الثقافة الجغرافية.. في حياة المواطن
جريدة الأهرام : بقلم د. أحمد عبدالعال - أستاذ الجغرافيا بجامعة الفيوم :
يثير بعض الزملاء بين الحين والآخر كثيرا من الشجون فيما يتعلق بشئون علم الجغرافيا في غالبية دول العالم الثالث ومنها مصر, ذلك أن هذا العمل الذي يعتبره الكثير من العلماء أول علم عرفته البشرية هو آخر العلوم التي تنال اهتمام المسئولين عن العملية التعليمية في بلدنا في السنوات الأخيرة, والجغرافيا في أبسط تعريف لها وكما كتب أعظم المتخصصين فيها الراحل د. جمال حمدان هي علم التباين الارضي, بمعني التعرف علي الاختلافات الرئيسة بين أجزاء الأرض علي كل المستويات, ومن ثم التعرف علي شخصيات الأقاليم, ولهذا كان أعظم ما كتب عن مصر بعد كتاب وصف مصر المكتوب بأقلام علماء الحملة الفرنسية هو كتاب شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان للراحل الكريم, وفيه كتب ان وحدة مصر الحقة إنما تتبلور في جغرافيتها الباقية أكثر بيقين مما تبدو في تاريخها المفعم بالمتغيرات..
ولسنا هنا بصدد إيراد كل تعريفات العلم, ولكن يكفي أن نعرف أنه حلقة الوصل بين العلوم الطبيعية والبشرية, حيث تصل الجغرافيا ما فصل التخصص الاكاديمي الضيق من ناحية, وأنه يهدف إلي توفير تفسير منطقي ومعقول لكيفية توزيع الظاهرات فوق سطح الأرض وما بينها من علاقات متبادلة وارتباطات, ولهذا تساءل حمدان إلي من يتجه المواطن العادي والمثقف العام لمعرفة جرهر وطنه؟ ومن هنا تتبدي اهمية العلم لكل من المواطن العادي والمثقف العام وصانع القرار, في ضوء كون الجغرافي الجيد فيلسوفا وأن الجغرافيا هي فلسفة المكان. ولقد تحكمت في جغرافية المواطن المصري العادي ــ ويقصد به ذلك الشخص الذي لم يتلق تعليما جغرافيا كافيا أو الشخص الأمي غير المتعلم علي الإطلاق ــ موروثات مكانية اكتسبها عن طريق المشاهدة العفوية والتجربة الحياتية, أو عن طريق موروثاته الثقافية الفولكلورية, ولاشك أن الجغرافية السلوكية بمفهوم السلوك الجغرافي قد صبغت عقلية المواطن المصري بخصائص مستمدة من شخصية مصر الجغرافية. فمن الثابت أن رتابة فيضان نهر النيل ــ أهم معلم من معالم حياة المصري ساكن وادي النيل قديما وحديثا ــ قد اثرت في شخصيته, كما أن الجهل بجغرافية المكان قد أدي الي حدوث مشكلات جمة لسكان هذا المكان, فلطالما كان اللامعمور المصري مجهولا لمعظم أبناء مصر, ومن ثم ظل مكروها, فكان منفي للمغضوب عليهم من السكان, بل إن مناطق عديدة من صعيد مصر كانت بدورها تمثل أماكن غير معروفة إلا لسكانها فقط..
ولأن معظم سكان مصر يجهلون أنها تواجه مشكلة سكانية حادة فإن هذه المشكلة أخذت في التفاقم عقدا بعد آخر حتي بلغت طريقا مسدودا بسبب عدم إدراك المواطن انه سبب هذه المشكلة قبل أن يكون نتيجة لها, وحتي إذا ما أدرك هذا المواطن أن سكان مصر يتركزون في4% فقط من مساحتها فإنه لو طلب منه الإسهام في حلها عن طريق مغادرة محل إقامته والعيش في إحدي المدن الجديدة تراه يضاعف من المشكلة إذا ما اقتني وحدة سكنية في مدينة جديدة واحتفظ بها حتي يرتفع سعرها ويظل يعيش في مدينته الأولي.
وتسهم بعض الخصائص السكانية بدورها في تكريس هذه المشكلة وتعظيمها, فالجهل الجغرافي المتعلق بمشكلة سوء توزيع السكان وضيق المكان لا يمنح عملية المطالبة بتنظيم الاسرة فرصة حقيقية للتحقق, خاصة في ظل الاعتقاد العام بأن كل مشكلات الإنسان المصري الاقتصادية والاجتماعية إنما تحل فقط بالهجرة إلي المدن الكبري.
ولقد كان من نتيجة عدم الاتزان بين كل من النمو السكاني والنشاط الاقتصادي ومعدلات التحضر المتزايدة بسبب الهجرة الريفية ــ الحضرية اساسا أن واجهت مصر ومنذ خمسينيات القرن الحالي مشكلة النقص المتزايد في المساكن الحضرية, وما نتج عنها من ظهور مستمر للأحياء السكنية العشوائية, ومن ثم استفحلت ظاهرة النمو العمراني الحضري العشوائي في مصر في العقود الأربعة الأخيرة, وانعكست في أزمة السكن الحضري التي تعتبر من أهم أسباب ظهور المناطق العشوائية في مدن مصر, وهي الأزمة التي ظهرت بوضوح نتيجة لمجموعة من الاسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية, والتي زاد من تسارعها وتركزها ومن ثم إلي حدتها وصعوبة التغلب عليها أو معالجتها قلة الوعي الجغرافي أو التثقيف الجغرافي الموجه نحو المواطن المصري بشأنها, ويكفي أن نعلم أن عدد المناطق العشوائية بالمدن المصرية قد فاق الألف منطقة بحلول الألفية الثالثة.
ولا تعتبر الثقافة الجغرافية في مصر جزءا من الحياة اليومية للمواطن المصري, ويتجلي ذلك في كم المشكلات البيئية التي يسببها ويعيش فيها ويعاني من آثارها السلبية غالبية شعب مصر اليوم, وهي المشكلات التي تستنزف تكلفة معالجة آثارها قدرا كبيرا من ميزانية الدولة لو خصص لغيرها لانتقل اهتمام المجتمع من التنمية إلي الرفاه الاجتماعي. ومن أمثلة تدني الوعي البيئي لدي المواطن المصري وجهله بخطورة مشكلة الزحف العمراني علي الأرض الزراعية, أنه ما أن ظهر طريق محور26 يوليو في مدينة القاهرة الكبري حتي بدأ اصحاب الأراضي الزراعية المحيطة بهذا الطريق في تبوير اراضيهم والبناء فوقها بطريقة عشوائية واضحة, وليت الامر اقتصر علي محو الاراضي الزراعية من الوجود لتقام فوقها المباني, بل إن هذه المباني افتقرت إلي أي شكل من أشكال التخطيط الحضري.
ولقد كان المصري القديم في زمن الفراعنة حين تحين لحظة وفاته وحتي لا يلقي العذاب في العالم الآخر يقر بأنه لم يلوث ماء النيل, أما المصري المعاصر في الوقت الراهن فلم يعد يعبأ بهذا الموضوع, برغم أن الحروب المتوقعة في العقود المقبلة هي حروب المياه وبرغم أن رسولنا الكريم قد نبهنا إلي ضرورة الاقتصاد في استخدام المياه ولو كنا علي نهر جار فإن عدم الوعي الثقافي بالحفاظ علي ماء النيل, واستخدامه بصورة عشوائية حتي من قبل بعض الأجهزة الحكومية قلل من اهتمام المواطن بضرورة الحفاظ علي حصة مصر من مياه النيل.
وبرغم أهمية معرفة المواطن أن حياته المريحة تتوقف علي استمرار نقاء بيئته وعطائها, وأن حسن تعامله معها يزيد من هذه الراحة, وأن الإحساس البيئي واجب وطني فإن أخلاقيات البيئة غير موجودة غالبا في الخلفية الثقافية للمواطن المصري, وتتمثل هذه الاخلاق في مجموعة المعايير الموجهة لسلوك المواطن تجاه مكونات البيئة لتحقيق علاقة متوازنة بينهما, وهي معايير تنبع من مصادر ثقافة هذا المواطن الدينية والقيمية والقانونية.
من كل ما سبق تتضح أهمية الثقافة الجغرافية في حياة المواطن المصري ودورها في حل معظم مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والبيئية, فهل يعود الاهتمام بهذا العلم وأهميته مرة أخري قبل أن تبلغ روح الجغرافيا التراقي.
ولسنا هنا بصدد إيراد كل تعريفات العلم, ولكن يكفي أن نعرف أنه حلقة الوصل بين العلوم الطبيعية والبشرية, حيث تصل الجغرافيا ما فصل التخصص الاكاديمي الضيق من ناحية, وأنه يهدف إلي توفير تفسير منطقي ومعقول لكيفية توزيع الظاهرات فوق سطح الأرض وما بينها من علاقات متبادلة وارتباطات, ولهذا تساءل حمدان إلي من يتجه المواطن العادي والمثقف العام لمعرفة جرهر وطنه؟ ومن هنا تتبدي اهمية العلم لكل من المواطن العادي والمثقف العام وصانع القرار, في ضوء كون الجغرافي الجيد فيلسوفا وأن الجغرافيا هي فلسفة المكان. ولقد تحكمت في جغرافية المواطن المصري العادي ــ ويقصد به ذلك الشخص الذي لم يتلق تعليما جغرافيا كافيا أو الشخص الأمي غير المتعلم علي الإطلاق ــ موروثات مكانية اكتسبها عن طريق المشاهدة العفوية والتجربة الحياتية, أو عن طريق موروثاته الثقافية الفولكلورية, ولاشك أن الجغرافية السلوكية بمفهوم السلوك الجغرافي قد صبغت عقلية المواطن المصري بخصائص مستمدة من شخصية مصر الجغرافية. فمن الثابت أن رتابة فيضان نهر النيل ــ أهم معلم من معالم حياة المصري ساكن وادي النيل قديما وحديثا ــ قد اثرت في شخصيته, كما أن الجهل بجغرافية المكان قد أدي الي حدوث مشكلات جمة لسكان هذا المكان, فلطالما كان اللامعمور المصري مجهولا لمعظم أبناء مصر, ومن ثم ظل مكروها, فكان منفي للمغضوب عليهم من السكان, بل إن مناطق عديدة من صعيد مصر كانت بدورها تمثل أماكن غير معروفة إلا لسكانها فقط..
ولأن معظم سكان مصر يجهلون أنها تواجه مشكلة سكانية حادة فإن هذه المشكلة أخذت في التفاقم عقدا بعد آخر حتي بلغت طريقا مسدودا بسبب عدم إدراك المواطن انه سبب هذه المشكلة قبل أن يكون نتيجة لها, وحتي إذا ما أدرك هذا المواطن أن سكان مصر يتركزون في4% فقط من مساحتها فإنه لو طلب منه الإسهام في حلها عن طريق مغادرة محل إقامته والعيش في إحدي المدن الجديدة تراه يضاعف من المشكلة إذا ما اقتني وحدة سكنية في مدينة جديدة واحتفظ بها حتي يرتفع سعرها ويظل يعيش في مدينته الأولي.
وتسهم بعض الخصائص السكانية بدورها في تكريس هذه المشكلة وتعظيمها, فالجهل الجغرافي المتعلق بمشكلة سوء توزيع السكان وضيق المكان لا يمنح عملية المطالبة بتنظيم الاسرة فرصة حقيقية للتحقق, خاصة في ظل الاعتقاد العام بأن كل مشكلات الإنسان المصري الاقتصادية والاجتماعية إنما تحل فقط بالهجرة إلي المدن الكبري.
ولقد كان من نتيجة عدم الاتزان بين كل من النمو السكاني والنشاط الاقتصادي ومعدلات التحضر المتزايدة بسبب الهجرة الريفية ــ الحضرية اساسا أن واجهت مصر ومنذ خمسينيات القرن الحالي مشكلة النقص المتزايد في المساكن الحضرية, وما نتج عنها من ظهور مستمر للأحياء السكنية العشوائية, ومن ثم استفحلت ظاهرة النمو العمراني الحضري العشوائي في مصر في العقود الأربعة الأخيرة, وانعكست في أزمة السكن الحضري التي تعتبر من أهم أسباب ظهور المناطق العشوائية في مدن مصر, وهي الأزمة التي ظهرت بوضوح نتيجة لمجموعة من الاسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية, والتي زاد من تسارعها وتركزها ومن ثم إلي حدتها وصعوبة التغلب عليها أو معالجتها قلة الوعي الجغرافي أو التثقيف الجغرافي الموجه نحو المواطن المصري بشأنها, ويكفي أن نعلم أن عدد المناطق العشوائية بالمدن المصرية قد فاق الألف منطقة بحلول الألفية الثالثة.
ولا تعتبر الثقافة الجغرافية في مصر جزءا من الحياة اليومية للمواطن المصري, ويتجلي ذلك في كم المشكلات البيئية التي يسببها ويعيش فيها ويعاني من آثارها السلبية غالبية شعب مصر اليوم, وهي المشكلات التي تستنزف تكلفة معالجة آثارها قدرا كبيرا من ميزانية الدولة لو خصص لغيرها لانتقل اهتمام المجتمع من التنمية إلي الرفاه الاجتماعي. ومن أمثلة تدني الوعي البيئي لدي المواطن المصري وجهله بخطورة مشكلة الزحف العمراني علي الأرض الزراعية, أنه ما أن ظهر طريق محور26 يوليو في مدينة القاهرة الكبري حتي بدأ اصحاب الأراضي الزراعية المحيطة بهذا الطريق في تبوير اراضيهم والبناء فوقها بطريقة عشوائية واضحة, وليت الامر اقتصر علي محو الاراضي الزراعية من الوجود لتقام فوقها المباني, بل إن هذه المباني افتقرت إلي أي شكل من أشكال التخطيط الحضري.
ولقد كان المصري القديم في زمن الفراعنة حين تحين لحظة وفاته وحتي لا يلقي العذاب في العالم الآخر يقر بأنه لم يلوث ماء النيل, أما المصري المعاصر في الوقت الراهن فلم يعد يعبأ بهذا الموضوع, برغم أن الحروب المتوقعة في العقود المقبلة هي حروب المياه وبرغم أن رسولنا الكريم قد نبهنا إلي ضرورة الاقتصاد في استخدام المياه ولو كنا علي نهر جار فإن عدم الوعي الثقافي بالحفاظ علي ماء النيل, واستخدامه بصورة عشوائية حتي من قبل بعض الأجهزة الحكومية قلل من اهتمام المواطن بضرورة الحفاظ علي حصة مصر من مياه النيل.
وبرغم أهمية معرفة المواطن أن حياته المريحة تتوقف علي استمرار نقاء بيئته وعطائها, وأن حسن تعامله معها يزيد من هذه الراحة, وأن الإحساس البيئي واجب وطني فإن أخلاقيات البيئة غير موجودة غالبا في الخلفية الثقافية للمواطن المصري, وتتمثل هذه الاخلاق في مجموعة المعايير الموجهة لسلوك المواطن تجاه مكونات البيئة لتحقيق علاقة متوازنة بينهما, وهي معايير تنبع من مصادر ثقافة هذا المواطن الدينية والقيمية والقانونية.
من كل ما سبق تتضح أهمية الثقافة الجغرافية في حياة المواطن المصري ودورها في حل معظم مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والبيئية, فهل يعود الاهتمام بهذا العلم وأهميته مرة أخري قبل أن تبلغ روح الجغرافيا التراقي.
__________________
أحمد عبدالعال ."الثقافة الجغرافية.. في حياة المواطن "، جريدة الأهرام ، قضايا و أراء ،السنة 132 ، العدد 44100 ،الأثنين ، 3 سبتمبر 2007 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق