التسميات

الأحد، 5 أكتوبر 2014

الآثار الاجتماعية للتوسع العمراني (المدينة الخليجية أنموذجا) .. ثالثاً: الآثار الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني ...

ثالثاً: الآثار الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني 

    إن مما يؤسف له أن تخطيط المدن في عالمنا العربي الإسلامي انطلق بمنظور المدن الصناعية في العالم الغربي، وفي هـذا تجن كبير عـلى مدننا، فما نراه في مدننا الخليجية هو مشهد مؤلم، فنرى مُدناً مكتظة وشوارعاً مزدحمة، وعمراناً رحالاً ينتقل من حي إلى حي جديد بما في ذلك من إهدار للموارد والوقت والجهد واستنـزاف للخدمات وتمدد للشبـكات والطرق بما لا طاقة لمدينة على صيانته واستيعابه، والسبب أن تخطيط المدن في الغرب نشأ في المدن الصناعية بعد الثورة الصناعية وكان أداة للحد من الآثار السيئة للصناعة على مدنهم ومجتمعاتهم، ووضعوا له مناهج لتحقق الغرض، لهذا نجحوا في أنسنة الصناعة ومنشآتها لتلاءم حياتهم، ولكن بعض مخططي المدن العربية والإسلامية طبقوا نفس أسس التخطيط على مدننا قبل وجود صناعات كالدول الصناعية فنجحوا في مصنعة الناس، وأصبحت أخلاق سكان هذه المدن صناعية أو مصطنعة( )، فلا الجار يعرف جاره، ولا تنمو العلاقة بين الأطفال في الحي الواحد بشكل طبيعي، وما ذلك إلا نتيجة لسوء التخطيط من قبل بعض المختصين في تخطيط المدن في عالمنا العربي الإسلامي، ولجوئهم المباشر لاستنساخ نماذج جاهزة نجحت في بيئة وليس بالضرورة أن تنجح في بيئة أخرى، فلكل مجتمع خصوصيته التي تنبع من عقيدته وثقافته، وتقاليده الاجتماعية المتوارثة.



  إن المدينة عبارة عن أحياء سكنية متجاورة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نعزل أثر التخطيط العمراني للحي وتصميم شوارعه، وفراغاته، ومرافقه العامة، عن طبيعة النشاط البشري لسكانه، فالتواصل بين سكان الحي وهذه المرافق يُبنى على طريقة تصميمها، وطبيعة التواصل بين سكان الحي أنفسهم يُبنى كذلك على تصميم مواقع تلك المنازل التي يقطنونها، والمرافق العامة، والفراغات المكانية، وليس هذا فحسب، بل يتحكم شكل هذا التخطيط للحي في درجة التواصل بين سكانه، قرباً وبعداً، حميمية، وتباعدية «فالحي السكني ليس فقط التصميم والبناء، فهو يتجاوز المادة إلى الجوانب الاجتماعية التي تجعل من المكان الذي تعيش فيه الأسرة فضاء للتقارب الاجتماعي، فأغلب الدراسات التي تتناول الحي السكني تعتبره مكاناً للتربية
»( ). 
   إن عدم مراعاة هذا الجانب الاجتماعي جعلنا نرى مدننا الخليجية تمتد من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب عشرات الكيلومترات، وشوارعها مكتظة وتقاطعاتها مزدحمة، وبهذا تكون هناك حاجة للسائقين والخدم وأكثر من سيارة للعائلة الواحدة في ظل عدم وجود وسائل نقل مناسبة، ومما لاشك فيه أن مدننا لو خططت بما يلائم عاداتنا واحتياجات وثقافتنا وعائلاتنا وأولادنا لكان أجدى وأنفع ولتحققت وفورات اقتصادية كبيرة ولتخففنا من كم هائل من المشاكل الأخلاقية الاجتماعية.
   إن من المجزوم به في عالم الإنسان أن النسيج العمراني للمجتمع يشكل انعكاساً طبيعياً لرقي ذلك المجتمع وأخلاقياته وقيمه ومعاملاته وشخصيته المميزة وقناعاته التي يؤمن بها، ولو حدثت فجوة بين نسيجنا العمراني ونفوسنا لماتت نفوسنا، ولو عاشت نفوسنا في بيوت من غير بيئتنا لاكتأبت وخملت، لذلك لا عجب أن يبرز على سطح المجتمع في مدننا الخليجية عدد من الآثار الاجتماعية، وبعض هذه الآثار يمثل مشكلة حقيقية للمدينة الخليجية، كما سنرى.. وعلى كل حال يمكن إجمال الجزء الرئيس منها فقط، حيث قد يطول المقام لو ذهبنا للحديث عنها كلها، لذا سيتمّ التركيز على المهم منها والرئيس فقط لاعتبارات عدة أهمها أن ظهور هذه الآثار الاجتماعية الرئيسة سبب لآثار أو مشكلات جزئية أخرى تابعة لها ومتولدة عنها، وقد لا تظهر هذه الجزئية إلا تابعة للرئيسة الكبرى.
  ومن هذه الآثار الرئيسة المصاحبة للتوسع في المدن عموماً والمدن الخليجية خصوصاً الآتي:
1
- اختلال التركيبة الاجتماعية للسكان:
   وهذا الاختلال لا يقتصر على المدينة فحسب بل يمتد كذلك إلى الأرياف والبوادي المحيطة بالمدينة، والمقصود به زيادة الذكور في المدن وقلتهم في الريف، والعكس بالنسبة للنساء، حيث تزيد نسبة النساء في الأرياف والبوادي وتقل نسبتهم في المدن نتيجة أن الهجرة غالباً ما تكون من قبل الذكور، وذلك لطبيعة المجتمع المسلم في الخليج العربي حيث لا يمكن سفر المرأة أو استقرارها في المدينة بدون محرم شرعي لها، بخلاف الرجل الذي قد يكون أكثر حرية في التنقل، كما أن أعمار من ينتقلون إلى المدينة من الأرياف والبـوادي غـالباً ما تتراوح بين (15-35) حيث يفـدون إما للدراسة أو العمل، وهذا السن هو سن الفتوة والزواج مما يولد مشكلات أخرى تتعلق بتزايد مشكلة العنوسة بين النساء في غير المدن، إضافة إلى انتشـار بعض الأنواع من الجـرائم المرتبطـة بهذا العمر في المدينة نتيجـة لطغيان هـذه الفئـة العمرية والجنسية على التركيبة السكانية لمجتمع المدينـة، كما يلاحظ ارتفاع سن الزواج بين الذكور والإناث في المـدن أكثر منه في الريف، وهذه ظاهرة يسـتتبعها العـديد من المشاكل الاجتماعية الأخرى، بخاصة في ظل الإغراءات التي يجدها الشـاب بين يديه في المدينة مما قد ينتج عنها نوعاً من الانحراف في ظل تأخر سن الزواج.
    وعلى الرغم من أن الأسرة، أو العائلة، تمثل الوحدة الاجتماعية الأساسية في الريف والحضر، وعلى الرغم مما طرأ على أدوارها من تغيرات، وإن بدت هذه التغيرات أسرع في الحضر عنها في الريف، إلا أن الأسرة الحضرية في المدينة تتصف بالصغر والنووية مقابل الأسرة الممتدة في غير المناطق الحضرية، كما أن حجم الأسـرة في الريف أكبر منـه في الحضر، وما يزال هناك وجود ملموس للأسرة التقليدية أو ما يسمى بالأسرة الممتدة أو التي تقوم على علاقات القرابة رغم عدم السكن في مسكن واحد في الريف أكثر مما في المدينة( ).
    ولاشك أن في ذلك أثراً كبيراً على عملية الضبط الاجتماعي بشكل عام ومراعاة الوضع الأسري وأثره على تصرفات الفرد في الريف أو في المدينة. «فالعائلة الممتدة ذات بناء أكثر فاعلية للحفاظ على تقاليد العائلة، والأطفال يتعرضون إلى شبكة كبيرة من علاقات القرابة، فالأقارب جاهزون في الحال لمساعدة الوالدين في مهام التنشئة الاجتماعية، كما يقومون بدور القدوة لمختلف أنواع الأدوار التي يقوم بها الكبار، وفي أوقات الأزمات مثل موت الوالد - أو هجرته إلى المدينة – فإن قريباً آخر يمكن أن يحل محل الوالد في تلبية الحاجات الجسميـة والوجدانية للطفل»( ). وهذه التلبية وإن لم تكن بشكل كامل إلا أنه سيجد شيئاً من التعويض، بخلاف الطفل إذا كان في أسرة نووية في المدينة، وذلك بطبيعة الحال بشكل عام.
    إن ما سبق ذكره يتناول الآثار على سكان المدينة نفسها بعد هجرتهم من القرية إلى المدينة، ولكن يجب أن نتذكر أن هناك عدداً من المشكلات المترتبة على سكان القرية أو الأرياف نفسها بعد هجرة ولي الأمر إلى المدينة، فتغير التركيبة السكانية في العائلة الريفية يؤدي إلى إعادة توزيع الأدوار داخل الأسرة وتحمل النساء والشيوخ أعباءً إضافية كان المهـاجر يقوم بها، مما يزيد من معاناة النساء، ويجعلهن يعشن بعداً عاطفياً ونفسياً عن أزواجهن، وكذلك الأبناء حيث يعانون من فقـدان ضابطهم الاجتماعي في الأسرة، وداعمهم النفسي والاجتماعي في الأسرة. لذلك «فإن شعور الأسرة بغياب كبارها وكاسبيها قد يقلل من إمكانات الضبط الأسري للصغار والرعاية الصحيـة والاجتمـاعية لأفراد الأسرة، مما يحدث إشـكالات أخـرى ترتبط بجنوح الأحـداث والانحـرافات التي يتعرض لها الشباب حين غياب موجهيهم من الكبار»( ). وهذا أثر من آثار التوسع في المدينة وإن لم يكن على سكان المدينة نفسها، ولكن يبقى الأثر في عموم المجتمع وعليه.
   والحديث السابق بطبيعة الحال يتركز فيما إذا كانت الهجرة داخلية، أي من القرية والريف إلى المدينة، ولكن يجب ألا ننسى مشكلة أخرى وهي ظاهرة الهجرة من خارج الدولة إلى داخلها من جنسيات مختلفة تتحول إلى أقلية مع مرور الوقت، فليس بخاف أن هناك عدداً من الأقليات أصبحت موجودة في بعض المدن الخليجية جراء الهجرة الخارجية، وفي بعض الدراسات تقدر نسبة الزيادة من هذه الهجرة الخارجية بحوالي (5.4 %) من نسبة السكان الأصليين، وذلك في الفترة من (1985-1995م)، وهذا النمو السكاني المرتفع العشوائي الناتج عن الهجرة الخارجية قادر على إحداث هزة ديموغرافية قوية سوف لن تتمكن الدول الخليجية من تصحيحها لفترات طويلة خاصة إذا ما علمنا أن الزيادة السنوية للمواطنين لا تبلغ سوى (3%) مقابل (5.4 %) من غير المواطنين لنفس الفترة، وهذا يشكل تهديداً خطيراً للدولة على الصعيد الديموغرافي، وسيصحب معه نتائج اقتصادية وثقافية غير مرغوبة كالتحكم في الأنشطة الاقتصادية وممارسة الاحتكار في السوق، إضافة إلى أنهم سيشكلون الأغلبية المطلقة وسيمكنهم من فرض ثقافتهم بكل سهولة( ).
   إن مما يؤكد خطورة هذا الأمر، ما أعلنه المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل ووزراء الشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون من خلال الدراسة التحليلية التي قدمها عن أحكام (الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم) الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة عام (1990م) ودخلت حيز التطبيق عام (2003م)، حيث حذرت الدراسة من أن المرحلة المقبلة قد تحمل الكثير من المفاجآت مثل المطالبة بحرية العبادة الجماعية العلنية لأي معتقد، وحرية تعلم اللغة الأصلية ضمن المناهج الدراسة الاعتيادية، وحرية بناء المعابد ومراكز دينية، وحرية إقامة جمعيات وتجمعات ثقافية مختلفة المشارب للمهاجرين، وكل ذلك بحماية من ( الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم) المشار إليها آنفاً. وتؤكد الدراسة أن دول المجلس قد تتعرض بسبب الخلل في تركيبتها السكانية إلى أخطار سياسية وأمنية واجتماعية إذا ما التزمت التزاماً كلياً بما تقرره تلك الاتفاقية. وتلمح الدراسة إلى ضرورة عدم تصديق الـدول الخليجية عليها أو الانضمام إليها، لما تحمله في طياتها من خطر حقيقي من مختلف الجوانب الأمنية والاجتماعية والاقتصادية( ).
- التحول في شكل الأسرة: من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية:
إن من أبرز الظواهر الاجتماعية المصاحبة للتطور الحضري، والتوسع العمراني في الدول الخليجية تحول الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية، وسبق الإشارة إلى أن الأسرة الممتدة يقصد بها سكن الابن بعد زواجه مع أبيه، وكذلك بقية الإخوة الذكور، حيث تضم الأسرة الوالدين، والأبناء وزوجاتهم وأبناء الأبناء، أما الأسر النووية فهي تعني استقلال الأبناء مع زوجاتهم وأبنائهم في مساكن مستقلة بعيدة عن والديهم( ).
إن الدراسات الميدانية والإحصائية تشير إلى تنامي هذه الظاهرة، وعلى سبيل المثال كانت نسبة الأسر النووية في مدينة الرياض في عام (1407هـ/1987م) تبلغ قرابة (63%) من جملة السكان، بينما نجد أن النسبة ارتفعت في عام (1425هـ/2005م) إلى (قرابة (77%)، وهذا في أقل من عشرين عاماً، وهذا يشير بوضوح إلى تنامي ظاهرة الأسر النووية، مقابل تناقص الأسر الممتدة، «فالأسرة السعودية تعرضت في سنوات النهضة الاقتصادية إلى هجرة قوية من الريف إلى الحضر، وترتب على ذلك أن انقسمت الأسرة إلى أكثر من أسرة نووية، وهذا التمزق في بنية الأسرة التقليدية أدى بدوره إلى انعكاسات سلبية على مجمل وظائفها ونشاطاتها»( ). وهذا التزايد في نسبة الأسر النووية هو السائد والمثبت إحصائياً في عدد آخر من المدن الخليجية مثل الكويت والمنامة والدوحة( ).
   وعلى كل حال فإنه يمكن أن نُعمم الحكم بذلك التزايد على جميع المدن الخليجية دونما حرج علمي لتشابه الظروف الاقتصادية، والاجتماعية فيها ولمجتمعها، وإن كان هناك من البـاحثين من يرى أن الأسرة الخليجية لا يمكن تصنيفها ضمن أنماط (الأسر الممتدة)، سواء في الماضي أم الحاضر، ولكنها أقرب ما تكون لنمط العائلة (شبه الممتدة) وليست (الأسر الممتدة)( )، وبخاصة في المدن. ولكن واقع الحال يدفع هذا الرأي وبقوة، إضافة إلى أنه لا مشاحة في الاصطلاح سواء كانت (ممتدة) أو (شبه ممتدة)، إلا أنه من المؤكد أن الروابط الاجتماعية بين أفراد الأسرة الواحدة قد تقالّت بشكل كبير، يعززه التباعد المكاني بين أفراد الأسرة الواحدة الحاصل جراء التحضر العمراني.
   إن مما لاشك فيه أن هناك حسنات للأسر النووية وكذلك لها بعض السلبيات، كما هو للأسر الممتدة، فهناك بعض «من المزايا لكل من النوعين، تقوم في مواجهتها مجموعة من جوانب القصور.. فثمة حقيقة في أنه توجد اختلافات عملية مهمة بين أنماط النظم العائلية التي تؤثر فعلاً على حياة الناس الذين يعيشون في كل نوع وعلى سلوكهم أيضاً»( ). ولكن المقارنة العامة تظهر أن الأسر الممتدة كانت تؤدي - ومازالت - تؤدي وظائف اجتماعية، وأخلاقية، وثقافية، وتكافلية، تعجز عنها الأسرة النووية، فتوارث القيم التعاملية بين الكبير والصغير، وتعلم المواقف الاجتماعية الأسرية المختلفة، يتوافر بشكل أوضح في الأسر الممتدة، بخلاف درجة وجوده في الأسر النووية، كما كانت الأسر الممتدة تقدم الدعم الاجتماعي والنفسي والمعنوي، وحتى البدني لأفرادها من قبل بعضهم بعضاً، بخلاف الأسرة النووية، التي تعني انعزال الأسرة في كيان اجتماعي وثقافي ونفسي وبدني خاص.
   وبالجملة، فالأسرة الممتدة قناة للتواصل الثقافي، والديني، ولنقل التجارب والخبرات بين الأجيال حيث يتاح فيها للطفل التواصل مع جيلين أو أكثر، فتغتني معارفه ويتشبع عاطفياً ويتسع عالمه في مناخ يملؤه الحب ويتسع لدائرة واسعة من الأقارب يقدم بعضها لبعض الحماية والمشاركة الوجدانية والوقوف عند الشدائد سنداً قوياً.
   إن بعض المختصين يرى أن تحول الأسرة الخليجية من نظام الأسرة الممتدة إلى نظام الأسرة النووية مع ما فيه من إيجابية قد تبدو ظاهراً إلا أنه «حمل في طياته نقيصة كبرى تتمثل في ارتخاء وتقليص مدى العلاقات التي كانت تتسم بها الأسرة الممتدة، وأثمر ذلك في النهاية عن إحساس بعدم الالتزام بمعايير الأسرة، فبعد أن كان الأبناء يعملون حسابهم لسلطة الأقرباء من خلال (تواجدهم) معهم أصبحت نوازعهم السلوكية أكبر من سلطة الأبوين في الأسرة النووية في الوقت الحاضر»( ). ومع تقديرنا لوجهـة النظر هذه إلا أنه مما ينبغي ملاحظته أن الأسرة النووية وإن كانت الأكثر عدداً، والأكبر نسبة بين عدد الأسر في المدن الخليجية، إلا أنها لم تنفك بشكل كبير عن منظومة الأسرة الممتدة، فالروابط وإن كانت غير موجودة مكانياً ولكنها في جانبها الاجتماعي والثقافي، وحتى السلطة الأبوية لها حضورها القوي، فيمكن القول: إن الوضع الأسري في المدينة الخليجية شكل جديد من أشكال الأسر، فهو ليس بالأسرة النووية البحتة، وكذلك لا يبدو أسرة ممتدة خالصة، فالأسرة الخليجية أسرة نووية في الظاهر، وأسرة ممتدة في الباطن، فما يزال مفهوم الأسرة الممتدة مسيطراً على الثقافة المجتمعية، من حيث المحافظة على العلاقات الأسرية بين الأفراد ولكون الأسرة في المجتمع الخليجي بشكل عام لا تزال تمثل الإطار المرجعي ووحدة الانتماء الأساسية لأفراد المجتمع( ).
3
- ضعف العلاقات البينية بين أفراد الأسرة وأفراد المجتمع:
    نتيجة لتباعد أطراف المدينة إثر توسعها وكثافتها السكانية المستتبعة لظاهرة التوسع، فضلاً عن الانشغال الكبير من قبل سكانها بهمومهم الخاصة وانشغالات مجتمع المدينة بشكل عام برز إلى سطح المجتمع المدني خلل في طبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة من جانب وبين أفراد الحي الواحد - الجيرة - من جانب آخر، فتشير كثير من البحوث الاجتماعية العربية إلى أن التفاعلات داخل الأسرة العربية طرأ عليها مجموعة من المتغيرات تتمثل في جوانب عدة من أبرزها تناقص الوقت اليومي الذي يقضيه أعضاء الأسرة معاً، ويرجع ذلك إلى خروج نسب كبيرة من النساء للعمل خارج المنـزل وللمشاركة في أنشطة اقتصادية واجتماعية متعددة، وانشغال نسب متزايدة من الذكور كذلك، وبخاصة أصحاب الأعمال والمشروعات ومن يعملون أعمالاً إضافية لتحقيق مزيد من الدخل لمواجهة صعوبة العيش في المدينة ومتطلباتها، أو الذين يزاولون أنشطة اقتصادية واجتماعية بعيداً عن الأسرة، ويصاحب ذلك تزايد نسب الأبناء المنخرطين في مراحل التعليم المختلفة بما يعنيه ذلك من قضاء نحو ساعات كثيرة في مؤسسات التعليم بعيداً عن الأسرة بالإضافة إلى انشغالهم بواجباتهم المدرسية التي تعزلهم عن أسرهم وقتاً كبيراً حتى وهم داخل المنـزل. ومما تحسن الإشارة إليه أن هذه الظاهرة، وهي ضعف العلاقة البينية بين أفراد الأسرة، احتلت المرتبة الأولى في سلم المشكلات الاجتماعية التي تواجهها الأسرة الخليجية في هذه المرحلة، وذلك وفق نظرة الجهات المختصة بالشأن الاجتماعي في الدول الخليجية، وبرزت هذه النتيجة بعد استبيان شامل حول عدد من أبرز المشكلات التي تعتقد الجهات المعنية بالشـأن الاجتمـاعي أنها تؤثر بشكل كبير في مستقبل الأسرة الخليجية( ).
   كما يمكن رصد حدوث تباعد واضح بين أعضاء الأسرة نتيجة تباينات مواعيد العمل والتعليم وبروز الطموحات الشخصية، مما قلل من فرص التفاعلات اليومية التي كانت تتم داخل الأسرة من خلال الفرائض الشرعية، كالصلاة معاً، أو عادات يومية كتناول الطعام أو قضاء وقت الفراغ أو أداء بعض الواجبات الاجتماعية معاً، ويزداد الأمر خطورة بحدوث ما يسمى بالتفكك بين الأجيـال وهو جيل الشباب من جـانب وجيل كبار السن - الشيوخ - بما يمتلكه من خبرات حياتية متراكمة من جانب آخر، وبخاصة أن المجتمع الخليـجي يعيش تزايـداً ملحوظاً في نسبة كبار السن، إضافة إلى إقباله على تزايد أكبر في أعدادهم في العقود القادمة، كما ذكر في مبحث سابق.
  لقد كانت المنـازل التـقليدية في المدينـة الخليجيـة تتسم بالبساطة، كما ذكر سابقاً، كما تمتاز بالرحابة المكانية، وهذا ما فقدته المدينة الخليجية نتيجة للتوسع الرأسي في المدينة، فهذا الشكل من التوسع يمثل مظهراً سلبياً للانفتاح على العالم الخارجي، فقد كان من المؤمل أن تتم المحافظة على التصاميم التقليدية، مع تطويرها بشكل يجعلها تلبي احتياجات السكان، والمكان، وتراعي العادات والتقاليد الاجتماعية المقبولة، التي تمثل قيماً أساسية في نسيج المجتمع الخليجي، وهي من الأمور التي كانت تدعم أواصر العلاقات الأسرية الواحدة، سواء كان العيش مشتركاً في منـزل واحد كما في الأسر الممتدة، أو حتى في التطور الذي حدث وهو نموذج ابتكر في بعض المدن الخليجية، وهو وجود الأسرة الكبيرة في مجمع سكني واحد، فالوالدان في منـزل مستقل وبجواره منازل الأبناء بعد زواجهم، فهو في حقيقة الأمر استقلال مكاني ولكنه يحقق قرباً اجتماعياً بين أفراد الأسرة الواحدة إلى حد كبير، فهو شكل مطور وجديد يجمع بين العائلة الممتدة والعائلة النووية.
    ومن جانب آخر يمكن القول: إن من الخصائص السلوكية، والممارسات الحضارية التاريخية للأسر العربية، الاعتماد والتكافل المتبادلان بين الأسر في محيط الجوار وعلى مستوى المجتمعات المحلية، فقد كانت مجالات هذا الاعتماد والتكافل تشمل العمل أو العون، أو الفزعة، وكلها تعبر عن مسميات التعاون في العمل في الدول والمشاركة في الأفراح والأتراح والممارسات والمناسبات الدينية، وكان ذلك كله تعبيراً عن أنماط من التماسك والتضامن الاجتماعي على مستوى الأسرة وعلى مستوى أسر الجوار، كما كان هذا التفاعل يساهم في إيجاد حلول لبعض المشكلات الاجتماعية والمادية لكثير من الأسر المحتاجة( ).
    غير أن معظم البحوث الاجتماعية، والملاحظات اليومية ترصد بلا عناء انحسار كثافة ومجالات هذه التفاعلات لأسباب متعددة منها ضغوط الحياة المادية والمهنية في المدينة، وانتشار الأنماط الحضرية في البناء الرأسي ذي العمائر الشاهقة متعددة الأدوار الذي يجمع أسراً من جهات شتى، وذات اتجاهات وميول متباينة، أو البناء الأفقي المستقل في شكل قصور وفيلات مستقلة ومتباعدة في المسافات، فضلاً عما تسببه متابعة القنوات الفضـائية وما تبثه من برامج وتمثيليات وأفلام علمية على مدار الساعة من إضعاف لصلات اجتماعية مهمة كتبادل الزيارات والمجاملات بين الأسر، بل واغتراب اجتماعي داخل الأسرة الواحدة، وهذا ما تظهره بعض الدراسات الميدانية الخليجية.
    ففي دراسة عن الاغتراب الأسري في الأسرة الكويتية، تشير نتائج الدراسة إلى أن علاقات التعاون والتكاتف كانت هي النمط السائد بين العائلات الكويتية وفق ما ترتكز عليه من أنساق اجتماعية قائمة على ضوابط ومعايير مستمدة من الدين الإسلامي والثقافة العربية، وهي مسارات ثرية للتدفق العاطفي، والاندماج الكامل بين أفراد الأسرة، غير أنه بقدوم الحقبة النفطية حدثت تغيرات اجتماعية واقتصادية مصحوبة بارتفاع مستوى المعيشة وتغير نمط الحياة، وحل التحضر محل البداوة، وهذه التغيرات وإن كانت أتاحت فرصاً أفضل للأسرة لكنها في الوقت نفسه جعلت الحياة أكثر تعقيداً.. ومع تنامي ثورة الاستهلاك تنامت الطموحات والتطلعات وأصبح أفراد الأسرة شبه مندمجين مع بدائل متعددة غير ذلك التفاعل الاجتماعي العميق الذي كان سائداً أيام الحياة البسيطة( ).
    إن مما يؤكد ما سبق ذكره هو أن بعض الأنشطة الترويحية التي يُمارسها الأفراد في أوقات الفراغ تؤدي إلى تغيرات اجتماعية ذات صبغة سالبة، فمنها على سبيل المثال ما أحدثه التلفاز في أنماط الاجتماعات العائلية والأسرية، فلم تعد تجمعات الناس مع وجود التلفاز ذات طبيعة جماعية، ويعلق عالم الاجتماع السوفيتي «ريوريكوف» على هذه الظاهرة فيقول: ظهرت عادة جديدة هي استقبال الضيوف والاستمرار في مشاهدة التلفزيون، وكأن الناس لا يأتون لزيارة أصدقائهم وإنما لزيارة تلفزيونهم، فهو يوحدهم شكلياً ولكنه من الناحية السيكولوجية يفرق ويقطع الصلات بينهم. وتؤكد الباحثة الكندية «ك. تاجرت» أثر هذه الظاهرة السلبية على تماسك الأسرة بقولهـا: إن التلفزيون لا يقرب بين أعضـاء الأسرة، اللهم إلا مادياً، وهذا التجمع المادي الجسدي لا يكفي للتقارب الاجتماعي( ).
4
- زيادة معدلات الجريمة في المدينة:
   على الرغم من الصبغة الأمنية لهذه المشكلة، لكن لا يمكن بحال من الأحوال أن نفصلها عن منطلقها الاجتماعي المسبب لها، إضافة إلى الآثار الاجتماعية التي تنتج عنها إثر سجن العائل أو انحراف الأبناء.. الشواهد العلمية تظهر أن السلوك المنحرف والجريمة ينتشران في المجتمعات المتحضرة أكثر من غيرها، فالجريمة تُعْدُ ظاهرة حضرية، حيث تبين أن هناك فروقاً ذات دلالة إحصائية في معدلات الجريمة تعزى للمدينة وتوسعها الكبير دون تخطيط مسبق، ويعود السبب في ذلك إلى أن التطور الحضاري السريع المصاحب للتوسع في المدن غالباً ما يرافقـه نوع من الفشـل في قدرة الناس سـلوكياً، ونفسـياً، واجتمـاعياً، على التوافق معه، وفي عدم التكيف مع التطورات الجديدة التكنولوجيـة المعقدة والمتغيرة باستمرار، إضافة إلى أن ارتفاع مسـتوى المدنية يرفع من مستوى المعيشة فتزيد مغريات الحيـاة وتتضاعف احتياجات الفرد مع تزايد وتعدد علاقاته ورغباته الاجتماعية( ).
   وهذا ما تعاني منه معظم دول العالم الثالث وعلى الأخص الدول النفطية في القفزة السريعة دون تطور تدريجي يتهيأ له الفرد لمواجهة هذه التغيرات، إضافة إلى مواجهة زيادة المسؤوليات الاجتماعية نتيجة ضغوط المدنية الحديثة وعدم القدرة على تحملها( ).
    وبتطبيق هذه القاعدة على المدن الخليجية نجد أن المدن الخليجية بتوسعها الكبير نتيجة استقبال إعداد كبيرة من النازحين أو المهاجرين من الأرياف والبوادي إليها ونتيجة لقدوم إعداد كبيرة من العمالة الوافدة إليها، تعيش مشكلات اجتماعية كثيرة، فهذه التحركات السكانية تقلب موازين كثافة السكان بين منطقة وأخرى، كما أن عمليات انصهار القادمين الجدد في المجتمع الأصلي لا تتم بصورة بسيطة دون قيام عدد من المشكلات اللاحقة، فضلاً عن أن هذه الحركات السكانية تفقد المجتمع طابع التوافق السكاني وتفقد العلاقات الاجتماعية بين إفراده طابع الاستقرار والوضوح بسبب تواصل الحركة وضعف فرص الالتقاء الاجتمـاعي أو انعدامه، وهذا ما دعا بعض علماء الاجتماع إلى القول: إن الهجرة المستمرة إلى المدن تفقد الأفراد عناصر الولاء للجماعة وتضعف شعورهم بالانتماء، وتحرمهم من فرص تكوين علاقات اجتماعية دائمة مستقرة( ).
   ولاشك أن انعدام العلاقة الاجتماعية الحميمية بين أفراد مجتمع المدينة نتيجة لعدم الولاء وضعف الشعور بالانتماء لهذا المجتمع يطيح بمفهوم الأسرة والجيرة باعتبارهما مؤسستين مهمتين من مؤسسات الضبط الاجتماعي في المجتمع، فالعائلة الكبيرة المتماسكة التي يجمعها سقف واحد ومن حولها الأقارب والمعارف التي تحيط بالفرد في المجتمع الريفي أو البدوي أو مجتمعه الأصلي يكسبه بعض الثبات في القيم والمعايير السلوكية، ولكن ذلك يتلاشى في ظل المدينة الكبيرة المتوسعة التي تكثر فيها الأحياء الواسعة وتختلط المفاهيم بدرجة كبيرة، فذلك التغير السريع يذهب بالكثير من الحدود الضبطية للفرد، حيث يصبح دون اكتراث كبير بردود الجماعة المحيطة به تجاه أي سلوك منحرف يسلكه أو يقوم به.
  إن تصور انعدام الضبطية الاجتماعية من قبل الأسرة والجيرة، كمسبب لتزايد مستوى الجريمة على أثر توسع المدن، يجب ألا يغِّيب عن البال أسباباً أخرى حقيقية مصاحبة للتوسع، مثل الصعوبات الإدارية والفنية والمالية الناشئة عن توسع المدينة وعجز الحكومات المحلية أو إدارات البلديات عن توفير الخدمات الأمنية لكامل مناطق المدينة، التي يصبح توسعها أسرع من قدرة أجهزة الإدارة المحلية أو المـركزية على ملاحقة هذا التوسـع، وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح على أرض الواقع في المدن الخليجية التي تسارعت فيها وتيرة التحديث والتوسع بشكل مذهل نتج عنه بعض القصور في توفير خطط الأمن والحماية لجميع مناطق المدينة، هذا إذا أخذنا في الاعتبار الأحياء العشوائية التي تكون في أطراف المدينة والتي عادة ما تكون مصاحبة للنمو السريع لها، حيث تُظهر العديد من الدراسات الحضرية أن هذه الأحياء بؤر تصدير للإجرام والمجرمين في المدن الكبرى نتيجة للفقر والعوز وانعدامية الضبط الاجتماعي والأمن بشكل عام.
5
- ضعف الهوية الوطنية أو فقدانها:
   تعرف الوطنية في أبسط صورها بأنها: «الدافع الذي يؤدي إلى تماسك الأفراد وتوحدهم وإلى ولائهم للوطن وتقاليده والدفاع عنه، ويتكون الشعور بالوطنية منذ سنوات التنشئة الأولى ومن ارتباط الفرد في أول عهده بالبيئة المباشرة»( ). وهناك من يرى أن المشـاعر التي تتولد لدى الوطني قد لا تستند على التفكير بقدر ما تستند على استجابات العاطفة، ومن هنا فإن الهوية الوطنية يمكن النظر إليها من خلال هذا التعريف، الذي يربط الفرد بمجتمعه الصغير لينقله إلى الولاء للمجتمع الكبير، من خلال العاطفة بالدرجة الأولى، ومن خلال الولاء لتقاليده الثقافية الخاصة والموروث الشعبي، وقبل ذلك عقيدته ودينه، والمظاهر الاجتماعية السائدة في ذلك المجتمع الذي تكون فيه التنشئة الأولى، وهذا يُحتم أن يكون المجتمع المحيط بالطفل في غالبيته العظمى ممن يحمل هذا الشعور وهذه الثقافة وهذا الموروث.
   وقبل الحديث عن تأثر الهوية الوطنية بالتوسع العمراني في المجتمع الخليجي لابد من الإشارة إلى حقيقة سكانية مفادها أن من أسباب التوسع العمراني في المدينة الخليجية، وكذلك من نتائج هذا التوسع - في الوقت نفسه - قدوم إعداد كبيرة جداً من العمالة الأجنبية من شتى بقاع الأرض، وبخاصة غير العربية وغير المسلمة، وهذه العملية ليست عملية ميكانيكية مجردة، بل هي عملية تفاعلية اجتماعية كبيرة جداً، حيث إن بعدها الاجتماعي هو الأكبر وهو الأخطر على المدى البعيد والعميق من بعدها الاقتصادي أو السياسي.
    فتشير الإحصاءات إلى أرقام مخيفة لنسب العمالة الأجنبية، بخاصة غير العربية وغير المسلمة، فنجد أن نسبهم في بعض البلدان الخليجية قد وصلت إلى ما يسمى بالخطوط الحمراء من درجة الخطورة، ففي دراسة أعدها النائب الأول لرئيس المجلس الوطني الاتحادي في دولة الإمارات العربية المتحدة يذكر أن نسبة المواطنين بلغت مداها الأقل في تاريخ الإمارات العربية المتحدة، حيث بلغت (15.4%) مقابل (84.6%) من الوافدين، تمثل الجنسية الهندية منهم (42.5%) ونسبة العرب (13.8%) فقط، فدولة الإمارات تواجه تحدياً سافراً من قبل هذا الوجود البشري غير المنتمي والذي يمثل الغالبية العظمى، فهي «تستجلب الملايين دون تفكير فيما ستؤول إليه الأمور.. وهذا الانفتاح أعطى للآخر التحرك أفقياً وأتاح له حرية تأسيس منظومة جديدة تهدد العمق التاريخي لمجتمع الإمارات، فمن خلال هذه المنظومة فرض المهاجر وجوده ديمـوغرافياً واقتصادياً واجتماعياً وقانونياً وحتى سياسياً( ).
» 
    ولا يقتصر الأمر على دولة الإمارات فقط بل الخليج بعمومه، حيث يمثل الوافدون ما نسبته (37%) تقريباً من سكان دول الخليج( ). وفي دولة الكويت يمثل غير الكويتيين ما نسبته (60%) تقريباً من حجم السكان البالغ قرابة المليونين والنصف في عام (2004م) ( ). ولتوضيح حجم الخطر يكفي أن نعرف أن في المملكة العربية السعودية عام (1425هـ/2004م) أكثر من ستة ملايين وافد، وهؤلاء يمثلون قرابة (27%) من جملة السكان( )، على الرغم من الإجراءات الصارمة جداً التي تتبعها حكومة المملكة العربية السعودية لتقليل نسبة الوافدين بخاصة من العمالة غير المهرة، وتضييق الفجوة في النسبة بين المواطن والوافد.
    وتتعاظم خطورة هذه النسب في ظل المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بالعمالة الأجنبية أو المهاجرة المقرة من الأمم المتحدة، والتي قد تلزم في بعض بنودها بالتوطين والحصول على الجنسية الوطنية مع مرور فترة من الزمن لوجودهم في أحد البلدان، وبالتالي تحول أهل البلد الأصلي إلى أقلية نتيجة للتوسع في استخدام تلك العمالـة والتركيز على جنسيـات محددة مما يتيح لها أن تكون أكثرية على حساب سـكان البلد الأصليـين، وهذا ما حدا بوزراء العمل في دول الخليج إلى اقتراح وضع مدة محددة لبقاء العمالة ومن ثُمَ يغادرون ليحضر غيرهم، حتى لا يصلوا إلى مرحلة المطالبة بالبقاء والحصول على الجنسية( ).
    ولاشك أن السبب في تلك المعضلة هو تعظيم الجوانب الاقتصادية على حساب الجوانب الثقافية والاجتماعية للمجتمع، وهذا ما عمق مشكلة الهوية الوطنية لدى المواطن الخليجي، وجعل منها أزمة حقيقية تأخذ شكل كرة الثلج المتدحرجة من جبل عال، فالشعور بخطورة هذه العمالة على الهوية الوطنية ليست جديدة فقد كان هناك شيء من الجهد العلمي لإبراز هذه المشكلة على السطح العلمي والسياسي منذ أكثر من ربع قرن، حيث انعقدت ندوة بعنوان (العمالة الأجنبية في أقطار الخليج العربي ) عام (1403هـ/ 1983م) بدولة الكويت( ). ولكن السؤال المهم في هذا المجال: ماذا تمّ خلال هذه الفترة لعلاج هذا المشكلة الوطنية العويصة؟
   إن تعاظم نسب العمالة الوافدة قد يؤدي إلى اغتراب حقيقي بين أفراد المجتمع، وهذا يؤدي بدوره إلى ضعف الشعور بالانتماء ويقلل من الاعتزاز بالهوية الوطنية والدفاع عنها في وقت الأزمات السياسية، «فنحن الآن نتحدث عن تغير فعلي أصاب المدينة الخليجية، فقبل سنوات ليست ببعيدة كانت المدينة الخليجية تحوي خليطاً متجانساً يعرف بعضه بعضاً، وتسود فيها شكل العائلة الممتدة التي تعيش في جوار واحد، لكن الآن المدينة الخليجية لا تحمل صفاتها المميزة، صرنا نتحدث عن مدينة تحوي كانتونات أوروبية وعربية وهندية ومحلية، وفي المدن الإماراتية يتجسد الأمر بصورة أكبر حيث أصبح المواطن يعيش حالة اغتراب داخل مدينته؛ لأنه أصبح الأقلية داخل هذا المجتمع المدني
»( ). 
    ويتزايد الخطر على الهوية الوطنية عندما يتصاحب مع ذلك الاهتمام باللغات الأجنبية عامة على حساب اللغة الأم للطفل، وهي اللغة العربية، كما هو ملاحظ في عدد من الدول الخليجية، من حيث إضفاء تلك الهالة التقديرية لمن يتعامل بها أو يتقنها؛ ومع أهمية اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة العصر ولكن أثر ذلك على الأطفال بخاصة في تنشئتهم الأولى قد تصيب الهوية الوطنية لديهم في مقتل، سواء بقصد أم بغير قصد، من قبل المجتمع ومؤسساته الرسمية، وكذلك من قبل الوالدان. ومن المؤسف أن تأتي اللغة العربية في المرتبة الرابعة في إحدى الدول الخليجية المسلمة العربية، مما جعل معيار توظيف الأشخاص فيها هو مدى إتقانه للغـة الانجليزية حتى في القطاع الحكومي! ( ).
    كما ساهم في تعزيز هذه الهوة الثقافية السماح بإنشاء العديد من المدارس الأجنبية في الدول الخليجية، فقد كانت هذه المدارس مقتصرة في بداياتها على أبناء تلك الجاليات فحسب، ولكن الأمر ازداد سواء عندما تم السماح حتى لأبناء الدولة نفسها بالالتحاق بهذه المدارس الأجنبية.. فالطفل خليجي ظاهراً ولكنه في الداخل يتمثل الثقافة التي تم تدريسه بـها في سنواته الأولى، وحتى إن حاولت بعض وزارات التربية في بعض الدول فرض مواد في اللغة العربية أو مواد الدين، لكن هذه المواد ليست إلا قطرة وسط بحر ثقافي يهدر من معين ثقافة البلد واللغة التي يُدرس بها هذا الطفل في بقية المواد، ويعيش في ظلالها طوال اليوم الدراسي، فما عسى أن تفعل ساعة تُخصص للغة العربية وساعة أخرى لمادة الدين أمام عشرات الساعات من الثقافة الأجنبية؟ .
    إن مما لا شك فيه أن أزمة الهوية الوطنية، التي تعيشها بعض المدن الخليجية ترجع لأسباب عدة، أهمها الانتقال السريع جداً من مجتمعات تقليدية بسيطة إلى مجتمعات منفتحة بشكل أكثر مما يتوقع بمراحل، وهذا الانفتاح تزامن مع تواصل مكثف فرضته الظروف الدولية والسياسية على المنطقة، وعزز من قوته التطور الهائل في وسائل الاتصالات، من قنوات إعلامية وإنترنت وتواصل حضاري يتمثل في السفر للخارج نتيجة للثراء السريع، الذي انهال على العديد من أفراد المجتمع إثر تزايد مداخيل الدول تبعاً لارتفاع أسعار البترول على المستوى العالمي، فكل هذه المعززات جعلت المواطن الخليجي في حالة صدمة حضارية مفاجئة لم يكن على استعداد للتعامل معها أو متغيراتها أو آثارها المتمثلـة فيما يتعلق بالهـوية الوطنية، كما أن الدول فيما يبدو لم تكن تتصور حجم النتائج التي سوف تتولد جراء هذه النقلة التي كانت مدعومة مادياً من قبل العديد من الحكومات الخليجية، التي كانت حريصة على تحقيق الرفاه الاجتماعي لمواطنيها دونما حساب للآثار الاجتماعية المترتبة على العملية التنموية المادية، وهو ما يظهر الآن في أحد صوره المتمثل في ضعف الهوية الوطنية أو تناقصها التدريجي.
   ولعل من الشواهد المؤلمة في هذا المجال نتيجة إحدى الدراسات الإعلامية الرائدة، التي أجريت على مدى (15) سنة بشكل تتبعي على عينة من مشاهدي القنوات الفضائية من الجنسيين في مدينة الرياض، خلال ثلاث فترات، الفترة الأولى كانت عام (1415هـ/1995م) والثانية كانت في عام (1420هـ/200م) والثالثة في عام (1425هـ/2005م) ( )، حيث خرجت بنتائج مذهلة من حيث التطور النوعي في المشاهدات، وقد كان التطور في مشاهدة البرامج الدرامية الأجنبية في الفترات الثلاث على النحو الآتي: (30% - 44% - 57%) وهو تزايد واضح يحكي بجلاء نوعية التعلق المتنامي بالثقافة الأجنبية، فالمشاهدة المستمرة والمتزايدة، يستلزم منها الإعجاب بالمادة المشاهدة ومحتواها ابتداء، واستمرار التعلق في الغالب في محصلتها النهائية. ويقابل ذلك انخفاض كبير في نسبة مشاهدة البرامج الدينية. كما أظهرت الدراسة أن للقنوات الفضائية تأثيراتها المختلفة بشكل تراكمي تدريجي، ومن ذلك على سبيل المثال: الرغبة في العيش خارج أرض الوطن، وعدم الشعور بالرضا، وعدم القناعة بالمستوى المعيشي الحالي، وإن كانت الدراسة أظهرت أن أفراد العينة لديهم شعور بالخطر من تهديد القنوات الفضائية للعادات والتقاليد، ولكن الغريب أن الممارسة التي يتطلبها مدافعة هذا الخطر لم توجد بينهم في خطوات عملية، مثل التقليل من التعرض لهذه القنوات أو البرامج، بل الأمر في ازدياد، لدرجة أن القناة التي احتلت المركز الأول في تفضيل أفراد العينة لها كان بسبب تخصصها في بث أفلاماً أمريكية جديدة. كما أظهرت الدراسة انتشار مشاهدة القنوات الفضائية الأجنبية بين الشباب حتى أولئك الذين لا يتقنون اللغات الأجنبية، وأن مشاهدة القنوات المحلية أو العربية في هبوط مستمر وبشكل ملحوظ، ولا شك أن ذلك قد ينطوي على تعلق بالثقافة الغربية بشكل عام.
6
- العزلة الاجتماعية لأفراد الأسرة:
   لابد من الإشارة إلى صعوبة تحديد درجة معينة يمكن أن نقول معها: إن هذه العائلة تعيش في وضع يمكن وصفه بأنه عزلة اجتماعية بين أفرادها، وذلك استناداً إلى عدد مرات التقاء أفرادها وطبيعة هذا الالتقاء ودرجة تكراره في الأسبوع على سبيل المثال، ولكن يمكن من خلال استقراء شبكة العلاقات الاجتماعية في الأسرة الخليجية خلال العقود السابقة أن نصل إلى تحديد نسبي يوضح إن كان ثمة عزلة اجتمـاعية تعيشها الأسرة بين أفرادها أم لا، وعلى كل حال فإن المسوح الاجتماعية تظهر تزايد الميل نحو الانفرادية في الممارسات الحياتية المعاصرة، لاعتبارات عدة ولطبيعة الحياة العصرية في المدن، والدور الأكبر هو لتصميم المباني وتخطيط المدن، فالمتتبع لعمليات التحديث والتغير الاجتماعي في المجتمع يلحظ عدداً من الانعكاسات السلبية على الواقع المحلي، فقد تعرضت الأسرة لآثار عكسية، حيث لم يواكب حركة التنمية الاقتصادية اهتمام كاف بسبل الرعاية والتنشئة الاجتماعية التي تضمن التكيف الصحيح مع معطيات التنمية( ).
    وتتضح الصورة أكثر في الممارسات الترويحية، وذلك عائد إلى عدم وجود مساحات كافية تساعد على إيجاد بيئة مكانية تعمل على تحقيق الخُلطة الاجتماعية لأفراد الأسرة مع قرنائهم في العمر، وبخاصة أن الكثير من الممارسات الترويحية التي كانت سائدة قديماً، قبل ذلك التوسع العمراني الكبير في المدينة الخليجية، يغلب عليها الابتعاد عن النـزعة الفردية بحكم طبيعة المنشط ذاته، لذا نجد أن معظم المناشط الترويحية تتم بشكل جماعي تشاركي بين أفراد المجتمع، وبدرجة مميزة لدى الأطفال حيث الانفتاح كان أكبر وأوسع.
    إن وجود الفراغات وشبه الساحات في الأحياء وبين المنازل وإن كانت صغيرة إلا أنها أماكن للعب أطفال الحي الواحد، الذين يزاولون فيها ألعاباً جماعية تقليدية منتظمة؛ وتعمل هذه الفراغات على تكوين بيئات احتكاك اجتماعية رائعة تؤكد وظيفة من وظائف الترويح وهي إشباع الحاجات الاجتماعية للفرد، فمن المعلوم أن معظم الأنشطة الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذا يساعد الفرد - حين ممارستها - على اكتساب الروح الجماعية والتعاون والانسـجام والقـدرة على التـكيف مع الآخرين، كما تُكسب الفرد مكانة اجتماعية مقبولة لنفسه، وذلك من خلال تقبل نظم وقواعد الجماعة التي يشاركها في المناشط الترويحية، وتؤدي تلك الفعاليات الجماعية في أثناء ممارسة الترويح إلى تكوين علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين وإلى نمو اجتماعي متوازن.
   إن هذه المناشط الترويحية تنمي السلوك الجماعي لدى الفرد من خلال تضامنه مع الجماعة وبالتالي تزيد من اتحاد الفرد والجماعة وتكاملها مع المجتمع( ). إلا أن وضع المدينة الخليجية الآن بتلك المباني الشاهقة ذوات الأدوار المتعددة لا يمكن أن توفر تلك الفراغات المكانية، لممارسة الترويح، بخاصة للأطفال، مما يعزز من الروح الانفرادية لديهم، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قد يمتد إلى العزلة الاجتماعية مع مرور الوقت مما يضعف من الروح الجماعية لدى الطفل ويقلل من اكتسابه للمبادرات الجماعية التي يخدم فيها المجتمع، وبخاصة مع تزايد التركيز في الوسائل الترويحية المتاحة الآن على البعد الفردي في ممارستها مثل أجهزة الألعاب الإلكترونية والإنترنت والتلفزيون، التي تمثل قمة الترويح الفردي، الاستقبالي، السلبي المحض، ويعزز هذه المخاوف تزايد أوقات الفراغ لدى جميع أفراد الأسرة بحكم طبيعة العصر ومؤثرات أخرى ليس المجال هنا للحديث عنها، ولكنها تتعاضد لتكون نذير خطر على البعد الجماعي والروح الجماعية لأفراد الأسرة المعاصرة في المدينة الخليجية الآن.
7
- ارتفاع نسب الطلاق في المجتمع:
    تشير العديد من الدراسات الاجتماعية إلى تزايد مطرد في المشكلات الزوجية والأسرية وبالتالي تزايد نسب الطلاق في المجتمع الخليجي بشكل عام مع وجود تفاوت بين دول الخليج ذاتها في نسب الطلاق، فالإحصاءات المحلية تظهر ارتفاع النسـب في المناطـق الحضـرية أكثر منها في الأرياف أو البوادي، فعلى سبيل المثال تزايدت الحالات، التي استقبلتها وحدة الإرشاد الاجتماعي التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية في المملكة العربية السعودية - خلال الأعوام الثلاثة (1423هـ - 1424 - 1425هـ) فبلغت (79% - 134% - 154%) على التوالي( )، أما في إدارة الاستشـارات الأسرية بوزارة العدل بدولة الكويت، فقـد تواصل تزايد استقبال الحالات في الأعوام (1996م، 2000م، 2004م) على النحو الآتـي( ): (2765 حـالة، 3931 حالة، 4335حالة) عـلى التوالـي، كما يوضح الجـدول التالي نسب الطـلاق في بعـض دول الخليج وإن كان يظهر ثـمة تناقص نسبـي في الأعوام المتتالية، ولكن النسـبة بشكل عام تُعدُ مرتفعة:

جدول رقم :  3
تطور معدلات الطلاق في دول الخليج العربي( )
الدولة %                 لحالات الطلاق مقارنة بصكوك الزواج للأعوام
 2004                                                   
م        2005             م                2006م
المملكة العربية السعودية                      21 %                 21 %                      23 %
دولة الكويت 34 %                 37 %                      39 %                                  
الإمارات العربية المتحدة 22 %                26 %                      28 %                    
مملكة البحرين 24 %                23 %                       21 %                                
دولة قطر 27 %                 24 %                      32 %                                      
سلطنة عمان                                   لا تتوفر أية بيانات إحصائية عنها حسب المرجع
المتوسط لجميع الدول                        
 25.6 %               26.2%                   28.6 % 

     ولاشك أن تلك الخـلافات الأسرية، التي تلقتها مراكز الاستشارات أو إدارة الاستشارات الأسرية في بعض دول الخليج العربي، وكذلك كثرة نسب الطلاق نتيجة عدة عوامل اجتماعية ونفسية واقتصادية، منها ما يرجع لشخصية الفرد صاحب المشكلة ومنها ما يرجع لازدياد ضغوط الحياة دخل المدينة ذاتها، ومرد ذلك أن الأسرة الخليجية في المدينة تعيش في شكل الأسرة النووية الصغيرة المنفردة في السكن عن أسرتها الكبيرة، فضلاً عن ضغوط المدينة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي تزيد من توتر الفرد في الأسرة، والدراسات تظهر أن تلك النوعية من الأسر المنفردة أو ما يسمى بالأسر النووية المنفصلة عن حرم الأسرة العائلية الكبيرة تمر بأزمات عاطفية، واجتماعية، واقتصادية أكثر بكثير من مثيلاتها من الأسر التي تعيش ضمن العائلة الممتدة، وسبب ذلك أنها قليلة التجربة ولا تملك النضج الكافي لمعالجة الأزمات والأحداث التي تتعرض لها، فضلاً عن تناقص الدعم الاجتماعي والنفسي أو انعدامه بالكلية في ظل الانفراد عن الأسرة الكبيرة الممتدة( ). ولا يعني هذا أن الأسرة النووية ليس لهـا إيجابيات، بل كما هو الحال في أي شكل من أشكال الوضع الاجتماعي، نجد للأسرة النووية جـوانب إيجابية وأخرى سلبية، وكذلك الأسرة الممتدة. وعلى كل حال يمكن القول: إن ظاهرة الطلاق ظاهرة مدنية، أي مرتبطة بالمدينة أكثر منها ظاهرة ريفية أو قروية.
    وختاماً لكل ما سبق فإنه يمكن القول: إن تراكم مثل هذه المشكلات الاجتماعية جراء توسع المدن، وتواليها جعل الهوة تزداد اتساعاً بين المؤسسات الاجتماعية وفئات المجتمع، وبخاصة فئة الشباب التي تمثل أكثر من نصف المجتمع الخليجي في وقتنا المعاصر( )، وهذا ما يؤكد أهمية سرعة تدارك مثل هذه المشكلات وبخاصة الرئيسة منها التي تمثل حجر الزاوية، وقد تكون المفتاح الأساس لتخفيف بعضها الآخر، وهي موضوع ضعف العلاقات الاجتماعية، سواء بين الجيرة أم بين الأقارب وذوي الأرحام.
- تنامي ظاهرة الخدم والمربيات الأجنبيات في المنازل الخليجية:
   إن من حكمة الله عز وجل أن فاوت بين خلقه في الرزق والقدرات، فلا يوجد من هو مكتفٍ بنفسه عن الآخرين، ومن أجل هذا التفاوت بين البشر أصبح بعضهم في حاجة إلى ما هو مفقود عنده مما هو موجود عند غيره، فالفقير في حاجة إلى تحصيل المال الذي بوساطته يحصل على متطلبات حياته، والغني في حاجة إلى خدمات غيره.. والضعيف في حاجة إلى غيره ممن يساعده في القيام بما يعجز عنه لأي سبب من الأسباب، وهذا ما يجعل الإنسان في حاجة إلى غيره، ومن هنا كان استخدام الإنسان للإنسان أمراً ضرورياً لوجود هذا التفاوت بين الناس، وعملية الإخدام والخدمة مهنة قديمة جداً، وقد عرفتها غالبية المجتمعات الإنسانية واعتبرتها ضرورة اجتماعية واقتصادية، وإن كانت تبدلت في بعض صورها وعقودها، وقد أصبحت عملية الإخدام منظمة بشكل يتناسب والتطور الإداري في العالم، وبخاصة في المجتمعات التي حباها الله بالثروات كما في الدول الخليجية، فكان منها استقدام الأعداد الكبيرة جداً من العمالة المنـزلية إلى تلك الدول بمختلف أنواعهم (خادمات، مربيات، طباخات، سائقين، حُراس، مزارعين). بل وصل الأمر إلى أن أصبحت العمالة المنـزلية جزءاً من تكوين معظم الأسر في المجتمع، حيث انتشرت وصارت المساكن تُصمم وتُبنى في كثير من الأحيان وفيها غُرف مخصصة للخادمة والسائق( ).
    وهذه الظاهرة تتزايد بطبيعة الحال، في المدن دون الريف أو القرى، وهي ظاهرة فرضتها الحياة المدنية والانشغالات الوظيفية لأرباب الأسر من جانب، ودخول المرأة بخاصة في سوق العمل في المدينة من جانب آخر، وهذا ما تظهره الدراسات الميدانية في بعض المدن الخليجية، حيث كان هناك ارتباط مباشر بين خروج المرأة للعمل وانتشار ظاهرة العمالة المنـزلية( )، فالواقع الاقتصادي للأسرة في المدينة قد يتطلب انشغال الأبوين بشكل شبه دائم ، فكان لا بد من وجود هذه الخادمة أو المربية في المنـزل، فكان أن تسلمت هذه العمالة جزءاً من المسؤولية الأسرية بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر. بل أصبحت تنافس الأسرة في بعض جوانب التنشئة، «فنتيجة لجنوح الوالدين إلى حياة الدعة والترف والاتكالية على العمالة الأجنبية ذات المستوى المتدني والمتوفرة بكثرة بدأ الأهل يديرون ظهورهم للتنشئة وحل محلهم في ذلك الخدم»( )، فبرز هنا ظاهرة (الخادمة المربية) في الوقت نفسه، فأساس استقدامها هو للخدمة المنـزلية، ولكنها تتحول مع مرور الوقت وتهاون الوالدين إلى مربية للأبناء، ومما يؤسف له أن هذا هو واقع الحال لدى قطاع كبير من الأسر في المدينة الخليجية، شاءت الأسرة أم أبت، ومكمن الخطورة هنا هو أن هؤلاء الخدم حين انتقلوا إلى المجتمع لم ينتقلوا بأشخاصهم فحسب، لكنهم نقلوا معهم عادات مجتمعاتهم وتقاليده وثقافته، التي هي مغايرة تماماً للقيم والثقافة الإسلامية والعادات العربية الخليجية السائدة في المجتمع.
  كما أدت «مهارة وصبر العديد من الخادمات إلى سيطرة شبه كاملة على أعمال المنـزل.. ولقد أدى ذلك إلى أن تفرض الخادمات أذواقهن في الطعام وترتيب المنـزل، وقد يكون أثرهن أبلغ وأعمق فيما هو غير منظور أو مرئي أو ما يتعلق بالأمور التي تأخذ وقتاً طويلاً للظهور مثل تربية الأطفال وتنشئتهم
»( )، ولهذا الوضع أثر كبير على مختلف أفراد الأسرة والمجتمع بشكل عام سواء في بعده الشرعي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، الذي هو مدار الحديث هنا
     إن عملية الإخدام ليست بجديدة على البشرية، كما ذُكر آنفاً، وكان الخادم أو الخادمة في السابق - في الغالب الأعم - من البيئة المحلية ومن الوسط الثقافي نفسه وتتحدث لغة المجتمع نفسه. ولكن الوضع الحالي للخدم في الأسرة في المدينة الخليجية مختلف بشكل كبير جداً عن السابق، فالخادمة أو المربية أو الطباخة أو السائق بعيدين كل البعد عن المجتمع الخليجي، فاللغة مختلفة تماماً، والديانة كذلك، حيث توجد أعداد كبيرة من الديانات المختلفة ممن تم استقدامهم للخدمة المنـزلية، فضلاً عن التباين في المستوى الثقافي العام للطرفين، ففي إحدى الدراسات الميدانية على عدد من الدول الخليجية تبين أن ترتيب الديانة للمربيات في البيت الخليجي كان على النحو الآتي: الديانة المسيحية أولاً، ثم البوذية، ثم الهندوسية، ورابعاً تأتي الديانة الإسلامية( ). ولئن كانت الدراسة قديمة إلى حد ما حيث مضى عليها قرابة العشرين عاماً، لكنها لا تخلو من دلالات لا يمكن التغافل عنها؛ وفي دراسة أحدث على المجتمع القطري أظهرت الدراسة أن (68.5 %) من الخادمات يعتنقن غير الإسـلام( ). ومن هنا فـكل ذلك منذر بالخطر الاجتمـاعي لما تتصف به هذه العمالة من تغلغل وسط الأسرة بشكل عميق وطويل الأثر، هذا إذا سلمنا من الأثر العقدي على الطفل جراء رؤيته لمربيته وهي تمارس شعائر دينية خاصة بها.. ألا يمكن أن يتعلق بها، وبخاصة إن كانت ممن تحسن لهذا الطفل بشكل مُحبب له يجعله يتعلق بها نفسياً ووجدانياً؟!
    إن وجه الخطورة الآخر من الناحية الاجتماعية والثقافية يتمثل في تعلم الطفل لغة هجينة جراء مكثه في أحضان الخادمة أو المربية فترة طويلة، فلقد وجد في إحدى الدراسات أن (78%) من الأطفال في المجتمع القطري يتفاهمون مع الخادمة بلغة الخادمة الأصلية، أي أن التكيف يسير في اتجاه لغة الخادمة أكثر مما يسير في اتجاه لغة الطفل( ). والنتائج نفسها أظهرتها ثلاث دراسات على المجتمع الكويتي( ). كما أظهرت دراسة حديثة أجريت في المملكة العربية السعودية الأثر السيئ على لغة الطفل وضعف الكلمات العربية فيها مما أثر على تحصيله الدراسي( ).
   وبالجملة، فإن وجود الخادمة في البيت الخليجي بهذا الوضع المتساهل، وبهذا الشكل غير المنضبط، وممارستها للتنشئة الاجتماعية للطفل تؤدي إلى مشاكل نفسية عميقة لدى الطفل، وذلك وفق نتائج إحدى الدراسات الميدانية في مدينة جدة، فهي تؤدي بالأطفال إلى «إعاقة نموهم الذاتي، وميلهم إلى العزلة والانطواء، وجعلهم غير متوافقين اجتماعياً، فضلاً عن نشأتهم الاتكالية وعدم تقديرهم المسؤولية لاعتيادهم التساهل وتلبية كافة احتياجاتهم من قبل الخادمات
»( ). 
    ولقد أدى وجود الخادمة في المنـزل إلى تنامي ظاهرة اجتماعية أخرى لها أبعادها السلبية كذلك، فقد أظهرت إحدى الدراسات الميدانية في مدينة جدة أن توافر وقت فراغ لدى ربة المنـزل أوجد لها إمكانية صرف ذلك الوقت في ممارسات ترفيه قد لا تكون بحاجة ماسة لها مثل تزايد فترات التسوق وحضور حفلات أو خلافه، مما يزيد بشكل غير مباشر من ابتعاد الأم عن المنـزل والأبناء بصورة أو بأخرى( ).
   وإضـافة إلى ما ذكر فلا يمكن إغفال جانب آخر، له بعده الشرعي، ولا يخلو من بعد اجتماعي مؤثر في المستقبل، وهو أن بعض الأسر تتساهل في عملية الاختلاط بالخادمات، أو الخلوة والانبساط معهم، فقد نجد من الرجال من يخلو بخادمته الأجيرة، والمرأة قد تخلو بخادمها أو سائقها، بل قد تبرز محاسنها أمامه، وكذلك الأمر بالنسبـة للأولاد والبنات البالغين، وهذا مما لا يجوز شرعاً، فقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الخلوة، واعتبرها بداية الشر؛ لأن راعيها الشيطان، فيقول صلى الله عليه وسلم : «أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ»( )، ولاشك أن التعامل الشرعي في تحديد العلاقة المكانية بين الخادم والمخدوم، يجب أن يكون له اعتبار كبير في الواقع الاجتماعي للتعامل مع الخدم بشكل عام.
   أما أثر تلك العمالة على المجتمع بشكل عام فلا يخفى، فهي تمارس العديد من عاداتها أو من معتقداتها في وسط المجتمع الذي تعيش فيه وكأنه شيء طبعي، ومن ذلك: ممارسة شعائرها الدينية، شرب الخمور، أكل لحم الخنـزير، الاختلاط، الممارسات الجنسية ما قبل الزواج، استقبال الأصدقاء الذكور من قبل الخـادمات في منازل كفلائهن، فكل هـذه الممارسـات لا يمكن تجاهل أثرها، وهي تمارس بشكل علني، على الوضع الاجتماعي في المجتمع الخليجي؛ كما لا يمكن غض الطرف عن خطورة استسهالها من قبل المسلمين جراء التعود عليها، لذا كان من الحكمة التمسك بما قرره الإسلام وأكد أهميته من الحرص على عدم المجاهرة بالمعصية، حتى لا تتعودها الأنفس وتتجرأ عليها.
    وبالجملة، فإن واقع التوسع العمراني فرض اسـتقدام كل هذه العمالة بما نتج عنها من انعكاسات سلبية اجتماعية وعقدية على المجتمع الخليجي، فهي عملية مترابطة، تبدأ بالتأثير على الطفل ثم تنتقل إلى الزوجين، ثم المجتمع بأسره في حلقات مترابطة متداخلة مع بعضها بعضاً.
9
- شيوع النزعة الاستهلاكية بين أفراد المجتمع:
   وهذه الظاهرة تتزايد بين سكان المدن عادة، والشباب بشكل خاص، وهي ظاهرة تزامنت مع الانفتاح المجتمعي في المدينة، ونتيجـة طبعية للمغريات المادية، والتطور الكبير في فنون الدعاية والإعلان عن منتجات ليس بالضرورة أن يكون الفرد بحاجة لها، وتتزايد هذه الظاهرة في ظل توفر المال في أيدي الناس في فترات معينة، وبشكل كبير، وهو ما حدث تماماً في الدول الخليجية نتيجة لتزايد دخول أفراد المجتمع جراء ارتفاع أسعار البترول بشكل كبير ومفاجئ، فكانت السيولة متوافرة، وكانت طفرة اقتصادية نقلت المجتمعات الخليجية من مجتمعات عاملة منتجة مكتفية إلى حد ما بما تنتجه إلى مجتمعات تسـودها القيم الاستـهلاكية المحمومة الرافضة للعمل اليدوي؛ ومن مجتـمعات كانت تعيش حـد الكفاف إلى مجتمعـات تنعم بثروة طـائلـة لم تبـذل جهداً كبيراً للحصول عليها. وفي الطرف الآخر أصحاب الأعمال، الذين يعملون في سباق محموم لإغراء الناس بالشـراء حتى لو لم تكن ثمة حاجة حقيقية، ولا أدل على ذلك من رؤية مدى انتشار الأسـواق والمجمعات التجارية بشـكل غير طبيـعي في المدن الخليجية، ولن يكون من الصعوبة بمكان أن نرى ظاهرة تنامي الأسواق وكثرتها الطاغية جداً في بعض المدن الخليجية مثل: مدينة الرياض، أو جدة، أو دبي، على سبيل المثال.
   فهـذه الظـاهرة نتيجة طبعية لإقبال الناس على الشـراء المحموم حتى لو لم تكن هناك حاجة حقيقية؛ وتزايد هذه الأسواق والتفنن في طريقة عرضها ومحتوياتها تجعل النـزعة الاستهلاكية في تزايد، ويستمر الدوران في حلقة لا تنتهي ولكن مؤداها المؤكد هو تحويل سكان هذه المدن وجعلهم يعيشون في مضمار تسابق للشراء والاقتناء في صورة سلبية من صور النـزعة الاستهلاكية المذمومة. ومما يؤسف له «أن تحسن الأوضاع الاقتصادية للفرد والمجتمع في الدول الخليجية لم يعكس أثره الاجتماعي على المجتمع إيجابياً، بل أكثر ما يظهر وكأن المجتمع لم يتطور اجتماعياً، بالمفهوم الموضوعي للاجتماع، وإذا ما استمر هذا التطور السلبي فإنه أول ما يعكس آثاره السلبية أيضاً - في المستقبل - على النواحي التربوية والأخلاقية والدينية وبالتالي الاقتصادية والسياسية
»( ). 
   إن هذه الظاهرة لا يمكن أن توجد في غير المدن لسبب رئيس هو أن تزايد السكان في المدينة يغري أرباب العمل بالتوسع في العرض والتنميق فيه، ويصاحبه إقبال الناس على الشراء تتبعاً لعادات اجتماعية قد تفرضها ظروف العيش في المدينة ومسايرة أهلها لبعضهم بعضاً، وإن ظاهرياً، وهذا في الغالب لا يظهر في التجمعات السكانية خارج المدن الكبرى، وحتى إن وجد خارجها فلا يمكن أن يكون بالشكل الكبير الذي يبدو عليه في المدينة، ومن هنا يمكن النظر إلى هذه الظاهرة، وهي تزايد النـزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن، باعتبارها نتيجة من نتاج التوسع الكبير فيها، ومحصلة متوقعة جراء الثقافة الاستهلاكية التي تتصاحب مع الثقافة السائدة لدى سكان المدينة.
   كما لا يمكن إغفال جانب آخر مسبب لتلك النـزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن، ألا وهو كون التسوق أصبح جزءاً من الترفيه المشترك للعائلة، وقد يكون هو المتاح في ظل الضيق الترويحي الذي تعيشه المدينة الخليجية، فالدوران في الأسواق يبدأ بغير حاجة، لمجرد الترفيه فحسب، ولكن جودة العرض وحسن الترتيب يغري أحياناً كثيرة بالإقبال وشراء الإنسان ما ليس له به حاجة( ). ومكمن الخطورة هنا هو اصطحاب الوالدين أبناءهم الصغار معهم، فيشاهد هؤلاء الأبناء أنموذجاً صارخاً لسطوة الثقافة الاستهلاكية على الوالدين، فهما يقومان بشراء كميات هائلة من السلع. ومن المشاهد المألوفة حالياً أن العديد من الأسواق والمجمعات يوفر عربات صغيرة مخصصة لتسوق الأطفال، فنجد الكثير منهم يدفعون أمامهم العربات ويمارسون هواية الشراء على غرار آبائهم. ولاشك أن ذلك يؤثر بالسلب في التنشئة الاجتماعية لهؤلاء الصغار، الذين يدربون على أن يصبحوا كائنات استهلاكية في المستقبل.
    إن من المفارقات الغريبة ما أشار إليه استطلاع إلكتروني أجرته «إيه سي نيلسن»، المزود الأول لبيانات التسويق في العالم، وشمل نحو ( 23) ألف مستهلك في (42) دولة حول العالم، تحت عنوان «ثقة المستهلك»، وأظهر أن (30%) من المستهلكين في دولة الإمارات العربية المتحدة يذهبون للتسوق بغرض «الترفيه» مرة واحدة أسبوعياً على الأقل، ليحتلوا بذلك المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد هونغ كونغ التي بلغت النسبة فيها 36 %
   إن مما يزيد من تنامي النـزعة الاستهلاكية ويؤكدها في الوقت نفسه هو تزايد ظاهرة الاقتراض من البنوك لسد جوانب كمالية في حياة الأسرة، فعلى سبيل المثال تزايدت قيمة القروض الاستهلاكية للأفراد من البنوك في المملكة العربية السعودية من (73) مليار ريال عام 1423هـ/2003م إلى (182) مليار ريال في عام 1427هـ/2007م( ). وهي قفزة شـديدة، مما يؤكد أن القروض الشخصية الاستهلاكية وصلت إلى مستويات حرجة تتطلب ضرورة تشديد القيود على منحها، ووضع معايير وضوابط جديدة لتحديد أجل وقيمة هذه القروض وبخاصة أن بعض البنوك الخليجية أصبحت تقدم قروضاً تعادل 50 ضعف الراتب، فهي التي تفتح الباب على مصراعيه أمام عملاء الاقتراض من خلال حملات دعائية لا تهدأ وتسهيلات مغرية تقدمها لاستقطاب أكبر قدر ممكن من العملاء لتصدير أكبر حجم ممكن من القروض الشخصية مما يغري الكثير من الناس ويوقعهم في حومة الاستهلاك المذموم الذي يصل بهم إلى حد الإسراف المنهي عنه شرعاً، وبخاصة عندما تكون القروض للجوانب الكمالية البحتة أو لمجرد تقليد الآخرين في السفر إلى الخارج في أشهر الصيف.
    إن ثقافة الاستهلاك باتت تنخر في عظام مجتمع المدينة الخليجية، وتهدد أمنه واستقلاله وهويته، بل وتلقي به في مصيدة التبعية الاقتصادية والثقافية، مما يهدد الذات والوجود والهوية الوطنية، وبخاصة أن الظاهرة لم تقف عند حد معين، وإنما امتدت إلى أنماط سلوكية أخرى في الحياة اليومية للمواطن، مما جعلها تشكل ثقافة حياتية يومية بكل ما تحمله من آثار وتداعيات خطيرة وذات تأثير واضح في عقلية واتجاهات الأفراد والجماعات، ومن ثم تشكل تهديداً خطيراً للبناء والكيان الاجتماعي. ومما يزيد من عمق تلك المشكلة هو أن معظم المواد والأدوات والوسائل وحتى الوجبات الجاهزة، والأجهزة الاستهلاكية تأتي من الخارج، وبكل ما تنطوي عليه من أنماط وقيم ثقافية في معظمها غربية، وهذا يعني تكريس التبعية بكل صورها.
    ومن الغرائب في هذا الشأن أن هذه الظاهرة «ظاهرة النـزعة الاستهلاكية» استرعت انتباه عالم الاجتماع المسلم (ابن خلدون) في مقدمته، بل قد يكون هو من أول من أشار إليها من بين علماء الاجتماع، وإن كان يطلق عليها اسماً آخر وهو «التفنن في الترف»، بل يجعل هذه الظاهرة شبه متلازمة مع ظاهرة التحضر أو الحضارة كما يسميها، فيقول
»   والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التيتُؤَنّقُ من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيأة للمطابخ والملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية، ولسائر أحوال المنـزل؛ وللتأنُّق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يُحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنُّق فيها. وإذا بلغ التأنُّق في هذه الأحوال المنـزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها. أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويُعجز ويُنكبُ عن الوفاء بها»( ). كما يُشير في موضع آخر من مقدمته إلى أن أهل البادية يعجزون عن سكنى المدن؛ لأن المصر الكثير العمران يكثر ترفه.. وتكثر حـاجات ساكنه من أجل الترف، وتُعتاد تلك الحاجات لما يدعو إليها فتنقلب ضرورات. ( ) 

المكتبة الإسلامية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا