صبحي عبدالحكيم‏:‏ العالم الإنسان ...

 صبحي عبدالحكيم‏:‏ العالم الإنسان 

بقلم : د‏.‏ فتحي أبوعيانه أستاذ الجغرافيا بجامعة الإسكندرية

جريدة الأهرام - قضايا و آراء - الخميس - 15 ربيع الأول 1430 هـ - 12 مارس 2009 م - السنة 133 - العدد 44656 :

  رحل عن دنيانا العالم الجغرافي الكبير محمد صبحي عبدالحكيم بعد حياة علمية وعملية متميزة في مجال التخصص وخدمة الوطن‏,‏ وأقامت له لجنة الجغرافيا بالمجلس الأعلي للثقافة ندوة تذكارية خاصة في الرابع من يونية‏ 2002  ,‏ صدر عنها كتاب يحمل اسمه منعوتا بصفتين‏:‏ الإنسان والمفكر‏,‏ وتناولت الندوة بعضا من جوانب حياته الحافلة بالعطاء‏,‏ ووقف تلاميذه في مصر والعالم العربي على بعض من ملامح حياته في مسيرته العلمية منذ تخرجه من قسم الجغرافيا بجامعة القاهرة وحصوله على درجة الماجستير منها في خسمينيات القرن الماضي وانتخابه عميدا للكلية في منتصف السبعينيات وتعيينه نائبا لرئيس جامعة القاهرة بعد ذلك‏,‏ واختياره أول رئيس لمجلس الشورى خلال الفترة من نوفمبر‏1980‏ حتى نوفمبر‏1986‏ ورئاسته بعد ذلك للجنة تسجيل ثورة ‏23‏ يوليو ‏1952.‏

  ويعد صبحي عبدالحكيم أحد رواد التطوير في جغرافية السكان في مصر المعاصرة حيث مهد لظهور معالم التجديد في تحليل الظاهرة السكانية مكانيا وعبر الزمن‏,‏ واستطاع خلال حياته الأكاديمية منذ منتصف القرن العشرين أن يرسخ مفهوما جديدا لهذا الفرع من فروع التخصص في الجغرافية البشرية‏,‏ كانت ذخيرته في علم الخرائط مرتكزا لتوضيح دور الخريطة في التحليل الديموجغرافي‏,‏ وتمشي في ذلك مع رواد الفكر الجغرافي السكاني الحديث في الغرب مثل بيير جورج وتريوارتا وبيجو جارنييه وزيلنسكي‏,‏ فقد كتب صبحي عبدالحكيم عددا كبيرا من البحوث والدراسات كانت في معظمها إضافة حقيقية لجغرافية السكان‏,‏ وما برح يدعو إلى ترسيخ مفهوم هذا العلم في أقسام الجغرافيا في مصر والعالم العربي‏,‏ وكانت دراساته المبكرة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين اساسا لكثير من الدراسات التي اتخذته نموذجا يحتذي به بعد ذلك‏,‏ وأظهر من خلالها اهتمامه بالخريطة والرقم‏,‏ ومتابعته لهما وإلمامه بتطوير فنون هذا العلم عند الغربيين مما شجعه على أن يخوض تجربة عملية رائدة عندما رأس المركز الديموجرافي بالقاهرة‏,‏ واستطاع من خلاله ـ وهو الجغرافي الكبير ـ أن يحقق معادلة مهمة في التوفيق بين الرقم السكاني وخريطة التوزيع ـ أي بين الزمان والمكان ـ من خلال التطور العددي‏,‏ والمكان من خلال مؤثرات التوزيع‏,‏ واختيار بحوثه السكانية لتشمل مناطق محددة في مصر والعالم العربي‏,‏ وليس من قبيل المبالغة القول أن مفهوم التوزيع السكاني في مصر لدي صناع القرار وواضعي السياسة السكانية في مصر على امتداد العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين غذاه وشجع عليه باستمرار صبحي عبدالحكيم وكتاباته حتى أضحى هذا المفهوم جزءا من السياسة السكانية للدولة سواء في الأراضي الزراعية القديمة في الوادي والدلتا أو في الأراضي الجديدة خارج هذا النطاق‏.‏

 وقد استمر الجهد الأكاديمي لصبحي عبدالحكيم في مجال السكان جغرافيا وديموجرافيا جادا ومخلصا‏,‏ ولم ينقطع حتى في فترة رئاسته لمجلس الشورى وانشغاله السياسي في أعلى مستويات الحكم في مصر‏,‏ فلم يتوقف عطاؤه الطموح‏,‏ واستمر في أداء الرسالة وأرسى قواعد للبحث في جغرافية السكان ضمن منظومة العلوم الاجتماعية التي سبقه إلى شيء منها كل من محمد عوض محمد وسليمان حزين اللذين مزجا هذا العلم بالتاريخ والسياسة والانثربولوجيا‏,‏ ويبدو أن طواعية أدوات البحث لدى صبحي عبدالحكيم وسهولة وصوله إلى استنتاجات منطقية للظاهرات السكانية شجعته على تكوين مدرسة جغرافية في هذا التخصص‏,‏ وأسهمت العديد من الكتب التي أجراها في وضع لبنة مهمة ومحورية في التحليل الجغرافي للسكان علي المستوي المحلي أو الوطني أو الإقليمي‏,‏ وكانت زادا مهما للباحثين في الدراسات السكانية بعامة‏,‏ وفتحت الباب أمام أجيال تالية منهم ليس في مجال جغرافية السكان فقط بل وفي مجال علوم اجتماعية وإنسانية أخرى كعلم الاجتماع والانثربولوجيا وتخطيط المدن‏.‏

وكانت جهود صبحي عبدالحكيم ـ إضافة لجهود الرواد السابقين ـ إيذانا ببدء مرحلة جديدة من مراحل التطور في جغرافية السكان‏,‏ وأسهمت كتاباته وآراؤه وأفكاره التي أوردها في محاضراته ولقاءاته العلمية والإعلامية ـ في إثراء المعرفة والوعي بالجوانب الديموغرافية للمشكلات السكانية وساعد على ذلك عوامل كامنة في شخصيته المؤثرة وثراء معرفته وسلاسة أسلوبه ودقة ملاحظاته والربط المنطقي بين العوامل المسببة والنتائج المترتبة عليها إضافة إلى عامل آخر هو صعوده التدريجي في العمل السياسي في مصر والذي أثراه بفكره الجغرافي عامة والسكاني على وجه الخصوص وساعد ذلك على نشر الوعي السكاني والإلحاح الدائم على خطورة المشكلات السكانية حاضرا ومستقبلا‏.‏