التوزيع الجغرافي للسكان في اليمن
د. عباس فاضل السعدي
رسائل جغرافية: العدد: 51
المجلة الجغرافية الكويتية نشرة دورية محكمة تعنى بالبحوث الجغرافية يصدرها قسم الجغرافيا بجامعة الكويت و الجمعية الجغرافية الكويتية
مارس 1983م - جمادى الأولى 1403هـ
مقدمة
الحقائق السكانية التي تجسد توزيع السكان وأعدادهم وكثافاتهم في المكان : تشكل جانباً مهماً بين شواغل المجتمع المعاصر. ولئن انكب عليها الجغرافي أو الديموغرافي أو الاقتصادي أو عالم الاجتماع وأولاها الاهتمام فهو على حق، لأنها تخدم حركة الحياة ، بقدر ما تخدم تطلع حركة الحياة إلى ما هو أفضل اقتصادياً و حضارياً.
وقد تفصح هذه الحقائق عن تباين توزيع السكان وسوء هذا التوزيع على مستوى القطر أو القارة أو العالم، ولكنها في الوقت نفسه تكشف عن سلبيات سوء التوزيع والتباين بين الكثافات السكانية وايجابياتهما، وعندئذ يجد الباحث فرصاً مفيدة لكي يتجاوز في بحثه الرؤية التي تكشف عن سوء التوزيع ، ويعكف على إدراك سلبيات يتجاوز سوء التوزيع السكاني وايجابياته. وهل غير ذلك سبيل لكي يتلمس الباحث الجغرافي العلاقة بين التوزيع السكاني والكثافات من ناحية أخرى، وحركة الحياة ومصالحها الحيائية من ناحية أخرى؟ وليس أدل على عدم الانتظام في توزيع السكان - في قطر مثل اليمن - من أن أكثر من أربعة أخماس السكان يقطنون في أكثر من ٤٠ % من مساحة القطر المذكور. بل إن هناك مناطق غير معمورة يتناثر فيها عدد محدود من السكان في مساحات شاسعة جداً.
ويبدو شكل التوزيع السكاني في القطر اليمني على نقيضه في أجزاء أخرى من الوطن العربي، فإذا كان قلب الوطن العربي مقفراً سكانيا لامتداد الصحاري في معظم جهاته، ويكون توزيع السكان فيه هامشيا حيث يتركزون بإحدى الحواشي الضيقة لا سيما في بعض المناطق الساحلية أو أودية الأنهار، نجد اليمن على العكس حيث يعتبر قلب اليمن من أكثر مناطقه ازدحاماً بالسكان لظروف طبيعية مواتية. ونقل الكثافة في المناطق الهامشية لتطرف المناخ جفافاً أو رطوبة، فضلاً عن وجود التربة الرملية المجدية في مثل تلك البقاع.
والمشكلة التي يواجهها الباحث، الذي يرغب في دراسة أي جانب سكاني في اليمن: تتمثل في نقص المعلومات وضانتها وقصورها، بسبب انعدام الإحصاءات الدقيقة، أو بسبب انعدام الثقة العلمية بها. وهذا ليس بغريب في بلد كاليمن ، لم يعرف التعدادات السكانية الحديثة إلا منذ وقت قصير، فأول تعداد شامل للمساكن والسكان تم إنجازه في فبراير (شباط ١٩٧٥). ولا شك أن نتائج هذا التعداد تمثل الآن أكثر المعلومات قيمة عن سكان اليمن من الناحيتين الديموغرافية حتى والجغرافية.
و تمثل جميع البيانات السكانية، في الفترة التي سبقت عام ١٩٧٥، أرقاماً تقديرية. وكانت هذه البيانات من صياغة أو اقتراح بعض الهيئات الرسمية كالجهاز المركزي للتخطيط، أو المصالح الداخلية المسئولة عن تحصيل الزكاة، أو منظمة الأمم المتحدة، أو غيرها. ونظرا لاختلاف هذه المصادر وتعددها تباينت الأرقام التقديرية من مصدر لآخر، وبحسب تنوع هذه المصادر وتعددها تراوح تقدير عدد سكان الجمهورية العربية اليمنية بين ٢,٥-٩ ملايين نسمة.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد سكان اليمن في عام ١٩٤٠ كان (٣,٥) وقد مليون نسمة، وأنه ارتفع في عام ١٩٤٩ إلى (٤٥) مليون نسمة) اعتمدت هذه الإحصائيات على السجلات الحكومية للضرائب التي تعد المنبع الإحصائي الوحيد الموجود في اليمن. وتبالغ بعض التقديرات حتى يصل العدد إلى رقم خيالي بعيد عن الواقع.
ويمثل وبموجب تعداد عام ١٩٧٥ بلغ عدد سكان الجمهورية العربية اليمنية الموجودين في الداخل - بحسب بيانات الفريق السويسري - ٤,٧٠٥,٣٣٩ هذا الرقم السكان المسجلين في التعداد ، بالإضافة إلى السكان الذين لم يشملهم الحصر لاعتبارات فنية واجتماعية وكذلك سكان المناطق التي لم يمر فيها التعداد.
غير أن بيانات النتائج النهائية للتعداد الصادرة عن الجهاز المركزي للتخطيط ترفع هذا الرقم إلى ٥,٢٥٨,٥٣٠ نسمة ويرجع سبب الاختلاف إلى أن الجهاز المركزي للتخطيط يقدر عدد الذين لم يشملهم الحصر لاعتبارات فنية واجتماعية وسكان المناطق الذين لم يشملهم الحصر (۷۱۸,۳۰۰) نسمة ، في حين أن الفريق السويسري يقدر عدد هؤلاء بنحو (١٨٥,٧٤٣) نسمة.
ويرجع الباحث الرقم الذي توصل إليه الفريق السويسري لخدمات التعاون الفني، حيث اعتمدت دراسته على مسح جوي وميداني للتحقق من صحة نتائج تعداد السكان في فبراير ۱٩٧٥ امتد من نوفمبر (ت (۲) ١٩٧٥ حتى أغسطس (آب) ١٩٧٦) ، تلته فترة أخرى لتحليل المعلومات على الحاسب الإلكتروني وأجهزة التفسير الفوتوغرافي في معهد الجغرافيا بجامعة زيوريخ امتدت من أكتوبر (ت 1 ) ۱۹۷۹ حتى مارس من ( آذار ) ۱۹۷۸م.
وإذا اعتمدنا على تقديرات الجهاز المركزي للتخطيط حول عدد اليمنيين المهاجرين والموجودين في الخارج عام ۱۹۷۵ والبالغ ١,٢٣٤,٠٠٠ نسمة . يصبح جملة سكان اليمن ٥,٩٣٩,٣٣٦ نسمة.
وعليه فإن كل ما كان يشاع عن عدد السكان قبل تنفيذ تعداد عام ١٩٧٥ ما هو إلا تقدير بحث تصطنعه افتراضات وتخمينات شخصية لا تستند على أية أسس مقبولة، بل ولا يوجد ما يؤيد صحتها والقبول بها، خاصة وأن العدد الأقصى لم يزد في أي سنة من السنوات عن (۲٫٥) مليون نسمة ).
كما أن للاكتظاظ السكاني الناجم عن تراكم أعداد السكان خلال حقب زمنية متعددة شروطاً لابد من توفرها، وهي استقرار مدعم بثبات مصادر المياه وبالتالي الموارد الاقتصادية، وكذلك بمستوى صحي مقبول يبقي على قيد الحياة أعلى نسبة من المواليد الذين يأتون إلى الحياة كل عام .
ولذلك نرى أن عدد السكان الذي تم الحصول عليه في تعداد عام ١٩٧٥ ينبغي أن يعتبر رقماً صحيحاً ومعتمداً طالما أنه لا توجد براهين ثابتة تشكك في دقته.
وقد أكدت عمليات المسح الجوي والميداني التي قام بها الفريق السويسري أن التعداد تم بالشمول والدقة المطلوبين، بل يمكن القول بأن نسبة شمول التعداد لا يمكن أن تقل عن ٩٧,٥% .
واستناداً إلى النتائج الأولية للحصر السكاني التعاوني لعام ۱۹۸۱ الذي قامت به هيئات التعاون الأهلي للتطوير قفز إجمالي سكان اليمن إلى ٨,٥٥٦,٩٧٤ نسمة منهم ٦,٤٥٦,١٨٩ نسمة يقيمون في الداخل و ٦٦٢, ٧٠٥ نسمة لم يشملهم الحصر لاعتبارات فنية واجتماعية، بالإضافة إلى ١٫٣٩٥٫١٢٣ نسمة يقيمون في الخارج إلا أن المؤشرات الديموغرافية المستخلصة من نتائج الحصر التعاوني المذكور لا تتطبق على واقع المجتمع اليمني، فاستناداً على النتائج المذكورة ازداد عدد سكان اليمن الموجودين في الداخل بين عامي ۱۹۷۵ و ۱۹۸۱ من ٤٧ مليون إلى ٧,٢ مليون نسمة ، أي بنسبة تغير مقدارها ٥٣% أو بمعدل نمو قدره ۷٫۳ % سنوياً " . وهذا رقم بعيد عن الواقع ، لأن أغلب تقديرات معدلات النمو في اليمن تشير إلى أنه لا يزيد عن ٢٫٤% سنوياً ، كما أن نسبة النوع جملة سكان اليمن في الحصر التعاوني الأخير تبلغ ١٢٥، وهو رقم بعيد أيضاً عن واقع اليمن وواقع معظم دول العالم.
ومن ثم نشك ونتشكك في مدى دقة الحصر السكاني التعاوني الأخير لا سيما وأن الذين نفذوه لم يكونوا من المختصين في مجال التعدادات السكانية . كما لم تراع فيه الشروط الفنية الخاصة بالتعدادات. ومع كل ذلك فقد تم الاعتماد على الحصر التعاوني المذكور في هذه الدراسة لعدم توفر تعداد حديث غيره يساعد على المقارنة تعداد عام ١٩٧٥.
ومهما يكن من أمر فإن البحث الذي نحن بصدده يهدف إلى دراسة التوزيع الجغرافي لسكان الشطر الشمالي من اليمن وابرز العوامل المؤثرة فيه، مع بيان طبيعة هذا التوزيع وأبرز خصائصه وأنواعه ، بالإضافة إلى تحديد أنماطه ومقاييسه.
ولتحقيق الهدف المذكور يتطلب منا هذا البحث دراسة الموضوعات الآتية:
1- العوامل المؤثرة في التوزيع الجغرافي للسكان.
2- توزیع السكان حسب الأقاليم الطبيعية.
3- التوزيع الجغرافي للقبائل اليمنية.
4- التوزيع النسبي للسكان.
5- مقاييس توزيع السكان.
6- خاتمة.
ومن ثم تكون النتائج التي يصل إليها البحث، وتحتويها خاتمة، خير ما يصور أو يعبر عن مبررات الدراسة والمتابعة وإلقاء الأضواء على الحقيقة السكانية بكل أبعادها في الحاضر والمستقبل.
دكتور عباس فاضل السعدي
تحميل المجلة
⇓
⇓
⇓
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق