التسميات

السبت، 14 نوفمبر 2015

كمال التجارة و جمال الشعر فى مكة المكرمة - د. قديرة سليم...

كمال التجارة و جمال الشعر فى مكة المكرمة

 دكتورة قديرة سليم - الاستاذة المساعدة فى كلية اللغة العربية بالجامعة الاسلامية العالمية إسلام آباد : 
  قد نرى بأن الشعر والإقتصاد فى مكة المكرمة كان يتسايران مسيرتهما متعانقين ومتلازمين، هذا يقوى ذلك، وذلك يتجمل هذا، حتى وصلا إلى أوج الكمال والجمال. لانّ الشعر يتفننّ بتيارات المجتمع، وهذه التيارات تتنوع بمواكبة الشعر والأدب،الأفكار والمبتكرات تلائم البيئة والظروف،الظروف القاسية تدفع المفكرين إلى سيلان الدموع، والرخاء واليسريسبب لتبلور الأفكار ونضج المشاعر،حتى تتقاطر هذه المشاعر فى وعاء المتكامل الشكل،فالهدوء والسكون يتجمل هذا الوعاء ويزيّنه، سأحاول فى بحثى هذاأن أفرد بذكر مسيرة التجارة وجمال الشعر العربى فى تلك المنطقة المعطرة.

بداية النشاط التجارى بمكة المكرمة:
  يعود تاريخ التجارة بمكة المكرمة إلى بناء الكعبة المشرفة والدعوة إلى الحج،لم تصرح المصادر التاريخية بالتحديدمدى هذا النشاط التجارى إلا أننا نرى فى بداية القرن السادس الميلادى مكة المكرمة ممسكة بزمام التجارة فى بلاد العرب،(1) تنعقد فيها وحولهاأعظم اسواق العرب التجارية والأدبية فى موسم كل عام، ويحضر هذه الأسواق من كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج للحج فى وقته متى أراد وقد كانت قوافل مكة التجارية تجوب أطراف شبه الجزيرة العربية تحمل التجارة بين الشرق والغرب، متجهة إلى اليمن، وإلى الحبشة والشام وغيرها من الدول المجاورة، حتى أقيمت العلاقات التجارية مع شمال بلاد العرب، ومع الفرس والحيرة.(2)
تجارة مكة المكرمة قبل الإسلام:
التجارة الداخلية: كان انبثاق ماء زمزم لإسماعيل وأمه عليهما السلام بداية نشأة مكة المكرمة، اللذان أسكنهما إبراهيم عليه السلام بإمر الله عَزوجل، ولعبت بئر زمزم دورا بارزا فى اجتذاب الناس للإستقرار حولها.(3) حيث وفدت خزاعة والجرهم  والقبائل الأخرى حينا بعد حين، واتخذت مكة المكرمة مسكنا لها (4)،قد تعجز المصادر التاريخية عن تحديد مدة زمنية لبدء إشتغال سكان مكة بالتجارة بسبب إختلاف الروايات التاريخية، بينما يرجح كثيرمن المؤرخين على بداية التجارة بالضبط فى زمن النبى هود عليه السلام.كانت تربط الروبط التجارية الداخلية بالطائف والمدينة المنورة التى كانت تقال يثرب فى وقتئذ.فكان الطائف منتجا لكميات كبيرة من الزبيب التى كانت مكة تستهلك منه الكثير.علاوة على انتاجه للجلود المدبوغة والفواكه والعسل.وقد استغل أثرياء قريش أموالهم فى الطائف فاشتروا فيها الأراضى (5) وأنشأوا فيها البساتين والمنازل ليتخذوها مساكن لهم فى الصيف، وأسهموا مع رؤساء ثقيف فى أعمال تجارية رابحة، وحاولوا جهد إمكانهم ربط  الطائف بمكة فى كل شئ. بينما كانت تدوى صيت المدينة المنورة فى العالم فى انتاج أنواع من التمور والأعناب التى تتخذ منهما الخمروتباع  بأسعار غالية، فهى كانت من أشهر المواد التجارية فى ذلك الوقت.
التجارية الخارجية:
   ارتبطت مكة المكرمة منذ عهد إبراهيم عليه السلام بعرب الجنوب الذين وجدوا فى مكة مقرا لإقامتهم أثناء قيامهم برحلات إلى الشمال مما يجعلنا نحتمل قيام نشاط تجاري بين مكة والجنوب، (6)وكان المطلب بن عبد مناف مثل سائر لأهل مكة تاجرا، فخرج إلى اليمن للتجارة فأصابته المنية، وكان عبد المطلب أيضا يزور اليمن حينا بعد حين،وينزل على عظماء حمير، وتصرح المصادر بأنه إتصل بملوك اليمن وأخذ منهم إيلافالقومه بالتجارة مع اليمن وكانت قريش تنظم عيرا إلى اليمن فى كل سنة. (7).وقد بدأت العلاقات التجارية بين مكة والحبشة منذ خرجت أنشطة التجارية إلى المجال الخارجي،واتصل عبد شمس بالنجاشى واتخذ ميثاقا تجاريا الذى جعل الحبشة لقريش وجها ومتجرا. وكانت الحبشة تعتبر مصدرا من المصادر التجارية الشرقية، فكانت تنتج البخور واللادن والأطياب وريش النعام والعاج والجلود والتوابل والرقيق الأسود. (8)وكانت قريش إذا تحصل منها على هذه السلع تحمل إليها ما تحتاج إليه من حاصلات الشام ومصنوعاته و من حاصلات الجزيرة العربية.وأما العلاقات التجارية بين مكة  والمناطق الشمالية فهى كانت قديمة،و ترجع إلى عصر الانباط  الذين كانوا يقومون على التجارة فى شمال بلاد العرب، والذين امتد سلطانهم إلى شمال الحجاز . فأخذ أحد زعماء قريش على عهد تجارى من الغساسنة والروم (9) ومنذ هذا العهد أخذت تجارة قريش فى نمو تجاه الشام.علاوة على ذلك توجد الإشارات إلى حصول زعماء مكة على عهود من كسرى للمتاجرة فى بلاد الدولة الفارسية، فاتصلت تجارة مكة بالعراق ولكنها لم تكن بنفس القوة التى كانت عليها فى الجنوب والشمال، لأن الفرس كانوا يتصلون مباشرة بطريق التجارة الشرقية المارة ببلادهم.(10)
تجارة مكة المكرمة بعد الإسلام:
  فلماجاء الإسلام تغيرت الأذهان وتشَعبت الأفكار واختلتف القلوب والأهداف،وانقسم سكان مكة المكرمة إلى فئتين؛ فئة رغبت إلى  الدعوة الإسلامية معرضة عن كل ما يجتذب إلى زخرف الدنيا وما فيها من المنافع، أما الثانية فهى كانت أشد عداوة للذين آمنوا، أخذت تستخدم كل من المؤهلات ضد الإسلام والمسلمين بدلا عن تجارتهم و تنظيم قوافلهم التجارية حينا بعد حين، كل ذالك أدى إلى الضعف التجاري، فمرت تجارة مكة المكرمة على متعاقب الإرتفاع والإنخفاض فى السنوات الإبتدائية  للدعوة الإسلامية، حتى حان حين الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، تعتبر هذه الهجرة المنعطف الحيوي من تاريخ الشريعة الخاتمة.بعد الهجرة إلى المدينة المنورة توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إرساء القواعد لمجتمع المسلمين الجديد،كانت قريش خطرا عظيما لهذا المجتمع، (11) فلا بد من أن تحط متن قريش ويهدم صرح قوتهم، فهى كانت كتلتهم التجارية،فلذلك أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم خطته على حصار كفار قريش مكة،وذلك بضرب تجارتهم مع الشام، واتخذ لتنفيذ ذلك عددا من التدابير التى أدت إلى إضعاف مركز مكة التجاري، ولا أدل على ذلك من أن قريشا فى العام الثالث للهجرة، غيرت طريق تجارتها الذى كانوا يسلكونه إلى الشام  (12)فسلكوا طريق العراق.وبهذا يمكن القول بأن النشاط التجاري قد ضعف بمكة المكرمة إلى أن من الله على المسلمين بفتحهافى العام الثامن من الهجرة وهنا أخذت مسيرة التجارة صفحة جديدة بتحقيق الأمن لهم عن طريق إرتباطهم بدين الإسلام الذى توعد قطاع الطريق بالعذاب، كما فى قوله تعالى:
"إنَّمَا جَزاؤُا اَّلِذيْنَ يُحَارِبُوْنَ اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَيَسْعُوْنَ ِفْىْ الأَرْضِ فَسَادًاأنْ يُقَتَّلُوْا أوْ يُصَلَّبُوْا أوْتُقَطَّعَ أيْدِيِهم وَأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِىْ الُّدنْيَا وَلَهُمْ فِىْ الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ"(المائدة:33)
   ومما أدى إلى تطورالتجارة بمكة المكرمة فى الإسلام التزام أهلها بما جاء به الإسلام مثل الحث على العمل كما فى قوله تعالى:
"َفإذَا قُضَِيتِ الصَّلَوةُ فَانْتَشِرُوْا فِىْ الأرْضِ وَابْتَغُوْا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوْااللهَ كَثِيْراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْن"(الجمعة:10)
وأداء الزكاة التى فيها صلاح المجتمع كما قال تعالى:
" وَ آقِيْمُوْا الصَّلَوةَ وَءَاتُوْا الَّزكَوةَ وَمَا تُقَدِّمُوْا لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوْهُ عِنْدَاللهِ إنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ بَصِيْرٌ"(البقرة:110)
وتحريم الربا كما فى قوله تعالى :
"يَمْحَقُ اللهُ الِّربَا وَيُرْبِىْ الصَّدُقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُّلَّ كَفَّارٍ آثِيْمٌ "(البقرة:276). قد كان أهل مكة يعولون كثيرا على الربا أحيانا يبلغ أضعاف القرض نفسه، فتؤكل بذلك أموال المدين وتذهب حقوق الأفراد، فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع إسقاط ربا عمه العباس ، وكان لقوله صلى الله عليه وسلم:" إحتكار الطعام بمكة إلحاد"، حث على تسهيل التجارة والإبتعاد عن شراء ما يقتاته الناس وحبسه إلى الغلاء .(13)وإذا كان جلة المكيين من كبار الصحابة أو البارزين فى قبائل قريش هاجروا إلى المدينة المنورة  فإن مكة المكرمة بعد الفتح بقيت رغم هذا غاصة بالكثير من سكانها الأصليين من بطون القبائل والنازحين إليها من العرب المجاورين والموالى المجلوبين ترعى التعاليم الجديدة فى معاملاتها التجارية وتباشر أعمالها فى الصناعات المحدودة التى عرفتها، وتباشر ما تعودت زراعته من بساتينها فى بعض أطراف مكة وضوحيها.
تجارة مكة المكرمة فى عهد الخلفاء الراشدين:
   فى بداية عهد الخلفاء الراشدين بدأت الفتوحات الإسلامية تتجه إلى خارج شبه الجزيرة وقد اتسعت فى عهدى عمروعثمان رضوان الله عليهما مما نتج عنه تدفق الأموال على المسلمين
(14)وبدأت الثروات فى عهد عثمان رضى الله عنه( 23-35هـ)تزيد أرقامها فى مكة فى عهدأبى بكر وعمر رضى الله عنهما، لأنه أضيف إلى نشاط مكة التجارى مصدر جديد من مصادر الثراء وهو عطاء عثمان بن عفان رضى الله عنه ، فتدفقت الأموال على مكة إلى جانب ما تدفق إليها من غنائم الحروب، وجلب الرقيق إليها من أطراف الأرض المفتوحة شراء وإهداء إلى جانب آخر،  فأينعت الحضارة وتملك المكيون الأراضى فى الطائف ، وأخذوا فى السهر على غلاتها.(15)
تجارة مكة المكرمة فى العصر الأموي:
   فى العصر الأموى تضخمت الثراوات بزيادة الأموال التى كانت تنقلها البيوت المكية التى كانت تضرب فى البلاد المفتوحة من آفاق الأرض والأعطيات التى كان يبذلها معاوية بن أبي سفيان(40-60هـ)، ومن أتى بعده من خلفاء بنى أمية ، فزاد النشاط التجاري عما كان فى عهد عثمان بن عفان رضى الله عنه ، وتوسع أصحاب الثروات فى استصلاح الأراضي البور، واتسعت اقطعاعاتهم الزراعية فى الطائف وضواحيها حتى ذكروا أن سليمان بن عبد الملك(96-99هـ)مر فى الطائف فى أيام خلافته ببيادر الزبيب فظنهاحررا سوداء.
   ونستدل ما سبق من إهتمام الأمويين بعمارة المسجد الحرام ، والمرافق العامة وإنشاء القصور والبساتين فى مكة ، أن ذلك كله أدى إلى وجود وفرة كبيرة فى السيولة  النقدية فى ذلك العصر ، تجعلها نرجح إزدهار الحركة التجارية الداخلية والخارجية ، تلبية احتياجات سكان البلد الحرام.ولكن هذا الرخاء والنماء التجاري لم يدم على وتيرة واحدة طوال العصر الأموى، فقد تخلله بعض فترات جمود نتجت من الأحداث السياسة والعسكرية التى تعرضت لها مكة،ولعل أهم هذه الأحداث حصار الحصين بن النمير لمكة عام 64هـ،و ذلك للقضاء على عبد الله بن الزبير رضى الله عنه، فتهدمت الكعبة وتحرقت، ولكن على الرغم  من تلك الحوادث ،عاشت مكة فى ظل حكم عبد الله بن الزبيرمرحلة ازدهارتجارى، فقد حث ابن الربير أصحاب الثروات الضخمة من قريش على إحياء الأراضي فى ضواحي مكة لتوفير الحبوب والخضروات لأهلها، وفعل مثل ذلك في الطائف ، فانتشرت البساتين فى شمال مكة وجنوبها انتشارا كبيرا،وفاضت أسواق مكة بمنتجات ضواحيها من الحبوب والخضروات ، وشجع رجال الصناعة من مهاجري الآفاق ، فأسسوا بيوتا فى مكة. كما أخاه مصعب بن الزبير قدم مكة عام 70هـ وقسم أموالا عظيما على قومه وغيرهم،مما عاد على زيادة حجم التبادل التجاري فى مكة.(17)
العصر العباسي وتجارة مكة المكرمة:
   العصر العباسى هو عصرا لرخاء والنماء، إعتنوا العباسييون بتجارة مكة المكرمة إعتناء خاصا، يؤيد على ذلك إغداقهم الأموال فى مكة المكرمة لتوسعة المسجد الحرام وعمارته،وإنشاء المرافق العامة ، وإيصال مياه العيون إلى مكة المكرمة،مما أدى إلى وفرة السيولة النقدية وزيادة حجم التبادل التجاري لتنمية رأس المال، وجود أسواق متخصصة للتجارة خير دليل علىنماء تجاري وتطور حضاري فى القرن الثالث للهحرة.(18)
      ولكن من المؤسف هذا الرخاء لم يدم طويلا لتعرض مكة والطرق المؤدية إليها إلى إضطرابات أدت إلى توقف الحجاج عن الوصول إلى مكة فى عدد من السنين،وقد سبقت الإشارة إلى أن أهم ما أدى إلى تطو ر التجارة بمكة كان يعتمد على توفر الأمن ووصول الحجاج إلى مكة والعناية بهم، فإذا اختل هذا الأساس تضطرب التجارة لتوقف دورة رأس المال.حيث اعترض أبوطاهر سليمان القرمطى الحجاج عند رجوعهم من مكة بعد انقضاء الحج عام 311هـ،فأوقع الرعب فى قافلة الحجاج ونهبهم وأخذ أموالهم وأمتعتهم، فمات أكثرهم جوعا وعطشامن حر الشمس، ثم كرر قرامطة أعمالهم الوحشية مما كان له الأثر الكبير على الحجاج وقل عدد الحجاج يوم وقوف العرفة خوفا من القرامطة.هكذا استمرت حركاتهم الوحشية لمدة من الزمان، فمن غير المتوقع أن تزدهر حركة التجارة لإضطراب أمن الحجاج وقلة وصولهم إلى مكة، تأثرت هذه المعطيات على الوضع الإقتصادي فى مكة، غلت الأسعارالتى بلغ فيها ثمن عشرة ارطال الخبز بدينارمغربي ثم انعدم وجوده، فأشرف الناس والحجاج على الهلاك، فأرسل الله عليهم من الجراد ما ملأ الأرض فتعوضوابه.(19)
      هكذا قيام الخلافة الفاطمية فى المغرب عام 298هـ ، واستضعاف الخلافة العباسية أمام سيطرة العناصر التركية زادتا فى اضطراب الوضع الاقتصادي بمكة.لأن أمراءمكة فى تلك المدة لم يعملوا على استقرار الأوضاع وتنظيم الأمور بل آثروا مصلحتهم على مصلحة البلاد، فاستغلوا التنافس بين العباسيين والفاطميين لإشباع مطامعهم، وكانوا يتلقون الأموال من هنا وهناك، وكثيرا ما كانوا يتسببون فى إيذا الحجاج ونهب أمتعتهم وأموالهم ، ولم يقف الأمر إلى هذا الوضع بل أخذ أمراء مكة فى هذا العهد فرض الضرائب والمكوس على حجاج والتجار، ومن يعجز عن ذلك فيتناول بأنواع من العذاب ، وبناء على هذا فمن غير المتوقع إستمرار ازدهار التجارة فى هذا العصرلأنها مرتبطة بوصل الحجاج وإشاعة الأمن فى البلد الحرام، ففي سنة 455هـ دخل مكة على بن محمد بن على الصليحي صاحب اليمن وفعل فيها إحسانا واستعمل الجميل مع أهلها وأظهر العدل ومنع المفسدين، فطابت به قلوب الناس وأمن الحجاج أمنا لم يعهد مثله،حتى كانوا يعتمرون ليلا ونهارا وأموالهم محفوظة ورحالهم محروسة وجلبت الأقوات ورخصت الأسعار، إلا أن ذلك لم يدم طويلا لخروجه من مكة بعد عام من وصوله إليها.(20)
      ولكن بعد ما تمكن الفاطميون من السيطرة على مصر وامتد نفوذهم إلى مكة ، دخل إقتصادها مرحلة جديدة ،و استخدم الخلفاء الفاطمييون ميناء جدة للتجارة المصرية مع الشرق، وأقيمت مراكز تجارية عريضة مع ميناء جدة، وهكذا اشتهرت إلى جانب عيذاب مراكز تجارية أخرى فى مصر كانت ذات صلات تجارية بالحجاز، منها القصير وقفط وقوص، وعظمت أهمية الاخيرة فصارت ملتقى القوافل من الحبشة والحجاز، وازدادت الحركة بها من الحجاج والتجار المتجهين إلى جدة ومكة.وفى هذا العصر اشتهرت مكة المكرمة والمناطق التابعة لها بصناعة الجلود والتجارة بها،وأخذ أهل مكة استيراد الجلود الخام من اربل والموصل وخراسان ، فيدبغونها ويصنعونها ثم يعيدون تصديرها إلى تلك الجهات، وكانت الجلود تباع فى سوق مكة بالبيعة وربما تكون هى الكورجة التى تباع بها الجلود اليوم .(21)
      تجارة مكة المكرمة فى العصر الأيوبي:
   انتهت الدولة الفاطمية إنهيارا التى أدت إلى الإضطراب و الفوضى فازدادت حوادث السلب والنهب، ولاشك لم يكن هذا المناخ ملائما لإزدهارالنشاط التجارى فى مكة المكرمة فى ذلك الوقت.ولكن هذا لايعنى بأن الأسواق أغلقت وقع الناس فى المجاعة ولكن يد ل على أن تطور حركة التجارة التى ظهرت فى مكة قبل الإسلام وتطورت ونمت فى الإسلام قد أصابها خلل أدى إلى بطء حركتها، لأن أصحاب الأموال كانوا يخشون على أنفسهم أن يصيبهم ما أصاب غيرهم  من أهل الثروة.(22)
   فلما تمكن صلاح الدين الأيوبى من القضاء على الخلافة الفاطمية عام 1171م الموافق 567هـ ، إهتم بتجارة مكة المكرمة إهتماما خاصا، وقام بتأمين مكة المكرمة، ووقف الأيوبيون بشجاعة أمام توغل الصليبيين فى البحر الأحمر الذى هدف إلى تحويل طريق تجارة المسلمين إلى خليج العقبة والموانئ الصليبية فى الشام، قد فشل الصليبيون فى تحقيق أحلامهم،واعتنى بإلغاء المكوس وحث أمراء مكة على إقرار الأمن وعدم الظلم ، وقرر إرسال ألفي دينار وألفي أردب قمح تعويضا عن تلك المكوس التى ألغيت.نتيجة لهذه المحاولات أنعش حركة التجارة فى مكة المكرمة، مما يجعلنا نرجح بأن مكة لم تمربأزمات إقتصادية فائقة فى العصر الأيوبى، إلا الجدب والقحط الشديد أدى بالناس إلى أكل الدم و الجلودبسبب شدة الغلاء عام 1173م الموافق 569هـ. ومما يدل على نمو الحركة التجارية بمكة فى هذا العصر بأن جدة ازدهرة اقتصاديا لازدياد مواردها المالية نتجة تضاعف العدد التجار القادمين إليها من شتى أنحاء العالم الإسلامى.(23)
التجارة فى العصر السعودى: قد شاهدت مسيرةالتجارة فى مكة المكرمة المنعطفات من الارتفاع والإنخفاض، حتى وصلت إلى العصر السعودى، ولما تمكن الملك عبد العزيز-رحمه الله –من ضم مكة المكرمة إلى حكمه، قد بدأ عصر جديد من الإستقرار والرخاءبمكة وانعكست آثاره على تطور الحركة التجارية،فأعلن الملك عبدالعزيز القضاء على الرشوة والفسادوالإستبداد،وقال فى خطبته الاولى بمكة:"إنى أبشركم بحول الله وقوته أن بلد الله الحرام فى إقبال وخير وأمن وراحة". فى هذا العصر قد يسر الله اكتشاف البترول وتصديره إلى خارج، وقد أثر ذلك على حركة التجارة وتطورها حتى نهضت التجارةبمكة إلى درجات، لم تصل إليها من قبل. ففى عصرنا الحاضر قد نرى بأن النشاط التجارى فى مكة قد وصل إلى ذروة سنامه، حيث تكثر الأسوق التجارية والمحلات الغذائية، والفنادق وغيره ذلك، وتأسيس الغرفة التجارية من أهم الإنجازات التى لعبت دورا مهما فى تطور التجارة فى هذه الارض المقدسة.(24) لانبالغ إذنقول بأن التجارة فى مكة المكرمة قد وصلت إلى أوج كمالها فى عصرناالحاضر.
الشعر العربى فى مكة المكرمة:
   كان الشعر والإقتصاد يتسايران مسيرة النشأة والتطور معاً منذأقدم العصور،كانت الأسواق تنعقد والشعراء يتناشدون ويعرضون قصائدهم على فحول شعرائهم ويحكمون فى الجيد والردئ. (25) حيث أشارإليه صاحب" الأغاني قائلا: " قكانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردّوه منها كان مردودا.(26) النشاط التجاري والإقتصادي فى العصر الجاهلي إحتضن الشعر والادب حضانة الام للرضيع، أخذ أن يرضيه إلى أن يتم الرضاعة،ففى العصر الإسلامى و العصور تليه أخذت مسيرة التجارة صفحة جديدة بتحقيق الأمن لهم عن طريق إرتباطهم بدين الإسلام الذى توعد قطاع الطريق والحث أهله على العمل، والتجنب عن الرباء، والأمربإداء الزكاةوالصدق والأمانة و التعليمات التى تيسرت السبل السلام إلى نمو التجارة والإقتصاد، هذا اليسرو الرخاء أدى الشعر إلى التطور والتقدم، وصارهذا الرضيع صبيا، ففى عصر الخلفاء الراشدين تدفقت الأموال على أهل مكة من جميع الجوانب، وانعطف النشاط التجاري إلى المنعطف الجديد الذى دفع الشعر والادب إلى الخطوة المتقدمة يعنى من الصبيى إلى الطفل أخذ أن يتفكر ويتدبر في ما حوله، ويغذى فكره، فى العصر الأموى تضخمت الثراوات بزيادة الأموال فزاد النشاط التجاري ، وتوسع أصحاب الثروات فى استصلاح الأراضي البور، واتسعت اقطعاعاتهم الزراعية فى الطائف وصار هذا الطفل الشعرى والادبى ولدا و أخذ ان يتنوع فنونه وأغراضه وتوجه إلى نوع من التجدد من الناحية الفنية والفكرية. العصر العباسى هو عصرا لرخاء والنماء، إعتنوا العباسييون بتجارة مكة المكرمة إعتناء خاصا، يؤيد على ذلك إغداقهم الأموال فى مكة المكرمة لتوسعة المسجد الحرام وعمارته،وإنشاء المرافق العامة ، وإيصال مياه العيون إلى مكة المكرمة،مما أدى إلى وفرة السيولة النقدية وزيادة حجم التبادل التجاري لتنمية رأس المال، وجود أسواق متخصصة للتجارة خير دليل علىنماء تجاري وتطور حضاري فى القرن الثالث للهحرة، وصار هذا الولد الصغير شابا، قد تففنن الأساليب والأفكار، وتنوعت الإتجاهات الشعرية  وتلونت. وأخذت مكة في الشعر دلالة تفضيلية على غيرها من البلدان والأماكن، التى بدون المنازع تقال الجمال الشعرى، وهي دلالة تحيل إلى الصورة الذهنية التي تتبوأ مكة فيها، بموجب النشاط التجاري والإقتصادي الذى سبب لتفرغ الأذهان للنشاط الشعرى والأدبي،و بموجب النصوص القرآنية و  الأحاديث النبوية صلى الله عليه وسلم، التى كانت تدعوا لأولى الألباب إلى التفكر والتدبر، وبأول بيت وضع للناس فيها، وهي قبلة المسلمين، ومحجهم، وعاصمة الجاهليين في عصرهم، وتاريخها منذ القديم ناطق بهذه المركزية في المستوى المدني، تجارة وثقافة واجتماعاً وسياسة، وقد سمّاها القرآن الكريم (أم القرى) لهذه الأسباب، يقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى"ولتنذر أم القرى ومن حوله": "وسميت مكة (أم القرى) لأنها أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم الرقى شأنا".يعنى مكة المكرمة هو مرجع الخلائق لطبعيتها الإقتصادية والروحية.(27) القصائد الكثيرة تتغنى الأنغام المتفننة الأسلوب والمتجملة البناء، المتضمنة الدلالات التى ترشد إلى عظمة هذه المنطقة منذأقدم العصور، يواكب فيها الإقتصاد والشعروالأدب،ونجد تفضيل مكة على غيرها مبثوثاً بصيغ مختلفة في كثير من القصائد، التي تجاوز بدلالة الفرد إلى المجموع، وإلى الثقافة، مختصرة النصوص السردية النثرية، ورامزة إلى ما تدخره من أسرار مكة وخزائنها.(28) 
   فتطور الشعر بتطور تجلياته في إحساس الشاعر المبدع للنص الشعري،و تعطينا نظرة متفحصة لصورة الشعر الجاهلي وجماله وما تلاه من أعصر الشعر اللاحقة حقيقة تقول: إن الصورة الجمالية تتطور بتطور الإقتصاد نفسه حيث التقدم الحضاري الذي يشهده من جهة، والوعي الاجتماعي للمعطى الحضاري من جهة أخرى.(29).
   وإذا كان المكان الذي يتمتع منه الشعر صورة، فيتجلى فيه بشكل واضح، تعج بالحركة الاجتماعية والاقتصادية، التى تمثلها المدينة بما يحمله تعريفها الحديث من معنى عمراني وإداري،وعلى هذا نتفق مع القائلين: "إن للمدينة وجهين اجتماعي وسياسي، والصلة بين الوجهين قوية، والارتباط بينهما وثيق، والشعر العربي مشبع بالوجدان والسلام، وقضايا متطلبات الإنسان".(30)
    لذا حفل الشعر العربي فى مكة المكرمة برموز الجمال وصوره منذ القديم، وتناثرت فيه الإشارة إلى أعلام مكانية وموضوعية، وبدا تقصّي الأشياء وتفاصيلها الحسيّة وعلاقاتها وجهاً من وجوه الحاسّة المكانية في الوعي الإنساني، (31) واقترن ذلك بمعان عميقة تتجاوز الدلالة على المكان في ذاته إلى الدلالة على الوجود الإنساني، وهو يتأمل وحدته وغربته، أو يحنّ إلى الماضي ويتذكر الأنس والدعة والألفة، أو يقلق من علامات الإمحال والعدم والجفاف، أو يستشرف الخصوبة ويتطلع إلى الأمن.... وكل ذلك دوال وجودية تتعانق مع أحاسيس ولا تنفصل في هذا المعنى دلالات وقوف الشعراء القدامى على الأطلال عن دلالات الحنين إلى البلدان والمدن، والعكوف على وصفها، وبثها الأشجان، أو رثائها في أعقاب الكوارث أو التغييرات الزمنية والاجتماعية التي يجد الاستقرار الحضري فيها وجهاً مشابهاً للأطلال في تلك الدلالة، مضافاً إليها دلالات المجتمع الحضري في البيوت المتطاولة، والسكن الفاخرة، واختلاط أشتات الناس والانفتاح على التجدد، وانعقاد الجماعة على ما يؤسس لاستقرارها ... والشعر العربي يطفح بمثل تلك الدلالات.
الدلالات الجمالية فى الشعر العربى فى مكة المكرمة:
 معنى الجمال: الجمال عند الفلاسفة صفة تلحظ فى الاشياء، وتبعث فى النفس سرورا وبهجة ورضا، وعلم الجمال باب من أبواب الفلسفة تبحث فى الجمال. 
يرى سقراط أن الجمال مرادف للمفيد والنافع، ولا يقصد هنا بالنافع المنفعة المادية المحسوسة فقط، لأن اللذة والمتعة النفسية الناتجة من الإحساس بالجمال يدخل ضمن المنفعة والفائدة. (32)
أما أفلاطون فهو يرى ( حسب نظريته في المثل ) أن الجمال شيء إلهي ومعنى مطلق موجود في جوهر الأشياء  لا يتغير، وهو مرادف للخير.
ويرى أرسطو أن الجمال موجود في الطبيعة بوفرة ولا سيما في المخلوقات الحية، ويقول بأن هذا الجمال دليل على وجود إله بارع الصنعة.   
لا نجد شيئا كثيرا حول الجمال في العصور الوسطى في أوروبا. ولكننا نجد أن توما الأكويني    Thomas  Aquinas هو من المفكرين القلائل الذي تناول موضوع الجمال وعدد عناصره.(33)
   أما في العالم الإسلامي فان موضوع الجمال كان يرد عادة عند شرح الأسماء الحسنى لله تعالى ولا سيما اسم " الجميل"، وعند الحديث عن " الجمال الإلهي " وتجلي الله تعالى لعباده في الجنة حيث تصغر كل بهجة وكل لذة في الجنة أمام لذة تأمل الجمال الإلهي. ولكنهم تناولوا مباحث  تعد في الفلسفة قريبة من بحث الجمال وهي مباحث الاخلاق ومباحث الخير والشر وجمال الخير وقبح الشر. حتى جاء" الاستاذ بديع الزمان النورسي" في العصر الحديث فتكلم عن الجمال  أكثر من المتقدمين.(34)
   بعد عصر النهضة تناول العديد من الفلاسفة موضوع الجمال. من أهمهم "لوك" و"هيوم" و"كانط " أما في العصر الحديث فأشهر من تناوله هو الفيلسوف الايطالي "بندتو كروتشه"(1866-1952).الذى يعد أشهر من بحث في علم الجمال في عصرنا الحالي،و يعبر عن الجمال على الميتافيزيقيا وعلى العلم. وهو يذكر قول " ميخائيل أنجيلو ": إن الإنسان لا يصور بيديه بل برأسه (يقصد بخياله) و  الفرق بين "كروتشة" و" شكسبير "هو فرق في التعبير فقط، وأن لديه الأفكار والصور نفسها التي كانت لدى شكسبير.  وينطلق" حمزة شحاتة" في فلسفته من وعي دقيق بجماليات اللغة الأدبيّة يربط فيه الأدب بالفنـون التشكيلية وفـن المعمار ، فإذا كان الحجر مادة البناء الأول، فإن الكلام هو وسيلة التعبير عن أغراضنا ، وأداة تشكيلها  وتصويرها - فهو بهذا - مادة البناء الأولى في مطالب النفس والفكر.هذه المادة “ الحجر ” يمكن أن تكون ملاذاً للإنسان حين يشكل منها منزله الذي يأوي إليه ، ويحتمي به ، وقد يتخطى الحجر هذه القيمة الجمالية إلى منزلة أسمى حين يكون مادة في يد الفنان “ النحات ” الذي يشكّل منه نحتاً فنيّاً يتخطى به المنفعة وجمال الشكل إلى جمال المعنى. (35)والكلام بوصفه مادة البناء الأولى ، وأداة التعبير عن الأفكار والمشاعر يترقّى في سلم الجمال بترقي الخطاب الذي تشكل من تلك المادة ، فتكون الغاية من توظيف هذه المادة التواصل مع الآخرين وهي أدنى غايات الكلام وأقلّها جمالاً، ويصنع به الخطيب والكاتب وسيلة التأثير والاستفزاز، وتوكيد الطلب ، وعرض الفكرة ، والدّعوة إليها.وهذا الترقي الجمالي في وظيفة “ الحجر ” والكلام يجب أن يكون معلوماً للمتأمل في الجمال .فالشاعر إذن صاحب صناعة فنية ، مثالية ، رفيعة تتصرّف بمادة البناء الأولى في أبنيتها ، وصورها تصرّفاً أوسع مدى من تصرّف المتحدث والخطيب والكاتب.لكن جمالية الأدب أو أدبيته التي تجعل منه كلاماً له خصوصيته في التشكيل والرؤيا ، وتضمن له التأثير والإمتاع .وإنما الأدب هو جمالٌ في الشكل وجمالٌ في المضمون وتناسب بين الجمال الجسدي والجمال الروحي وهذه “ الوسطيّة الجمالية ” ذخيرة من ذخائر تراثنا العربي الذي يتأسس فيه الوعي الجمالي على تصور كوني خالد للوجود لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(36)
الجمال فى الشعر العربى:
   بعد دراسة معنى الجمال قد نلاحظ بأن الدلالات الجمالية توجد متوفرة، فى القصائد والأبيات التى كان الشاعر ومازال يتناول فى شأن مكة المكرمة وعظمتها،وهكذا يبدو المكان في الشعر دوماً مقترناً بالزمان، بل يشكل المكان الجوهر أو الروح بالنسبة للزمان، وعلاقة الزمان بالمكان علىرأي صموئيل الكسندر (1938)SAMUEL ALEXANDER كعلاقة الجسم بالروح
  فلا يكون الأول إلا بوجود الثاني... وإذا استقل المكان عن الزمان كان ميتاً لا حياة فيه.كما الشاعر أحمد مكرم يقول: (37)
ظل مستخفياً بغار    حراء             يعبد الله      عائذاً مستجيرا
ودعا الأرقم استجب، تلك داري       تسعُ الدين مخرجاً محصورا
وافها واجمع المصلين  فيها        عصبة ـ إن أردت ـ أو جمهورا
ما فى البلاد أكرم من مكّـ           ـة أرضاً، ولا أحب     عشيرا
غار ثور، أعطاك ربك ما لم         يعط من روعة الجلالِ القصورا
أنت أطلعت للممالك    دنيا       ساطعاً نورها، ودنيا    خطيرا
صنته من ذخائر الله كنزاً            كان من   قبل عنده    مذخورا
مَخْفرُ الحق لاجئاً   يتوقى           قام فيه    الروح الأمين خفيرا
   فالشاعر يتناول أول موطن لتأمل الرسول (غار حراء)، المكان الذي وجده الرسول أكثر أمناً، وأكثر رحابة للاستغفار والتعبد. ويستخدم صيغة للغائب  لإظهار عظمة المكان بوجود النبي صلى الله عليه وسلم ولجماله بسجود ه صلى الله عليه وسلم ثم يحدد مكانه (دار الأرقم بن أبي الأرقم) في حركة الدعوة باتجاه العلانية مما يدل على إعطاء الشخص للمكان وجودية معنوية، تظل تشكل الشاهدة الأهم في قلب المكان الكبير... أي تجسّد الجزئية في الكلية. هذا البيت متفنن بأسلوبه ومتجمل بمعنيه  كأن هذا الكلام قد صدر من  ذلك اللسان المبارك الذىلم ينطق عن الهوى، ثم ينعطف إلى تعلق النبي بمكة، وحبه لها، واضطراره لهجرتها تحت ضغط أعدائه. ويقف الشاعر عند غار ثور (الغار الأكبر)، وينزاح عن وضعه الطبيعي كونه مغارة، تشكّلت بفعل الظروف الطبيعية ببدائية بديهية إلى وضعه المعنوي، والإحساس الروحي حيث تصعد النفس إلى ما وراء المكان وحيثياته، لتطمئن في رحاب معتقدها.
   و هكذاالشاعر الذبياني يقول في ملحمته الشعرية ـ التاريخية: (محمد، النبي العربي)
في مكة واحة الصحراء حيث بها     تندى العيون ويبدو تربها عَشِب
وحيثما تسكن الدنيا على أمل         زاه، يحنّ إليه    الفرد والسرب
في كل جاذبة  سدّ تلوذ  به          إن جار طقس، ربوعٌ حلوة هضب
...والمبرع الضاحكُ الزاهي الظليل حمى    تندى طبيعته خيراً وتحتلب
يرتاح في ركبه الركبان من شظف   ويُشبع الجوع والجوعى به حلَبُ
ويُشبع الجوع والجوعى به حلَبُ     ينساب في أمنه  في كل ناحية
دربٌ، ويكثر فيه الأخذ والطلب   هذا إلى القدس والثاني  إلى يمن(38)
      فهو يبدأ بوصف مكة ويستقي صورها من روحه، وإيمانه بقدسيتها، ويحث المأزومين على زيارتها، لتطهير أنفسهم، وتنقية أرواحهم، لأنها المكان الآمن، وموطن الأمين، والارتباط الروحي بالتاريخ من خلال تملي معنى الأرض؛ ويورد بتبادلية فنية عالية، رموزاً يرى فيها علاج الروح من أدرانها، لأنها أصل المعنى، والوصول إلى الأصل يؤدي إلى الطمأنينة والسلام.فهو إذاً يصوّر طبيعتها، مياهها، نخيلها، أيكها، طرقها، وديانها، خيراتها، تجارتها، رفاهها، أي أنه يصور الطبيعة، والمواصلات، والحالة الاقتصادية فيها. وتجلت مكة في الشعر لتبيّنِ سويات الوجدان والمعتقد والمشاعر، ولتجسم الرموز، وتمنح بعداً جوانياً للثقافة التي مرت بها من جهة، وثقافة الشاعر ووعيه لمعنى المكان من جهة ثانية.ففى البيت الأول يصور الشاعرصورة الصحراء التى تقربها العيون و ينبت تربها العشب ، هذا فى الحقيقة رمزإلى حلاوة الإيمان و كيفية الإطمئنان والسكون الذى يغطى به كل الزائر فىتلك البقعة المباركة،فى الحقيقة الصحراء هو رمز العطش والحرمان ولكن تقديم الخبر يعطينا الصورة بانّ هذه هى مكة التى تسبب تغيير الحرمان إلىالقرار والسكون،والصحراء إلى الواحة التىتتفتح فيها أزهار الفرح والسرور وتبتعد عنها  أشواك الهم والحزن.فى البيت الثانى تقديم ظرف مكان "حيثما" يفضل مكة المكرمة على سائر بلدان العالم لكونها مرجعا للخلائق من جميع أنحاء العالم.البيت الرابع والخامس يصوران صورة  هذه البلدة الطيبة كالأم الحنون التى تحتضن إبنهاعند الفزع والخوف وتحميه عن المعانات والصدمات التى يلاقيها من الأعداء.وقوله:" والمبرع الضاحكُ الزاهي الظليل حمى    تندى طبيعته خيراً وتحتلب" يعبر الجبال فى صورة شخص حي، الذى يتمتع بنفسه ويغدق الخيرات على من يرافقه ويلازمه،كناية إلى تلك الكيفيات الوجدانية والكمالات الإيمانية التى يتمتع بها الزائر ويتذوق الوافدمن الحل إلى الحرم.هذا هو ألاسلوب البلاغى المبهر الذى يتجمل الكلام ويصل القارئ من الظاهرإلى الباطن ومن الجسد إلى الروح.
الجمال الزمانى:
    الشاعر الذبيانى في مقطعه الذي وسمه بـ (بناء مكة) يعرض لتاريخها (كحاضرة إنسانية موغلة في القدم) وكشعيرة إعتقادية دينية، وكعلائق اجتماعية، وكحراك تاريخي منطقي يجري مجرى سلسلا يتواءم مع التطور الحضاري  العمراني الإنساني. فهو يقول:
بناء مكة لم يعرف به زمن       ولم يحدده في تاريخه أجلُ
منذ القرون رأى التاريخ آهلها    ورانَ بين   رباها مثقلاً أزل
إن قيل إن بها إسماعيل مسكِن  فقل: عليها وفيها قامت الأول
وأنها بعبادات مضت حَفَلَت    وأنها بعرى   الأزمان تتصل
وأن فوق منى عزًّ الفداء   وقد   أُنيخ عمن تمنوا فدية حمل
وأنَّ هاجرَ لمّا وابنها ظمئا   انشق زمزم  والعطشى به    نهلوا
وعند زمزم سُرَّ الرائحون وفي   أجنابه بين من كانوا، ندى نزلوا
     فى هذه الأبيات يستخدم الشاعر أدوات التوكيد من حروف مشبه الفعل "إنّ" أنّ" و"قد" حرف شرط وجوابها، تفيد بأن التاريخ هو منوّر حتى الآن، وتنعكس الأهداف والأغراض التىأسست لأجلها الكعبة المشرفة،وأدوات جوازم المضارع تفيد بأنّ الحاضر هو نقطة الإتصال بالماضى والإستمرار إلى المضارع، هذه الأهداف كانت تمارس فى الماضي و مستمرفى الحاضرو تستمر إلى الإستقبال إنشاءالله العزيز.ويتجمل الشاعر كلامه بتفنن أسلوبه وهو الأسلوب البلاغي المبهر الذىيتنوع ويتعدد المعانى للكلمات المحدودة، ففى البيت الاول يعالج الشاعر فكره متناولا أسلوب الإيجازوالإستعارة، هو قوله:" بناء مكة لم يعرف به زمن ولم يحدده في تاريخه أجلُ". " زمن" لايستطيع أن يتعرف أو يعلم ، بل هم أناس الذين يعرفون وينهلون من العلوم والأفكار، والأجل لايستطيع أن يحدد التاريخ بل هو المؤرخ الذى يسجل الحوادث التاريخية، وهكذا ألقى الشاعر تاريخا كاملا فى هذا الوعاء الصغير الحجم، مستخدما أسلوب القصرو الإيجاز.وقوله (39)
"إن قيل إن بها إسماعيل مسكِن  فقل: عليها وفيها قامت الأول" نموذج للمحسنات المعنوية هنا كلمة "عليها" رمزللكمالات الروحية والمعنوية والإتصالات القلبية بالخالق،و" فيها" إشارة إلى التمكن التجاري والإقتصادي فى هذه البلدة الطيبة الذىتسرب إلى العالم كله واستقر.وقوله:
" وأنَّ هاجرَ لمّا وابنها ظمئا   انشق زمزم  والعطشى به نهلوا"
   يفتح  أمام القارئ باب التاريج الكامل،و"زمزم" بالإضافة إلى المعنى الحقيقىرمز للشريعة الغراء التى غرست شجرتها على  يدالسيدة هاجر وسيدنا إسماعيل عليه السلام التىاكتملت وبلغت إلى كمالها على يد سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم،"ظمئا" رمز للمشاكل التىقد تصادف وتتحمل لتطبيق وتبليغ هذه الشريعة، وبعد تذوق هذه المرارة قد ينجح المكلف وينهل من حلاوة الإيمان وينال مالم ينل إلا لمن له إلمام فى ممارسة هذه الحديقة ذات الأزهار المتفتحة المغطاة برداء الأشواك،وذكر السيدة هاجرة والسيدنا إسماعيل معا إشارة إلى المساوة ما بين الرجل والمرأة.
جمال الشوق:
    كثيراً ما ينفعل الشاعر في غايته الشعرية،فتصدر هذه الغاية حافلة بالحنين والشوق والعشق الصوفي، إذ تظهر علاقة تبادلية بين الصائغ (الشاعر) والمكان (مكة والطريق إليها) والدابة الوساطة للوصول إلى المكان، وثمة رابع هو (الشاهد ـ رفيق السفر)، وكثيراً ما تتماهى العلاقة بين المتحرك والجامد لتتحول بمجملها إلى توق روحي ووجداني يخلق بدوره علاقة حميمة بين المبدع والمتلقي،وإذا كان في الحنين رجوع إلى الألفة، وتوق إلى الأمن والطمأنينة والاستقرار المكاني، فإن صورته تمثلت في قول الشاعر العشاري:(40)
ويخطف أرواح العدى بحسامه        كما تجتني الفرصادَ طائلة الأيدي
 ...حبيبي متى أروي الفؤاد بلثمة    من الروضة الغنّاء في طالع السعد
حبيبي متى أزجي القلوص بطيبة     فتربتها كالكحل في الأعين الرمدّ
   فى هذه الأبيات يتجمل الشاعر أحاسيسه بتفنن الأسلوب البلاغي ويصب مشاعره الحائرة فى الحب والشوق فى القالب الفنى المتزين بالأدوات البلاغية من التشبيه والإستعارة والكناية وغيرة ذلك." الفرصاد" التوت الأحمر البري وقد ألفه الشاعر في مكة أو خلال مسيرته باتجاهها، "الفرصاد" هو رمز لغاية الشوق والمودة تجاه تلك البلدة المباركة التى تمطرعلى الزائر والوافد الخيرات السماوية التى تتسرب إلى القلوب والأفئدة و تنقلب الحياة المادية من قالب المادة إلى العالم الملكوتى وتسير فيه وتتمتع بجماله، و" الروضة الغنّاء" إستعارة من تلك الثروة الإيمانية التى تغدق على من يتواصل مسيرته تجاه مكة المكرمة مواكبا على مركبات القوافل الإيمانية ومستغرقافىمشاهدة جمال ربه عند تواصل السجود الطويلة. و"القلوص" (الناقة القوية الجسم والسريعة التحرك والمسيرة) رمز لغاية الشوق والمشقة والمعانات التى قد تلاق وتصادف فى سبيل الشوق، والكنايةإلى قلق الشاعر واضطربه للوصول إلى تلك الأرض المقدسة التى اختارها الله ملجاء للمتيمين وماوى للمتحيرين. وذلك الشوق الذي نراه، يعتمل في صدر الشاعر ليبل شوقه من ترب مكة ـ طيبة، وشواهدا وتربها... ليحقق الهدف من لقاء المنشود، وتحقيق المقصود.
   فالشاعر المكي محمد حسن الفقي (41) يحن إليها وهو بين يديها، وهو حنين يعصف فيه العشق،  صوفيٌ توحد بالمكان ورفعه إلى قمة إنسانية المحسوسة.
أنت عندي معشوقة ليس يخـ   ـزي العشق منها ولا يمل العشي
  أما عمر أبو ريشة، (42) فيجري تبادلية بين سمو المكان، وفاعلية الذات ويرى في مكة سمواً يربو على الإحساس، ويسيطر على الروح، فهي تمتلك الذات الإنسانية المؤمنة، إذا ما حلَّ الحاج فيها:
حلُّ في مكة وجهك في الترب     خضيبٌ ووجهه في السماء
الجمال الروحى:
   أما الشاعر أبو الفضل فيرى في مكة ما هو أبعد من المكان، وأشمل من التاريخ فهي التي تجلت للإنسان، ولم تتجل في شعره، وإنما صاغها (التجليات) قابساً من روحه وجدانية، لإبراز معانيها الشمولية الفذّة:(43)
برزت وقد شقت حجاب الأعصر    بنتُ النبي الهاشمي الأكبر
وكأن صفحة ذي الفقار جبينها       ولحاظها من حدّه المتسعر
روحي الفداء لحرّة نشأت على      حبّ الأسنة والظبى والضّمر
ضاقت بها الصحراء فانفتحت لها   أبوابٌ كسرى والعزيز وقيصر
فغدت تقود إلى المعارك خيلها     وتجرجر الديباج فوق المرمر
واليوم قد ظهرت تعيد جمالها       وجلالها   فتخضبت بالأحمر
    فى هذه الأبيات تتففن أحاسيس الشاعر تجاه مكة المكرمة وهويعبرصورتهامستغرقا فى الحب والمودة ملتزما بقداستها، ومغطيا برداء حرمها، فهويبرز علاقتها بالنبي صلى الله عليه وسلم علاقة البنت بالأب التىتختفى حبها تحت جوانحها الثائرة وتتحمل المكاره والمعانات فى هذه غابة الحب الممتزجة بالأشواك تحت الأزهار المتفتحة المتعانقة بالأثمار الدانية القطوف،وهىتجنى هذه الأثمار لأبيها الحنون،تجترح الأنامل وتحتمر الأرض المفترش بالحشيش الأخضر بسيلان الدم، ولكنها تواكب مع أبيها مواكبة الشوق والتحنن حتى تصل إلى أرض السكون والطمانئية، الأرض التى ترحب بهما بمفترشةالديباج والمرمر تحت مؤطئة الضامر التى أتت إليها من كل فج عميق.في هذه الأبيات دلالات دون تسمية المكان، وأدل هذه الدلالات أنسنة المكان وإنزاله منزله فلذة الكبد، بالنسبة لابنها الرسول وثاني هذه الدلالات عمقها التاريخي، وقداستها، كذلك بساطتها، وصلابتها، وحراكها الجهادي، وانتصارها على إمبراطوريات وممالك العالم.ويقدم في قصيدة أخرى المعنى الوجودي الشمولي لمكة كمكان في الظاهر وفي المبطن كفاعلية إيمانية دخلت صدور المؤمنين بفجرها السني.
ولا راية إلا التي طلعت لهم        مبشرة بالعتق     بعد العبودية
بها أشرقت بطحاء مكة حرة     وقد ظللت أرضي وقومي وعترتي
   إن الصور التي بناها الشعراء الذين عرضنا لسيرورة مكة في شعرهم؛ تبدو بما وفروه لها من عناصر قادرة على الاستقلال عن ذواتهم الفردة، لتحل في المسافة الممتدة بينهم وبين المتلقين مرسلة دلالات روحية تشع بالتوق واللهفة والتطلع إلى قداسة المكان وأسراره الروحية جوانياً وبرانياً، كذلك فهي تكشف عن وشيجة مجلة لها، وهي متموضعة في النفوس استبطاناً يعلقها بها، ويجذبها إليها، كما ينجذب العاشق إلى معشوقته.وهنا يمكن أن نقسم الجملة الدلالية الواردة في
النص على حامل ومحمول هو الفضاء الروحي ومعانيه.
يقول محمد حسن فقي:
مكتي أنت لا جلال على الأرض    يداني، جلالها أو يفوق
  ـة ما يجتويه إلى المروق لكِ فضل على المدائن يا مكـ  
لصقت بالتراب أجسامنا الغِلف  فأهوى إلى اللصيق اللصيقِ
الشاعر هنا يخص مكة بالجلال والفخار والخصوبة، ويصنعها مفضلة على المدائن الأخرى.
أما أحمد قنديل فيستوحي من (أم القرى) معاني الأمومة عندما يؤنس المكان وينطقه، ليجلس أمامه بجلال، يستمع إلى الحديث الحنون:(44)
أنا أم القرى، بعدتم وغبتم   أم أتيتم قصد الزيارة أجراً
...تلك يا مكتي مقالة أمِّ    فاز فيها البنون بالحبّ طرّاً
هذان البيتان توقفنا على أمومة رمزية تسبغها مكة على الناس منزلة أبنائها، وهي تحيل الأفضلية من الذاكرة إلى الشعور، ومن الباطن النفسي إلى التاريخ وبالعكس... وهكذا يطل الشاعر على مكة من نافذة الخيال، مشيراً إلى معناها (الحناني) مبتعداً عن الإشارة إليها بحسيّة.
الجمال الإيماني:
   هذه هى التجليات الإيمانية التى تدفع الشاعر إلى أن يقف على أطلال آثار درست، وقد يتلمس ما تبقى منها، أو يقرأ على حجر من أحجارها كليمات تدل على حضارة أهلها؛ فإن الوقفة تلك قد تعيده إلى الوراء كثيراً أو قليلاً، وقد تتعب قدماه، أو تحرقه أشعة الشمس الطالعة في حمّارة القيظ، لكنه عندما يقف أمام مكة، يكون قلبه السابق إلى الرؤية، وتكون روحه المستفيضة من المعنى، وعيناه المشوقة إلى المبنى... هذا الحراك الإيمانى مضافاً إليه ما شرّعه الإسلام لمكة من حُرمة وأمن، وما تمثل لها تاريخاً من عزة وحرية، ينتهي بنا التصور إلى ما تملي أفق المكان الذي يتجسم في موضوعة شاملة لها آفاقها ورموزها ودلالاتها ومناحيها النفسية والمعنوية، فيتوجه الخطاب إليها مباشرة، يقول الشاعر ، طاهر النعسان: (45)
أدرك اليوم من مسعاك مغتنما    فالمرء من دونها مهما علا خُلقاً
ينحط قدراً ويبقى الدهر متهما   
ونقِّ قلبك من غل ومن حسد  عند الصفا واطّرح إثماً به اكتتما  
إن الصفا مشعر لله محترمٌ      فالزم به الصفو يا فوز الذي لَزَما  
واصعد إلى عرفات ذاكراً صمدا    ملبياً حامداً مولاك لا سئما    
وقف بموقف خير المرسلين على  صخر هناك وخل الدمع منسجما  
واذكر إلهك عند المشعرين إذا   أفضت من عرفات خاشعاً ندما 
عند المحصب من وادي منى اضطرح الــجَمرات واحذف بها سبعاً ولا جَرُما

 هذه الأبيات تعبر علاقة الشاعر الإيمانية بمكة المكرمة، العلاقة التى تتجاوز الحدود المكانية و تتصل بتلك الأرض المقدسة مباشرة وتتجول حول الكعبة المشرفة وتصورمشاعر الحرم مستغرقا فى التجليات الإيمانية التى تنبجس من أعماق قلبه الذى يتصل بخالقه عزوجل. يتجمل الشاعر أسلوبه بإستخدام فعل الأمر الذى يعتبر أقوى تأثيرا وأفصح بيانا وتعبيرا عندالبلاغيين. ومن خلال فعل الأمر (، أدرك، نق، اطرح، الزم، اصعد، قف، خلِّ، أذكر،  اضطرح ، احذف...الخ)،  نرى الفضا الإيمانى القوى دون أى  الشك والتردد، وأفعال أمر قاطعة تدل الدوال قسراً في فضاء الروح، لتتبدل المعاني وتتجاوز حرفيتها المعجمية فتتحول إلى معانٍ روحية في إطار تاريخي طقوسي، وثمة حركة فنية أخرى لدلالات المعاني إذ تخلق بشفافية لافتة ثم علاقة مع البعد الماورائي للرمز الذي يمثل بدوره البعد الإيماني في الخلد الذي أصدر النص وعلّقه على عشرة  أفعال جاءت بصيغة الأمر ضمن هذه الأبيات المذكورة، وغايته ارتفاع النبرة الإيقاعية علىحرف الميم المفتوح على الفضاء الشعرى الموجه أصلاً للمتلقي بأمر أيضاً، لأنه يتمثل الفضاء الروحي ومعانيه في النص الحراكي و يرسم لوحة طقسية، كرقية أو تعويذة، تدفع الشك وتؤكد اليقين بقداسة المكان، وصدقية الفعل (ضمن ممارسة الشعيرة) مع ثمانية أمكنة تتموضع في المكان الكبير مكة المكرمة.هذه الدوال الإبدالية لمكة وأحيائها وشواهدها ومشاعرها (مفردات مشعر وليس شعور) "البيت الحرم، المروتان، الصفا، عرفات، الإشراف على الصخرة، المشعران، المحصّب...) تحمل من تنوع مكاني جزئي ضمن المكان الكبير (مكة)، وشعائري الحراك الذي يفصله الحاج، لم يرد الشعر منه إعطاء درس في مناسك الحج، بل هو يرسم تجليات المعنى الروحي للأمكنة التي ذكرها.أى أسلوب أجمل من رسم تلك الأماكن المقدسة التى لم يرسمها إلا من مارس شيئا من المجاهدة الإيمانية والرياضة الروحية .
  وملخص الكلام بأنّ الشعر العربى فى مكة المكرمة شاهد منعطفات الإنخفاض والإرتفاع بمواكبة التجارة والإقتصاد،وتأتر أحدهمامن الأخر،وسايرا مسيرتهما متاعضددين ومتساندين كليهما، حتى ونالا مرماهما و وصلا إلى هدفهما. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش على الدراسة والتحقيق

1) أحمد آمين، فجر الإسلام،ط11،مكتبة النهضة المصرية، القاهرة،1957،ص13.
2) أحمد أبو الفضل السيد،مكةفى عصر ما قبل الإسلام،ط2،مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، الرياض،1401هـ/ 1981م،ص129.
3) الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد لله، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار،ط3، مطابع دار الثقافة،مكة المكرمة،1398هـ/1978م،ج1،ص54-57.
4) نفس المرجع، ج1،ص90-107.
5)البلاذرى، أحمد بن يحي، فتوح البلدان،دار الكتب العليمة، بيروت،ص68.
6)  الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد لله، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار،ط3، مطابع دار الثقافة،مكة المكرمة،1398هـ/1978م،ج1،ص90.
7) جواد على،المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام،ط1،دارالعلم للملايين، بيروت،1969م،ج4،ص73،77.
8) أحمد أبو الفضل السيد،مكةفى عصر ما قبل الإسلام،ط2،مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، الرياض،1401هـ/ 1981م،ص130.
9)نفس المرجع، ص 130.
10) الطبرى ، محمد بن جرير،تاريخ الأمم والملوك،(تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) دار المعارف، مصر، 1964م،ج2،ص252.
11)محمد الخضرى، نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين،(حققه وعلق عليه نايف العباس ومحى الدين مستو)ط2، مؤسسة علوم القرآن،بيروت،1400هـ/1980م،ص106-107.
12)إبن هشام،عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، السيرة النبوية،(تحقيق مصطفى السقا وآخرون) دار الكنوزالأدبية، بيروت،ج2، ص50.
13) محمد طاهر الكردي،كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم،ط1،مكتبة النهضة الحديثة،مكة المكرمة،1385هـ،ج5،ص168.
14) صبحي الصالح، النظم الإسلامية نشأتها وتطورها،ط6،دار العلم للملايين، بيروت ، 1982م،ص344-345.
15) أحمد السباعى، تاريخ مكة،ط4، نادى مكة الثقافى والأدبي،مكة المكرمة،1399هـ/1979م،ص125.
16) فوزية حسين مطر،تاريخ عمارة الحرم المكى الشريف،ط1،تهامة للنشر،جدة،1402هـ/1982م،ص113.
17) الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد لله، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار،ط3، مطابع دار الثقافة،مكة المكرمة،1398هـ/1978م،ج2،ص169.
18) إبن فهد،النجم عمر بن فهد بن محمد،إتحاف الورى بأخبار أم القرى، ط1، مركز البحث العلمى بجامعة أم القرى،مكة المكرمة،1404هـ/1984م،ج2، ص385.
19) نفس المرجع، ج2، ص384-386.
20) ناصر خسرو،سفرنامة،(ترجمةيحيى الخشاب)ط2،دار الكتاب الجديد، بيروت،1970م، ص121، 123.
21) ) إبن فهد،النجم عمر بن فهد بن محمد،إتحاف الورى بأخبار أم القرى، ط1، مركز البحث العلمى بجامعة أم القرى،مكة المكرمة،1404هـ/1984م،ج2، ص413.
22) ) أحمد السباعى، تاريخ مكة،ط4، نادى مكة الثقافى والأدبي،مكة المكرمة،1399هـ/1979م،ص211.
23) سعاد ماهر،البحرية فى مصر الإسلامية وآثارها الباقية،دار المجمع العلمي، جدة،1399هـ/1979م،ص105-107.
24) خير الدين الزركلي،شبه الجزبرة فى عهد الملك عبد العزيز،ط2، دارالعلم للملايين،بيروت،1397هـم1977م،ج2، ص690،702.
25) شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ط3، دار المعارف، مصر، 1976م، ص 50.
26) أبو الفرج الأصفهاني ، الأغاني، دار الفكر، بيروت، 1407هـ/ 1986م، 21/ 206
27) د. شوقي ضيف، العصر الجاهلي ، ط3، دار المعارف، مصر، 1976م، ص 50-51.وراجع للمزيد من التفصيل" الكشاف" لجارالله الزمخشرى،ج2، ص35.
28)  د. مختار علي أبو غالي، المدينة في الشعر العربي المعاصر،المجلس الوطني للثقافة والفنون و الآداب، الكويت 1995م، ص179
 29) د. عبد القادر الرباعي، الصورة الفنية في النقد الشعري ، ص 234 ، ومقالات في الشعر الجاهلي، ص 148.
30)  محمد قباري إسماعيل، علم الاجتماع والفلسفة،ج2،ص55. 
31) صموئيل الكسندر،  المكان ـ الزمان ـ الألوهية، ج2، ص920 .
32 )  ا.س. رابوبرت، مبادئ الفلسفة،( ترجمة أحمد أمين) ص 55.
33)  أحمد أمين وزكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، ص 381-384 وانظر كذلك إلى " الموسوعة الفلسفية المختصرة
Consise Encyclopeddia of Western Philosophyترجمها للعربية : فؤاد كامل و جلال العشري وعبد الرشيد الصادق وراجع الترجمة، وأضاف إليها شخصيات إسلامية الدكتور زكي، نجيب محمود. ص56.
34)  ا.س.رابوبرت مبادئ الفلسفة ، (ترجمة أحمد أمين ) ص49- 60.
35) حمزة شحاتة ، رفات عقل ( قام بجمعه وتنسيقه  عبد الحميد مشخص ) ط1، تهامة ، جدة، 1400 هـ / 1980م.
36)نفس المرجع، ص45.
 37) أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلامية،( تصحيح ومراجعة محمد إبراهيم الجيوشي )مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1963
 38) الذبياني، محمد النبي العربي (الملحمة الشعرية)، ط2، منشورات المنشأة الشعبية للنشر والإعلام والتوزيع، ليبيا، 1981 م.
39) الإمام عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز فى علم المعاني،(تصحيح المفتي محمد عبده ، والشيخ محمد محمود التركزي ) مكتبة القاهرة، مصر،1381هـ/1961،ص122-123.
40) عمر أبو ريشة ، الديوان ، منشورات دار العودة، بيروت، لبنان، 1984م.
41) محمد حسن الفقي، ولد بمكة سنة 1332هـ/ 1912م، وتوفي سنة 1425هـ الموافق لسنة 2004م.
42) العشاري، حسين بن علي بن حسين بن فارس ،البغدادي، الشافعي، الديوان، ( تحقيق وتعليق عماد بن عبد السلام الرؤوف، ووليد عبد الكريم الأعظمي) منشورات وزارة الأوقاف العراقية ضمن سلسلة إحياء التراث الإسلامي1397هـ/ 1977م.
43) أبو الفضل الوليد ،الديوان، ( مراجعة وتقديم جورج مصروعة،)ط2، منشورات دار الثقافة، بيروت، 1981، ص 85 وما بعدها.
44) أحمد قنديل، شاعر سعودي، ولد بجدة سنة 1130هـ 1911م/ وتوفي في عام 1399هـ ـ 1979م، من ديوانه مكتي قبلتي، ص 37 -39.
45) الشاعر الشيخ طاهر النعسان، ولد بحماة سنة 1887م وتوفي فيها سنة 1961م.

المصادر والمراجع

1)  أحمد آمين، فجرالإسلام،ط11،مكتبة النهضة المصرية، القاهرة،1957.
2) أحمد أبو الفضل السيد،مكةفى عصر ما قبل الإسلام،ط2،مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، الرياض،1401هـ/ 1981م.
3) الأزرقي، أبو الوليد محمد بن عبد لله، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار،ط3، مطابع دار الثقافة،مكة المكرمة،1398هـ/1978م.
4)  أحمد محرم، ديوان مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلامية،( تصحيح ومراجعة محمد إبراهيم الجيوشي )مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1963.
5)  أبو الفرج الأصفهاني ، الأغاني، دار الفكر، بيروت، 1407هـ/ 1986م.
6)إبن هشام،عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، السيرة النبوية،(تحقيق مصطفى السقا وآخرون) دار الكنوزالأدبية، بيروت.
7) إبن فهد،النجم عمر بن فهد بن محمد،إتحاف الورى بأخبار أم القرى، ط1، مركز البحث العلمى بجامعة أم القرى،مكة المكرمة،1404هـ/1984م.
8) ) أبو الفضل الوليد ،الديوان، ( مراجعة وتقديم جورج مصروعة،)ط2، منشورات دار الثقافة، بيروت، 1981.
9) البلاذرى، أحمد بن يحي، فتوح البلدان،دار الكتب العليمة، بيروت.
10) جواد على،المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام،ط1،دارالعلم للملايين، بيروت،1969م.
11) خير الدين الزركلي،شبه الجزبرة فى عهد الملك عبد العزيز،ط2، دارالعلم للملايين،بيروت،1397هـ /1977.
12) الذبياني، محمد النبي العربي (الملحمة الشعرية)، ط2، منشورات المنشأة الشعبية للنشر والإعلام والتوزيع، ليبيا، 1981 م.
13)  سعاد ماهر،البحرية فى مصر الإسلامية وآثارها الباقية،دار المجمع العلمي، جدة،1399هـ/1979م.
14) شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ط3، دار المعارف، مصر، 1976م.
15) صبحي الصالح، النظم الإسلامية نشأتها وتطورها،ط6،دار العلم للملايين، بيروت ، 1982م.
16)  الطبرى ، محمد بن جرير،تاريخ الأمم والملوك،(تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم) دار المعارف، مصر، 1964م.
17)  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز فى علم المعاني،(تصحيح المفتي محمد عبده ، والشيخ محمد محمود التركزي ) مكتبة القاهرة، مصر،1381هـ/1961.
18) فوزية حسين مطر،تاريخ عمارة الحرم المكى الشريف،ط1،تهامة للنشر،جدة،1402هـ/1982م.
19) محمد طاهر الكردي،كتاب التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم،ط1،مكتبة النهضة الحديثة،مكة المكرمة،1385هـ.

20) ناصر خسرو،سفرنامة،(ترجمةيحيى الخشاب)ط2،دار الكتاب الجديد، بيروت،1970م.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا