مظاهر الحياة الاجتماعية في مكة
والمدينة إبان القرن الثامن الهجري
من خلال كتب الرحالة
د. أحمد هاشم أحمد بدرشيني
أستاذ مساعد في كلية التربية
بالمدينة المنورة
منذ انتقل الثقل السياسي من الحجاز بعامة، ومن المدينة بخاصة بانتقال مركز عاصمة الخلافة منها إلى الكوفة والشام وبغداد، ثم إلى القاهرة؛ اتسمت المدينة ومكة بالهدوء والاستقرار، وغلب عليها الطابع الروحي والعلمي، فانصرف أهلها للعلم والعبادة، فنشأت في المدينة المدرسة الفقهية، ونبغ في حضنها الفقهاء السبعة، ولأن الحجاز لم يقطع صلته بالعواصم والناس، بل قد كان محط الرحال، ومهوى الأفئدة، وإليه يفد طالبو العلم، والمحبون، والتجار، والحجاج، والمعتمرون، ومن هنا استطاعت المدينتان المقدستان اجتذاب الرحالة المسلمين، حتى لقد أغرت غير المسلمين - كذلك - بالوفادة إليها ...
كانت المدينة في القرن الثامن الهجري بلدة صغيرة هادئة ، يحيط بها سوران متواليان ، وكانت حياة المدنيين رتيبة ..؛ يغدو الناس إلى أعمالهم وشؤونهم اليومية في الأسواق؛ حيث دكاكينهم وتجارتهم، أو في المزارع؛ حيث زراعتهم ونخيلهم الذي حاز شهرة فائقة، أو في وظائفهم الأخرى، وفي طلبهم العلم في المسجد النبوي، وبين المدارس المنتشرة حوله.
ولكن كان يعكر هذا الهدوء بين الحين والآخر حدث مقلق، ناجم عن تناحر الأمراء من الإخوة وأبناء العمومة، من الأسرتين الحاكمتين في مكة والمدينة...، بحيث يطغى بعضهم على بعض حينًا بعد حين، فيتأثر أهل المدينة على قدر صلاتهم بالأسرة الحاكمة، كما كانت بعض الغارات والهجمات تصيب القريبين والبعيدين عن الصراعات، إلى درجة يتهدد بها الأمن، وتسفك الدماء، ويسقط بعض القتلى، ولكن ما تلبث الحياة الهادئة أن تعاود إيقاعها الرتيب.
وقد وفد إلى المدينة خلال هذا القرن عدد من الرحالة المسلمين جاؤوا في رحلة الحج ؛ لزيارة المسجد النبوي، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب بعضهم عن رحلته ومشاهداته في مكة والمدينة .
وتنفرد مكة والمدينة من بين مدن العالم جميعًا - نظرًا لأهميتهما الدينية في قلوب المسلمين - باجتذابهما هجرات من آفاق العالم الإسلامي ، وكان لذلك أثر كبير في تركيبتهما السكانية ، حتى صار السكان الأصليون قلة ، وسط جموع تتدفق سنويًا في موسم الحج والعمرة ، فيستقرون فيها عائلاتٍ وأفرادًا ؛ يتَّجرون أو يجاورون ، ويتعلمون أو يُعَلِّمُون .
وعلى مرِّ القرون ازداد الوافدون والمجاورون زيادة كبيرة ، بينما قل عدد الأهالي الأصليين ، لكن المحور الذي تدور حوله حياة أهل مكة والمدينة والواردين إليهما هو ( موسم الحج ) ، فلولا المقدسات ما أمكن تصور ازدهار مدينة مثل مكة في تلك الفيافي القاحلة عبر القرون المتطاولة : بِوَادٍ غِيرِ ذِي زَرْعٍ ( ) فحققت دعوة نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لهذه المدينة المباركة . وقوله تعالى : فَاجْعَلْ أَفْئِدَة مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ( ) .
وأما عن المدينة النبوية وأهلها ؛ فقد نزل فيهم قول الله تعالى : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَة مِّمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ( ) .
وفي الحديث الشريف : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( يأتي على الناس زمان ، يدعو الرجل ابن عمه وقريبه ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ ، هَلُمَّ إلى الرَّخاء ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، والذي نفسي بيده ؛ لا يخرج منهم أحد رغبة عنها إلا خلف الله فيها خيرًا منه ، ألا إن المدينة كالكير ، تخرج الخبيث ، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد )) . رواه مسلم( ) .
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في صاعنا ، اللهم بارك لنا في مُدِّنَا ، اللهم اجعل مع البركة بركتين )).
أ - الأمراء وأتباعهم ومواليهم :
كان أمراء مكة من الأشراف الحَسَنِيِّينَ - نسبة إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما - فقد استطاع قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم الحسني الينبعي( ) في سنة ( 597هـ/1200-1201م ) أن ينتزع إمارة مكة من أمرائها الهواشم من بني فليته( ) .
وقد حكم بنو قتادة الحسنيون مكة منذ سنة 601هـ/1301م إلى أن ضمها الملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه في عشرينات القرن العشرين .
وقد تكاثرت الأسرة الحسنية بمكة حتى غدت إحدى طبقاتها ، خصوصًا أبناء وأحفاد أبي نُمي محمد بن حسن بن علي بن قتادة الحسيني (654-701هـ/ 1256-1301م)( ) .
ومما يجدر ذكره أن الأمراء الأشراف كانوا يؤلفون الطبقة العليا في المجتمع المكي ، خلال القرن الثامن الهجري ، وينتمي إلى هذه الطبقة جميع الأشراف من أسرة قتادة .
أما القواد فهم أتباع الأشراف أو من مواليهم ، ويُعَدّونَ الطبقة الثانية بعد الأشراف ، وقد لعبوا دورًا في إدارة شؤون الإمارة ، وفي المنازعات التي كانت بين أفراد أسرة قتادة على الإمارة ، وقد ترجم لهم الفاسي في العقد الثمين .
ب - سكان مكة الأصليون :
كان سكان مكة الأصليون من قبيلة قريش ، بالإضافة إلى بعض القبائل والعشائر التي استقرت في جوار قريش ، وقد زحف معظم القرشيين مع الفتح الإسلامي إلى الشام والعراق ومصر والمغرب وغيرها واستقروا فيها ، ولم يبق من القرشيين الأصليين في مكة إلا قلة منهم ، مع بعض الأسر والعشائر البدوية ، التي استقرت بجوار مكة ، ويُعَدُّ المكيون هؤلاء الربع أو الثلث من مجموع القاطنين بمكة( ) .
ومن سكان مكة الأصليين - كذلك - بعض الأسر ، مثل : آل الشيبي ، كما برزت في مكة بعض العائلات في المجالات العلمية والاجتماعية ، وهي ليست في أصلها مكية ، ولكنها استقرت خلال القرنين السادس والسابع الهجريين .
ومن هذه العائلات : النويريون( ) ، والظهريون( ) ، والطبريون( ) ، والفاسيون( ) الذين تقلدوا وظائف دينية ، وبرزوا في المجالات العلمية ، حتى أصبحوا جزءًا من المجتمع المكي .
ج - الوافدون ( المجاورون ) :
ونعني بالوافدين : أولئك الذي قدموا من جميع بقاع العالم الإسلامي بقصد الحج واستقروا بمكة على مرِّ القرون ، واختلطوا بسكانها واندمجوا في المجتمع المكي ، وصاروا يُكَوِّنُون جزءًا من هيكلها الاجتماعي ، إلا أنهم ليسوا في الأصل من طبقة واحدة ، فمنهم أعيان وعلماء وطلبة علم ، ومنهم التجار( ) الذي قدموا للتجارة بمكة ، وبقوا فيها وتزوجوا واستقروا( ) ، ومنهم من وفد للاستقرار طلبًا للعبادة بجوار البيت الحرام ، أو المسجد النبوي ، ومنهم المتصوفة والزهاد ، وهم ينتمون إلى جنسيات مختلفة .
وكانت تجارة مكة - في الغالب - بأيدي هؤلاء المجاورين ( الوافدين ) ، مما جعل الحساسية في أهل مكة تجاههم ؛ لشعورهم أنهم سُلِبُوا كثيرًا من مصادر رزقهم ، وكان أبناء الجيل الأول من الوافدين يعانون من صعوبة في التفاهم مع السكان الأصليين الذين لهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة بهم .
إلا أن الجيل الثاني ما لبث أن امتزج في المجتمع المكي بالمصاهرة والمعاشرة ، إلى أن صار أكثر أهل مكة خليطًا في خَلْقِهِم وخُلُقِهِم ، وكان هذا الامتزاج قد أدى إلى تنوع الملبس والمأكل ، كما أدى إلى ركاكة في لغة المكيين بعد أن كان لغة قريش هي العربية الفصحى ، ثم دخلت فيها بعض الألفاظ التركية والهندية والفارسية( ) .
وظهر تنوع الملبس ؛ في العمامة الهندية إلى جانب القفطان المصري ، والجبة الشامية ، فكأنك تعيش في وسط يكتظ بمجموعات متباينة من الأمم المختلفة ، ولكن يجمع هؤلاء جميعًا رباط ديني متين ؛ هو انتماؤهم إلى الإسلام( ) .
كانت هذه ملاحظات بعض الرحالة المتأخرين ، وهي تتفق إلى حد بعيد ، وما كان عليه الحال في القرن الثامن الهجري ، لأن عوامل امتزاج السكان كانت تفعل فعلها في تلك الفترة ، مثلما كانت تفعل في مختلف فترات التاريخ ، فمكة والمدينة على مر العصور التاريخية واحة يتدفق إليها جموع الوافدين من أنحاء العالم الإسلامي كافة .
د - العبيد ( الرقيق ) :
هذه الطبقة في الحجاز منذ العصر الجاهلي ، فقد كانت قريش تتاجر بالرقيق ، ثم راجت هذه التجارة في العصر الأموي ، وساعد على تطورها ازدهار المجتمع وارتفاع مستوى المعيشة ، ووفرة الأموال لدى السكان( ) . وكانوا يُعامَلون بالحسنى ، وهم أخلاط من أجناس مختلفة ، فمنهم الفرس والروم والبربر والأتراك والأحباش والنوبة والزنج ، وكل من هؤلاء الأجناس يعرف نوعًا من الأطعمة والأشربة والألبسة والعادات ، أخذها أهل الحجاز منهم( ) .
أما بالنسبة لأحوال الرقيق في مكة والمدينة ودوره في الحياة الاجتماعية في فترة دراستنا ، فقد بحثت عنه في المصادر الأساسية المتيسرة ، فلم أجد معلومات تلقي الضوء على هذه الطبقة ، ولكن كان يطلق عليهم : الموالي والغلمان والعبيد والخدم .
وقد ورد ذكر بعض الخدام ، إلا أنه ليس واضحًا ما هو المقصود بالخدمة ، فهل هي مجرد خدمة عادية ، أم أنها تدل على كون الموصوف بها خادمًا بالمعنى الاصطلاحي ، أي عبدًا مملوكًا ، من النوع المخصص لخدمة الحرمين الشريفين .
كما وردت في المصادر التاريخية التي عنيت بهذه الفترة إشارات إلى الغلمان ، ولا يعرف هل المعني بهم العبيد أو شيء آخر غير ذلك ، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الفاسي في ترجمة الأمير حسن بن عجلان (725-829هـ/1354-1425م ) فقد أشار بقوله : (( فأمر حسن غلمانه بلبس السلاح والتهيؤ للقتال ))( ) ، كما أشار بقوله : (( وكان معه ألف ومئتا رجل من الترك والعبيد والموَلَّدِين ))( ) .
كما أشار بقوله : (( وفي ليلة ثاني عشر شوال استدعى إليه مَنْ في خدمة الأمير من الترك ، ومن بمكة من غلمانه من العبيد والموَلَّدِين ))( ) .
كما أشار ابن بطوطة في سياق حديثه عن أمير المدينة المنورة : كبيش بن منصور بن جماز ( 725-728هـ/1324-1327م ) إلى العبيد مما يدل على وجودهم في هذه الفترة التاريخية ، وذلك بقوله : (( فما راعهم إلا وأبناء مقبل ( بن جماز ) في جماعة من عبيدهم ينادون : يا لثارات مقبل ))( ) .
ومهما تكن الحال ؛ فقد أُطلق عليهم اسم : (( الموالي )) أو (( الخدم )) ، أو (( الغلمان )) وأشارت إليهم المصادر التاريخية بذلك ، وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد أن القرن الثامن الهجري خلا من الرقيق ، وإن لم يتردد ذكرهم في المصادر التاريخية التي عنيت بهذه الفترة التاريخية صراحة .
هـ - المرأة المكية والمدنية أو ( في الحجاز ) :
كانت المرأة المكية والمدنية عنصرًا فعالاً في المجتمع المكي والمدني كونها أحد مقومات هذا المجتمع ، ودورها لا يختلف عن دور المرأة في سائر الأقطار الإسلامية ، إلا أن المصادر التاريخية التي عنيت بهذه الفترة التاريخية ، أشارت إلى بعض الوظائف التي شغلتها المرأة في المجتمع المكي ؛ كالنظارة على الأوقاف ، أو توليتها لمشيخة بعض الأربطة ، وهذا مما يدل على مكانتها في تلك الفترة ، وفيما يلي بعض النماذج :
1 - زينب بنت قاضي مكة وخطيبها محمد بن أحمد بن علي بن عبد العزيز بن القاسم العقيل ( 765-823هـ/1363-1420م ) ، فقد كان لها مشاركة في العلم ، وكانت ذات مروءة وعقل ، كما كانت ناظرة على أوقاف والدتها أم الحسين بنت القاضي شهاب الدين الطبري ، وتوفيت زينب هذه سنة ( 823هـ/1419م )( ) .
2 - زين العرب بنت عبد الرحمن بن عمر بن الحسين ، كانت محدثة ، جاورت بمكة ، وتولت مشيخة رباط بنت السقلاطوني ، كما تقلدت مشيخة رباط الحرمين ، وتوفيت سنة 704هـ/1304م( ) .
3 - عائشة بنت علي بن عبد الله بن عطية الرفاعي ، وتعرف بالظاهرية ، أنشأت رباطًا بأسفل مكة عُرف بها ، وكانت قائمة بالمشيخة ، ماتت سنة 837هـ-1433م( ) .
و - الأغوات :
الأغوات( ) هم فئة من الناس يقومون بخدمة الحرمين الشريفين ، وأول من استخدمهم في هذا الغرض وأوقف عليهم الأوقاف : الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب 568هـ/1172م .
وقد ذكر ذلك السخاوي ( في التحفة اللطيفة ) بقوله : (( ثم رأيت ابن فرحون قال : إن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، هو الذي ثَبَّتَ قاعدة الخدام في الحرم النبوي ، وأوقف عليهم الأوقاف ، وكتاب الوقف عندهم إلى يومه( ) ، ثم أوقف عليهم الصالح بن الناصر محمد بن قلاوون وقفًا آخر ، يحصلون منه على ( جامكيتهم )( ) .
ومن وظائفهم( ) (( حفظ المسجد نهارًا ، ومباشرة قفل أبوابه ، والمبيت فيه لحراسته ، مما هو الأصلي في ابتكارهم ، وتنزيل القناديل وتعليقها للتعمير والوقود ، وغسلها أو مسحها ، وإسراج ما يوقد منها سحرًا ، والدوران بعد صلاة العشاء بالقناديل ، لتفقد من يخشى مبيته ، ويرجعون عليه بالمنع ، ولا يبيت فيه إلا الفَرَّاش لإطفاء القناديل ، وفتح الأبواب للمؤذنين ، وكنس المسجد والروضة ، والحجرة كل جمعة ، مع مسح الجدر كل سنة ، وفرش بساط أمير المدينة ))( ) .
كما ذكر الفاسي في ( العقد الثمين ): (( وأما خدام الكعبة فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أخدمها عبيدًا ، ثم اتبعت ذلك الولاة بعده ))( ) .
وقد وصف ابن جبير في رحلته إلى بلاد الحجاز أغوات الحرمين بقوله : (( وسدنتهما فتيان أحابيش ، وصقالب ، ظراف الهيئة ، نظاف الملابس والشارات ))( ) ، كما وصفهم ابن بطوطة بقوله : (( وخدام المسجد الشريف وسدنته فتيان من الأحبابيش وسواهم ، وهم على هيئات حسان ، وصور نظاف ، وملابس ظراف ، وكبيرهم يعرف بشيخ الخدم ، وهو في هيئة الأمراء الكبار ، ولهم المرتبات بديار مصر والشام ))( ) .
كما ذكر الأستاذ حسين باسلامة : (( أن القائمين بخدمة الكعبة الآن هم الأغوات ، وليسوا مماليك لأحد ))( ) .
إن التركيب الاجتماعي للمدينة المنورة مشابه ومطابق لما عليه في مكة المكرمة ، لارتباط المدينتين المقدستين بعضهما ببعض سياسيًا واجتماعيًا ، ودينيًا وفكريًا واقتصاديًا ، مع الاختلاف اليسير في السكان الأصليين للمدينة المنورة ، فهم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج( ) ، وطبقة الأمراء من الأشراف الحُسينيين ، الذين يعود نسبهم إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، وآل سنان قضاة المدينة ، وقد تشيعوا( ) ، بالإضافة إلى الوافدين والمجاورين بالمدينة المنورة ، وقد استقرت فيها عائلات كثيرة ، من مصر والشام والمغرب والهند و ...
ولا شك أن موقع المدينة الجغرافي ؛ الذي تحيط به البساتين والينابيع والوديان والسيول ، ومجاورتهم للحبيب ? أكسب أهل المدينة كثيرًا من الأخلاق الحسنة ، فمالوا إلى السهولة والسماحة ، واليسر في أمزجتهم ومعاملاتهم ، وإلى الفرح والسرور ، وحسن المعاشرة( ) .
أ - الأعياد :
للمسلمين عيدان هما : عيد الفطر وعيد الأضحى ، ولهاتين المناسبتين الدينيتين احتفال ومراسم في المدينتين المقدستين .
وقد وصف لنا كل من ابن جبير ( 540-614هـ/1145-1217م ) وابن بطوطة (704-779هـ/1304-1377م ) مظاهر عيد الفطر في مكة المكرمة وصلاة العيد بالمسجد الحرام .
وأشار إلى ذلك ابن جبير بقوله : (( فلما كان صبيحتها وقضى الناس صلاة الفجر ، ولبسوا أثواب عيدهم ، وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد بالمسجد الحرام ، لأن السُّنَّة جرت بالصلاة فيه ، دون مصلى يخرج الناس إليه ، ... فأول من بكَّر الشيبيون وفتحوا باب الكعبة المقدسة ، وأقام زعيمهم جالسًا في العتبة المقدسة ، وسائر الشيبيين داخل الكعبة ، فإذا أحسوا بوصول الأمير مكثر( ) نزلوا إليه ، وتلقوه بمقربة من باب النبي صلى الله عليه وسلم ، فانتهى إلى البيت المكرم ، وطاف حوله ( سبعة أشواط ) والناس قد احتفلوا لعيدهم ، والحرم قد غص بهم ، والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة على العادة رافعًا صوته بالثناء عليه ، والدعاء له ... وحضر مع الأمير من خاصته شعراء أربعة ، فأنشدوه واحدًا إثر واحد ، إلى أن فرغوا من إنشادهم ، وفي أثناء ذلك يحين وقت الصلاة ، وكان ضحى من النهار ، فأقبل القاضي الخطيب ، يتهادى بين رايتيه السوداوين ، والفرقعة المتقدم ذكرها أمامه ، وقد صَكَّ الحرمَ صوتُها وهو لابس ثيابًا سوداء ، فجاء إلى المقام الكريم وقام الناس للصلاة ، فلما قضوها رقي المنبر ... فخطب خطبة بليغة ، والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر ... إلى فرغ من خطبته وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والدعاء مسرورين جذلين فرحين ... ، وبادروا إلى البيت الكريم فدخلوا آمنين مزدحمين عليه فوجًا فوجًا .... ، ثم زيارة الجبانة بالمعلى ))( ) .
ولا يختلف الوصف الذي يقدمه لنا ابن بطوطة عن الاحتفال بعيد الفطر عن الذي ذكره ابن جبير( ) .
وتحتفل المدينة المنورة بعيد الفطر ، وأما صلاة العيد فتؤدى بالمسجد النبوي الشريف ... وبعد صلاة العيد يذهب الجميع لزيارة قبر الرسول ? ، ثم يخرجون إلى بقيع الغرقد ، ثم يعودون إلى منازلهم ويقضون أيام العيد في تزاور وسرور وحبور( ) .
ب - الاحتفال بقدوم موسم الحج :
كانت مكة والمدينة تتأهبان لاستقبال الحجاج وزوار مسجد رسول الله ? ، وكانت المدينة المنورة تستقبل الحجاج المارين بها في طريقهم إلى مكة ، وكذا حين عودتهم من أداء فريضة الحج ، لزيارتهم مسجد الرسول ? وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين .
ويصف لنا ابن بطوطة الاحتفال بيوم عرفة وشهر ذي الحجة بقوله : (( فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة يعلم الناس فيها مناسكهم ، ويُعْلِمُُهُم بيوم الوقفة ، فإذا كان اليوم الثامن بَكَّر الناس بالصعود إلى منى ، وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع ( في منى ) ))( ) .
كما أشار ابن جبير إلى بعض الاعتقادات المتعلقة بالوقفة يوم الجمعة ، لدى بعضهم وانتقدها بقوله : (( حرصًا منهم على أن تكون الوقفة بعرفات يوم الجمعة ، كأنَّ الحج لا يرتبط إلا بهذا اليوم بعينه ، فاختلقوا شهادات زورية ... فشهدوا عند القاضي برؤيته ، فردهم أقبح رد وجرح شهاداتهم أسوأ تجريح ))( ) ، كما لم يشر ابن جبير أو ابن بطوطة إلى احتفالات العيد بمنى ، واكتفى ابن جبير بقوله : ولبس الناس أثواب عيدهم ))( ) ، ولم يذكر شيئًا عن الاحتفال بعيد الأضحى في منى( ) .
وقد نَوَّه بالاحتفال ليلة عرفة ابن رشيد الفهري السبتي ، صاحب كتاب ( ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة ) وهو الرحالة الأديب المفسر والمؤرخ ، بقوله : (( ورأينا في تلك الليلة عجبًا فيما ابتدعه العامة من الاستعداد والاحتفال ، يوقد الشمع بطول تلك الليلة بالجبل القائم في وسط عرفات ، المعروف عند العرب القدماء ( بإلال )( ) ، وهو جبل مرتفع ، في أعلاه مسجد ، تنصب فيه رايات أمراء الركب ، وقد صُنع له درج بالبناء من أمامه ومن خلفه ، فيرتقى إليه من طريق وينزل من أخرى ، وربما التقى فريق مع فريق ، فيَغصُّ الجبل بالصاعدين والنازلين ، وهو يتأجج نارًا ويتموج كالبحر زخارًا ، والطريق إليه بالشموع في بسيط عرفات ، كالسطور المذهبات )) .
وقال في وصف تلك الليلة :
يَـــا لـيـلـةً فِـــــي إِلاَلٍ يَا حُسْــنَهَا بَينَ اللَّيَالِي
عَدَدَ النُّجُومِ شُمُوعُهَــــا قَد نُظِّمَتْ نَظْمَ اللآلِي
وبعد أن وصفها ابن رشيد الفهري نثرًا وشعرًا استغفر الله ، وقَبَّحَ هذه البدعة بقوله : (( بل هذه الحالة من قبيح البدع ))( ) .
ج - الاحتفال باستهلال الأهلة :
لم تُعْنَ المصادر التاريخية التي تناولت هذه الحقبة بالحديث عن الحياة في مكة المكرمة والمدينة المنورة .
بينما عُني الرحالة الذين زاروهما ونقلوا لنا صورة عن هذه الحياة ، من أمثال ابن جبير وابن بطوطة والبلوي والتجيبي وابن رشيد الفهري وغيرهم ، وسيعتمد الحديث عن هذا الجانب ما أورده الرحالة من مظاهر الاحتفال والأعياد واستقبال الشهور الهجرية .
كما أنني سوف أورد بعض الصور التي أشار إليها بعض الرحالة ، الذين جاؤوا بعد ذلك ، وأوردوا لنا مشاهد عن الحياة الاجتماعية والعادات ، والاحتفالات في مكة والمدينة ، حيث إن هذه العادات والمظاهر الاجتماعية لم تكن وليدة يوم ، وإنما لها جذور تعود لفترة دراستنا أو قبلها .
ومن مظاهر الحياة الاجتماعية في المدينتين المقدستين الاحتفال بمطلع أول كل شهر هجري ( الأشهر القمرية ) ، وقد أشار ابن جبير إلى هذه الاحتفالات ، كما أشار إليها ابن بطوطة قائلاً : (( وعاداتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر ، وقواده يحفُّون به ، وهو لابس البياض معمم ، متقلد سيفًا ، وعليه السكينة والوقار ، فيصلي عند المقام ركعتين ، ثم يُقَبِّل الحجر ، ويشرع في الطواف ، ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم ، فعندما يكمل الأمير شوطًا واحدًا ويقصد الحجر لتقبيله يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر ، رافعًا بذلك صوته ، ثم يذكر شعرًا في مدحه ومدح سلفه الكريم ، ويفعل به هكذا في الأشواط السبعة ، فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين ، ثم ركع خلف المقام أيضًا ركعتين ، ثم انصرف ، كما يفعل مثل هذا إذا أراد سفرًا ، أو إذا قدم من سفر أيضًا ))( ) .
كما أشار ابن بطوطة إلى احتفال أهل مكة برؤية هلال رجب بقوله : (( وإذا هَلَّ هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات ، إشعارًا بدخول الشهر ، ثم يخرج في أول يوم منه راكبًا ، ومعه أهل مكة فرسانًا ورجالاً ، على ترتيب عجيب ، وكلهم بالأسلحة يلعبون بين يديه ، والفرسان يجولون ويجرون ، والرجال يتواثبون ويرمون بحرابهم إلى الهواء ويلقفونها ... ، ويصيرون حتى ينتهوا إلى الميقات ، ثم يأخذون في الرجوع على معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام ، فيطوف الأمير بالبيت ... ، ويخرج إلى المسعى ، فيسعى راكبًا والقواد يحفون به ... ، وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد ، يلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك ))( ) .
كما ذكر ابن بطوطة : (( أن أهل مكة يحتلفون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله ))( ) .
وقد ذكر ابن جبير : أن أهل مكة عندهم العمرة الرجبية ، أخت الوقفة العرفية ( وقفة عرفة )( ) .
وقد ذكر ابن جبير وابن بطوطة من بعده أنه في ليلة السابع والعشرين تَغَصُّ شوارع مكة بالهوادج ، عليها كساء الحرير والكتان الرفيع ، ويخرجون إلى ميقات التنعيم ، فإذا قضوا العمرة وطافوا بالبيت خرجوا إلى السعي بين الصفا والمروة ، والمسجد الحرام يتلألأ نورًا وهم يسمون هذه العمرة ( بالأَكَمِيَّة ) لأنهم يحرمون بها من أَكَمَة مسجد عائشة رضي الله عنها( ) .
د - الاحتفال بشهر رمضان وختم القرآن :
أما بالنسبة لشهر رمضان ، فقد ترك لنا كل من ابن جبير وابن بطوطة وصفًا ضافيًا للاحتفالات في هذا الشهر المبارك ، فأورد ابن جبير صورًا عن مظاهر الاحتفال بشهر رمضان بقوله : (( ووقع الاحتفال في المسجد الحرام بهذا الشهر المبارك ، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل ، وغير ذلك من الآلات ، حتى تلألأ الحرم نورًا ، وسطع ضياءً ، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقًا ، فالشافعية فوق كل فرقة منها ، قد نصبت إمامًا لها في ناحية من نواحي المسجد ، والحنبلية كذلك ، والحنفية كذلك والزيدية( ) ، وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة ))( ) .
كما أورد ابن بطوطة بعض المظاهر التي شاهدها في الحرم المكي في شهر رمضان المبارك ، يقول : (( ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة ، فيرتج المسجد لأصوات القراء ، وترق النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين( ) ، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة وهي عشرون ركعة يطوف إمامهم وجماعته ، فإذا فرغ من السبعة ضربت الفرقعة التي ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة ، كان ذلك إعلامًا بالعودة إلى الصلاة ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يطوف سبعًا ، وهكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى ، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون ... ، وإذا كان وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم ، فيقوم داعيًا ومذكِّرًا ومحرضًا على السحور ))( ) .
وقد ذكر السبتي في كتابه ( مستفاد الرحلة والاغتراب ) أن جماعة من القراء والمشهورين بحسن الصوت ،وطيب النغمة كانوا يجتمعون كل ليلة من ليالي رمضان ، بإزاء باب بني شيبة من الحرم الشريف ، فيقرؤون جزءًا من القرآن متراسلين بالتلاحين على عادة القراء في المشرق ، وكان لأولئك القراء واحد هو مقدمهم ، وكان أحسن الناس صوتًا بالقرآن ، وكان القُرَّاء يختصون القرآن في صلاة التراويح ، كل ليلة من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان .
ووضع في الحرم مما يلي باب بني شيبة المحراب المربع ، من أعواد ( مشرجبة )( ) ، قد أقيم على قوائم أربع ، وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل ، وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل( ) ، يحتفلون بليلة التاسع والعشرين من رمضان بإيقاد الشموع والمشاعل ، ويكثر إشعال الشمع في هذه الليلة ، ويجتمع أئمة الخمسة( ) ويتدارسون علوم القرآن ومعهم الصبية يستمعون إلى هذه المناظرة( ) .
هـ - عادات أهل المدينة في شهر رمضان المبارك :
(( ومن عاداتهم في رمضان أنهم يتناولون ( إفطارًا ) خفيفًا في المسجد النبوي بعد أذان المغرب ، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم ، وهذا ( الإفطار ) من الأشياء الحلوة والزيتون والفطير وما شابه ذلك ، ثم يصلون المغرب ويذهبون إلى بيوتهم ليتناولوا ( الإفطار ) الكامل . ويأخذون كل من يجدون في الطريق ، وبعد الأكل يحضرون إلى المسجد لصلاة العشاء وصلاة التراويح ، وهذه تقام بأئمة كثيرين ينيفون على الخمسين ، فكل كبير له ولأتباعه إمام ، والنساء لهن إمام واحد ، والأئمة إما من الشُّبَّان الذين حفظوا القرآن أو من علمائهم ، وأمام كل إمام شمعدانان بكل منهما شمعتان ، تصرفان من خزينة الدولة ، ويتقاضى هؤلاء الأئمة مرتبًا من الدولة آخر رمضان ، أجرًا لهم على إمامتهم ، وسراة ( أغنياء ) البلدة يوزعون الثياب البيض على الفقراء والمساكين ... ، ويقاد في الحجرة النبوية ليالي رمضان من العشاء إلى إكمال صلاة التراويح أربعة عشرة شمعدانًا ذهبيًا ))( ) .
و - الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم :
يحتفل أهل مكة والمدينة احتفالاً عظيمًا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم( ) ، وقد نوَّه ابن بطوطة بهذا الاحتفال بقوله : (( ويفتح الباب الكريم ( باب الكعبة ) في كل يوم جمعة بعد الصلاة ، ويفتح في يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا ))( ) ، كما ذكر ذلك العياشي صاحب مصنف : ( ماء الموائد ) - ورحلته في القرن الحادي عشر الهجري - في سياق حديثه عن عادات أهل المدينة المنورة بقوله : (( ففي داخل الحرم كانت تجري مناظرات فقهية وحفلات بمناسبة الزواج ، وبمناسبة المولد النبوي ، حيث يقوم الشعراء بإلقاء قصائدهم وترتيل المدائح النبوية ))( ) ، ويضيف : (( وكانت مراسم هذه الحفلات تتطلب إعداد مراتب الحاضرين ، من أمراء وأعيان وغيرهم من سائر الناس . وبعد الشروع في الحفل يؤتى بأنواع الأشربة الحلوة ، وأطباق اللوز والسكر والحلوى فتفرق على الحاضرين ، وتوضع أنواع الأزهار بين أيدي الأمراء والأعيان ))( ) .
ويضيف العياشي : (( ولما قربت ليلة المولد الشريف وهي الثانية عشرة من ( ربيع أول ) بُولِغ في تنظيف الحرم وتزيينه ، وغسلت مصابيحه ، وجعل فيها مائع شديد الحمرة ، لا أدري ما هو وألقي فوقه قليل من زيت طيب أخضر ، فإذا تَوقُّد المصباح ظهر إشراقه لشدة صفائه ... ، فإذا كان بعد صلاة العصر من اليوم الحادي عشر ، أخرجت القناديل الكبار ، وصفَّت في صحن المسجد ، ووضعت فيها الشموع الغليظة ، وأخذ الناس في الاجتماع ... ، فإذا صُلِّيَت العشاء جلس الأمراء في الفرش المُعَدَّة لهم ، كل على مرتبته ، وجلس الشعراء والمنشدون أمامهم فينشدون من غرر القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ))( ) .
ز - الاحتفال بقدوم المَحْمَل :
المحمل : أعواد من الخشب على شكل الهودج ، مربع الشكل ، له سقف يأخذ في الارتفاع من الجوانب إلى الوسط ، حيث يوجد به قائمة ينتهي بهلال . وكان يسدل على ذلك الهيكل الخشبي كسوة إما من حرير أو خز ، أو غيره ، وكان يرصع أحيانًا بالذهب والجواهر ، وكان يوضع على ظهر جمل عند السفر ، وكان أول من استحدث المحامل في طريق مكة الحجاج بن يوسف الثقفي( ) .
وقد اهتم أبو سعيد ( خربندا ) بالمحمل اهتمامًا بالغًا ، إذ كساه بالحرير ، ورصعه بالذهب واللؤلؤ والياقوت ، وأنواع الجواهر الأخرى ، حتى بلغت قيمة الحلية مئتين وخمسين ألف دينار ، وجعل للمَحْمَل هزًا يسبل عليه إذا وضع على ظهر الجمل( ) .
أما طواف المحمل ، ( يعني : دورانه في القاهرة ) فقد جرت العادة أنه يدور في السنة مرتين ؛ المرة الأولى في النصف الثاني من شهر رجب ، والثانية في النصف الثاني من شهر شوال ، ويكلف أصحاب الحوانيت التي في طريق دورانه ( مروره وطوافه ) بتزيين حوانيتهم قبل مرور المحمل بثلاثة أيام ، ويحمل على جمل ، ويبيت في ليلة دورانه داخل باب النصر( ) ، وفي صباح يوم الدوران ( الطواف به ) يحمل المحمل على الجمل ويسير إلى أسفل القلعة ( قلعة القاهرة ) . فتنهض إليه الشخصيات البارزة وأصحاب المناصب الكبيرة ، ويسير أمامه الوزير والقضاة الأربعة والشهود والمحتسب وناظر الكسوة( ) ، ويحتفل الناس ليلة الطواف بالمحمل ويخرجون للفرجة ، ويخرج المحمل في الغالب يوم الاثنين أو الخميس( ) .
أما فيما يتعلق باستقبال أهالي مكة والمدينة للمحمل فالمعلومات قليلة جدًا . ومنها أنه في سنة : 788هـ وصل من مصر ( آتبغا المارديني ) أمير الحج إلى مكة ، فخرج إليه الشريف محمد بن أحمد بن عجلان ( 780هـ/1378م - وفاته 788هـ/ 1386م ) لملاقاته ، وعندما لقيه نزل عن الفرس وقبل الأرض ، ثم انحنى ليقبل خف الجمل ، ولكن هجم عليه أثناء ذلك اثنان من الفداوية فضربه أحدهما بخنجر في عنقه ضربة أدت إلى وفاته( ) .
كما أشار الفاسي في كتابه العقد الثمين إلى أن أم الشريف : (( حَسَّنَت لابنها الإقدام على ملاقاة المحمل المصري لخدمته على عادة أمراء الحجاز ))( ) .
وهذه العبارة تدل على عادة أمراء مكة والمدينة للخروج لاستقبال المحمل وتقديم كل ما يحتاجه من خدمة ، كما أن قدومه كان مناسبة تحمل تباشير الخير والرفاه لأهل مكة والمدينة وحكامهما ، حيث ترسل الهبات والصدقات بصحبة المحمل ، بالإضافة إلى أن إمرة المحمل تسند إلى كبار الأمراء المماليك ، الذين على أمراء مكة والمدينة استرضاؤهم ، ولذا استحق منهم الاهتمام وحسن الاستقبال( ) .
وكان أهل مكة والمدينة يتأهبون طوال شهر شوال لاستقبال الحجاج ، ومحمل الكسوة في ذي القعدة وأوائل ذي الحجة - فبعد أن يمر محمل الكسوة بينبع وبالمدينة المنورة ، فيحتفل أمراء المدينتين به احتفالاً كبيرًا ، ثم يتوجه إلى مكة ، فيخرج أمير مكة لتلقيه على مسافة من مدينة مكة ، فيترجل عن جواده ويقبل خف جمل الكسوة ، ثم يسير في صحبة أمير الحج ورجال الركب حتى يدخل مكة ، وكانت العادة أن يكلف أمراء الحرمين وينبع بالإضافة إلى تقبيل خف الجمل ، تقديم المواشي والأموال للأعراب ، الذين يحرسون الطريق لتأمين المحمل( ) .
ويورد ( الجزيري ) قائمة مفصلة لما كان يدفعه أمير ينبع ذاته ، فيبلغ مجموع ما يقدمه حوالي ألف دينار ، وبعض المواشي لخفراء الطريق وللأعراب ، ثم لكبار موظفي ركب المحمل ؛ كالأدلاَّء ورجال الديوان والقضاة وزعماء الحامية ، والمشرفين على المطابخ ... الخ( ) .
وقد ظل الحال على هذا المنوال حتى صدر مرسوم الظاهر (جقمق) ( 843-844هـ/1439-1440م ) يعفي أمير مكة من تقبيل خف الجمل ، ويعفي الأمراء في الحرمين وأمير ينبع من دفع الأموال لرجال الخفارة والركب( ) .
ح - المحمل في المدينة المنورة :
وعند وصول المحمل إلى المدينة يدخل باحتفال كبير من باب العنبرية ، حتى إذا ما وصل إلى باب المصري قرب الحرم تَرَجَّل كل من في موكبه إجلالاً لمقام الرسول الكريم ، فإذا وصلوا إلى باب السلام أتى شيخ الحرم النبوي ، واستلم زمام الجمل وأصعده على سلم الباب وأناخه على تلك الصفة ، وهناك يرفع المحمل ويوضع في مكانه من الحرم غربي المنبر النبوي ، وترفع كسوته المزركشة ، ويلبسونه الكسوة الخضراء ، وتظل الكسوة داخل الحجرة الشريفة حتى يخرجونها يوم سفر المحمل إلى مكة( ) .
إكمالاً للصورة التي كان عليها المجتمع المكي والمدني خلال القرن الثامن الهجري لا بد من إلقاء نظرة على العادات الاجتماعية ، التي كانت سائدة بين أهل مكة والمدينة في تلك الحقبة التاريخية ، ووصف أخلاقهم وملابسهم وأطعمتهم ؛ إذ بدونها لا تكتمل صورة الحياة الاجتماعية ، ولكن لا بد من التنويه بأن المصادر لم ترد فيها معلومات كافية لدراسة هذا الموضوع ، وبخاصة أن معظم المصادر التاريخية التي كتبت في هذه الفترة أهملت الجانب الاجتماعي ، وركزت على الناحية السياسية ، وكل ما يتيسر هو نزر من المعلومات .
أ - أخلاق المكيين وفضائلهم وعاداتهم وملابسهم وطعامهم :
وصف ابن بطوطة أخلاق المكيين وفضائلهم فقال : (( ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة ، والأخلاق الحسنة ، والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء ، ومن مكارمهم ؛ أنهم متى صنع أحدهم وليمة بدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين ، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق ، ثم يطعمهم ، وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران ، حيث ( يطبخ ) الناس ( أخبازهم ) ، فإذا ( طبخ ) أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله يتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له ، ولا يردهم خائبين ، ولو كانت له خبزة واحدة ، فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس بذلك من غير ضجر ))( ) .
ويضيف ابن بطوطة (( أن أهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس ، وأكثر لباسهم البياض ، فترى ثيابهم أبدًا ناصعة ساطعة ، ويستعملون الطيب كثيرًا ، ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر( ) ، ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ، ذوات صلاح وعفاف ، وهن يكثرن التطيب ، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية تشتري بقوتها طيبًا ، وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل يوم جمعة ، فيأتين في أحسن زي ، وتغلب على الحرم رائحة طيبهن ، وتذهب المرأة منهن ، فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقًا ، ولأهل مكة عوائد حسنة( ) .
1 - الزواج : لا شك أن الزواج يمثل جانبًا مهمًا من العادات الاجتماعية في أي مجتمع ، ولأهل مكة عاداتهم الخاصة في الزواج ، فعلى الرجل أن يدفع المهر ، وفي أعراسهم يدعون الأهل والأقارب رجالاً ونساء ، ويجلس الرجال خارج البيت في المكان المُعَدِّ لهم ، ويُمَدُّ لهم العشاء سماط طويل يجلسون عليه جميعًا مرة واحدة ، فيأكلون وينصرفون ، أما النساء فيدخلن البيت فيجدن على باب القاعة التي يجلسن فيها قصعة كبيرة مملوءة بمعجون الحناء ، فتخضب المرأة منها إحدى يديها ، ثم تدخل إلى قاعة الجلوس( ) .
كما أشار ابن المجاور في مصنفه : ( صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز ، المسماة : تاريخ المستبصر ) إلى بعض عادات أهل مكة في أعراسهم بقوله : (( ولقد كانت العادة أن يخضب الرجل ليلة عرسه يديه ورجليه بالحناء ، ويخرج إلى الحرم ويؤدي الطواف ، ثم يصلي ركعتين في مقام إبراهيم ، ويقبل الحجر الأسود ، ثم يتقدم بالشموع إلى بيت عروسه ، ويدخل عليها ويبقى عندها سبعة أيام ، وفي اليوم السابع يخرج( ) لمباشرة أعماله ، ومن عاداتهم أن يُقَدِّمَ المدعوون للعريس ظرفًا مختومًا ، بداخله بعض النقود ، يكتب عليه اسم صاحبه ومقدار النقود التي بداخله ، كل على قدر حاله ، ويسمونه : ( الطرح ) ، ويكون مساعدة له ودينًا عليه يرده بدوره لمن يتزوج بعده من ضيوفه ، الذين حضروا عرسه وأعطوه هذا المال( ) .
2 - الولادة : ومن عاداتهم في مكة أنهم ينظفون المولود بعد ولادته بأربعين يومًا ويلبسونه ملابس جديدة بيضاء مزركشة بالقصب ، ويضعونه عند الكعبة المشرفة ، ثم يذهبون به إلى المدينة المنورة ، ويدخلونه الحجرة الشريفة ، ويغطُّونه بستارتها ويدعون له بالخير( ) .
ومن عادات المكيين التي ذكرها إبراهيم رفعت : (( أن يرسلوا أولادهم منذ نعومة أظفارهم إلى البادية إلى قبيلة عدون ، التي في شرق الطائف ، وهي قريبة من بني سعد ، التي أرضع فيها الرسول ? ، فينشؤون فيها على البداوة التامة ... ، حتى إذا ترعرعوا عادوا إلى مكة ، وقد تعلموا بعض لغات القبائل ، وحفظوا من أشعارهم ، وأخذوا من عاداتهم وأخلاقهم ، التي من أحسنها : الفروسية ، والحرية في القول والفعل ))( ) .
3 - الوفاة : ومن عادات أهل مكة أنه عند موت الميت ، تصرخ أقرب النساء إليه صرخة واحدة أو صرختين ، فتتوافد عليها النساء ، فيجدن الحناء بجوار قاعة الجلوس ، فتخضب كل واحدة منهن إحدى يديها ثم يدخلن القاعة ، وبعد أن يعزين صاحبة الفقيد بكلمات قليلة ، يجلسن ويتحدثن في شؤون مختلفة ثم ينصرفن ، أما بالنسبة للميت فيأخذه بعض أقاربه ويدفنونه ، وبعد الدفن يذهب الرجال للتعزية( ) ، ويقيم أهل المتوفى عزاءهم ثلاثة أيام بعد صلاة المغرب ، فيستقبلون المعزين خلال تلك الأيام( ) .
4 - الاصطياف : من عادات أهل مكة التي فرضها عليهم جوُّ مكة الحار ، إذ يهرعون إذا اشتد الحر إلى الأماكن الرطبة ، في الواحات القريبة من مكة ، مثل : مرّ الظهران ، ووادي نحلة ، والطائف ؛ لطيب هوائها وكثرة بساتينها ، ويرتفع الطائف عن بحر جدة ( 545 مترًا ) ، وترتفع الهَدَا عنه ( 1758 مترًا ) ، وأشهر مصيف في الطائف يسمى شُبْرا( ) ، وهو لأشراف بني عون ، وحدائق الطائف مشهورة بخوخها وعنبها وفواكهها ، ومائها العذب( ) .
ولقد حرص المكيون عبر القرون ، ولا سيما الأغنياء منهم على الذهاب إليها ، كما حرصوا على تملك البساتين والمزارع بها( ) .
5 - الأزياء والملابس : مما لا شك فيه أن ملابس أهل مكة تأثرت كلغتهم بالوافدين في القرن الثامن الهجري على مكة من الحجاج والمجاورين ، أما عن لباسهم ، فقد أشار ابن بطوطة في سياق حديثه عن أهل مكة وفضائلهم إلى ملابسهم ، بقوله : (( وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس ، وأكثر لباسهم البياض ، فترى ثيابهم أبدًا ناصعة ساطعة ))( ) .
وقد روى ابن جبير بقوله : (( إن الأمير مكثر خرج في بداية شهر جمادى الأولى ( من سنة 579هـ/1184م ) للطواف كالعادة عند بداية الشهر الهجري ، لابسًا ثوبًا أبيض ، متقلدًا سيفه ، متعممًا ( بكرزية ) صوف بيضاء رقيقة ))( ) .
كما كان الأمراء في مكة يلبسون الخلع التي يهديها إليهم السلاطين والخلفاء ، كالخلعة التي أهداها سيف الإسلام ( طغتكن ) بن أيوب إلى الأمير مكثر سنة ( 579هـ/1184م ) ، وهي حلة ذهب كانت تجر على الأرض فيسحب أذيالها ، وعمامة شرب رقيقة سحابية اللون ، كانت ملفوفة كالكرة على رأسه ، وقد وصفها ابن جبير بقوله : (( كأنها سحابة مركومة )) ، وكانت مصفحة بالذهب ، وتحت الحلة خلعتان من الديبقي المرسوم ، البديع الصنعة( ) .
وكان العرب يكرهون ارتداء الملابس الملونة ، بل كانوا يعيبون لابسيها ، ويعدونه تشبهًا بالنساء والإماء ، وكان أقصى ما يجيزونه للرجل من الملابس الملونة داخل بيته ، ويضيف ( آدم متز ) أن البياض لبس الرجال ، ولا يلبس الرجال الملون إلا إذا كان لونه طبيعيًا ، لأن الألوان غير الطبيعية من لبس النساء والإماء( ) .
ويشير ابن جبير إلى أن قضاة الحجاز في فترة رحلته كانوا يلبسون ثيابًا سودًا ، وعمامة سوداء ، وطيلسانًا أسود ، وذلك تشبهًا بالعباسيين ، الذين كان شعارهم السواد ، والحجاز كانت تابعة لهم من الناحية الاسمية( ) ، وكان القضاة والعلماء يلبسون العمائم من الشاشات الكبيرة ، ومنهم من يرسل بين كتفيه ذؤابة تلحق قربوس سرجه ، ومنهم من يجعل عوض الذؤابة طيلسانًا ، ويلبس فوق ثيابه ( دلقًا ) متسع الأكمام( ) ، وأما في الشتاء فكان ملبوس القضاة والعلماء الفوقاني( ) .
أما لباس المرأة فيتكون من ملاءة فضفاضة ، وقميص مشقوق عند الرقبة ، وعليه رداء قصير ضيق يلبس عادة في البرد ، وإذا خرجت من بيتها ترتدي ملاءة طويلة تغطي جسمها وتلف رأسها بمنديل يلف فوق الرقبة( ) .
6 - الأطعمة والأشربة : وصف ابن المجاور أكل أهل مكة بقوله : (( إن أكلهم المفضل هو اللحم والسمن ، والخبز( ) ، ولاحظ ابن بطوطة أن أهل مكة يأكلون وجبة أساسية واحدة في اليوم بعد صلاة العصر ، بينما تقتصر الوجبات الأخرى على التمر( ) .
ومن الأمور التي لفتت انتباه ابن جبير في الأطعمة البطيخ ، ووصفه بقوله : (( ومن أعجب ما اختبرناه من فواكهها البطيخ والسفرجل ، وكل فواكهها عجب ، لكن للبطيخ فيها خاصة من الفضل عجيبة ، وذلك لأن رائحته من أعطر الروائح وأطيبها ... فتجد رائحته العبقة قد سبقت إليك ، فيكاد يشغلك الاستمتاع بطيب رياه ( رائحته ) عن أكلك إياه ، حتى إذا ذقته خيل إليك أنه شيب ( خلط ) بسكر مذاب أو بجنى النحل ( عسله ) ))( ) .
ثم يضيف : (( وأما لحوم ضأنها فهناك العجب العجيب ،إنها أطيب لحم يؤكل في الدنيا ، وما ذاك - والله أعلم - إلا لبركة مراعيها( ) .
ويضيف بقوله : (( وأما الحلوى فيُصنع منها أنواع غريبة من العسل ، والسكر المعقود على صفات شتى ، في الأشهر الثلاثة : رجب وشعبان ورمضان ، ويتصل منها أسمطة ( موائد ) بين الصفا والمروة ، ولم يشهد أحد أكمل منظر منها ))( ) .
ب - أخلاق المدنيين وفضائلهم وعاداتهم وملابسهم وطعامهم :
تتشابه الصورة الاجتماعية بين مكة والمدينة في العادات وفي الملابس والأطعمة ، ولا تفوتنا الإشارة إلى أن المصادر التي كتبت الشيء اليسير عن مظاهر الحياة الاجتماعية في مكة المكرمة في فترة دراستنا ، لم تشر البتة إلى مظاهر الحياة الاجتماعية بالمدينة المنورة ، حتى إن ابن جبير الذي نقل لنا صورة شبه واضحة عن الحياة الاجتماعية في مكة في فترة رحلته ، لم يتعرض بكشاف نظره إلى النواحي الاجتماعية بالمدينة ، وكذلك ابن بطوطة والتجيبي - والبلوي والسبتي .
إلا إن بعض الرحالة الذين أتوا من بعدهم في القرن العاشر والحادي عشر الهجري قد ذكروا بعض النواحي الاجتماعية بالمدينة المنورة مثل :
1 - الزواج : كقولهم : (( ومن عادات أهل المدينة في الزواج أنه إذا رغب فتى في الاقتران بفتاة اتفق أهله مع أهلها ، ثم تذهب أسرة الزوج إلى منزل آل العروس ، فيقوم خطيب من قبل الأولين يخطب خطبًا نثرية وشعرية ، يعدد فيها مفاخر الزوجة ، ويلمِّح فيها باسم العروس ، ثم يقوم خطيب من قبل أهل المخطوبة ، فيعدد مآثر الزوج ومفاخر أسرته ، ثم يقبض المهر بأكمله ))( ) ، ويستحضر المهر في صندوق من فضة ، به ورقة يكتب فيها مقدار المهر ، وقيمة الجارية التي يشتريها والد الزوج لتخدمها ، وتقام وليمة في منزل الزوج يوم نقل الجهاز ، ويحدد يوم الدخول بعد نقل الجهاز بأسبوع ، ولا يباح للزوجة أن تخرج من منزل زوجها إلا بعد قضاء سنة ، وربما تساهلوا إلى ستة أشهر ، وتقام الولائم للرجال والنساء ليلة الزفاف وليلتين قبلها ، وليلة بعدها( ) .
(( ومن عاداتهم في الإملاكات أن يكون عقد النكاح في المسجد ))( ) .
2 - ومن عاداتهم عند الموت إذا فاضت الروح لا يُرفَعُ صوتٌ ، ولا يشق جيب ، ولا تنوح نائحة ، ولكن تبكي العين ويحزن القلب ، ولا يقولون ما يغضب الرب ، ولا تتبع امرأة جنازة .
وقد جرت العادة أن الميت بعد أن يُوَارى الثرى يقف أهل الميت فيعزيهم الناس ، ثم يعيدون الكَرَّة إذا رجعوا إلى منزله ، ويحضرون إليه ليالي ثلاثًا ، ليقرؤوا القرآن ويستغفروا له .
ومن عادات أهل المدينة أنهم كانوا يزورون المقابر رجالاً ونساء ، ليلة الاثنين وليلة الخميس ، ويأخذون معهم الريحان يضعونه على القبور( ) .
3 - ومن عادات أهل المدينة عمل العقيقة للمولود يوم الولادة ، وربما كررها الأغنياء في اليوم السابع ، الذي يُسَمُّون فيه المولود ، وإذا أتم الطفل أربعين يومًا أثقله أهله بالزينة ، وذهبت أمه وقريباته ومعهن القابلة إلى المسجد النبوي قبيل المغرب ، فبعد أن ينتهي النساء من صلاة المغرب ، يأتي أحد الخصية ( الأغوات ) ، فيأخذه ويدخله الحجرة ، ويضعه تحت الستر الذي هناك عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون معه ( عيش لت ) مغموس بالسمن يدخل معه الحجرة ، ثم يوزع بعد ذلك على الأهل والأقارب ، ويعطى للخصي نظير ذلك بن وسكر ودراهم( ) .
4 - ومن عادات أهل المدينة كذلك أنهم يُقَدِّمُون كل سنة في ليلة السابع والعشرين من شهر ذي القعدة كمية من الحنطة هديةً إلى الحجرة الشريفة ، وبعد أن تغسل الحنطة وتُنَظَّفَ جيدًا توضع في كيس جديد من القماش الأبيض ، وهذه الأكياس يأخذها خدم الحجرة الشريفة ويهدون منها إلى عظماء المسلمين تبركًا( ) .
5 - كما أشار العياشي إلى بعض عادات أهل المدينة ، في زمن رحلته ( القرن الحادي عشر الهجري ) ، أن : (( من عاداتهم إذا كان اليوم السابع عشر من ذي القعدة ، ويسمونه (( الكنيس )) ، جمعت بسط الحرم الشريف كلها وأدخلت إلى المخازن ، فلا يبقى في المسجد إلا الحصر ، وأدخلت المصاحف التي في المسجد ، والسُّبحات إلى الروضة ، ورد كل من استعار كتابًا إلى صاحبه ... واقتضى غالب الديون ، وتفاصل الشركاء ، وانتهى أمد غالب الأكرية ، يتهيأون بذلك للموسم ، لأنه في غالب الأمر مظنة ارتحال قاطن ، وقدوم غائب ، واجتماع الناس من الآفاق ، واشتغال أهل المدينة بقبض الأوقاف والجرايات التي تأتيهم من الآفاق ، وأيام الموسم عند أهل الحرمين الشريفين يجمعون فيها غالب أمور معاشهم ، فلا يتفرغ أحد لتدريس ولا عبادة إلا ما لا بد منه ، فإذا انقضت أيام الموسم ، وذهب الركبان القادمون من الآفاق ، ولم يبق بالحرمين إلا أهلها رجعوا إلى معتاد حالهم( ) .
6 - ويضيف : (( ومن عادة أهل المدينة أيضًا في كل ليلة جمعة أن يجتمع الناس بعد صلاة العشاء في آخر أروقة المسجد النبوي ، فيأتي جماعة من المنشدين ، فينشد كل واحد منهم قصيدة أو قصيدتين ))( ) .
7 - ثم يستفيض العياشي في وصف عادات أهل المدينة بقوله : (( وأهل المدينة - زادهم الله خيرًا ووسَّع عليهم - أهل رفاهية ، وتوسُّع في المعيشة في زماننا هذا ( زمن رحلته ) ، وتغالٍ في الملابس الفاخرة ، وتزيوا بزي الأعاجم في مأكلهم ومشاربهم وملابسهم ، لكثرة سكنى الأعاجم بها )) ، ويضيف : (( ولأهل المدينة ولوع وغرام بأكل اللحم ، زاعمين أنهم يَسْتَضِرُّون( ) بتركه ؛ لحرارة أبدانهم ويبسها ، فيحصل لهم الترطيب به ، فإذا أكلوا غيره حصل لهم يبس في الطبيعة ، حتى إن من نسائهم من لا تطبخ غداء ولا عشاء إلا أن يكون لحمًا ))( ) .
من المعروف أن العنصر السكاني من حيث الجنس والدين ، وطبقات المجتمع ، ثم العادات والتقاليد والأعياد والاحتفالات والألبسة والأطعمة والمنشآت الاجتماعية ، فضلاً عن الأحوال السياسية والأوضاع الاقتصادية ، كل ذلك عوامل مؤثرة في الحياة الاجتماعية في أي بلد من البلاد( ) .
ومكة والمدينة هاتان المدينتان المقدستان لهما من الأهمية ما جعلهما تنفردان في بعض العوامل المؤثرة في حياتهما الاجتماعية ، أهمها : الحج وأوقاف الحرمين والمجاورون .
كما أن الأحوال السياسية ، والأوضاع الاقتصادية ، لها أثر كبير في الحياة الاجتماعية في هاتين المدينتين المقدستين ، بالإضافة إلى العناصر التي سبق ذكرها ، وسوف أتطرق إلى أثر هذه العوامل في الحياة الاجتماعية في مكة والمدينة في القرن الثامن الهجري .
أولاً : الحج وأثره على الحياة الاجتماعية في مكة المكرمة والمدينة المنورة :
للحج آثار اجتماعية كبيرة ، تنبع من الآثار الاقتصادية المرتبطة به ، والدخل الذي يحققه لأهالي المدينتين المقدستين ، كما نبع من الاختلاط بالوافدين من أنحاء العالم الإسلامي ، أما الجانب الاقتصادي ، فهناك ثلاثة مصادر أساسية للدخل ، ترتبط جميعها بالحج ، وتعتمد عليها الحياة الاقتصادية في المدينتين المقدستين ، ولا يخفى ما للحياة الاقتصادية من أثر كبير على الحياة الاجتماعية ، وهذه المصادر هي :
1 - الضرائب والرسوم التي تجبى من الحجاج والتجار ، وما ينفقه الحجاج في مواسم الحج .
2 - الحركة التجارية للمدينتين المقدستين في موسم الحج .
3 - الأوقاف والهبات والصدقات التي توزع في موسم الحج .
لقد أتاح الحج للمجتمع المكي والمدني الاختلاطَ بأبناء الشعوب الإسلامية الوافدين إلى المدينتين المقدستين للحج والزيارة ، فيحتكون بهم ويتفاعلون معهم ، ويرون ملبسهم ومأكلهم ولهجاتهم التي يتحدثون بها ، ويطلعون على جانب من عاداتهم وتقاليدهم ، خصوصًا وأنهم يقيمون مدة لا تقل عن شهر في مكة( ) ، ومثلها أو أقل منها في المدينة ، فيتعايشون مع هؤلاء الحجاج ، ويشهدون عن كثب ما يمارسون من نشاطات ، وليس بوسع أفراد المجتمعين إلا أن يتأثروا فيما يرون( ) .
وقد يتطور هذا التعايش بين المجتمعين : المكي والمدني والحجاج ، وتحصل بعض المصاهرات التي تؤدي إلى امتزاج هذه الأجناس القادمة إلى الحج ، فيختلطون ببعضهم ، ولا يزال المجتمع المكي والمدني في عصرنا الحاضر يعكس آثار ذلك بشكل ملحوظ ؛ فنجد هذا الامتزاج ظاهرًا في كثير من الأمور ، (( فتراهم قد جمعوا إلى طبائعهم : وداعة الأناضولي ، وغلظة التركي ، واستكانة الجاوي ، وكبرياء الفارسي ، ولين المصري ، وصعوبة الشركسي ، وسكون الصيني ، وحدة المغربي ، وبساطة الهندي ، ومكر اليمني ، وحركة السوري ، وكسل الزنجي ))( ) .
ولذا فإنه من المؤكد أن الحج قد فعل فعله بالنسبة للمجتمع المكي والمدني خلال الفترة التي تغطيها الدراسة ، وأنَّ ما ذُكِرَ هو مجرد استنتاج أو استنباط من خلال الشيء اليسير الذي عَرَضَ له المؤرخون والرحالة في هذه الفترة الزمنية( ) .
ثانيًا : أوقاف الحرمين :
أوقاف الحرمين مورد اقتصادي كان له أكبر الأثر في إنعاش الحياة الاجتماعية في المدينتين المقدستين ، وتأمين الحياة الاجتماعية لسكانهما ، كما كان يُنفق منها على مصالح الحرم المكي والمسجد النبوي ، علاوة على المؤسسات الدينية والخيرية ، وبخاصة المدارس والأربطة التي أنشئت في مكة والمدينة ، وكان جزء من ريع بعض الأوقاف يذهب إلى أمراء الحرمين الشريفين ، وبعضها إلى الفقراء والمجاورين( ) .
وكانت هذه الأوقاف معظمها في مصر والشام ، والباقي منتشر في أنحاء العالم الإسلامي ، وكان ريعها يحمل إلى المدينتين المقدستين في كل عام لتصرف في وجوهها .
ومن الملاحظ : كثرة الأوقاف على الحرمين الشريفين في العصر المملوكي ، فنجد السلطان الظاهر بيبرس أوقف على الحرم المكي أوقافًا في مصر والشام سلَّم ريعها إلى أمير مكة عام 667هـ/1268م( ) .
ثم عُنِيَ السلطان الناصر محمد بن قلاوون بالوقوف على ما يشكو منه أهالي الأماكن المقدسة بالحجاز ، وصار يمدهم بالغلال حينما زاره عطيفة بن أبي نمي يشكو القحط سنة 722هـ/1322م( ) ، كما قام بإلغاء المكوس التي كانت مفروضة على المأكولات ، وعوض أمراء الحرمين عنها بأوقاف في مصر والشام( ) ، وتبع الناصرَ في صدقاته وأوقافه أولادُه من بعده ، فأوقف الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون (743-746هـ/1342-1345م ) على كسوة الكعبة وخدم المسجد النبوي( ) .
هذه مجرد أمثلة عن الأوقاف في الحرمين الشريفين ، التي كان لها الأثر الكبير في إنعاش الحالة الاقتصادية في الحرمين الشريفين ، مما كان له أثر في الحالة الاجتماعية ، وارتفاع مستوى معيشة أهل الحرمين الشريفين ، كما حرص سلاطين المماليك على تقديم العون في حالة القحط والشدة لأهالي الحرمين الشريفين .
ثالثًَا : المجاورون وأثرهم في الحياة الاجتماعية في مكة والمدينة .
لم يكن المجاورون عنصرًا سلبيًا في المجتمع المكي والمدني يتلقى التأثير من المحيط الجديد الذي يعيش فيه فحسب ، بل كانوا يعيشون في صميم المجتمع ، فيؤثرون ويتأثرون ، ولا شك أنهم حملوا معهم كثيرًا من عاداتهم وتقاليدهم ، ونشروها في المجتمعين دون قصد منهم .
كما يلاحظ أن أكثر المجاورين كانوا من العلماء والزُّهَّاد ، أو من كبار التجار ، الذي جاؤوا ليقضوا شيخوختهم في الأماكن المقدسة ، وكان هؤلاء المجاورون خيرًا وبركة على المدينتين المقدستين وعلى أهلهما الكرام ، سواء أكانوا علماء أم تجارًا ، فقد استفاد أهالي الحرمين الشريفين من علمهم وأموالهم ، كما أن المجاورة لم تكن قاصرة على قضاء سنوات آخر العمر ، بل قد تكون هذه المجاورة لطلب العلم أو لنشره ، أو للراحة وطلب الصفاء الروحي والذهني ، يعود بعدها المجاور للبذل والعطاء في مجال علمه أو عمله ، كما أن هؤلاء المجاورين شاركوا سكان المدينتين أفراحهم وأتراحهم ، وتفاعلوا مع الحياة الاجتماعية في المدينتين المقدستين ، وانصهروا في مجتمعهما ، إما من خلال التفاعلات أو التعاملات اليومية ، أو من خلال المصاهرات والزواج ، الذي قوَّى تلك التفاعلات ووطدها ، مما أثر في المجتمعين الكريمين ، المكي والمدني في نواحيه كافة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق