|
|
الصناعات
الملوثة للبيئة
بقلم : د. حمدي هاشم drhhashem@yahoo.com
خبير جغرافيا بيئية
جريدة الأهرام - قضايا وآراء - الأربعاء - 26
- من
جمادى الآخرة - 1428 هـ 11 - يوليو - 2007 السنة 131 العدد 44046 :
لولا تبني الدول الغنية سياسة تهجير الصناعات القذرة(
شديدة الضرر بالبيئة), بامتلاك ملاجئ للتلوث تستقبل هذا النمط من الصناعات داخل
حدود الدول الفقيرة, للاستفادة من فرق التكلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
والبيئية, مع تعالي هاجس الاهتمام بالبيئة والتطور التقني الفائق للتكنولوجيات
النظيفة ورصد عناصر التلوث لأدق مستوى ووصول جماعات الضغط السياسي إلى مراميها في
دول الشمال الغنية, لما عادت الحياة من جديد إلى الأنهار الكبرى في شمال أوروبا,
بعد عقود مظلمة طغى فيها التلوث الصناعي السام, حيث عادت أسماك السلمون إلى الظهور بأحد مواطنها الطبيعية بنهر الراين للمرة الأولى بعد أربعين عاما, وذلك
عام 1990.
وقد تم حصر وتصنيف تلك الصناعات القذرة في مجموعة من الصناعات
التحويلية ( يبلغ عددها 43 صناعة) ذات آثار بيئية مدمرة للمحيط الحيوي, وهي
بوجه عام صناعات الحديد والصلب والأسمنت والسيراميك والزجاج والخزف والصيني
والحراريات وصهر وتكرير المعادن الأساسية وبعض الصناعات الكيماوية والأسمدة ومصافي
البترول وصناعات لب الورق والمطاط والبلاستيك والجلود والخشب.
تلك الصناعات شديدة الضرر بالبيئة بما يتخلف عنها من ملوثات سامة وغيرها من
الملوثات التي تجرمها قوانين البيئة والمنظمات الدولية والبنك الدولي, في مختلف
صورها الغازية والسائلة والصلبة, تلك الملوثات بالغة الأثر في طبيعة الهواء
والماء والتربة, التي تخترق الحدود المسموح بها( الحد الأخضر) لأمان وأمن الإنسان
في الصحة والمسكن, فتفقد الإنسان قيمة الاستمتاع بطيب العيش أينما توطنت تلك
الصناعات وفي منصرف ملوثاتها في البر والبحر والريف والحضر. وهكذا تؤثر تلك
الملوثات الصناعية في جودة مياه الأنهار والبحيرات والبحار, ومكامن المياه
الأرضية, وركائز الثروات في باطن الأرض وقيعان المحيطات, والنبات الطبيعي,
والطبيعة البيولوجية والسلوكية والنفسية للإنسان, وسلوكيات الأسماك والحيوانات
والحشرات, بل قد يحدث عنها خلل في زمن وفصلية نمو وذوبان الثلوج فوق قمم
الجبال, وقد يمتد أثرها فتطول بالتغيير رواسي مناخ الأرض بالقطبين الشمالي
والجنوبي.
نعود لمصطلح الصناعات القذرة التي قد ينعتها البعض بالصناعات المهاجرة, حيث
تهاجر من أراضي الدول الغنية( ذات الاقتصاد الأخضر) لتتوطن داخل الحدود
الجغرافية بالدول الفقيرة, وكثير من الدول النامية لا يعنيها في مرحلة ما تكلفة
الآثار البيئية للمشروع الاقتصادي فتجتذب أراضيها بسهولة مثل هذه الصناعات. فهي
إذن صناعات قذرة أو ملوثة للبيئة بطبيعة عملياتها الإنتاجية وأثرها السيئ في
المحيط الحيوي, الذي لا تخطئة حواس الإنسان الظاهرة ولا يصعب تسجيله على أجهزة
رصد التلوث( الأرضية والفضائية). وبعد أن أحكمت الدول الصناعية قبضتها على مقاليد الاقتصاد الدولي, واستقرت على الاعتراف الضمني بنقل مصادر ملوثاتها
الرئيسية إلى الدول منخفضة الدخل, بحجة أن نقاوة البيئة بتلك الدول وقدرة
أنظمتها الطبيعية تسمح باستيعاب مثل ذلك التلوث لمدة زمنية طويلة, وعليه يمكن أن
يستقر تقسيم دول العالم إلى دول طاردة وأخرى مستقبلة أو جاذبة لذلك النمط من
الصناعات, ودليل ذلك ظهور مواقع عبر شبكة الإنترنت للتجارة الدولية في مجال بيع
وتفكيك المصانع ذات التكنولوجيات القديمة, شديدة الضرر بالبيئية, مع خدمة النقل
والتركيب لتلك المصانع بدول أخرى تسمح القوانين فيها بذلك.
ويمكن أن يكون قد تسرب منها مصنع أو أكثر داخل الحدود المصرية. ويستثنى من ذلك
صناعات أخرى تدخل ضمن مايعرف بالصناعات الحساسة( من ناحية توطنها الجغرافي),
المحظور قيامها بالدول المتخلفة( لظروف تقنية واقتصادية وسياسية
وجيوستراتيجية), وهي صناعات تعد أشد فتكا ببيئة الكرة الأرضية كالصناعات
الكيميائية والبيولوجية والذرية والهيدروجينية. ولما تجاوزت بعض الدول ودخلت في
الطريق الممنوعة بدون موافقة أو تصريح أو تعظيم لمصالح مشتركة, تم ضرب مفاعل العراق
وقامت الحرب السياسية والاقتصادية تجاه البرنامج النووي في كل من كوريا الشمالية
وإيران, وعلى صعيد آخر ولكن ترسيخا لنفس المبدأ تجد الدول الصناعية الكبرى بقيادة الولايات المتحدة تكرس كل جهودها العلمية والسياسية تجاه امتلاك دولة
إسرائيل لصناعات التكنولوجيا الفائقة بوادي السيليكون( في مثلث تل أبيب ـ القدس
ـ حيفا), وتترك للدول العربية من حولها الاستثمارات في الصناعات التقليدية,
التي تستنفد ثروتها في نقاء البيئة مما يلوثها بمرور الزمن, فتعجز الفوائض
الاقتصادية( عند محاولة الإصحاح البيئي) أمام تغطية تكاليف تدهور صحة البيئة
والسكان.
وقد أكد خبراء توكيد الجودة والفحص البيئي بالمواقع الصناعية, في بحث للبنك
الدولي بعنوان التجارة الدولية والبيئة (1993), أن كثيرا من الصناعات القذرة قد
هاجرت بالفعل إلى الدول النامية خلال العقود الثلاثة الماضية. ودليل ذلك عند
استخدام معدل حركة السهم في الصناعات القذرة ارتباطا بالحجم الكلي للتدفقات
التجارية( خلال المدة من 1965 ـ 1988), الذي تم تطبيقه على أكثر من مائة دولة
مستقبلة لذلك النمط من الصناعات, وجد أن الدول النامية قد سجلت معدلا يزيد
بمقدار أربعة أمثال ما سجلته الدول الصناعية, بالإضافة إلى سرعة نمو سهم
الصناعات القذرة مقارنة بمتوسط حركة الأسهم لمختلف الصناعات بالدول النامية.
وبوجه عام فقد شهدت الدول الصناعية ( الغنية) هبوطا ملحوظا للاستثمار في أسهم
تلك الصناعات, نتيجة غلق أبوابها وتطبيق السياسات البيئية الصارمة, بينما قد
زادت صادرات الدول النامية ( الفقيرة) من منتجات تلك الصناعات الملوثة
للبيئة, حيث كرست الدول الطاردة لتلك الصناعات جهودها طلبا للهدوء البيئي
والسيطرة على التلوث والاكتفاء بتوجيه الاستثمارات فيها خارج حدودها الإقليمية,
بينما تطلب الدول الجاذبة لتلك الصناعات ( والتي تعمل كملاجئ للتلوث) رفع
معدلات النمو الاقتصادي ومستوي معيشة السكان, بغض النظر عن معاناة البيئة
والسكان من الاضطراب البيئي وزيادة تركز الملوثات السامة.
|
|
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق