التسميات

الأربعاء، 8 أكتوبر 2014

الرائد صبحي عبد الحكيم عاشق مصر ووادي النيل ...

الرائد صبحي عبد الحكيم عاشق مصر ووادي النيل


  آفاق بيئية - د. حمدي هاشم :

  مضت أربع سنوات على رحيل العالم الجليل الأستاذ الدكتور/ محمد صبحي عبد الحكيم (1928-2009) وما زالت بصمات شخصيته ـ شديدة التميز ـ لا تغادر وجدان طلابه وتلاميذه ومريديه بجامعات مصر والوطن العربي، والمراكز البحثية، وعلى صعيد العلاقات الإنسانية على اتساع تجاربها وتنوع مساراتها. فهو رائدٌ من جيل الرواد في مجال الجغرافيا البشرية، وعلم من أعلام المدرسة الجغرافية المصرية والعربية، وأول من دق ناقوس الخطر بإعلان القاهرة مدينة مغلقة أمام كافة المشروعات الاقتصادية الجديدة، ليتسنى الحد من ارتفاع سقفها السكاني وضبط إيقاعها العمراني والتحكم البيئي في مركبها الاقتصادي.

   كان الرائد العظيم: صبحي عبد الحكيم، عاشق مصر ووادي النيل يتلقى أسئلة طلابه في موضوع المحاضرة أو أي موضوع آخر، وأذكر أنني في إحدى هذه المرات كتبت سؤلاً حول القاهرة وأزمتها الحضرية الكبرى، فأجاب بتشخيص واقعي للحالة ـ على طريقة المدرسة الأمريكية في الطب ـ مقرراً أن للتخطيط العمراني دوراً هاماً ومؤثراً للغاية، لا يحركه في الاتجاه الصحيح أو تصوب اتجاهاته إلا السياسات الحكومية المبنية على الأسس العلمية الراسخة ومفردات البيئة المصرية.
    في محاضرة (73/1974) في المدرج الكبير بكلية الآداب بجامعة القاهرة، قال: يكفى القاهرة تضخمها العمراني بهذا الشكل المخيف، وتفاقم مشاكلها الحضرية من تكدس سكاني وازدحام مروري وغير ذلك، بصورة تجعل عاصمة البلاد لا تستجيب أورامها للمسكنات من الحلول. وأكد على ضرورة تحديد المشروعات الاقتصادية لضمان ضبط الإيقاع الحضري والمدني للعاصمة، من خلال صيغة علمية مبكرة للتخطيط البيئي، تراعى العلاقات العضوية بين الإنسان ونشاطه الاقتصادي ومعطيات المكان، لتتحقق مقومات الحياة الحضرية المحفزة للإبداع الإنساني في شتى صوره.
 وفي محاضرة له أخرى، تحدث باستفاضة عن: فكرة تقسيم مصر إلى عدد من الأقاليم التخطيطية يراعى فيها قواعد العدالة الجغرافية في التوزيع بين السكان والموارد الاقتصادية.
   وعندما ترأس الدكتور/ صبحي عبد الحكيم، مجلس الشورى (1980-1986)، كأول رئيس له في تكوينه الحديث، كان لبصماته العلمية الناجزة ورؤيته العميقة المرشدة أعمق الأثر في تأسيس المشروع القومي لمصر المعاصرة، من تلك الدراسات المتعمقة ذات العرض الدقيق والتحليل الأمين للعديد من قضايا العمل الوطني، في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنمائية، مما جعل منها ـ  بحق ـ قاعدة علمية للتنمية الشاملة في مصر.
    وفي تقرير عبقري بعنوان: “نحو سياسة لاستخدامات الأراضي في مصر” (1986)، تناول الأراضي واستخداماتها وبعض تنظيماتها التشريعية وأنشطة بعض الوزارات والهيئات المعنية بها، توضح خططها الحالية والمستقبلية وكذلك القوانين واللوائح التي تنظم استخدامات الأرض في نطاق عملها؛ الأراضي الزراعية والموارد المائية والدفاع والأمن القومي وتوطين الصناعة وقطاع البترول وقطاع الثروة المعدنية وشبكة الطرق الرئيسية والمستقبلية والخريطة السياحية ومصادر الطاقة المختلفة ثم محاور التنمية العمرانية، وانتهى إلى ثماني توصيات تحدد في مجملها الأسس العامة للتخطيط البيئي في مصر. ويعد هذا دليلاً علمياً مرجعياً للتعامل مع مواقع الموارد الطبيعية بما يحقق الأهداف التي تتبناها السياسة القومية لاستخدامات الأراضي.
  اختير عبد الحكيم لرئاسة اللجنة القومية لبحث مشاكل العاصمة، المشكلة بقرار رئيس الوزراء، والتي استهلت تقريرها الصادر في يونيه 1992 بالتجارب السابقة لتخطيط القاهرة الكبرى ثم اتجاهات نموها السكاني والعمراني ومشكلة الإسكان الرسمي والعشوائي والهامشي وإسكان المقابر، وكذلك مشكلتي مياه الشرب والصرف الصحي ومشاكل النقل الجماعي والمرور وانتظار السيارات، وتناول أيضاً مشكلة تلوث البيئة بجوانبها المختلفة، مع التركيز على المنطقتين الصناعيتين في حلوان وشبرا الخيمة، ثم ألقى الضوء على الثروة  السياحية للقاهرة في العصور الوسطى. واختتم التقرير بالرؤية المتكاملة لإدارة العاصمة، والتوصيات المعتمدة على ضرورة الدمج بين المستويين التخطيطي والتنفيذي باعتبار القاهرة الكبرى تمثل وحدة عمرانية حضرية واحدة يجب وضعها تحت جهاز إداري واحد، ليتسنى تنفيذ الرؤية الشاملة للتخطيط البيئي. 
    وهكذا تجد دور صبحي عبد الحكيم واضحاً ومتميزاً ونافعاً في شتى المجالات العلمية والوطنية والقومية، ومن بصماته المضيئة في تخطيط مصر، التخطيط الابتدائي لإقليم القاهرة الكبرى والتخطيط الإقليمي لمحافظة قناة السويس وتخطيط مدينة العاشر من رمضان والتخطيط السياحي للساحل الشمالي وتخطيط مدينتي العامرية الجديدة والأمل، ثم إستراتيجية التنمية المتواصلة لمصر، وكان الباحث الأول في التخطيط الهيكلي لشبه جزيرة سيناء. ومن بين خبراته العملية المتعددة، أنه كان عضواً بارزاً وفاعلاً بالمجلس القومي للخدمات والتنمية الاجتماعية ومقرراً لشعبة السياسة السكانية به،  ومقرراً للجنة الجغرافيا بالمجلس الأعلى للثقافة.
   وكثيراً ما كان عبد الحكيم يستعرض في لقائه الشهري بالجغرافيين ـ في منزله العامر بضاحية المعادى ـ دور ” الجغرافي” في تخطيط المدن، ويضرب المثل بمدينة العاشر من رمضان، التي تعد نموذجاً للتخطيط البيئي في اختيار موقع منطقتها الصناعية حسب القواعد الجغرافية لتوطن الصناعة في مصر. وبتواضع العلماء يمر سريعاً على دوره الفعال في تأسيس كلية التخطيط العمراني في جامعة القاهرة. ولا يفوتني توثيق الانتساب بكل الاعتزاز والفخر إلى مدرسة أستاذي الدكتور/  صبحي عبد الحكيم: طالباً بكلية الآداب جامعة القاهرة، ومناقشاً ورئيساً للجنة المناقشة لإجازتي درجة الماجستير في الدراسات الإنسانية البيئية من جامعة عين شمس، ثم تلميذاً تحت إشرافه لدرجة الدكتوراه في تخصص الجغرافيا البيئية من جامعة القاهرة.
 لا أجد أروع ولا أشمل من هذه الكلمات لأستاذي الدكتور/ محمد محمود إبراهيم الديب المشرف على رسالتي للماجستير، والتي تتناول فيها بعض السمات والصفات الشخصية لأستاذي الدكتور/ محمد صبحي عبد الحكيم أقدم منها بتصرف:
- إنه القلب الأبيض الناصع، الذي لا يحمل ضغينة لأحد فلم يكره أحد، لذلك حرص الكل الكبير منهم قبل الصغير على التقرب منه.
- لم يكن يوماً ظالماً، فكان يساعد المظلوم في الحصول على حقه وينصر الظالم برده عن ظلمه.
- اتصف بالشجاعة الأدبية بإعطاء كل ذي حق حقه في مراحل التعليم المختلفة.
- كان وفياً بكل معنى الوفاء لتلاميذه، يسأل عنهم ويشجعهم، ولست أنا ببعيد (د الديب) عن وفائه، فقد كان له دور كبير في تعييني معيداً بقسم الجغرافيا كلية الآداب جامعة القاهرة 1959.
- اتصف بعفة اللسان فلم تخرج منه يوماً كلمة تسيء إلى أحد. وساعدته فصاحة لسانه وبلاغة منطقه في أن يصل  إلى كل الناس الكبير منهم والصغير الغنى منهم والفقير.
- لم نره يوماً يبادر أحداً بالشر أو السوء، فقد أحب الخير للجميع فأحبه الجميع.
- من رآه هابه كثيراً ولكن إذا ما اقترب منه وتعامل معه أحبه أكثر.
- عرفته مجاملاً فلم يتأخر يوماً ما عن مواساة المكلومين أو تهنئة الفائزين.
- لم يطرق أحد بابه ورده أبداً، فكان يهب مسانداً ومؤازراً لكل ذي حق من الجغرافيين أو غيرهم.
- مكافح منذ عرفته وقد بدأ حياته من أولى درجات السُّلَم  حتى وصل إلى أعلى درجاته.
- الإخلاص سمته مع أهله، وتلاميذه، ولبلده مصر، ولأمته العربية، ولأمته الإسلامية.
- وجوده في المكان شرف للمكان ولمن وجد فيه. فقد شرف زملاءه وتلاميذه في مناقشة المئات من رسائل الماجستير والدكتوراه والإشراف على عدد كبير منها في كل جامعات مصر.
 ومن صفاته وسماته العلمية:
- رائد جغرافية السكان والعمران والخرائط في مصر والعالم العربي.
- أثرى المكتبة العربية بعدد من الأطالس ذات الأهمية الكبيرة مثل أطلس الشرق الأوسط وأطلس الوطن العربي.
- اسمه محفور على كتب أمهات، سيظل باقياً ببقائها.
- له مدرسة جغرافية ينتشر طلابها في أنحاء مصر والوطن العربي وأفريقيا وأسيا.
- حدد يوماً من كل شهر كصالون ثقافي اجتماعي في منزله لمناقشة القضايا الجغرافية والشخصية لأبنائه من الطلاب وتلاميذه وكل من يلجأ إليه.
- ساهم في تكوين الشخصية الجغرافية المصرية في مراحل التعليم المختلفة، ولا ينكر هذه المساهمة إلا جاحد، وأشرف على وضع مناهج الجغرافيا في مراحل التعليم ما قبل الجامعي.
…. كان قيادياً حكيماً، تولى عدة مناصب حقق من خلالها نجاحات عدة:
- فتولى رئاسة قسم الجغرافيا كلية الآداب جامعة القاهرة وعمادة الكلية ودفع بهما خطوات كبيرة للأمام، كما تولى رئاسة المركز الديموغرافي لشمال أفريقيا والشرق الأوسط.
- وتولى منصب نائب رئيس الجمعية الجغرافية المصرية والملحق الثقافي لمصر في موسكو ورئيس قسم الجغرافيا بمعهد الدراسات والبحوث العربية.
- كما وصل إلى منصب نائب رئيس جامعة القاهرة. ثم كانت ثقة من قيادة الدولة في اختياره ليتولى منصباً رفيعاً هو رئاسة مجلس الشورى وظل به سنوات عدة كان خلالها مثالاً للعدل والحكمة في إدارة شئون المجلس.
- لم ينس العلم ولم يتخلَّ عنه فأصدر العديد من الدوريات والمؤلفات التي أثرت مجلس الشورى بخصوص القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المصرية واستفاد منها معظم الباحثين.
- كانت له اتجاهات قومية فإلى جانب مساعدته لكل الجغرافيين العرب ممن شرفوا بالتلمذة على يديه، كانت له أراء واضحة وحاسمة في كل القضايا العربية والمصرية.
- ظل يعمل حتى آخر نفس له في الحياة فكان حريصاً على العلم وأصدر كتاباً من الكتب الهامة هو كتاب “جغرافية العالم الإسلامي”. وهذا بعض ما اقتطفته من ثمار الصدق التي أتحفنا بها “أستاذي الديب”
 بقى أن أذكر عند إنهاء أوراق إجازتي لدرجة الدكتوراه، أنه كتب في خانة التخصص الدقيق بخط يده “جغرافية البيئة”، فقلت لماذا لا نجعلها “جغرافية التلوث”، فأصر أستاذي الحكيم على ما جر قلمه. وعبر شبكة الإنترنت صادق البحث موسوعية الأستاذ فالتخصص قائم بكل أقسام الجغرافيا في كثير من كليات الآداب والعلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعات العالم. وأراه إنسانا ملهماً ذا مخيلة واسعة ترسم الخرائط الذهنية المستقبلية بدقة متناهية، ومن جنس هوايته المفضلة، كآلة التصوير متعددة العدسات التي ترسم خريطة إلكترونية للهدف عالية الدقة. وكما كان صبحي عبد الحكيم يؤكد دائماً عشقه لوادي النيل والسودان أصبح بالنسبة لطلابه وتلاميذه ومريديه كالنهر المتدفق الخالد بل كالشمس المشرقة…
رحمه الله رحمة واسعة، وأقدرنا على الاحتفاء بذكراه العطرة كل عام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا