التسميات

السبت، 14 نوفمبر 2015

مكّة و تجليات المكان في الشعر العربي - د. وليد مشوّح ...


مكّة و تجليات المكان في الشعر العربي 

 د. وليد مشوّح -  باحث سوري

مدخل:

    أخذت مكة خصوصيتها الوجودية لا من كونها بقعة جغرافية من البقاع المنتشرة من أرجاء الكرة الأرضية؛ بل للمعنى التاريخي الذي استمدته من قيام البيت العتيق فوق ترابها الذي تطهّر به، وكان بين موطن البيت وبين أبي الأنبياء إبراهيم الخليل تفاعل مستمر وجاذبية وتساوق بين المكان والمعنى.


   لقد بدأ التساوق بدعاء إبراهيم عليه السلام إلى ربه، أن يتمَّ على هذه البقعة الطاهرة نعمته بالأمن والسلام والاستقرار لتكون موئل الأفئدة ومهوى جوهر الإنسان.

  وجاء قول الله تعالى في كتابه الكريم: rوإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيًّ أن نعبد الأصنام* رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم* ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (1).

   إذاً؛ مكة المكرمة هي العاصمة الدينية والثقافية والاجتماعية لجميع المسلمين في كل زمان ومكان، وهي مهوى أفئدتهم، كما هي مستقر وحدتهم، ومجمع أخوتهم، "ولحكمة ما، لم تكن مكة المكرمة عاصمة سياسية لأي دولة من دولهم"(2)، لأنها لو كانت كذلك لنسبت إلى سياستها وخصت بهم، ولأن القيمة الإيمانية أكبر وأشمل من القيمة السياسية، فقد ظلت مكة المكرمة عاصمة الإسلام بمعطياته الروحية والوجدانية كلها. إذ تعوّد المسلمون ـ منذ إشراق فجر الرسالة ـ أن يكون الحرم المكّي في موسم الحج موطناً للقاء بين العالم والمتعلم، ومكان التلقي للمعرفة والتفقيه، فقد كان رسول الله r خلال حجة الوداع قائماً على التعليم والتثقيف، يُسأل فيجيب، ويتجمع حوله  الناس فيبلّغ المعرفة والهداية، "إلا أن تفقيهه ذلك لم يكن ليصل إلى جميع المسلمين، فدعا الناس وهو في الخيف من منى إلى إبلاغ المعرفة وتداولها، والعمل على  وصولها إلى الناس كافة، وإن المعرفة أمانة عندهم، عليهم إبلاغها لأيّ مسلم كان، وتلقيها من أيِّ مسلم كان، بشرط الصدق والإخلاص"(3).

  ومن هنا فإن مكة المكرمة ـ في موسم الحج وغيره ـ تشكّل ـ ولا تزال ـ صورة مركزة ومختصرة للعالم الإسلامي، وللمسلمين وأحوالهم بصفة عامة في شتى أنحاء العالم.

   " فأحوالهم الدينية والفكرية والخلقية والاجتماعية كلها؛ تنعكس في مظاهرهم ومناسكهم ومعاملاتهم وسائر تصرفاتهم، فتعد مكة المكرمة ـ بحق ـ مرآة للمسلمين"(4)

  فقد روى الترمذي حديثاً: "قام رسول الله r بالخيف من منى، فقال نَضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم أسلمها إلى من لم يسمعها؛ فرُبَّ حاملِ فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".

  ولما انتقل المسلمون إلى عرفات، ألقى فيهم خطبة الوداع، التي تعدّ هي أيضاً، مثلاً للإبلاغ من الرسول المعلم إلى عامة المتلقين من المسلمين الحجيج.

  وهكذا ارتبط موسم الحج من بدايات ظهوره ارتباطاً وثيقاً بالتثقيف والتعليم؛ كما ارتبط بتأصيل التعامل الاجتماعي وترتيبه. كل ذلك ينضاف إلى العبادة والسعي إلى التقرب من الله زلفى ونيل خيره وهَدْيةِ ومغفرته.

  ودأب المسلمون مع ذلك منذ فجر الدعوة إلى يوم الناس هذا؛ فإذا مكة المكرمة تصبح عاصمة للثقافة الإسلامية(5).

بين المكان المجرّد والمكان المعنوي:(6)

   إذا أردنا أن نتعرف على مكة؛ لا بد من ابتداء المعرفة انطلاقاً من البديهية التعريفية التي ترى فيها موضعاً أو مكاناً أو بقعة ارتسمت على خارطة جغرافية ما؛ بيد أن الموضع أو المكان أو البقعة نجده حاضراً في الذهن، معروفاً أو بارزاً في الذاكرة، وبين الذهن والذاكرة تقوم وشيجة مع اللغة التي منحت ذلك المكان سمة (العَلَمية) وحولته إلى مصطلح رئيس في علم النحو، أي أن المكان المتعين في الأذهان الذي يعيّن مسمّاه تعييناً مطلقاً، كونه مختلفاً عن غيره من المعارف من جهة الإطلاق هذه، لأن المعارف، غير العلم، تعين مسمياتها تعييناً مقيّداً بالصلة أو التكلم أو الإضافة أو الإشارة... الخ(7).

   هذه العَلَمية التي وسمت بها مكة؛ تعني أن موضوعها أو مكانها امتاز عن غيره من الأماكن أو المواضع، فدخل إلى التصوّر الذهني للمتكلمين بشكل معين ومحدد، وما دام أن الفكرة أصل والمعرفة فرعٌ، والعموم سابق على التعيين كما يقرر اللغويون والقياسيون؛ فإن تعيين (مكة) مكانياً، مصاحب لخروجها من الطبيعة إلى الثقافة، ومن الجغرافية إلى التاريخ، ومن الجهل والعمى إلى المعرفة والوعي الإنساني، ومن الإطلاق إلى النسبية(8).

  وهكذا استحالت مكة ـ من خلال علمية التسمية لها إلى مكان معروف، والمكان ـ مطلقاً ـ يعني "بدء تدوين التاريخ الإنساني... ويعني الارتباط الجذري بفعل الكينونة لأداء الطقوس اليومية؛ للعيش، للوجود، لفهم الحقائق الصغيرة، لبناء الروح، للتراكيب المعقدة والخفية، لصياغة المشروع الإنساني"(9).

  وهذا المنظور ـ بالتأكيد ـ يحطم نظرية اسحاق نيوتن (1737م) Isaac Newton بخصوص المكان والزمان، الذي تصور فيها وجود زمان ومكان مطلقين، لا علاقة لهما بأي شيء خارجي عنهما(10) فأصبح المكان ـ وفق النظرية النسبية ـ لا ينفصل عن الزمان، وهما معاً متصلان بالأشياء والأحداث والظواهر الفيزيائية(11).

    وهكذا أصبح لمكة دلالة ثقافية وتاريخية، مثلما كان لها ولغيرها في كل مكان دلالات طبيعية وجغرافية واجتماعية ومادية.

   بيد أنها تختص بثراء دلالي روحي وديني ينضاف إلى دلالتها الإنسانية والاجتماعية، ويؤسس لها، إذ ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: rإن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى * فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمينr(12).

   فتاريخ دلالة مكة يبدأ من رحلة أبي الأنبياء إبراهيم (ع) إليها، حيث أسكن فيها زوجه هاجر وابنه إسماعيل، ثم بنى مع ابنه الكعبة المشرفة، ودعا الناس إلى الحج إليها وفي جامع البخاري عن ابن عباس r: إن إبراهيم (ع)، جاء بها (هاجر)، وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت جانب دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة ـ يومئذ ـ أحد، وليس بها ماءٌ..."(13).

   إذن؛ تتصل مكة بالطقس الديني المقدس في الوعي الإنساني. ويبدأ تاريخها بداية تصل فيها الأرض بالسماء؛ إذ أمر الله لنبيه إبراهيم (ع)، وإذ شريعة الله للناس اقتفاء لسيرة إبراهيم، وهي سيرة تحيل مكة من مكان مجرد إلى مكان زماني، بسبب أحداث سيرته عليه السلام، وسيرة زوجه وابنه، ومعجزة ماء زمزم، وسعي هاجر بين الصفا والمروة والكعبة والحجر الأسود ومقام إبراهيم والمزدلفة، ورمي الجمرات بمنى، وفداء إسماعيل بذبح عظيم.

  أحداث تصل مكة بوصفها مكاناً مجرداً بالزمان بوصفه حركة لا نتبينها بمعزل عن الموجودات والأشياء التي فعلها وحرّكها إبراهيم عليه السلام، تلك الأحداث تدخل بمكة إلى الكينونة والوجود أي إلى التاريخ، كما ترسم لها صورة معرفية، وظلالاً وجدانية حافلة بالقداسة وندية بالمعاني الروحية والتعبدية.

   ولا تنفصل هذه الكينونة عما امتازت به مكة في التاريخ القديم، بفضل دلالاتها المقدّسة من مركزية ثقافية واقتصادية واجتماعية هيأت لأهلها سلطاناً معنوياً ومادياً، ما تزال أدبيات اللغة العربية قبل الإسلام تحكي دواله وشواهده.

   يقول ابن الفقيه: إن أهل مكة لم يؤدوا إتاوة في الجاهلية قط، ودانت لهم خزاعة وثقيف وعامر بن صعصعة، وفرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزاودَ الحِلّ إذ دخلوا الحرم، وهم أعزّ العرب، يتآمرون عليهم قاطبة(14).

   ويقول أحمد بن فارس نقلاً عن إسماعيل بن أبي عبد الله: "كانت وفود العرب من حجّاجها وغيرهم يفدون إلى مكة، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم... وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها؛ إذ أتتهم الوفود العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصحَ العرب"(15).

  وفي الأغاني: "كانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولاً، وما ردّوه منها كان مردوداً"(16).

  ولابد أن نمر ـ ولو على عجالة ـ بالمستوى الإداري والاجتماعي، لنلتمس ما نشأ في مكة من فاعلية مدنيّة وحضارية تمثلت في التحاور والتشاور وعلى نحو ما نعرف عن (دار الندوة) وهي فاعلية تجسّد طبيعة المجتمع المدني الذي تتولد فيه الحاجة إلى التخطيط والنظام وابتداع آليات تحفظ عليه تماسكه وأمنه، ولقد ذهب المستشرق (لامنس lames) في كتابه عنها إلى أنها كانت جمهورية كجمهورية البندقية، ووقف طويلاً عند نظامها التجاري المعقد، والاجتماع بدار الندوة الذي يشبه مجلس شيوخ مصغر، ولم يكن يدخله إلا من بلغ أربعين سنة من عمره، ويختارون على ما يبدو تبعاً لثرواتهم، وخدماتهم التي يؤدونها، وينظرون في شؤونها التجارية والدينية(17).

  وتتواشج هذه الصورة لمكة مع معان وصور ذهنية حافلة بالأسرار والمعجزات التي تمنحها دلالات رمزية تجاوز المدلول المكاني إلى الثقافة والمعرفة، وتتخطى العقل إلى الوجدان.

  فالجاحظ في كتاب الحيوان يفرد باباً بعنوان: (ذكر خصال الحرم)، يذكر فيه: ".. إن الذئب يصيد الظبي ويريغه (يطلبه)، ويعارضه، فإذا دخل الحرم كف عنه" "وأنه لا يسقط على الكعبة حمام ما دام صحيحاً" "وإذا حاذى أعلى الكعبة عَرَقَةٌ (جماعة) من الطير كاليمام وغيره، تفرقت فرقتين،  ولم يعلها طائر منها".

  ويمضي الجاحظ مستطرداً في هذا الباب: "إن المطر إذا أصاب الباب الذي من شق العراق، كان الخصب والمطر في تلك السنة في شق العراق، وإذا أصاب الذي من شق الشام كان الخصب والمطر في تلك السنة في شق الشام، وإذا عمّ جوانب البيت كان المطر والخصب عاماً في سائر البلدان".

  ويستطرد في القول: "إن حصى الجمار يُرمى بها في ذلك المرمى، منذ يوم حج الناس على طول الدهر، ثم كأنه على مقدار واحد".

  ويضيف إلى ذلك: "البركة والشفاء الذي يجده من شرب زمزم، وشأن الفيل والطير الأبابيل، والحجارة السجيّل وأنها لم تزل أمناً ولّقّاحاً (حرّة) لا تؤدي إتاوة، ولا تدين للملوك، ولذلك سُمي البيت العتيق، لأنه لم يزل حُراً.

يقول حرب بن أمية:

أبا مطر هَلُمّ إلى صلاحٍ

فتكفيك الندامى من قريشِ

فتأمنُ وسطَهمٍ وتعيش فيهمٍ

أبا مطر هُديت لخير عيشِ

وتنزل بلدة عزّت قديماً

وتأمن أن يزورك ربّ جيش(18)

   وبقدر ما احتشد لمكة في الوجدان والخيال والذهنية القديمة من التاريخ والمعاني والصور؛ فإن تاريخ الدين الإسلامي قد أضاف إليها معاني وصوراً وتاريخاً، وأمدّها بفيض من القيمة والدلالة التي اجتازت بها حدود دلالتها القديمة إلى الدلالة الإسلامية المشرعنة باتجاه العالم والمفتوحة على الأعراق والجغرافية الإنسانية.

   فقد كان في مكة ميلاد رسول الله محمد بن عبد الله r، وكان فيها مبعث نوره، ومهبط الوحي عليه، وكانت  فيها سيرته الأولى، وسيرة الصدر الأول من صحابتهِ (رضوان الله عليهم)، بما حفلت به من جهاد ومكابدة وعناء، وهي سيرة تغدو مكة، بوصفها مكاناً لها، دالاً من دوالها، تكتنز برموزها وصورها في غار حراء، وجبل النور، ونمار نور، والشعب، والبطحاء، وسائر بقاع ومشاعر وأجزاء مكة(19).

أسماء مكة ودلالاتها:(20)

  جمع المعجميون واللغويون والمؤرخون ثلاثين اسماً لمكة المكرمة، ولتنوع هذه الأسماء دلالات طبيعية وروحية ووجدانية، جاءت في ثنايا الشعر العربي قديمه وحديثه حسب الغرض الذي أُبدعت لأجله القصيدة، وغالبية الأسماء انطلقت من معانٍ وصفية أو طقسية أو مكانية، وقد أثبت الأستاذ الدكتور محمد السيد علي البلاسي هذه الأسماء مع شرح لدلالاتها على ترتيب حروف المعجم، وقد أحال لمستزيد إلى كتابه (أسماء مكة والمدينة في اللسان العربي)(21).

1 الآمن: لتحريم القتال فيه.

2 المأمون: أي الآمن، وهو من الأمن.

3 البُرت: وهو في لغة اليمن السكر الطبرزد.

4 البلد: والبلد (مكة) تفخيماً لها، كالنجم للثريا، والعود للمندل.

5 البلدة: يقول الفيروزبادي: البلد والبلدة "مكة" شرفها الله تعالى.

6 بكة: على الأصح من أنها ومكة واحد، (وأرى أن بعض القبائل العربية كانت تقلب الميم باءً). أما اشتقاقه في اللغة، فيصلح أن يكون الاسم اشتق من (البَك)، وسميت ببكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة.

7 البيت الحرام: لتحريم القتال فيه.

8 البيت العتيق: من العتق (التحرير) والعتيق القديم. "الباحث".

9 الباسّة: (بالموحدة) كأنها تبسّس الملحد أي تحطمه وتهلكه.

10 الثنية: ذكرها العلامة السيوطي ضمن أسماء مكة المكرمة في موسوعته (الحجج الثمينة...).

11 الحرم: حرم مكة (ما أحاط بها إلى قريب من المواقيت).

12 الحاطمة: لحطمها الملحد.

13 الرأس: لأنها أشرف الأرض، كرأس الإنسان.

14 الرتاج: (يقول الفيروزبادي في القاموس المحيط: والرتج "محركة" الباب العظيم، بالرتاج، ككتاب، وهو الباب المغلق، وعليه باب صغير.

15 أم رحم: لتراحم الناس، وتواصلهم فيها.

16 أم زحم: من ازدحام الناس فيها.

17 المسجد الحرام: ذكره السيوطي في حججه ضمن أسماء مكة.

18 صلاح: لأن فيها صلاح الخلق أو يعمل فيها الأعمال الصالحة، وقد جاء على لسان ابن منظور في لسان العرب: "...وصلاح من أسماء مكة، شرَّفها الله تعالى، ويجوز أن يكون من الصلح، لقوله عزّ وجل في سورة العنكبوت: (كرماً آمناً) ويجوز أن يكون من الصلاح".

19 طيبة: ذكره السيوطي ضمن أسماء مكة المكرمة.

20 العرش والعريش: بيوت مكة، لأنها كانت تكون عيداناً تنصب، ويظلل عليها، ويضيف ابن منظور قائلاً: "والعريش والعرش مكة نفسها".

21 العطشة: ذكره السيوطي ضمن أسماء مكة المكرمة وفي لسان العرب (العطش ضد الري... وعَطِشَ إلى لقائه أي اشتاق).

22 المقدّسة والقادسة: يقول ابن منظور: (المقدس تعني المبارك، والأرض المقدسة تعني المطهرة).

23 القادس: من التقديس على رأي السيوطي.

24 أم القرى: كأن الأرض دحيت تحتها، وقيل كأنَ أهل القرى يرجعون إليها في الدين والدنيا حجاً واعتماراً وجواراً على رأس السيوطي. ويرى ابن منظور (كونها توسطت الأرض..) وقيل: لأنها قبلة جميع الناس يؤمونها، وقيل سميت بذلك لأنها أعظم القرى شأناً، وفي التنزيل الشريف: (وما كان ربك مهلك القرى حيث يبعث في أمرنا رسولاً "سورة القصص ـ الآية 59".

25 القرية: ويقول السمين الحلبي في (عمدة الحُفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ): جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم "سورة الزخرف ـ الآية 31". والقريتان في الآية هما مكة والطائف.

26 الكعبة: وهي من أسماء مكة على تقدير تسمية الكل بالجزء.

27 كُوثى: (بضم الكاف وفتح المثلثة)، باسم موضع فيها، وهي محلّة بنى عبد الدار. بينما جاءت في لسان العرب مرسومة (كوثي)، وهي أيضاً من أسماء مكة، من مادة (كَوَث).

28 مكة: وهو مأخوذ من تمككت العظم إذا اجتذبت ما فيه من المخ، وقيل: إنها تمكّ الذنوب أي تذهبها، وقيل لقلة مائها، وذلك لأنهم يمتكون الماء فيها، أي يستخرجونه،وقيل: سميت مكة لأنها كانت تمك من ظلم فيها وألحد، أي تهللكه. ويقول الخطيب الإسكافي في مختصر كتاب العين: سميت مكة لأنها وسط الأرض (كالمخ) الذي هو أفضل ما في العظم.

   هذا وذكر أحمد السباعي في كتابه تاريخ مكة، أنه نقل عن بطليموس أن اسمها: (مكوربا) وهو مشتق من الاسم السبئي (مكوارابا) ومعناه مقدس أو حرم.

  ويرى جورجي زيدان أن أصلها: إما آشوري أو بابلي، لأن (مكّا) في البابلية: تعني "البيت" وهو اسم الكعبة عند العرب، ويدل ذلك على قدم هذه المدينة لأنها سميت بذلك في عهد العمالقة على أثر هجرتهم من بين النهرين، فسموا المكان بها، إشارة إلى امتيازها بالبناء الحجري على سائر ما يحيط بها عن البادية. وعلى أي حال، فمكة مدينة قديمة ورد اسمها في المصادر اليونانية والرومانية القديمة، حيث ذكر بطليموس الإسكندري باسم (ماكورابا) (MACORABA) كما أشار بروكلمان.

29 النساسة: (بالنون ومهملتين)، لقلة مائها، يقول الزمخشري وينقله السيوطي: (نست دابتك، أي يبست من العطش) وقيل لمكة الناسة والنساسة، لجدبها ويبسها.

  وهكذا رأينا في تعدد أسماء مكة المكرمة دلالات طبيعية، ودلالات معنوية، ودلالات إيمانية أما الدلالات الجغرافية ـ التاريخية فتكمن في موقعها وسط الأرض، أما التاريخية فلكونها أقدم حاضرات الدنيا، وأشملها طقساً، وأكثرها حراكاً. ولابد هنا من التنويه بأن بعض أوسامها جاء من محرقها المعنوي بأبعاده الإحساسية ـ الطقسية كلها، والمتمثل بالكعبة المشرفة أقدم رصف حجري، وأول شكل معماري في العالم، وأقدم معنى طقوسي كما جاء في التفاصيل التاريخية المغرقة في القدم.

   لذا نتوصل ـ والحالة الآنفة المعروضة تلك ـ إلى حقيقة تقول: إن الشعر يحتفي بمكة لا لكونها عمقاً تاريخياً فحسب لا بوصفها مركزاً جغرافياً وسط الكرة الأرضية، بل لأنها تحمل معنيين واضحين، الأول اقترابها من الأسطورة ومنابعها ومؤثراتها الخيالية والتخيلية، مساراتها الحُكمية والحَكميّة، تماهيها مع الواقع، حراكها الوجداني في أسس الذات الإنسانية، جاهلية، مسلمة، عربية، والثاني أبعادها الروحية بما تركته من شعائر طقوسية، وثنية وتوحيدية في فترة، وإيمانية إسلامية فيما تلاها، ولأن الشعر يحتفي بالقَبْلية بوصفها المنبع الذي يشكل الأطر الخيالية للصورة الشعرية، وكلما أوغلت الفاعلية المكازمانية في القدم؛ أنجزت الصورة الغاية في الروعة، وكانت العلاقة بين المبدع والمتلقي الذي يولّد الصورة بعد تفكيكها وإعادة تركيبها وتشكيلها من جديد وهي حافلة بالإضافات والمعطيات الجديدة،  ويتوسع بالتفاصيل التي لم يستطع المبدع وهو في حيّز التكثيف الصوري أن يغرق فيها (التفاصيل) هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ دأب الشاعر ينصب على إسقاط الماضي التاريخي على الحاضر وصولاً إلى غايات يفرضها الآني المعيشي، وذلك ضمن عملية فنية جد معقدة، كإجراء التبادل بين الزمان والمكان (تراتباً أو عكساً) أو توحيد الزمان بالمكان (زمكان) ووضعه بتصرف الحاضر، أو أنسنة المكان وميكنة الزمان وصولاً إلى ما ورائية معنوية تفتح الأفق على اللانهايات الشعورية ـ الإحساسية وصولاً إلى الغائية الكبرى في يقظة العقل وعبوره حدود المحال.

   إذاً، فتجليات المكان ببعديه (الزمامعنوي) و(الشعوري ـ الفني) لم يأت عن بديهية ساذجة تنتج صورة (فوتوغرافية) أو معنى (كلاسي)، وإنما جاء عن إبداع حقيقي يهدف إلى تكريس قيم فنية وعقلية شعورية، ناهيك عن القيم العقيدية والمعتقدية، إضافة إلى غاية ذاتية تهدف إلى التوبة والتطهر من الآثام التي علقت بالروح والجسد، كما جاء في (البُردات) و/نهجها/ والمدائح الدينية، والتهجد الصوفي، وأماديح الرسول وتخليد قيمه، الدنيوية المستمدة من طبيعة التشكل القيمي ضمن المكان وخصوصياته ومعانيه، وأخروية المستمد من العلاقة مع السماء وخالقها والأرض.

  وهنا لابد من الإشارة إلى أن الشعر بمناحية ومذاهبه المختلفة، وحقبة الزمانية، وعصوره التاريخية الأدبية، وهو يتوجه إلى مكة؛ كان يحمل في بؤره الغرضية (في توجهه)، مكة مكاناً ومعنى وقيمة مع تفاصيل عن أدواتها المكانية وشعائرها الدينية، وكي تكون اللوحة الشعرية متكاملة، لابد من البدء بفكرة الرحلة لغير المقيمين، ومن ثم تفاصيل الرحلة بمواطنها الطبيعية الجغرافية، وفاعليتها الجسدية، والشعورية ثم تكون الحركة التي تحمل القداسة نفسها بين مكة وأختها أو توأمها المدينة بوصفها تمثلان كامل الشعائر الطقوسية، فالرحلة من بلاد الشام إلى مكة فالمدينة تتطلب وصف الطريق، والراحلة، والساعي وصولاً إلى التوحد بين الأركان الثلاثة من أجل الغاية، ولابد من التعريج على جغرافية الأرض بجبالها ووديانها ومفازاتها، وطبيعتها المتمثلة بدوابها، ورمالها، وطقسها، وأنهارها، وأشجارها، ليلها ونهارها، وهكذا الساعي من العراق، والمغرب، وبقاع الدنيا كلها.

   لقد رسم الشعر الحراك البراني والجواني من المنطلق إلى المنتهى وكأن مكة تتحلى بالمعنى المكاني، والزماني، والطقوسي لكونها التاريخي، ثم تأتي المدينة، وربما الطائف، وأماكن أخرى في البلاد المشرّفة بالحرمين الشريفين.

دلالات الصورة مكانياًَ وثقافياً:

   ورد اسم مكة في الشعر العربي منذ عصره الجاهلي، وكان موضوع اسمها في الكثير من قصائد العصر الجاهلي وما تلاه من عصور شعرية إنما يعبر عن وعي تاريخي بالمعطى الاقتصادي والاجتماعي والعقيدي البدئي، كما عبر في الوقت نفسه عن التشكل الجغرافي والتقسيم الطبوغرافي في المكان عينه، جاء النص الشعري في الحالة تلك مجرد تصوير لمعطى بصري أو إحساس بصري، يأتي أحياناً في بعد تاريخي، وأحياناً أخرى في أفق آني ليشكل وثيقة تسجيلية، دون الحاجة إلى رمز أو تشكيلات فنيّة في الصورة أو الصور المتلازمة بتراتبيتها في النص.

   كذلك الحراك الاجتماعين من تجارة، عبادة، قتال، أفراح وأتراح، أو على سرد حكائي نقل عن هاجس، أو مثل قناع توبة، أو صدر عن إيمان خالص:(22)

تبدّي لنا النادي فلم تستطع صبرا

وأذكرها الحادي فحنّت إلى الذكرى

يغالِطها عن حاجرٍ بطويلعٍ

ويُذكرها التنعيمَ والنحرَ والنفرا

يلاحقها بالمأزمين إلى منى

وما قصدت في السعي ركناً ولا حجرا

ولكنها تاقت بروحٍ مشوقة

إلى أن ترى المختار في الروضة الخضرا

عساها إذا وافت قباً وقبابها

ترَوَّى بريَّا بَرْدِها كبدٌ حرّى

  وهو يريد حالة وصفية خارجة من جوانية الشاعر، فيصوغها، ثم يعيدها إلى أعماقه، ويعني تراءت جموع الحجيج لمخيلة الشاعر، وهو في قافلة سفر، فجاشت نفسه بالمشاعر حتى لم يستطع معها صبراً، وترددت أصداء صوت حادي القافلة، فحنت نفسه إلى ذكريات حجه.

   إذاً، هو حاج وليس مقيماً أولاً، وهو متعلق بالمكان الذي زاره على التو، وقد قامت علاقة روحية بينه وبين المكان، وتلك الذكريات التي ما برحت تدغدغه بصور غير مرتبة، واضحة مرة، وغائمة مرة، بيد أنه يفصّل بالأماكن التي شاهدها، وهنا يتجلى المكان بصورة انطباعية، منقولة عن العين تارة، وعن الشعور تارة أخرى، فيقول: هذا هو حاجز (منزل للحاج في العادية)، لا بل هو طويلع (واد فيه ماء)، ويتذكر التنعيم (موضع قرب مكّة يُحرم منه المعتمر)، ونحر الأضاحي في منى، ونفرة الحجيج من عرفة نحو مزدلفة، وتلاحقه الذكريات إلى المأزمين (موضع بين عرفة ومزدلفة)، ثم إلى منى مرة أخرى، وكأنه الآن في الحج حقاً مع أنه ليس في حج أو سعي، ولا في طواف حول أركان الكعبة، وحجر إسماعيل. ثم يذكر قصة الوحي المنزل على الرسول r فيستحضر غار حراء.. إنه استرجاع لمعنى المكان روحياً، من خلال خصوصية تكمن في أجزائه التي تمثل كل منها رمزاً، وشعيرة، وعلاقة، تشكل الذات الإيمانية عند المبدع.

  وتخرج الأمكنة من معناها الجغرافي إلى معانيها الروحية، ومن ثم إلى أبعادها الثقافية والوجدانية على جسر تاريخي للمعنى والوسم فيقول في مدح الرسول r على البحر الطويل:

وصالكم يا أهل طيبة مطلبي

وحبكم ديني وشرعي ومذهبي(23)

    هنا الجوهر المعنوي الثقافي التاريخي لطيبة، وينتقل نقلة رشيقة لصبّ معلومة ثقافية عن مجتمعها وأهلها الأصليين، والنبي من جذور شجرتها بانتمائه المجتمعي:

يحنُّ الأبطحيُ الهاشميُ الذي غدت

تخاطبه حصباؤها بالتأوبِ

يحنُّ إليه الجذعُ عند فراقه

حنين محبِّ بالفراق معذّبِ

به عَرَج الروحُ الأمينُ ولم يزل

يُرقى به حتى دنا بالتقرّبِ

إلى أن يقول:

... ولولاه ما مدّت خطاها تشوقاً

إليه المطايا من منىً والمُحصًّب

إذا ذكرَت بطحاءَ مكة عجعجتْ

وإن نظرت أعلام طيبة تطربِ(24)

   فالرسول إذاً، من قريش مكّة لا من قريش ظاهرها، وعندما يحنُّ إليه الجذع ففيه إشارة إلى تسليم الحجر عليه r عند تأوبه إلى أهله من حراء، وحنين جذع النخلة اليابس الذي كان، الرسول يستندُ إليه قبل أن يضعوا له منبراً، فمسح الرسول عليه بيده فسكت.

  ثم يتحول المكان إلى عاطفة طقس روحاني يتهجد الشاعر به، فتكبر الروح على الجسد، ويغدو المكان في كل ممتلكاته عشقاً، يتجلى في المعنّى، يسرد أدق التفاصيل في ثنيات النص الأدبي، وتكثر الأسماء، والمواضع بمسمياتها الوصفية، واللفظية، فيقول (على البحر الكامل):

يا حادي الأظعانِ رفقاً في السّرى

ذاك العقيق بدا وفاح عرارُه

وإذا أتيتَ الخَيْف من وادي منى

أنخِ المطيَّ به فقصدك جارُه

فالخيفِ فيه كل خوف آمنٌ

وبه يقصّر من أتاه شعاره

وإذا بلغتَ القصد من وادي الغَضى

فالقصد مسجدُ أحمد ومزاره(25)

  فالعقيق ذلك الوادي الذي يقود من المدينة إلى مكة، والخيف قبيل منى بل مدخل وادي منى، والخيف عندما تحلّ به تشعر بالطمأنينة والأمان، وفي منى تكون الشعيرة الطقسية وهنا تدخل حاسّة من حواس الإنسان (الشم)، ليبخر المكان بطيب الرائحة، ومكان من دواله (نبات العرار وهو طيّب الرائحة، ويسمى أيضا بهار البر) كذك (العَرْف والنشر) انتشار الرائحة الطيبة وتجميل المكان.

   إذاً لم تعد مكة وجوداً طبيعياً فحسب، بل تحولت إلى وجود ثقافي، بوصفها السجل القائم لذاكرة تاريخية تمنح مكة دلالات ومعاني كثيفة، تمتح من عمق الوجدان الإسلامي والعربي، وأضحى هذا الوجود الثقافي لمكة خزانة وجدانية غنية بالدلالات التي لا تقف عند الذات الفردة بل تتجاوزها إلى الجماعة، والمكان إلى التاريخ، والأرض إلى السماء.

   هذا الحراك الكامن يشكل الإرهاص لميلاد التفجر الإبداعي الذي يُغني الرؤية الإنسانية المبدعة في تجربة كينونتها روحياً ومعنوياً في استلهام ما بعد المعنى أي تجاوز التاريخ والجغرافيا الخاصين بالمكان إلى دفق من الرؤى مصوغة إبداعياً لتعطي تجلياً تبادلياً بين كينونة الذات في إناء الجسد، ونعني تبادل الإحساس بالمكان بين العقل (كمعرفة) والعين (كشاهدةٍ) والروح (كحاضنة) ومنتجة للأحاسيس والمشاعر.

تجليات المكان فنياً وروحياً في الشعر:

   تطورت صورة المكان في الشعر العربي بتطور تجلياته في إحساس الشاعر المبدع للنص الشعري، وقد تعطينا نظرة متفحصة لصورة المكان في النص الشعري الجاهلي وما تلاه من أعصر الشعر اللاحقة حقيقة تقول: إن الصورة المكانية تتطور بتطور المكان نفسه حيث التقدم الحضاري الذي يشهده من جهة، والوعي الاجتماعي للمعطى الحضاري من جهة أخرى.

    وإذا كان المكان الذي يمتح منه الشعر صورة، فيتجلى في الشعر بشكل واضح، هو حاضرة مأهولة، تعج بالحركة الاجتماعية والاقتصادية، فإن الحاضرة تلك تمثلها المدينة بما يحمله تعريفها الحديث من معنى عمراني وإداري، وعلى هذا نتفق مع القائلين: "إن للمدينة وجهين اجتماعي وسياسي، والصلة بين الوجهين قوية، والارتباط بينهما وثيق، والشعر العربي مشبع بالوجدان والسلام، وقضايا متطلبات الإنسان"(26).

  ولمكة أبعادٌ كثيرة، تاريخية، إنسانية، اقتصادية، اجتماعية، عقائدية، عقيدية، وظلت هذه الأبعاد تتجلى في الشعر العربي منذ أقدم عصوره حتى يومنا هذا، كما بقيت هذه التجليات، تصدر عن ذات مبدعة، بيد أنها تفاوتت في البعدين الفني والنفسي، ويظهر هذا التفاوت جلياً في زمانية العصر الشعري الذي تناول مكة؛ فهي بعدٌ تاريخي وعقيدي يصدر عن إحساس بدئي بتجريد المكان وتجزئة الصورة بين التاريخ والتعيين الجغرافي الصادر عن خبرة، بالوديان، والأيك، والبيت العتيق، ومواطن القبائل، وأيام العرب، وتجارتها وأمور دنيوية أخرى ناهيك عن الفاعلية الجنسية (النساء) والفاعلية الترفية والطيب وأنواعه والحناء وأنواعها، وفاعلية اجتماعية (التقاتل، التهادن، التصالح، الأحلاف، التبادل،) وتتعمق تجليات المكان في الوجدان، ويمتح الشاعر من أعماق ذاته الشاعرة لذا تتحول المعاني والصور والألفاظ في سياق اللغة الشعرية إلى أكثر عمقاً ورمزية وشفافية حتى تتبدى ذكريات المكان، ومعانيه الروحية والوجدانية إلى بوح شعوري شامل، وقد يتأتى هذا البوح في اللحظة الإيمانية فيتجه الشاعر بالذكر (تصورياً) أو (رؤيوياً)، أو بالاندفاع الفعلي للمشاهدة والتملي والتمثل، أي يقوم بالزيارة ثم يصور المكان مشهدياً وشعورياً ضمن أفق منظور أو غير منظور، أو ـ الحالة الثالثة هذه يمثلها أهل مكة وجيرتها وسكان مداها الجغرافي ـ السياسي ـ بالتأمل والمراجعة والتمثيل الثقافي ببعديه المعرفي والشعوري.

   لذا "حفل الشعر العربي برموز المكان وصوره منذ القديم، وتناثرت فيه الإشارة إلى أعلام مكانية وموضوعية، وبدا تقصّي الأشياء وتفاصيلها الحسيّة وعلاقاتها وجهاً من وجوه الحاسّة المكانية في الوعي الإنساني، واقترن ذلك بمعان عميقة تتجاوز الدلالة على المكان في ذاته إلى الدلالة على الوجود الإنساني، وهو يتأمل وحدته وغربته، أو يحنّ إلى الماضي ويتذكر الأنس والدعة والألفة، أو يقلق من علامات الإمحال والعدم والجفاف، أو يستشرف الخصوبة ويتطلع إلى الأمن.... وكل ذلك دوال وجودية تتعالق مع أحاسيس الزمن والحياة والموت والفراغ الروحي، وتحتال على الذاكرة والوعي بما يشبعها من المعرفة والصور التي تتخذ المكان ذريعة  للقبض على زمن يفلت دوماً، من العمر"(27).

   ولا تنفصل في هذا المعنى دلالات وقوف الشعراء القدامى على الأطلال(28) عن دلالات الحنين إلى البلدان والمدن، والعكوف على وصفها، وبثها الأشجان، أو رثائها في أعقاب الكوارث أو التغييرات الزمنية والاجتماعية التي يجد الاستقرار الحضري فيها وجهاً مشابهاً للأطلال في تلك الدلالة، مضافاً إليها دلالات المجتمع الحضري في البيوت المتطاولة، والسكن الفاخرة، واختلاط أشتات الناس والانفتاح على التجدد، وانعقاد الجماعة على ما يؤسس لاستقرارها... والشعر العربي يطفح بمثل تلك الدلالات.

    وهكذا يبدو المكان في الشعر دوماً مقترناً بالزمان، بل يشكل المكان الجوهر أو الروح بالنسبة للزمان، وعلاقة الزمان بالمكان على رأي صموئيل الكسندر (1938)SAMUEL ALEXANDER كعلاقة الجسم بالروح، فلا يكون الأول إلا بوجود الثاني... وإذا استقل المكان عن الزمان كان ميتاً لا حياة فيه(29).

   كما يبدو المكان في الشعر ـ أيضاً ـ قريناً للمجتمع إذ هو الأساس الذي يمنحه قيمته، سواءٌ تعلق الشعر بمكان الحبيبة، أم بمكان الأهل والأسرة والوطن، أو بما تألفه النفس وتستأنس به، ولهذا قال دور كايم (1917م) EMIL DURKHEIM: إن المجتمع هو الأساس في تحديد مفهوم المكان(30).

   "ومعنى ذلك أن موضوعات الحديث عن المكان في الشعر التي تكرر الحنين إليه، أو تذكر ماضيهن ورموز تاريخه، أو تعكف على وصف أشيائه وتفاصيله وأجزائه، أو تنفذ إلى امتيازاته الدينية أو تتذرع به إلى وصف أهله، وما تربط الشاعر به من روابط، أو تتغنى بمواضعه، وتطلق مواجدها الروحية في بقاعه، أو تستعيد به ذكريات الطفولة والشباب، أو مجد الماضي ورغد عيشه واطمئنانه... كل تلك الموضوعات المكرورة ترتب المكان على الزمان والجماعة، ومن ثم تتوسل به في الشعر لإدراك الوجود والقبض عليه، وموضعه و(مَوْضَّعَة) مجردة في المحيط المحسوس؛ بذات القدر الذي تجرد فيه هذا المحسوس المكاني، وتطلقه من أسر المادة أي تصيّره زمناً... في حركة عدول وإنزياح للصورة والرمز، حيث تحيل المكان إلى زمان، والزمان إلى مكان، فلا ترى الأشياء ومحيطها ومواضعها إلا في سياق التبدل والتحول، مثلما لا نرى التبدل والتحول والصيرورة إلا مشهوداً في الأحداث... ومُدللاً عليه بالمكان والمواضع والأشياء...."(31).

   هذا التصور للمكان ـ إجمالاً ـ في الشعر يبدو بمثابة خلفية ضرورية لتوليد أسئلة البحث عن مكّة في الشعر، وسبل تصويرها وترميزها شعرياً، فما هي موضوعات الشعر المكرورة في تناوله لمكة؟ وكيف تتلاقى دلالات مكة عند الشعراء، وما الذي يخص صورتها في الشعر عن غيرها من الأماكن والمواضع؟

  أسئلة تجيب عنها ملحمتان، الأولى للشاعر أحمد محرم (ديوان مجد الإسلام)(32)، والثانية: للشاعر الشيباني (محمد النبي العربي)(33)، ومطولتان، الأولى للشاعر أبي الفضل الوليد (الرؤيا النبوية)(34) والثانية، للشاعر نفسه (القصيدة المكيّة)(35)، وقصيدتا (محمد) الأولى للشاعر عمر أبو ريشة(36) والثانية للشاعر محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل)(37) بعنوان الكعبة الزهراء).

   فالشاعر أحمد محرم يذكر مكة، وعقائدها قبل بزوغ فجر النبوة، ويعدد مواقعها، وأصنامها، وعشائرها، ومعاناة النبي في بدء الدعوة، ويتناول أول موطن لتأمل الرسول (غار حراء)، المكان الذي وجده الرسول أكثر أمناً، وأكثر رحابة للاستغفار والتعبد:

ظل مستخفياً بغار حراء     يعبد الله عائذاً مستجيرا

   ثم يحدد مكانه (دار الأرقم بن أبي الأرقم) في حركة الدعوة باتجاه العلانية مما يدلل على إعطاء الشخص للمكان وجودية معنوية، تظل تشكل الشاهدة الأهم في قلب المكان الكبير... أي تجسّد الجزئية في الكلية:

ودعا الأرقم استجب، تلك دار يتسعُ الدين مخرجاً محصورا

وافها واجمع المصلين فيها  عصبة ـ إن أردت ـ أو جمهورا

   ثم ينعطف إلى تعلق النبي بمكة، وحبه لها، واضطراره لهجرتها تحت ضغط أعدائه:

ما في البلاد أكرم من مكّـ     ـة أرضاً، ولا أحب عشيرا

  ويقف الشاعر عند غار ثور (الغار الأكبر)، وينزاح عن وضعه الطبيعي كونه مغارة تشكّلت بفعل الظروف الطبيعية ببدائية بديهية، إلى وضعه المعنوي، والإحساس الروحي حيث تصعد النفس إلى ما وراء المكان وحيثياته، لتطمئن في رحاب معتقدها:

غار ثور، أعطاك ربك ما لم يعط من روعة الجلالِ القصورا

أنت أطلعت للممالك دنيا   ساطعاً نورها، ودنيا خطيرا

صنته من ذخائر الله كنزاً    كان من قبل عنده مذخورا

مَخْفرُ الحق لاجئاً يتوقى      قام فيه الروح الأمين خفيرا

____________

(1)  سورة إبراهيم، الآيات " 35 ـ 37.

(2)  مجلة التاريخ العربي، د؟ محمد السيد علي بلاسي، جامعة الأزهر، العدد (32)، خريف 1425هـ/ 2004م، ص 220.

(3)  المصدر السابق، ص 221.

(4)  مكة المكرمة في الثقافة المغربية، أحمد الرسيوني، المصدر السابق، هامش (5)، ص 221.

(5)  أثر الحج في الحياة الثقافية والاجتماعية عبر العصور، محمد الحبيب الهيلة، المصدر السابق، هامش (6).

(6)  بحث مقدم إلى مجلة كلية الآداب ـ جامعة دمشق، مازال في محفوظاتها المعدّة للنشر، ولمّا وضع بين يدي كُتِمَ اسم الباحث على مجرى العادة قبل النشر، ولضمان نزاهة التحكيم، لذا سأشير إليه كلما اقتبست منه بـ /بحث ـ مجلة/.

(7)  ضياء السالك إلى أوضح المسالك، محمد بن عبد العزيز النجار، مصر 1491ه/ 1981م، ص 129.

(8)  المصدر السابق، ص 59.

(9)  إشكالية المكان في النص الأدبي، دار الشؤون الثقافية العامة، ياسين النصير، ط1، بغداد، 1986، ص 395.

(10)  درس الابستيمولوجيا، ط2، دار توبقال، عبد السلام بنعبد العالي، الدار البيضاء، 1998، ص 164 ـ 165.

(11)  المعجم الفلسفي المختصر، عدد من المؤلفين، ترجمة توفيق سلوم، ط1، دار التقدم، موسكو، 1986، ص 475.

(12)  سورة آل عمران، الآية 96 و97.

(13)  الجامع الصحيح البخاري، كتاب الأنبياء، الباب التاسع، وتفسير الآية لدى ابن كثير، في تفسير القرآن العظيم /1/ 383.

(14)  كتاب البلدان (طبعة أوربا) ابن الفقيه، ص 18، نقلاً عن د. شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ط3، دار المعارف، مصر، 1976م، ص 50.

(15)  الصاحبي في فقه اللغة وسرّ العربية، أحمد بن فارس، مطبعة المؤيد، ص 23.

(16)  أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني، دار الفكر، بيروت، 1407هـ/ 1986م، 21/ 206.

(17) العصر الجاهلي، د. شوقي ضيف، ص 50 ـ 51.

(18) الجاحظ أبو عثمان، الحيوان عبد السلام محمد هارون، ط3،ن دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1388هـ/ 1969، 3/ 139 ـ 141، وصلاح في الأبيات (اسم) من أسماء مكة.

(19) (البحث ـ مجلة كلية الآداب ـ جامعة دمشق).

(20) تعمدت في ترتيب هذه الفقرة على البحث المنشور في مجلة التاريخ العربي، للدكتور بلاسي، العدد /32/، بوصفها معتمدة على أمهات الكتب التي شكلت مصادر ومراجع البحث المذكور.

(21) (أسماء مكة والمدينة في اللسان العربي)، د. محمد السيد علي البلاسي، دار الولاء للتراث، ط1، 2003.

(22) القصيدة من البحر الطويل، شاعرها غير معروف، ورد في مخطوطة (مسامرة الندمان ومؤانسة الأخوان)، تحقيق د. وليد مشوّح، مراجعة وتصدير على حمد الله، إصدار مركز زيد للتراث والتاريخ عام 1423هـ/ 2003م، وهي من تأليف عمر بن محمد الرازي (ت 728هـ/ 1328م)، ص 151 ـ 152.

(23)  المصدر السابق، ص 152.

(24)  المصدر السابق، ص 152 ـ 153.

(25)  نفسه، ص 162 ـ 163.

(26) المدينة في الشعر العربي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة /196/، د. مختار علي أبو غالي، المجلس الوطني للثقافة والفنون و الآداب، الكويت 1995م، ص 179.

(27) بحث، مجلة جامعة دمشق ـ كلية الآداب.

(28) للأستزادة يراجع: الصورة الفنية في النقد الشعري، د. عبد القادر الرباعي، ص 234، ويوسف اليوسف ومقالات في الشعر الجاهلي، ص 148.

(29)  المكان ـ الزمان ـ الألوهية، صموئيل الكسندر، 3/ 920 وما بعدها (عن البحث).

(30)  علم الاجتماع والفلسفة، محمد قباري إسماعيل، 2/55 (عن البحث).

(31)  عن البحث.

(32)  ديوان مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلامية، أحمد محرم، أشرف على تصحيحه ومراجعته محمد إبراهيم الجيوشي، مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1963.

(33) الذبياني، محمد النبي العربي (الملحمة الشعرية)، منشورات المنشأة الشعبية للنشر والإعلام والتوزيع، ليبيا، 1981 ـ ط2، لم أعثر على ترجمة صريحة له، ويخيل لي أن الاسم قناع لا يريد الشاعر إسقاطه، وقد طبع الديوان لأول مرة في بيروت 10 رمضان 1387.

(34) أبو الفضل الوليد ـ الديوان ـ مراجعة وتقديم جورج مصروعة، منشورات دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط2 ـ 1981، ص 85 وما بعدها.

(35) ومستلة مستقلة، منشورات دار العروبة ـ نفسه، ص 366، دير الزور، سورية، 1984م.

(36) عمر أبو ريشة ـ الديوان ـ منشورات دار العودة، بيروت، لبنان، عام 1984م.

(37) بدوي الجبل ـ الديوان ـ دار العودة، بيروت، لبنان، ط1، 1978، ص 61. 

   ومن الغار يخرج بفنية عالية، تدل على حسن الالتفات، ومن لدغة الأفعى يستحضر الشاعر أهم جبلين في المكان، وكأنه يرى فيها لزوم ما يلزم للتغني بذكر جزئيات المكان الكبير (مكة)، والتي تمثلت بجبلي رضوى وثبير:

ليت شعري: أصبتَ حيّة وادٍ

تنفث السُمّ، أم أصبت حريرا(1)

نفثت سمّها فما هزّ رضوىً

من وقار، ولا استخفّ ثبيرا

  وكما عرض الشاعر لشواهد ثابتة، ومعالم قائمة، تعرّض وهو في سياق التسلسل التاريخي للهجرة العظيمة إلى شواهد متحركة ـ طارئة، ترك للمخيلة تحديد مكانها في تساوق السرد التاريخي للحدث، فأوجد خلال إدرار الشاة بعد جفاف ويأس، وترميزاً للفقر ولقحط والإدقاع:

ما حديث لأم معبد تستسـ

ـقيه ظمأى النفوس عذباً نميراً

سائل الشاةَ كيف درَّت وكانت

كزّة الضّرع لا ترجى الدرورا

  وتكون المحطة الأولى في (قباء)، والبدء في بناء المسجد، والشخوص الصحب الذين ساهموا في بنائه:

يا حياة النفوس، جئت قباءً

جيئة الروح تبعث المقبورا

ارفع المسجدَ المباركَ، واصنع

للبرايا صنيعك المشكورا

   وبعد سرد وتفصيل حملته قواف مختلفة، وأبحرٌ خليلية، يصل في الصفحة /279/ إلى وقعة الفتح الأعظم، وفي تفاصيل الوقعة، وضمن خطط عسكرية محكمة، نتبين مواقع أمكنة السرايا، والألوية، والكراديس، وعلى رأس كل منها شخص من القادة، عقد له الرسول الراية؛ إذ جعل r لواء المهاجرين مع الزبير بن العوام وأمره أن يدخل مكة من (كداء)، وأن يركز رايته بـ (الحجون)، وبعث خالد بن الوليد في كتائب من قضاعة وبعض القبائل الأخرى، وأمره أن يدخل من أسفل مكة... ولما اشتد القتال على الخصوم، صاح حكيم بن حزام، وأبو سفيان: يا معشر قريش من دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن... وهكذا دخل المسلمون مكة منتصرين:

ديار مكة هذا خالد دلفا

فما احتيالك بالطود الذي رجفا

ديار مكة أمّا من يسالمه

فلا أذى يتّقي منه ولا جنفا

تلك الوصية ما يرضى بها بدلاً

ولا يرى دونها معدى ومنصرفا

...هذا الزبير تراءى في كتائبه

كالسيل لا تمسك الأسداد ما جرفا

يلقى كداء به والخيل راكضة

ما قال حسان من قبلي وما ازدهفا

   ونتعرف من خلال هذا المسرد الشعري على المحصّب وهو خيْف بني كنانة وهو الذي تحالفت فيه قريش وكنانة على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب حتى يسلموا النبي إليهم، وقد فتحت مكة، ونزل فيه الرسول لإثبات قوة الحق:

خذ المحصَّب إن وافيته نزلاً

واذكر به ذلك الميثاقَ والحُلَفا

   أما الشاعر الذبياني(2) في ملحمته الشعرية ـ التاريخية: (محمد، النبي العربي) فيبدأ بوصف مكة ويستقي صورها من روحه، وإيمانه بقدسيتها، ويحث المأزومين على زيارتها، لتطهير أنفسهم، وتنقية أرواحهم، لأنها المكان الآمن، وموطن الأمين، والارتباط الروحي بالتاريخ من خلال تملي معنى الأرض؛ ويورد بتبادلية فنية عالية، رموزاً يرى فيها علاج الروح من أدرانها، لأنها أصل المعنى، والوصول إلى الأصل يؤدي إلى الطمأنينة والسلام:

في مكة واحة الصحراء حيث بها

تندى العيون ويبدو تربها عَشِبُ

وحيثما تسكن الدنيا على أمل

زاه، يحنّ إليه الفرد والسربُ

في كل جاذبة سدّ تلوذ به

إن جار طقس، ربوعٌ حلوة هضب

...والمبرع الضاحكُ الزاهي الظليل حمى

تندى طبيعته خيراً وتحتلبُ

يرتاح في ركبه الركبان من شظفٍ

ويُشبع الجوع والجوعى به حلَبُ

ينساب في أمنه في كل ناحيةً

دربٌ، ويكثر فيه الأخذ والطلبُ

هذا إلى القدس والثاني إلى يمن

وذا لجدة والأقوام إن ذهبوا

   فهو إذاً يصوّر طبيعتها، مياهها، نخيلها، أيكها، طرقها، وديانها، خيراتها، تجارتها، رفاهها، أي أنه يصور الطبيعة، والمواصلات، والحالة الاقتصادية فيها.

    وفي مقطعه الذي وسمه بـ (بناء مكة) يعرض لتاريخها (كحاضرة إنسانية موغلة في القدم) وكشعيرة إعتقادية دينية، وكعلائق اجتماعية، وكحراك تاريخي منطقي يجري مجرى سلساً يتواءم مع التطور الحضاري  العمراني الإنساني:

بناء مكة لم يعرف به زمنٌ

ولم يحدده في تاريخه أجلُ

منذ القرون رأى التاريخ آهلها

ورانَ بين رباها مثقلاً أزل

إن قيل إن بها إسماعيل مسكِنه

فقل: عليها وفيها قامت الأول

وأنها بعبادات مضت حَفَلَت

وأنها بعرى الأزمان تتصل

وأن فوق منى عزًّ الفداء وقد

أُنيخ عمن تمنوا فدية حمل

وأنَّ هاجرَ لمّا وابنها ظمئا

انشق زمزم والعطشى به نهلوا

وعند زمزم سُرَّ الرائحون وفي

أجنابه بين من كانوا، ندى نزلوا

وأينع الأجرد الملتاع وانفتحت

على الثراء وحُسن العيشة السبل

وأزوجت جرهم اسماعيل واحدةً

منها وحامت على من أزوجت نُزُل

فشاء هذا عتيد البيت وابتدأت

قبائل العُرب في دنياه تنتقل

وخفّ للبيت من شاء الثواب ومن

من ربه قدراً في الخلد يأتمل

وأزهرت مكةٌ في المجد، وانتصبت

فيها البنايات بالإثراء تكتحل(3)

   نلاحظ في شعر الحكاية والشعر التاريخي، وحتى في الشعر الوصفي، بأن مكة كحاضرة تشكّل المحرَق للغاية والسيرورة الشعرية في تناول الحدث، أو الشعريرة، أو الدعوة إلى التمسك بأهداب الدين، والكثير من الشعراء ـ على مختلف أهدافهم وأغراضهم الشعرية ـ انطلقوا من الحاضرة المقدسة لتسجيل الحراك الاجتماعي الذي أسس لقيامها، سواء في البنيان، أو المعنى. فضلاً عن تجليّ الحاضرة إياها في القصائد التي تتخذ من الحج، أو الهجرة، أو ميلاد الرسول r، أو تاريخ الإسلام موضوعاً، كما سبق وأسلفنا وتوضح ذلك في النماذج التي اخترناها لتبرز تجلي هذا المكان في الشعر، طبيعياً، معنوياً، جغرافياً، عقيدياً.

    فهي قديمة قدم تاريخ إنسان هذه المنطقة، وزمزم الانبجاس المائي المعجزة التي تشير إلى قدرة الباري عزّ وجل،ن ومنى المذبح التي تجسد الفداء والصدق والمعاناة في القصيدة، واخضرار الطبيعة تدليلاً على الخصب وكرم الطبيعة وطيبة الأرض وسر التراب، والقبائل المقيمة والزائرة لممارسة الطقس الديني وثنياً أو توحيدياً، ولم يهمل الشاعر تجليات الرفاه والطمأنينة، بل حدد مواقع الأوثان التي سحقها الإيمان، فأزالها كاملة لتلغي المأخذ على الروح والعقل، فجعلها مجرد رمز اعتمد على الماضي الناقص (كان) ثم امّحى.

تجليات مكة مكانياً ومعنوياً:

    تجلت مكة في الشعر لتبيّنِ سويات الوجدان والمعتقد والمشاعر، ولتجسم الرموز، وتمنح بعداً جوانياً للثقافة التي مرت بها من جهة، وثقافة الشاعر ووعيه لمعنى المكان من جهة ثانية وهذا مستجد على الشعر، إذ ألفنا الإحالات المكانية أكثر تجديداً، بينما وجدناها في مدارها حول مكة تجسد العلاقة ذات الخصوصية الشافّة مع المكان على ما نعرف من قبل (قبل عصر الإسلام)؛ عن (سقوط اللوى)، و(الدخول) و(حومل) و(توضح) و(المقراة) و(بُرقة) و(الريان) وأماكن كثيرة حفل بها الشعر الجاهلي الذي كان يستهل القصيدة إما بالوصف التجريدي ـ الصوري للمكان أو تمثل المكان بماضوية تعادل موته، فيقف الشعر على الأطلال.

   بيد أن المكان الطبيعي الذي يخص مكة في متناول الشعر، تجلى بمعان روحية وطقسية وإيمانية محمولة على حاملات دلالية إيمانية.

العشق والحنين:

   كثيراً ما ينفعل الشاعر في غايته الشعرية فتصدر حافلة بالحنين والشوق والعشق الصوفي، إذ تظهر علاقة تبادلية بين الصائغ (الشاعر) والمكان (مكة والطريق إليها) والدابة الوساطة للوصول إلى المكان، وثمة رابع هو (الشاهد ـ رفيق السفر)، وكثيراً ما تتماهى العلاقة بين المتحرك والجامد لتتحول بمجملها إلى توق روحي ووجداني يخلق بدوره علاقة حميمة بين المبدع والمتلقي.

   وإذا كان في الحنين رجوع إلى الألفة، وتوق إلى الأمن والطمأنينة والاستقرار المكاني، فإن صورته تمثلت في قول الشاعر العشاري:

ويخطف أرواح العدى بحسامه

كما تجتني الفرصادَ طائلة الأيدي

...حبيبي متى أروي الفؤاد بلثمة

من الروضة الغنّاء في طالع السعد

حبيبي متى أزجي القلوص بطيبة

فتربتها كالكحل في الأعين الرمدّ

   إذاً الفرصاد، التوت الأحمر البري وقد ألفه الشاعر في مكة أو خلال مسيرته باتجاهها، وذلك التوق الذي نراه، يعتمل في صدر الشاعر ليبل شوقه من ترب مكة ـ طيبة، وشواهدا وتربها... ليحقق الهدف من لقاء المنشود، وتحقيق المقصود.

  أما عمر أبو ريشة(4)، فيجري تبادلية بين سمو المكان، وفاعلية الذات ويرى في مكة (المكان) سمواً يربو على الإحساس، ويسيطر على الروح، فهي تمتلك الذات الإنسانية المؤمنة، إذا ما حلَّ الحاج فيها:

حلُّ في مكة وجهك في الترب

خضيبٌ ووجهه في السماء

   أما الشاعر أبو الفضل فيرى في مكة ما هو أبعد من المكان، وأشمل من التاريخ فهي التي تجلت للإنسان، ولم تتجل في شعره، وإنما صاغها (التجليات) قابساً من روحه وجدانية، لإبراز معانيها الشمولية الفذّة:

برزت وقد شقت حجاب الأعصر

بنتُ النبي الهاشمي الأكبر

وكأن صفحة ذي الفقار جبينها

ولحاظها من حدّه المتسعر

روحي الفداء لحرّة نشأت على

حبّ الأسنة والظبى والضّمر

ضاقت بها الصحراء فانفتحت لها

أبوابٌ كسرى والعزيز وقيصر

فغدت تقود إلى المعارك خيلها

وتجرجر الديباج فوق المرمر

واليوم قد ظهرت تعيد جمالها

وجلالها فتخضبت بالأحمرِ(5)

   وفي القصيدة دلالات دون تسمية المكان، وأدل هذه الدلالات أنسنة المكان وإنزاله منزله فلذة الكبد، بالنسبة لابنها الرسول صلى  الله عليه وسلم ، وثاني هذه الدلالات عمقها التاريخي، وقداستها، كذلك بساطتها، وصلابتها، وحراكها الجهادي، وانتصارها على إمبراطوريات وممالك العالم.

  ويقدم في قصيدة أخرى المعنى الوجودي الشمولي لمكة كمكان في الظاهر وفي المبطن كفاعلية إيمانية دخلت صدور المؤمنين بفجرها السني:

ولا راية إلا التي طلعت لهم

مبشرة بالعتق بعد العبودية

بها أشرقت بطحاء مكة حرة

وقد ظللت أرضي وقومي وعترتي(6)

   إن الصور التي بناها الشعراء الذين عرضنا لسيرورة مكة في شعرهم؛ تبدو بما وفروه لها من عناصر قادرة على الاستقلال عن ذواتهم الفردة، لتحل في المسافة الممتدة بينهم وبين المتلقين (كمرسلين  ومستقبلين)، مرسلة دلالات روحية تشع بالتوق واللهفة والتطلع إلى قداسة المكان وأسراره الروحية جوانياً وبرانياً، كذلك فهي تكشف عن وشيجة مجلة لها، وهي متموضعة في النفوس استبطاناً يعلقها بها، ويجذبها إليها، كما ينجذب العاشق إلى معشوقته.

   فالشاعر المكي محمد حسن الفقي(7)يحن إليها وهو بين يديها، وهو حنين يعصف فيه العشق، عشقٌ صوفيٌ توحد بالمكان ورفعه إلى قمة إنسانية المحسوسة:

أنت عندي معشوقة ليس يخـ

ـزي العشق منها ولا يمل العشيق

الفضاء الروحي ومعانيه:

   وهنا يمكن أن نقسم الجملة الدلالية الواردة في النص (المكّي) على حامل (الحنين، الشوق، الحراك الروحي المتعلق بهما) ومحمول هو الفضاء الروحي ومعانيه.

   وامتداد القصيدة بعد ذلك، ليس إلا تكراراً للدلالات، وتبادلية حيوية بين صيروراتها في النص، وسيروراتها ضمنه، وهذه التبادلية بين البرانية والجوانية، تظهر النص أحياناً على شكل انطباعي، وأحياناً أخرى على شكل شعوري يمتح في أعماق الداخل.

يقول الشاعر طاهر النعسان:(8)

حيِّ الحجاز وحيِّ البيت والحرما

ورح به طائفاً والركن مستلما

واستشعرنْ عظم الخلاق مرتدياً

من الرداء جديداً فيه محتشما

وجدَّ في السعي بين المروتين ضحىً

وأدرك اليوم من مسعاك مغتنما

فالمرء من دونها مهما علا خُلقاً

ينحط قدراً ويبقى الدهر متهما

ونقِّ قلبك من غل ومن حسد

عند الصفا واطّرح إثماً به اكتتما

إن الصفا مشعر لله محترمٌ

فالزم به الصفو يا فوز الذي لَزَما

واصعد إلى عرفات ذاكراً صمدا

ملبياً حامداً مولاك لا سئما

وقف بموقف خير المرسلين على

صخر هناك وخل الدمع منسجما

واذكر إلهك عند المشعرين إذا

أفضت من عرفات خاشعاً ندما

عند المحصب من وادي منى اضطرح الـ

ـجَمرات واحذف بها سبعاً ولا جَرُما

   هذه الدوال الإبدالية لمكة وأحيائها وشواهدها ومشاعرها (مفردات مشعر وليس شعور) "البيت الحرم، المروتان، الصفا، عرفات، الإشراف على الصخرة، المشعران، المحصّب...) بما تحمله من تنوع مكاني جزئي ضمن المكان الكبير (مكة)، وشعائري الحراك الذي يفصله الحاج، لم يرد الشعر منه إعطاء درس في مناسك الحج، وهو يعرف أن المتوجه لأداء الفريضة يعرف التعاليم كلها؛ بيد أنه أراد أن يرسم تجليات المعنى الروحي للأمكنة التي ذكرها، ومن خلال فعل الأمر (حيِّ، رُح، استشعرن جُد، أدرك، نق، اطرح، الزم، اصعد، قف، خلِّ، أذكر، الزم...الخ)، أفعال أمر قاطعة تدل الدوال قسراً في فضاء الروح، لتتبدل المعاني وتتجاوز حرفيتها المعجمية فتتحول إلى معانٍ روحية في إطار تاريخي طقوسي، وثمة حركة فنية أخرى لدلالات المعاني إذ تخلق بشفافية لافتة ثم علاقة مع البعد الماورائي للرمز الذي يمثل بدوره البعد الإيماني في الخلد الذي أصدر النص وعلّقه على خمسة عشر فعلاً جاءت بصيغة الأمر ضمن أحد عشر بيتاً من الشعر، وغايته ارتفاع النبرة الإيقاعية على حرف الميم المفتوح على الفضاء الشعوري والموجه أصلاً للمتلقي بأمر أيضاً لأنه يتمثل الفضاء الروحي ومعانيه في النص الحراكي.

   إنه يرسم لوحة طقسية، كرقية أو تعويذة، تدفع الشك وتؤكد اليقين بقداسة المكان، وصدقية الفعل (ضمن ممارسة الشعيرة) مع ثمانية أمكنة تتموضع في المكان الكبير مكة المكرمة.

  والدالة الأكيدة على صدقية ما ذهبنا إليه في تشريح القصيدة الآنفة، هو ختامها في تأكيد العلاقة بين المكان الذي أخذ عظمته من فجر إيماني، والإنسان الذي اعتمر قلبه بسنى الإيمان فمضى إليه يقتبس من معانيه الروحية.

لله أم القرى منها لنا انبثقت

أشعةُ النور تُهدي التائهِ البَرِما

    ويغالي البعض، كنوع من العودة إلى الجاهلية في تقديس المكان وشواهده وقد عرفها الشعر الجاهلي في أساليب القسم (أقسمت بالبيت العتيق)، كذلك بالأصنام (اللات والعزى ومناةٍ وهبل...) فتكون العودة إلى مثل ديّاك القسم، وهنا أستطيع الزعم أن العودة هذه تمثل إنشاءً صادراً عن حرفية شعرية، تقوم على الصياغة، لا لخدمة موضوعة الغرض الإيماني، وإنما لخدمة موضوعة تجافي المعنى الذي عرضنا لـه، وجدنا هذه الغاية عند شعراء كثيرين آثرنا أن نقدم نموذجاً واحداً، لأنها تعدد المكان، فالتجلي المكاني هنا هو لمجرد الثقافة به، وليس لكونه بعداً ثقافياً أو إيمانياً أو تاريخياً، والدليل الذي يؤكد ما ذهبنا إليه آنفاً، أن القسم شمل المكان والأشخاص، وتجاوز الأكبر منها جميعاً.

يقول نديم محمد (9) في قصيدة بعنوان معابثة:

بشرفي ومذهبي

ودين أهل الكتب

ومن سرى في ليلة

من مكة ليثرب

وحمزةٍ... وحيدرٍ

وفاطم وزينب

والحل والإحرام في

محرّم أو رجب

والمشعرين والصفا

وزمزم والعرب

لم تعشقي مني ولم

يطربك غير الذهب

   إنه مجرد قسم تجريدي لا يصدر عن إيمان؛ إنما جاء عن قناعة بقداسة رموز مكانية وإنسانية بالنسبة لمحيط الشاعر وكانت مكة وجزئيات من أمكنتها حاضرة في النص الشعري الذي هو أقرب إلى الصياغة الطريفة منه إلى الصياغة التي ترمز إلى عشق وحنين وفضاء روحي مفتوح على الذات.

المعاني الدلالية ـ الإيمانية:

  "...تأخذ مكة في الشعر دلالة تفضيلية على غيرها من البلدان والأماكن، وهي دلالة تحيل إلى الصورة الذهنية التي تتبوأ مكة فيها، بموجب النصوص القرآنية والنبوية والتاريخية موقع المراكز والأولية، فأول بيت وضع للناس فيها، وهي قبلة المسلمين، ومحجهم، وعاصمة الجاهليين في عصرهم، وتاريخها منذ القديم ناطق بهذه المركزية في المستوى المدني، تجارة وثقافة واجتماعاً وسياسة، وقد سمّاها القرآن الكريم (أم القرى) لهذه الأسباب، يقول الزمخشري في تفسيره قوله تعالى: rولتنذر أم القرى ومن حولهاr(10).

   وسميت مكة (أم القرى) لأنها أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم الرقى شأناً(11).

  ونجد تفضيل مكة على غيرها مبثوثاً بصيغ مختلفة في كثير من القصائد الأمر الذي يجعل له صفة الموضوعة المكرورة التي تجاوز بالدلالة الفرد إلى المجموع، وإلى الثقافة، مختصرة النصوص السردية النثرية، ورامزة إلى ما تدخره من أسرار مكة وحراك القصائد فيها.

يقول محمد حسن فقي:(12)

مكتي أنت لا جلال على الأرض

يداني، جلالها أو يفوق

... لكِ فضل على المدائن يا مكـ

ـة ما يجتويه إلى المروق

لصقت بالتراب أجسامنا الغِلف

فأهوى إلى اللصيق اللصيقِ

   الشاعر هنا يخص مكة بالجلال والفخار والخصوبة، ويصنعها مفضلة على المدائن الأخرى.

   أما أحمد قنديل(13)، فيستوحي من (أم القرى) معاني الأمومة عندما يؤنس المكان وينطقه، ليجلس أمامه بجلال، يستمع إلى الحديث الحنون:

أنا أم القرى، بعدتم وغبتم

أم أتيتم قصد الزيارة أجراً

...تلك يا مكتي مقالة أمِّ

فاز فيها البنون بالحبّ طرّاً

   هذان البيتان في سياق القصيدة توقفنا على أمومة رمزية تسبغها مكة على الناس منزلة أبنائها، وهي تحيل الأفضلية من الذاكرة إلى الشعور، ومن الباطن النفسي إلى التاريخ وبالعكس... وهكذا يطل الشاعر على مكة من نافذة الخيال، مشيراً إلى معناها (الحناني) مبتعداً عن الإشارة إليها بحسيّة.

الحراك الإيماني الجواني:

   قد يقف مغرم بالتاريخ على أطلال آثار درست، وقد يتلمس ما تبقى منها، أو يقرأ على حجر من أحجارها كليمات تدل على حضارة أهلها؛ فإن الوقفة تلك قد تعيده إلى الوراء كثيراً أو قليلاً، وقد تتعب قدماه، أو تحرقه أشعة الشمس الطالعة في حمّارة القيظ، لكنه عندما يقف أمام مكة، يكون قلبه السابق إلى الرؤية، وتكون روحه المستفيضة من المعنى، وعيناه المشوقة إلى المبنى... هذا الحراك الذاتي مضافاً إليه ما شرّعه الإسلام لمكة من حُرمة وأمن، وما تمثل لها تاريخاً من عزة وحرية، ينتهي بنا التصور إلى تملي أفق المكان الذي يتجسم في موضوعة شاملة لها آفاقها ورموزها ودلالاتها ومناحيها النفسية والمعنوية، فيتوجه الخطاب إليها مباشرة، يقول الشاعر محمد حسن عواد:(14)

الأصابيح والأماسي ينبضـ

ـنَ حياةً، على ثراك شهيه

كم تشهت مذاقها أمم الغر

ب فطارت بها الأماني العتيه

كل أصبوحة تتيه بعمـ

ـلاق تباهي بشأنه أمسيّه

وجبال مفتونة بالرمال الـ

ـميث ممراحة الضباء الأبيه

يسرح الذئب في مساهبها الد

هم، وتهفو القطاة والأرويّه

   فالأبيات جميعا قائمة على صورة لمكة تنفي الهيمنة والقهر والاحتكار، اجتماعياً وطبيعياً، وتعرض ذواتاً متحدة على الرغم من التنوع، وهو تنوع يقوم على الحرية بعيداً عن القسر والقولبة، وهذا ما يجعل مكة زمناً نابضاً بالحياة، وليس مكاناً فحسب للسكنى والتجمع والسمر، من هنا تكون التبادلية بين الفكر الخلاق والمكان العملاق.

    لقد حفل الشعر العربي ـ قديمه وحديثه ـ وسيظل، في تقديم الصورة الإنسانية والصورة التاريخية، والصورة الاجتماعية لمكة، وعنها، وستظل مكة المدينة والمعنى تطفح بالمعاني والدلالات المعيارية للشعر الذي يتوجه إلى مكة.

الخاتمة:

   إنها جولة في مجاني الشعر الذي طلع علينا مطبوعاً، وقد تناول مكة من خلال عدد من الموضوعات التي تستحيل بها إلى رمز ودلالة، بل تتبادل الدلالة مع الرمز الأمكنة والإيحاءات، مكة البدء بين الخرافة والأسطورة والحقيقة، حيث يمثلها الفضاء الزماني، ومكة المعنى بشقيه البراني والجواني وتمثله فضاء الحركة صامتة ـ ساردة، شاردة، وفي الحركة هذه تتجسد المعاني الروحية، والدينية، أحياناً بعقلانية، وأحياناً بتخيلية، وثالثة بخيالية، وأخرى بغنائية ظاهرة أو محسوسة، المهم أن المكان ينقلب من الشيئية الحيادية الصامتة، إلى كون ذاتية تمتد متعلقاتها إلى الروح والعقل كل على حدة، أو بتضافرهما معاً.

   ناهيك عن أنّ مكة قد أخذت أو تحولت في النص الشعري إلى نبض ضاغط يلح على الوعي عند الشاعر وربما يتعداه إلى ما وراء الوعي.

   المهم في الأمر، إن الشعر نظر إلى مكة جغرافياً وتاريخياً، ولكن نظرته التاريخية إليها تغلبت على النظرة الجغرافية، كذلك نظر إليها نظر مكانية إلى جانب نظرته إليها ثقافياً، لكن النظرة الثقافية باتت أشمل وأعم كلما تقدمت التقانة وحسن التعامل مع وسائلها، وكلما انتصر النقد الأدبي في مجالاته المختلفة.

   فالشعر بوصفه أحد أبرز تجليات الثقافة، وأهم مظاهر التدليل على الذاكرة، وأدق وسيلة لتوليد كينونة الوعي الإنساني، تناول مكة من باب الرمز وتوليف الصورة واستنطاقها.

   وأخيراً أسأل الله الستر والعافية للجميع، ولمكة الطمأنينة والسلام وأبدية الإشعاعِ.

_______________

المصادر والمراجع (مرتبة على كنية المؤلف فاسمه):

1 ـ أبو ريشة، عمر، الديوان، دار العودة، بيروت، عام 1978.

2 ـ ابن الفقيه ـ كتاب البلدان، طبعة أوربا، نقلاً عن د. شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ط3 دار المعارف بمصر، عام 1976 (ص 50).

3 ـ إسماعيل، محمد قباري، علم الاجتماع والفلسفة (عن البحث).

4 ـ الأصفهاني، أبو الفرج، الأغاني، دار الفكر، بيروت، 1407هـ / 1986م.

5 ـ أبو غالي، د. مختار علي، المدينة في الشعر العربي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1995م.

6 ـ البخاري، محمد بن إسماعيل، الجامع الصحيح، مطابع دار الشعب، القاهرة، 1378هـ.

7 ـ بلاسي، د. محمد السيد علي، أسماء مكة والمدينة في اللسان العربي، دار الولاء للتراث، القاهرة ط1، 2003م.

8 ـ الجاحظ، أبو عثمان، بحر، الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1388هـ.

9 ـ الجبل، بدوي، الديوان، دار العودة، بيروت ط1، 1978.

10 ـ الذبياني (ولم أعثر له على اسم صريح إطلاقاً)، محمد النبي العربي، (ملحمة شعرية)، منشورات المنشأة الشعبية للنشر والإعلام والتوزيع، ليبيا.

11 ـ الرازي، عمر بن عبد الله بن محمد، مسامرة الندمان ومؤانسة الأخوان، تح د. وليد مشوح، مراجعة وتصدير علي حمد الله، إصدار مركز زايد للتراث والتاريخ، ط1، 2003م.

12 ـ الرباعي، د. عبد القادر، الصورة الفنية في النقد الشعري، (بلا)، (بلا).

13 ـ الرسيوني، أحمد، مكّة المكرمة في الثقافة المغربية، مجلة التاريخ العربي، جامعة الأزهر، العدد (32)، خريف 1425هـ/ 2004م (الهامش رقم 5).

14 ـ الزمخشري، جار الله، الكشّاف، 2/ 35.

15 ـ الصاحبي، أحمد بن فارسى، في فقه اللغة وسر العربية، مطبعة المؤيد، القاهرة (بلا).

16 ـ ضيف، د.شوقي، (العصر الجاهلي)، دار المعارف بمصر، 1965.

17 ـ عدد من المؤلفين، المعجم الفلسفي المختصر، تح: توفيق سلوم، ط1، دار التقدم، موسكو، 1986م.

18 ـ عبد العالي، عبد السلام، درس الأبستيمولوجيا، دار توبقال، الدار البيضاء، 1998م.

19 ـ العشاري، حسين بن علي بن حسين بن فارس (البغدادي، الشافعي)، الديوان منشورات وزارة الأوقاف العراقية ضمن سلسلة إحياء التراث الإسلامي (رقم 25)، تحقيق وتعليق عماد بن عبد السلام الرؤوف، ووليد عبد الكريم الأعظمي، 1397هـ/ 1977م.

20 ـ عواد، محمد حسن، الديوان (قمم الأولمب).

21 ـ فقي، حمد حسن، الأعمال الشعرية الكاملة.

22 ـ قنديل، أحمد، الديوان (مكتي قبلتي).

23 ـ محرم، أحمد، الديوان (مجد الإسلام أو الإلياذة الإسلامية) (ملحمة شعرية)، إشراف وتدقيق ومراجعة محمد إبراهيم الجيوشي، مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1963.

24 ـ النجار، محمد بن عبد العزيز، ضياء السالك إلى أوضح المسالك، مصر، 1401هـ/ 1981م.

25 ـ النصَّير، ياسين، إشكالية المكان في النص الأدبي، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد، عام 1986.

26 ـ الهيلة، محمد الحبيب، أثر الحج في الحياة الثقافية والاجتماعية عبر العصور، مجلة التاريخ العربي، 2004م.

27 ـ الوليد، أبو الفضل، الديوان، مراجعة وتقديم جورج مصروعة، دار الثقافة، بيروت، 1981 (ط2).

المجلات:

ـ مجلة التاريخ العربي، جامعة الأزهر، العدد 32، خريف 1425هـ/ 2004م ..وعنها اقتبسنا ق د. محمد سيد علي البلاسي (أسماء مكة...)، وأحمد الرسيوني (هامش البحث نفسه رقم (5)).

ومحمد الحبيب الهيلة (هامشس رقم 6).

________________________________________

(1)  وضع الرسول r رأسه في حجر أبي بكر الصديق، فنام على ركبتيه، وقد بقي في الغار شقّ لم يسدّ، فوضع الصديق قدمه فيه، فلدغته الحيّة، فاحتمل أذاها، وكره أن يتحرك فيوقظ النبي وقيل: إن عينيه دمعتا، فسقك الدمع على وجه النبي r فأيقظه.

(2)  الذبياني: الديوان ـ الملحمة (محمد)، ص 39.

(3) حسين بن علي بن حسين بن فارس العشاري البغدادي الشافعي (ولد ببغداد) سنة (1150هـ /1737م) وتوفي فيها سنة (1195هـ)، الديوان، منشورات وزارة الأوقاف في العراق ـ سلسلة إحياء التراث الإسلامي، رقم /25/ تحقيق وتعليق عماد بن عبد السلام الرؤوف ووليد عبد الكريم الأعظمي، سنة 1397هـ ـ 1977م، الطبعة الأولى، ص 125، 124.

(4)  عمر أبو ريشة، الديوان، منشورات دار العودة، بيروت، 1998، ص 511.

(5)  أبو الفضل الوليد، الديوان، القصيدة المكية، ص85.

(6)  نفسه، قصيدة الرؤية النبوية، ص 366.

(7) محمد حسن الفقي، ولد بمكة سنة 1332هـ/ 1912م، وتوفي سنة 1425هـ الموافق لسنة 2004م.

(8) الشاعر الشيخ طاهر النعسان، ولد بحماة سنة 1887م وتوفي فيها سنة 1961.

(9) شاعر من سورية، ولد بمحافظة طرطوس، على الساحل عام 1909 وتوفي في نهايات القرن العشرين، والقصيدة من كتاب جميل حسن، بعنوان (نديم محمد... سيرة حياة... وقراءة شعر)، منشورات وزارة الثقافة، سورية، دمشق سنة 2000م.

(10)  سورة الأنعام، الآية (92).

(11)  جار الله الزمخشري، الكشاف، 2/ 35.

(12)  محمد حسن فقي: الأعمال الكاملة، 6/ 63.

(13) أحمد قنديل، شاعر سعودي، ولد بجدة سنة 1130هـ 1911م/ وتوفي في عام 1399هـ ـ 1979م، من ديوانه مكتي قبلتي، ص 37 ـ 39.

(14) محمد حسن عواد، شاعر سعودي، ولد بجدة سنة 1320هـ/ 1902م، وتوفي سنة 1400هـ ـ 1980م، ديوانه (قمم الأولمب). ص 69 ـ 70.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا