الجيوبولتيك والجيواستراتيجيا
نحو مناهج القرن للتفوق السياسي
أ / محمد بن سعيد الفطيسي
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
azzammohd@hotmail.com
مركز الاستقلال للدراسات الاستراتيجية
عند النظر الى أهم وأبرز المتغيرات والتحولات المتسارعة التي تشهدها الساحة السياسية الدولية اليوم، وعلى وجه الخصوص في مناهج التفكير السياسي، وطرق تخطيط الحكومات للسعي نحو التفوق والتقدم على الأرض وفي السماء ، وتحديداً خلال القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين , نلحظ بشكل واضح ومشاهد ذلك الاتجاه المتزايد نحو غلبة النزعة الأيديولوجية الاستشرافية في التخطيط السياسي، أو الفكر السياسي المبرمج الذي يرتقي لمستوى العقيدة السياسية المنظمة، وذلك بهدف بناء منهج استراتيجي متكامل للتخطيط السياسي المستقبلي، بحيث لا يترك أي فرصة بقدر المستطاع للعشوائية في التخطيط والبناء السياسي للدول والحكومات , أو مجالا للصدفة في رسم سيناريو المستقبل السياسي لها، راجع لنا مقالي : التخطيط لصناعة المستقبل , ومقال عملية صناعة القرار .
وبالطبع فإننا هنا لا نشير إلى تميز فكري أو إيديولوجيا استثنائية في التخطيط السياسي، تفرد بها القرنين المذكورين سابقا، بقدر ما نؤكد على أن أغلب الدول والحكومات الناضجة قد أصبحت اليوم تعتمد بشكل أكبر من حيث الكم والكيف على مناهج التخطيط السياسي الاستشرافي المبني على الواقع الجغرافي والتاريخي للبنية السياسية الدولية، وذلك لرسم وإعداد سيناريوهات البقاء والتفوق المستقبلي، - انظر مقالنا : صناعة المؤامرات أم ثقافة الاستراتيجيات، مع ملاحظة ارتقاء بعض العلوم السياسية والجغرافية وطرق التفكير والتخطيط المنهجي الاستشرافي السياسي، على غيرها خلال هذه المرحلة الزمنية تحديداً، وهو ما سنحاول التطرق إليه من خلال هذا الطرح المختصر .
وبداية لابد أن نؤكد على ضرورة وأهمية الارتقاء بالمناهج التعليمية والأكاديمية في المدارس والكليات والجامعات العربية لمستوى مواكبة التغيرات والتحولات الجذرية المتسارعة التي تشهدها الساحة العالمية، وتحديداً في مجالات السياسة والاقتصاد والتخصصات المرتبطة بها كالجغرافيا والتاريخ، وذلك من خلال دخول مناهج وطرق تدريس العلوم السياسية والجغرافية بمختلف فروعها ومجالاتها وتخصصاتها في مراحل التعليم الأساسي والجامعي بالدول العربية التي لا يوجد بها بعد هذه التخصصات الأكاديمية والمناهج الدراسية، مع ضرورة التركيز على رفع مستوى الاهتمام والارتقاء بفروع ذلك العلم ومناهجه التخصصية والمستقلة والفروع المرتبطة به، لدى مدارس وجامعات الدول العربية التي تدرس هذه العلوم من السابق، وذلك من خلال الاهتمام بفروع وتخصصات دراسية سياسية وجغرافية بعينها، كما نؤكد على أهميتها ودورها المستقبلي خلال المرحلة القادمة من التاريخ السياسي للبشرية .
وبشكل أكثر دقة في تناول هذا الطرح، نشير إلى أن هناك توجهات أكاديمية عالمية، وسياسات دولية رسمية، تهدف اليوم إلى التركيز على فروع مستقلة بعينها في العلوم السياسية والجغرافية الحديثة والعلوم الأخرى المستقلة المرتبطة بها بشكل مباشر، وذلك لما لها من أهمية متزايدة أحدثتها تلك المتغيرات السياسية التي راجت خلال القرن الماضي والقرن الذي نعيشه اليوم، كالعولمة وظاهرة الإرهاب والعنف وحروب الطاقة والماء ومصادرها، والصراعات المرتبطة بالأعراق والحدود والأطماع القومية، ومن أهم تلك المجالات والتخصصات الأكاديمية السياسية والجغرافية علمي الجغرافيا الاستراتيجية أو " الجيواستراتيجيا " و الجغرافيا السياسية أو " الجيوبوليتكا ".
وقبل الحديث عن أهميتهما المستقبلية لرفع كفاءة مستوى التخطيط السياسي الاستراتيجي للحكومات الناضجة، وبناء منظومة علمية دقيقة لصناعة المستقبل السياسي لتلك الدول، كان لزاما التطرق إلى التعريف العلمي لهما، وذكر الأهداف والمقاصد الأكاديمية المرتبطة بهما، فالجغرافيا الإستراتيجية : هي العلم الذي يسعى إلى جمع وتحليل ودراسة وتفسير المعلومات الجغرافية الأساسية للدولة لاستخدامها في إعداد الخطط الإستراتيجية في مختلف المجالات وخصوصا تلك المعنية بالحروب، وفي معنى آخر تعرف بأنها : ( فن استخدام القوة العسكرية لكسب أهداف الحرب، غير أن مفهومها قد تطور واكتسب قاعدة علمية شمولية، وأصبحت تعني الاستخدام الأمثل للمعطيات السياسية والاقتصادية والعسكرية ) وهي أكثر شمولا وتوسعاً من الجغرافيا السياسية أو الجيوبولتيك.
أما الجغرافيا السياسية والتي تعرف باسم الجيوبوليتكا أو علم سياسة الأرض فهي ذلك العلم الذي يتعرض بالبحث والدراسة للعلاقات التي تربط الدول بعضها ببعض، ومدى ارتباط ذلك بمعطيات الموقع الطبيعي وقوانينه، ( ويعد رودلف كلين أول من استخدم مصطلح الجيوبوليتكا، وعرفها بأنها البيئة الطبيعية للدولة والسلوك السياسي، في حين عرفها كارل هوسهوفر بأنها دراسة علاقات الأرض ذات المغزى السياسي، إذ ترسم المظاهر الطبيعية لسطح الأرض الإطار للجيوبولتيكا الذي تتحرك فيه الأحداث السياسية ) .
ويعد أرسطو 383 - 322 ق.م، أول من تحدث عن قوة الدولة المستمدة من توازن ثرواتها مع عدد ساكنيها، كما كان للمسلمين دور بارز ومهم في هذا الشأن، وذلك من خلال كتابات ابن خلدون 1342-1405م , والتي ظهرت في مقدمته الشهيرة .
وتختلف الجغرافيا السياسية في أهدافها ومقاصدها عن الجغرافيا الاستراتيجية، إلا أنهما تعدان جزء لا يتجزأ من الآخر ، - أي – ان كل منهما متلازم ومكمل للآخر، - وبمعنى آخر – أن الجغرافية السياسية يجب أن تتزامن وتتساوق مع الجغرافية الاستراتيجية في منهج البحث العلمي والدراسة الاستشرافية والتحليلية المستقبلية للدولة وقراراتها وأهدافها، وحديثاً ( ظل تقييم دور العوامل المكانية - الجغرافية - في تاريخ ومستقبل الدولة السياسي بدون صياغة متكاملة حتى ظهرت في المجتمع الألماني أفكار فردريك راتزل 1844-1904م والذي يرجع إليه الفضل في كتابة “الجغرافيا السياسية” في عام 1897 م ) .
وكما قال نابليون : أن معرفة جغرافية الدولة تعني معرفة سياستها الخارجية، ويعد النموذج الألماني والسوفيتي واليوغسلافي والأميريكي خلال القرنين العشرون والحادي والعشرون، من أهم النماذج الحديثة وأوضحها على ترابط متلازمة الجيوبولتيك والجيواستراتيجيا سعياً لتحقيق مقاصد الدولة وأهدافها المستقبلية الاستعمارية أو القومية، – انظر مقالنا : الحتمية التاريخية للصراع الجيواستراتيجي على العالم، ومن – وجهة نظرنا الشخصية – فأن الحرب الروسية على جورجيا تعد من أبرز النماذج الحديثة على تلك الصلة التي تربط ما بين ممارسة النزاعات السياسية والسيطرة على الأرض، وفي هذا السياق يقول زبغينيو بريجينيسكي بأن ( الدوافع المتعلقة بالأرض كانت الحافز الرئيسي الموجه للسلوك العدواني للدول القومية والإمبراطوريات ) عبر التاريخ، وهو ما دفع بالحكومة السوفيتية في وقت ما ؛ من منع تدريس مناهج الجيواستراتيجيا والجيوبولتيك في الجامعات الشيوعية.
وانطلاقاً مما سبق ذكره والإشارة إليه في سياق هذا الطرح من أهمية دراسة وتطوير بعض العلوم الاجتماعية والإنسانية، وعلى رأسها العلوم السياسية والجغرافية بوجه عام، وخصوصاً الجغرافيا السياسية والجيواستراتيجية، والتي نتصور بأنها ستلعب دوراً خطيراً وبارزاً في صناعة مستقبل الدول والشعوب ومكانتها خلال المرحلة التاريخية القادمة من القرن الحادي والعشرون؛ وتحديداً في ظل الأوضاع والتحولات المتسارعة التي باتت تعصف بكل دول العالم دون استثناء، فإننا نلفت الانتباه إلى التالي : ضرورة توفير مراكز دعم القرار الوطني ومراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية والتحليلية المحايدة وتوفير الدعم المادي والكوادر المتخصصة لها , - انظر لنا في هذا الشأن المقالات التالية : أهمية مراكز الدراسات السياسية في مواجهة التحديات المستقبلية , و مركز وطني لدعم القرار والدراسات المستقبلية، كما أننا نشير الى أهمية وضرورة الإسراع بتوفير الكليات والجامعات التخصصية التي تقوم بتدريس العلوم السياسية والجغرافية بمختلف فروعها التخصصية ومناهجها الأكاديمية، وتحديداً الجيوبولتيك والجيواستراتيجيا في جامعاتنا الرسمية والخاصة، والتي باتت تفرض نفسها بشكل أكبر على الساحة الدولية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق