توازن العاصمة بين أقاليم الدولة
جريدة الأهرام - قضايا وآراء - الأربعاء - 15 من شوال 1429 هـ -
15 أكتوبر 2008 - السنة 133 - العدد 44508 :
بقلم د . حمدي هاشم - خبير جغرافيا بيئية :
يعود الصدى بنغمة البحث عن عاصمة جديدة لمصر ليعيد إلى الأذهان
اختلاف الرؤى وتعارض الأهداف بين قيود الفكر الافتراضي لتطبيقات المحل الهندسي
وبين الموضع الجغرافي الحر, المنتخب طبيعيا وبشريا عبر مراحل التاريخ, وذلك
بعد اختلال وظائف العمران بالقاهرة, منذ بداية العقد قبل الأخير من القرن
العشرين, بدرجة تقترب من الفشل المكاني الكامل, بعدما دب الشلل في عناصر وأدلة
الحركة والأداء, الأمر الذي يدخل ذلك النظام الحضري في مرحلة حرجة وأزمة مستمرة,
حيث أصبح لا سبيل أمام الحكومة ومعها خبراء التخطيط العمراني والمتخصصون في إعادة
التنظيم المكاني, من حلول للتغلب على تلك المشكلات البيئية الحادة أو السيطرة
على آثارها البسيطة والمركبة نتيجة استمرار القاهرة في تضخمها العمراني غير
المشهود, وكأن المكان, في حد ذاته, هو المسئول عن تدهور عناصره الطبيعية
وانكماش عوامله الجغرافية, ناهيك عن انحسار فاعليته الاقتصادية أمام الوفاء
بمتطلبات طيب العيش لسكانه.
وفي حقيقة الأمر, أن تلك
الحالة العمرانية والمدنية التي آلت إليها العاصمة( القاهرة) تعود إلى حالة من
الفقد الاقتصادي وتعطيل الاجراءات والتراخي في ضرورة الاستفادة من المخططات العامة
والإستراتيجية التي أصدرتها الهيئة العامة للتخطيط العمراني, في ظل غياب
السياسات الحكومية الرامية إلى تنظيم حركة العمران البيئي, بهدف تحقيق التوازن
وتذويب الفوارق والمحافظة على تكافؤ الفرص بين أقاليم الدولة, وذلك بإرساء قواعد
عدالة التوزيع للثروة والخدمات والثوابت الحضارية بين الأقاليم والسكان في مصر.
نعود لنؤكد أن حاضرة مصر
الأولى ( القاهرة) هي اختزال طبيعي وخلاصة تاريخية لنظام انتخاب العاصمة
المصرية, التي استقرت حول ذلك الموقع الجغرافي علي ضفاف نهر النيل بين الوادي
والدلتا( داخل المعمور وفي وسط العمران) ولم تكن لها إرادة في تطورها كسيرة
مستمرة لصورة الإقطاع والمركزية الشديدة, التي جعلت منها مركزا ضخما للنقل
الصناعي والزراعي والحضاري على مستوى الدولة, ومعضلة القاهرة, لا حل لها إلا
بفصل الصناعة عن السكان, ولاسيما الصناعات الثقيلة منها والأكثر تلويثا للبيئة,
بتهجيرها إلى مواقع جديدة بعيدة عن حركة واتجاه النمو العمراني, مع إعادة تصويب
الوضع البيئي لتوطين صناعات العواصم, وكذلك البحث عن الميزات النسبية لتسهيل
حركة استيعاب الزيادة السكانية الطبيعية ونقل سكان العشوائيات إلى مدن الضواحي
بالمحيط الصحراوي وكذلك الريفي داخل الحيز الإقليمي للعاصمة. مع إيجاد الروادع
التشريعية والتنفيذية لضمان تحقيق البعد الاجتماعي بمشروعات التنمية العمرانية
بالدولة, لاسيما الحكومية منها, وليس كما حدث من سلب مخطط أراضي القاهرة الجديدة(
في الهامش العمراني لمدينة القاهرة), من فئة السكان محدودي الدخل التي خصصتها
الحكومة لهؤلاء( منشية ناصر والدويقة وغيرها من السياج العشوائي القريب) لتؤول
فعليا بطريقة عكسية إلى تلك الفئة القادرة ماليا, أي الأغنياء دون الفقراء من
السكان, ويتطلب الموقف أيضا, إيقاف تصريح إعادة البناء بامتداد رقعة القاهرة,
مع نزع ملكية المباني المتهالكة والآيلة للسقوط وتحويلها إلى مناطق خضراء مفتوحة,
بعد تعويض أصحابها بقطع من الأراضي المتميزة بالمدن الجديدة المجاورة.
وهكذا, تتاح الفرصة
لتكوين رصيد من الأراضي العقارية المتحولة بعد خلوها من وظائفها السابقة, مما
يسمح ويسهل عملية إعادة التنظيم المكاني للقاهرة على أسس علمية وعصرية, أضف إلى ذلك, بحث أنسب الوسائل للتخفيف من عوامل الجذب باتجاه القطب القاهري الأوحد,
بالتوازي مع الارتقاء ببيئة المدن والعواصم الإقليمية وكذلك تنمية القرية المصرية,
أي الاهتمام بالأقطاب العمرانية الموزعة بين جميع أقاليم الدولة, حسب دافع
الجغرافيا البشرية, للتقليل من حجم تيار الهجرة الداخلية باتجاه العاصمة,
ولتثبيت السكان في مدن وعواصم الأقاليم بعد اكتمال توازنها واقترابها من الوقوف
علي قدم شعلة القاهرة, الباهرة على الدوام والاستمرار. وعلى ذلك ينبغي للإدارة
السياسية تحريك البوصلة للمستقبل باتجاه تفعيل التوازن الجغرافي والعدالة البيئية
بين الأقاليم التخطيطية السبعة في مصر( القاهرة, الإسكندرية, قناة السويس,
الدلتا, شمال الصعيد, أسيوط جنوب الصعيد).
من هنا يتضح أن كل الحلول
المقترحة جغرافيا وتخطيطيا لن تؤتي ثمارها إلا بتجديد إعلان القاهرة مدينة مغلقة
بكل الحدود أمام مختلف المشروعات العمرانية الجديدة, عدا صيانة ماهو قائم من
مختلف أشكال العمران, وذلك لمدة زمنية ليست بالقصيرة, أي يجب الإفلات من مأزق
ذلك الثقب الأسود في فضاء المعمور المصري, ووضع نهاية عادلة لهذا الاهتمام
المرضي بالقاهرة, التي ابتلعت الأموال الطائلة وتجمدت في أراضيها الاستثمارات
الضالة التي وقعت فريسة لبعض المضاربات العقارية غير الواقعية, وبذلك وجب غلق
الحديث عن عاصمة جديدة لمصر, بتكلفتها الخيالية التي لا تقدر عليها أقوى الميزانيات المالية, ليست في مصر وحدها بل في الدول ذات الاقتصاد المتقدم,
ناهيك عن تلك السنوات العجاف المستمرة للبرنامج الزمني لنقل العاصمة, ذات الشتاء
الاقتصادي الطويل, التي ستمنع حدوث التوازن الحضري على مستوي مدن وعواصم
الأقاليم بالدولة, وتزيد من الحرمان التنموي للريف في الدلتا وصعيد مصر, ومن
هذا المنبر الرائد ناهض الدكتور جمال حمدان, منذ أكثر من ثلاثين عاما, اقتراحا
مقدما عن عاصمة جديدة لمصر في شمال الصحراء الغربية بديلا عن القاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق