حلايب وشلاتين.. بوابة الجنوب المنسية (1-2)
ربيع السعدني
البديل - الإثنين 10 يوليوز 2017
مصر
بوجوه سمراء وملامح مصرية تسكنها الطيبة والوداعة وجلابيب بيضاء وعصا خشبية لا تفارق أيديهم في غدوهم ورواحهم، يقيم مواطنون عند مدخل البوابة الجنوبية لمصر على امتداد الساحل الغربي للبحر الأحمر في بيوت خشبية أقرب إلى “العشش” و”خيام” من الصفيح أكلها الصدأ، وأخرى لا تصمد أمام الرياح العاتية في قلب منطقة جبلية نائية يعيشون هناك حياة بدائية أقرب إلى البدو.
أكثر من 35 ألف مواطن من سكان مدينة شلاتين وتوابعها (حلايب وأبو رماد) يقطنون هناك تحت الشمس الحارقة في الجنوب البعيد تجاورهم صحراء مترامية الأطراف على بعد 1200 كيلو متر من العاصمة، و700 كم من الإقليم الغربي لمحافظة البحر الأحمر، وتحديدا عند النقطة 22 عرض شمال خط الاستواء الفاصلة بين دولتي مصر والسودان، التي تعسكر عندها قوات حرس الحدود.
بدأوا بجماعات متفرقة تم تسكينهم من قبل الحكومة على طول الشريط الساحلي، وفي غضون سنوات قليلة نجحوا في تكوين مجتمع قبلي خاص بهم تحكمه القبائل والعشائر ويتحدثون لغتهم الخاصة بهم ولهم طبيعتهم القبلية الصارمة، حيث لا يحتكمون إلى شرائع الحكومة وقوانينها، لكن تبقى كلمة شيخ القبيلة كالسيف القاطع الذي يوضع على رقبة الجميع ولا تراجع عنها، يتحدثون اللغة البِجاوية وﻫﻲ ﻟﻬﺠﺔ 51.6% ﻣﻦﺃﻫﻞﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻥ ﻭﺗﻌﺘﺒﺮ ﺃﻗﺮﺏ ﺍﻟﻠﻬﺠﺎﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، وغالبيتهم يعملون بالصيد و”العتالة” والرعي ويبتاعون المياه من أسوان، رغم أنهم يعيشون على جبال من الذهب.
المثلث.. كلمة سودانية تم إطلاقها قديمًا على منطقة (حلايب وشلاتين وأبو رماد)، منذ أن كانت خاضعة للحكم السوداني، وفي الثمانينات لم تكن هناك حدود فاصلة بين البلدين حتى أحاطت السلطات المصرية سكان المثلث بسياج عسكري بعد مطالبات الجانب السوداني بأحقيته في المثلث ضمن حدوده، وتبدأ حدود المثلث من نهاية قرية برانيس أو منطقة راس بناس التابعة لمرسى علم حتى خط عرض 22 الفاصل بين مصر والسودان، وتسمى آخر قرية حدودية سكنية “رأس حدربة” الواقعة في مدينة حلايب وتبعد 5 كم عن المنطقة الحدودية مع السودان.
جغرافياً، تبعد مدينة حلايب 170 كيلو متر عن شلاتين، بينما المسافة بين قرية أبو رماد وشلاتين لا تزيد على 134 كم و45 كم المسافة الفاصلة بينها وبين مدينة حلايب التي تبعد 25 كم عن خط عرض 22.
تنقسم مدينة شلاتين إلى قسمين، المدينة القديمة والأسواق التجارية وسوق الجمال الذي يعتبر أحد أكبر الأسواق الخاصة بالجمال الوافدة من السودان في منطقة الشرق الأوسط ليتم بيعها في جميع أنحاء مصر بعد ذلك، والقسم الثاني خاص بالمدينة الإدارية الجديدة التي تشتمل على الخدمات العامة كالمستشفى المركزي والمدارس ومجلس المدينة.
“البشارية والعبابدة”.. من أكبر القبائل التي تسكن المثلث، وكذلك قبيلة البجا التي تقطن سواحل البحر الأحمر والرشايدة والحمدأوب والشنيتراب ويشاركهم قليل من الأمرار في منطقة السوق بشلاتين ويستحوذ أبناء قبيلة البشارية على نحو 80% من سكان شلاتين و100% من أبناء حلايب والنسبة الباقية موزعة على القبائل الأخرى، ويتركز أبناء قبيلة العبابدة في قرية أبو رماد وأغلبية القبائل من إثنية واحدة من البجا يقيمون في المنطقة منذ نشأتها قبل عقود طويلة.
التعليم
في صباح كل يوم دراسي ينطلق أطفال المثلث في أسراب جماعية تحت حرارة الشمس الحارقة في هذا الجنوب البعيد يقطعون على أقدامهم نحو 8 كيلومترات إذا لم يسعفهم الحال لإيجاد عربة نصف نقل مكشوفة حتى تقلهم إلى مدارسهم التي تم إنشاؤها مع منتصف التسعينات عند إحكام مصر سلطاتها الكاملة على المثلث، ويلتحق الأطفال دون التعليم الأساسي بالكتاتيب لتعليمهم القراءة والكتابة وحفظ كتاب الله على يد أقلية من النساء المتعلمات والشيوخ وكتابة آيات القرآن بالـ”حبارة” عبر ألواح خشبية بدائية.
التعليم يعد من أكبر التحديات التي تواجه أهالي المثلث وزيادة معدلات الأمية بين أبنائه نتيجة وجود عجز شديد في مدرسي المواد العلمية الثلاث “فيزياء، كيمياء، رياضيات”، ما دفع أحد أبنائه للتقدم بطلب إحاطة داخل مجلس النواب لمطالبة الرئيس عبدالفتاح السيسي بإصدار قرار جمهوري يستثني أبناء مدينتي حلايب وشلاتين من دخول كليات “الطب والتمريض والعلاج الطبيعي” بعد أن تم إلغاء نسبة الـ5% للقبول بالجامعات بناء على قرار صادر من المحكمة الإدارية العليا لتعارضها مع مبدأ تكافؤ الفرص الذي ينص الدستور عليه.
جاء ذلك بعد تنسيق ممدوح عمارة، أول نائب برلماني عن “حلايب وشلاتين” مع وزير التعليم العالي السابق الدكتور أشرف الشيحي، الذي سمح لأبناء حلايب وشلاتين لأول مرة بدخول جامعات خاصة هذا العام، ولكن المطلوب اليوم لسد العجز في تدريس المواد العلمية صدور قرار جمهوري باستثناء أبناء حلايب وشلاتين لدخول كليات الطب لمدة 10 سنوات، لأن طلبة المدارس يتعرضون لظلم شديد في الوقت الذي تكون فيه “مجاميعهم” قليلة لتوفير كوادر جديدة من المعلمين والأطباء والصيادلة من أبناء البلد الأصليين.
الدستور
بعد أن أعادت الدولة، خلال الفترة الماضية، توطين البدو على الشريط الساحلي، طالب نائب “حلايب وشلاتين” من الحكومة المصرية وضع المثلث على خريطة المشروعات القومية لتحويل المجتمع البدوي الذي يتلقى المساعدات والتبرعات من الدولة إلى مجتمع منتج يرفع من مستوى المعيشة ويسهم في التنمية المجتمعية، وتفعيل نصوص الدستور التي تنص في المادة رقم 236 على أن “تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها في مشروعات التنمية وفي أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلي، خلال 10 سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور.
يعتمد سكان المثلث في دخلهم على التجارة الحدودية مع السودان، ولكن بعد إنشاء الحظيرة الخاصة بالبضائع والتصدير بالسوق الدولية بناء على طلب الأجهزة المسؤولة تم الاتفاق على ضرورة مرور البضائع على ميناء سفاجا للجمركة قبل النقل إلى الحظيرة ومنها للسودان ما حولها إلى ما يشبه الـ”ترانزيت”.
كما يعتمد الأهالي على صيد الأسماك وتجارة الإبل والأغنام وسط مطالبات من شيوخ القبائل للدولة بضرورة تجديد رخص الصيد التي انتهت بعد أن مرّ عليها نحو 10 سنوات حتى تراجعت نسبة الصيادين من أبناء المثلث إلى 10% في ظل سيطرة صيادين من محافظات الوجه البحري والصعيد على مياه البحر في أقصى نقطة حدودية في جنوب مصر.
سوق الجمال
داخل المثلث لا تزال الأعمال اليدوية البدائية هي المهن السائدة بين أبناء القبائل بعد أن تراجعت أعمال الرعي بسبب نقص الأمطار، ويعتمد غالبية شباب المثلث في تحصيل الدخل والرزق على العمل في الشحن والتفريغ “العتالة” في سوق الجمال عبر التبادل التجاري مع شركات سودانية، على الرغم من حصول جزء كبير منهم على مؤهلات عليا، والجزء المتبقي يضطر للهروب إلى القاهرة أو الغردقة من أجل العمل.
وأكد عمارة لـ”البديل” أن جبال المثلث تحوي كنوزًا نفيسة وكميات هائلة من الذهب والمنجنيز والفوسفات وخام الحديد والكروم، بالإضافة إلى مواد البناء والجرانيت، إلى جانب الصيد والزراعة والمراعي، ويوجد بالمنطقة شاطئ سياحي طوله يتخطى المائتي كيلو متر تمتد على ساحل البحر الأحمر غير مستغلة حتى الآن وفي انتظار إنشاء مشروعات سياحية وموانئ.
“بدون”.. أزمة أخرى يعاني منها الآلاف من أبناء المثلث الحدودي تتلخص بحسب الشيخ حسون محمد عيد، أحد أبناء قبيلة البشارية في عدم وجود أوراق ثبوتية لعدد كبير منهم ومرورهم بمعوقات كبيرة عند استخراج شهادات الميلاد والوفاة وقسائم الزواج وجوازات السفر وغيرها من الإجراءات الحكومية الرسمية التي لا غنى عنها، وقال: “مشكلتنا هنا إننا بنتعامل عسكري ومدني وبالتالي دمنا بيتفرق بين القبائل وحقنا بيضيع ولما يكون عندي مولود جديد اضطر أنزله على اسمي بالبطاقة القديمة، واللي بيتوظف أو يتزوج أو يسافر أو حتى يموت بيتعب كتير في إثبات مصريته، رغم أننا مصريون حتى النخاع”.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تتزايد المعوقات أكثر عند تجديد البطاقات التي انتهت مدتها المقررة، حيث يطلب منهم مثلا “العصب”، بالإضافة إلى أوراق أخرى من الصعوبة بمكان الحصول عليها لإثبات أن الجد مصري.
خط عرض 22 عبارة عن منفذ جمركي صدر به قرار من وزير المالية والحكومة المصرية يشهد التجارة بين مصر والسودان، ومنذ عام 1994 صارت المنطقة محظورة على بعد 7كم من قرية أبو رماد، وترتبط القبائل المتواجدة بالمنطقة بعلاقات نسب ومصاهرة وقرابة بالقبائل السودانية الحدودية المتواجدة بعد خط عرض 22 الذي تشرف عليه القوات المسلحة المصرية “حرس الحدود” ويتواصلون معهم هاتفيًا أو عبر السفر إليهم من خلال منفذ أسوان البري الذي تُشرف عليه وزارة الداخلية وإدارة الجمارك.
مصريون حتى النُخاع
“إحنا مصريين حتى النخاع وعلاقتنا بالقبائل الحدودية الأخرى بالسودان أولاد عمومة”.. هكذا أعلن الشيخ حسون عن هوية وجنسية سكان المثلث الذين تربطهم علاقات نسب وقرابة وتجارة مع السودانيين، ويتم السفر إليهم عبر طريقين، الأول من خلال خط عرض 22 عبر الحصول على تصاريح من قبل القوات المسلحة وغالبًا ما تستغرق مدة طويلة يتم الاستعاضة عنها باللجوء إلى المنفذ البري مع أسوان الذي يخضع لإشراف الجمارك ووزارة الداخلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق