافة السكانية وزيادة الازدحام الشديد.

3. نقص الخدمات والمرافق والافتقار إلى الأماكن الملائمة للتهوية والإضاءة.

4. ارتفاع معدلات الانحراف والجريمة والطلاق وبؤر التكيف الاجتماعي.

5. انخفاض المكانة الاجتماعية والاقتصادية لغالبية السكان وزيادة نسبة العاملين بها.

6. تدنى المظهر الفيزيقي لتهالك مبانيها وضيق شوارعها وسوء مواصلاتها.

ب- العوامل المفسرة لنشأة المناطق المتخلفة.

• لقيت العوامل المفسرة لنشأة هذه المناطق اهتماماً بالغاً من جانب العلماء والباحثين نظراً لارتباط هذه العوامل بقضية تهم سائر المجتمعات البشرية بخاصة المجتمعات التي لا تزال آخذه في النمو، وهذه القضية تشكل موضوعاً أساسياً من الموضوعات المرتبطة بالمشكلات الحضرية، وسوف نعالج أهم العوامل الرئيسية التي تقف وراء نشأة المناطق الحضرية المتخلفة من خلال تفسيرات العلماء والباحثين لها.

• فنجد أن - جيرالد بريز- يربط بين نمو المدن وتضخمها وظهور ما يعرف بالمجتمع العام الذي تظهر فيه الأحياء المعروفة بمدن الصفيح والمناطق المتخلفة التي تفتقر للخدمات والمرافق،لكن يلاحظ أن التصنيع يلعب دوراً مهماً في جذب المهاجرين للعمل في مناطق التصنيع داخل المدينة.

• كما أن تضخم المدينة ونموها الحضري قد يؤدى إلى انضمام بعض القرى المجاورة لها وتبدأ ظاهرة تريف المدينة ومن خلال ذلك تنشأ أشكال حضرية للمناطق المتخلفة.

• ولكن يرى - مصطفى الخشاب - أن المدن التي يغلب عليها الصناعات البدائية واليدوية والحرفية تزداد فيها الأحياء المتخلفة حيث أن أحياءها من تجمعات سكنية غير مخططة ويتركز فيها أصحاب الحرف والطوائف المهنية مثل بعض مدن الدول الأفريقية والوطن العربي، وعندما تنمو المدينة اجتماعيا تتجه الفئات الصاعدة من التجار والمثقفين وأصحاب الأعمال إلى إقامة المدينة ضواحي سكنية مميزة في طابعها عن أحياء قلب المدينة.

• بينما ترى - جانيت أبو لغد - أن العامل الحاسم لوجود المناطق المتخلفة يتمثل في الزيادة الطبيعية للسكان هذا إلى جانب الزيادة غير الطبيعية (الهجرة) إلى تؤثر على النمو الحضري ، أي أن المناطق المتخلفة تزداد مع زيادة النمو السكاني المتضاعف.

• ويؤكد هذا الرأي ما ذهب إليه - ديكنز وانكلز - من أن ظاهرة الأحياء المتخلفة تمثل إحدى جوانب التحضر السريع وتنتج عن الازدحام الشديد بالسكان وزيادة نسبة الفقر بها.

• في حين يرجع - محبوب الحق- نشأة المناطق المتخلفة إلى الفقر والحرمان الدائم الذي يعاني من أكثر من 40 % من سكان الدول النامية.

• وقد أكدت تقارير الأمم المتحدة أن ثمة علاقة طردية بين الفقر والمناطق المتخلفة ، فمع الفقر والاكتظاظ السكاني وسوء أو انعدام الخدمات الصحية والتعليمية ونقص المساكن المناسبة وازدياد معدل الهجرة الريفية للمدن تتكون الجيوب الكبرى من فقراء المدن.

• كما استنتج - الكردي – بأن المناطق المتخلفة تظهر بفعل عمليات ايكولوجية كالغزو والانتشار والمنافسة وغيرها فحينما يتركز السكان في منطقة سكنية وتبدأ أفواج جديدة في غزو هذه المنطقة فهنا يبدأ القادرون والأثرياء في التحرك والانتقال إلى مناطق أخرى جديدة أكثر هدوءاً وملائمة للمعيشة.

• وبالتالي يهجرون مساكن المناطق القديمة وشيئاً فشيئاً تظهر المناطق المتخلفة دون المستوى المطلوب للحياة الاجتماعية ثم تتفاقم فيها الأمراض الاجتماعية والنفسية وتتجه إلى مد المدينة بعناصر طفيلية غير منتجة.

• يتضح مما سبق مدى تعدد وتباين وجهات النظر فيما يتعلق بنشأة المناطق المتخلفة ، وعلى هذا فإنه من الملائم استيعاب أي محاولة لتفسير نشأة المناطق المتخلفة في إطار مدخل متعدد الأبعاد يتضمن عوامل التضخم الحضري والزيادة الطبيعية للسكان والهجرة والفقر، والتصنيع والعمليات الايكولوجية المختلفة في إطار واحد لا تغلب عليه أحادية التفسير.

ج- ظاهرة التلوث البيئي ومصادرها الأساسية :

• لقد اكتسبت ظاهرة التلوث البيئي صفة العالمية نتيجة لانتشار عمليات التحضر والتصنيع واستخدام العديد من المبيدات والعناصر الكيمائية في العمل الزراعي وأيضا لأن دورات الهواء والتيارات الهوائية تساعد على نقل الملوثات إلى مختلف أرجاء العالم.

• كما أن الملوثات لا تعرف حدود اداريه او سياسيه او فواصل إقليمية أو طبيعية بين المجتمعات الكبرى والمحلية بعضها البعض، ولقد أصبحت قضية التلوث البيئي إحدى القضايا التي يهتم بها العلماء والباحثون للتخفيف من آثارها الواضحة على حياة الإنسان.

• وحتى تسيطر الدول الكبرى على مشاكل التلوث قامت معظمها بتكوين وزارة تبحث في شئون البيئة ، كما انتشرت في تلك الدول المنظمات والهيئات التي تتبنى الدفاع عن الطبيعة ونشر الوعي البيئي كما تم تأسيس حزب هدفه الأساسي منع انتشار التلوث بجميع أشكاله.

• وكانت أكثر العناصر التي تأثرت في البيئة من إجراء العمليات المدمرة والمستمرة هو تلوث الهواء ، هذا التلوث الذي أصبح لا يمثل مشكلة صحية خطيرة فقط، بل أن هناك نتائج خطيرة على الجوانب النفسية منها الشعور بالقلق والاكتئاب والانفعال والإحباط والتهيج النفسي، كما أنه يوجد اتفاق عام على أن التلوث الهوائي يؤثر سلبيا على كفاءة الإنسان وأدائه في العمل والجهود التي يقوم بها في حياته اليومية.

• والتساؤل الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو : ما هي مصادر التلوث البيئي في البيئة الحضرية؟ وهنا يرى الباحثين أن العامل الحاسم في إحداث التلوث هو الإنسان ذاته نظراً لما يقوم به من تفاعلات غير سوية بالبيئة ويأتي في مقدمة هذا التوسع الصناعي في العصر الحديث.

• غير أن التلوث له مصادر وأشكال عديدة يمكن إيجازها فيما يلي:-

1. وسائل المواصلات وما تسببه من تزايد الأدخنة والعوادم المتسربة منها.

2. محطات القوى الكهربائية وما ينبعث منها من ملوثات عديدة (ثاني أكسيد الكبريت والمواد الصلبة العالقة).

3. الصناعة وتكدس المصانع في مناطق معينة مما يزيد من حجم الأتربة والغازات السامة والضارة.

4. القمامة وتراكمها في الشوارع وانتشار الحشرات والميكروبات بها بخلاف ما ينبعث منها من روائح كريهة.

5. المبيدات الحشرية التي يتم نقلها بواسطة تيارات الهواء إلى مناطق بعيدة وبالتالي تؤثر على الماء والهواء والغذاء.

6. التفجيرات النووية وما ينبعث منها من ذرات إشعاعية التي ثبت أنها تسبب السرطان وتزيد من معدل الوفيات.

7. الانفجار السكاني بصورة أصبحت تهدد الأمن القومي والدولي على حد سواء وما تسببه من تدهور للبيئة لمعظم بلدان العالم.

• وهكذا يتضح أن مصادر التلوث متعددة ومتنوعة في البيئة الحضرية مما يعرض البيئة اليوم لأخطار جسيمة وأزمات حقيقية أصبحت تهدد سكان هذه المناطق في صحتها بل وحياتها كلها.

د- الجهود الدولية والمحلية لمكافحة التلوث البيئي:

• في الواقع لقد برز الاهتمام الدولي بحماية البيئة من التلوث في البلاد الرأسمالية أو الاشتراكية أو النامية عندما شعر الإنسان بخطورة هذا التلوث على جميع عناصر البيئة المحيطة به، لذا فقد صدرت مجموعة من القواعد والقوانين لحماية الإنسان من التلوث والمحافظة على صحته سواء في أماكن العمل أو في المسكن الذي يعيش فيه.

• كما تكونت جمعيات أهلية في كثير من الدول تنادي بضرورة حماية البيئة والمحافظة عليها من التلوث ، وتقاوم في إصرار كل ما يتسبب في الأضرار بأي عنصر من عناصر هذه البيئة حتى ولو كان المتسبب في حدوث هذا الضرر هو حكومة الدولة نفسها.

• وعلى هذا فلقد بذلت الكثير من الجهود للحفاظ على سلامة البيئة وخلوها من الملوثات وفي سبيل الوصول إلى ذلك عقدت المؤتمرات الدولية وأبرمت الاتفاقيات للقضاء على ظاهرة التلوث البيئي بأقل التكاليف الممكنة وإبعاد مصادر التلوث بصفة أساسية عن مصادر المياه والأراضي الزراعية والمناطق السياحية والترفيهية.

• وقد تزايد الاهتمام بدراسة مشكلات البيئة بشكل واضح منذ أوائل عقد السبعينات من القرن العشرين عندما أنشئت اللجنة العالمية لقضايا البيئة (سكوب) كمجلس دولي يضم علماء البيئة من مختلف دول العالم وذلك في عام 1969 ، ثم أعقب ذلك دعوة الأمم المتحدة للبيئة البشرية في يوليه عام 1972 بالسويد وأصدر المؤتمر الإعلان العالمي للبيئة.

• ثم أبرمت في لندن عام 1972 اتفاقية خاصة بمنع تلوث البحار نتيجة إلقاء المخلفات بأنواعها المختلفة ووقع عليها كثير من الدول، ثم تلى ذلك تشكيل هيئة الأمم المتحدة في عام 1983 وسميت اللجنة العالمية للتنمية والبيئة لإعادة النظر في القضايا المتصلة بهما ، وقد أصدرت اللجنة تقريراً مهما أشار إلى أهم المخاطر البيئية التي حدثت خلال تلك الفترة الأخيرة وهي:-

1. انفجار المفاعل النووي في تشرنوبيل من آثار مازالت تعاني منها المجتمعات البشرية حتى الآن .

2. وفاة ما يقرب من ستين مليوناً من البشر نتيجة استخدام مياه الشرب غير الصالحة وسوء التغذية.

3. تدفق مواد كيمائية في نهر الراين في أعقاب حريق شب في أدى المستودعات بسويسرا.

• وعلى المستوى المحلى فلقد قامت معظم الدول بإنشاء وزارة خاصة بالبيئة لتشريع وسن القوانين لحماية البيئة من التلوث.

• وهكذا يعكس مدى الاهتمام الواضح بقضايا البيئة وحمايتها من صور التلوث المختلفة على المستويين العالمي والمحلي ، لكن على الرغم من ذلك فقد اتضح أن الجهود الدولية وقفت عاجزة أمام الحد من الآثار الناجمة عن وقوع بعض الكوارث مثل تشرنوبيل.

• الأمر الذي يشير إلى عجز السياسات الدولية في حماية البيئة فضلاً عن عدم التنسيق بينها وبين الجهود المحلية ، الأمر الذي انعكس على زيادة معدلات التلوث بصورة مطردة خاصة في ظل التغيرات السريعة في السكان والتجديدات التكنولوجية إلى جانب النمو العشوائي لبعض المناطق السكانية .

• وسيطرة روح المنافسة والمضاربة على النظام الخطر الداهم من التلوث البيئي فضلاً عن أن الدور الفعلي لكثير من هذه الجهود المبذولة ليست إلا مجرد توصيات ودراسات واجتماعات وعقد ندوات ، الأمر الذي يحتم أهمية إنشاء وزارة خاصة بالبيئة تكون مسئولة عن حماية البيئة من التلوث ومخاطرة إلى جانب تنسيق السياسات الدولية والمحلية في إطار جماعي تعاوني. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا