التسميات

الاثنين، 9 يناير 2017

دلالات المكان في الشعر الفلسطيني المعاصر بعد 1970 ...



دلالات المكان في الشعر الفلسطيني المعاصر بعد 1970 



بحث مقدم لنيل درجة دكتوراه العلوم في الأدب العربي الحديث 

جامعة الحاج لخضر – باتنة كلية الآداب والعلوم الإنسانية 

قسم اللغة العربية وآدابها

إعداد الطالب : جمال مجناح

المشرف: أ.د العربي دحو جامعة باتنة

السنة الجامعية لـ 1429 -1428 هـ  الموافق 2008 -2007 

مقــدمـة :

   تطمح هذه الدراسة أن تكون بحثاً في المكان وفي الشعر الفلسطيني الحديث، ولذلك فهي تسعى لبحث دلالة المكان وصوره وجمالياته،وتحاول تقديم الشعر الفلسطيني الحديث في واحدة من المراحل التي ولدت في سياق تاريخي وسياسي وثقافي شهد تحولات كبرى كان لها أثرها في مسار الإنتاج الأدبي الفلسطيني.

  وإذا اختارت موضوعا لها "دلالة المكان في الشعر الفلسطيني " فإن مبرر ذلك يكمن فيما عرفه المنجز الشعري من تحولات فنية وموضوعاتية منذ الستينيات،إذ لم ينقطع عن تعلّقه بالأرض وما يرمز لها من أمكنة وتسميات وموروث جعل من فلسطين الأرض والوطن والإنسان مدخلاً شاملاً لقضاياه وموضوعاته ورمزاً مكثفاً لأبعاده وصوره. وهو ما يعني أن الخطاب الشعري ظل متأثراً بواقعه وتاريخه، فعكس حركة المجتمع والفن وأخيراً الشعر والإنسان.

   ومادامت مشكلة الإنسان في هذه الحركة هي المكان وما يختزنه من أبعاد وقيم، فإن البحث وجد في هذه العلاقة مبرراً لاختيار موضوع المكان في الشعر والعبور من خلاله إلى محاولة تفكيك وقراءة دلالاته وبنياته وأشكال حضوره في النص.

  هذا الموضوع "دلالة المكان في الشعرالفلسطيني" دفعني إلى قراءة ظاهرة المكان في النص وتأسيسها على فرضية شاملة ترى أن الشعر الفلسطيني شعرمكان لأن تاريخه وخياله وموضوعه ارتبط بالمكان/ الأرض، وما قدمه من قضايا أدبية وإنسانية، وبالتالي فإن الدراسة تتجه إلى المكان في الشعر باعتباره صورة وموضوعا ونواة خلفية للقصيدة.

   وذلك ما يفرض التوجه إلى تحليل ظاهرة المكانية وتحديد بنياتها المختلفة، ونظرا لطبيعة العلاقات المعقدة التي تحتملها إشكالية المكان في الشعر من حيث تنوع مظاهره وعلاقاته وأبعاده فإن البحث يحاول الاستناد – في قراءة المكان - على تحليل البنية المكانية والبحث في دلالاتها بالوقوف على نماذجها ووظائفها الجمالية في الخطاب الشعري.

  واعتمادا على هذه المعطيات، يبدو من الضرورة المنهجية التساؤل عن هوية المكان وتحديد إبدالاته، ومن ثم بلورة إشكالية موضوعه من خلال ما يطرحه البحث من تساؤلات حول القضايا التي تفرضها طبيعة العلاقات المتداخلة لموضوعة المكان في الشعر.

   وأول تلك القضايا التي أثارها بحث المكان طبيعة وحدود المصطلح، إذ أن أغلب الدراسات التي عالجت موضوعات المكان قد ارتبطت بالخطاب الروائي، كما وظفت مجموعة مصطلحات ترافقت وتداخلت على مستوى الدراسة الواحدة، ونخص منها مصطلحات المكان والفضاء والحيز والجغرافيا الشعرية، وهو ما يفرض تحديدا للمصطلح يتأسس من التساؤل: لماذا المكان وليس الفضاء؟ وهل يمكن الجمع بين المصطلحين في الدراسة الواحدة ؟ كما أن هذه الإشكالية تسلّمنا بالضرورة إلى إشكالية أخرى أكثر أهمية وعمقا وتتمحور حول التساؤل عما إذا كان الشعرالفلسطيني شعر مكان أم شعر فضاء ؟.

ولأهمية هذه القضايا كان لا بد من استقراء المفاهيم النقدية التي عالجت مصطلحات المكان والفضاء مع الأخذ بعين الاعتبار الدراسات التي توجهت للخطاب الروائي وتلك التي اهتمت بالخطاب الشعري. أما بالنسبة لعلاقة الخطاب الشعري الفلسطيني بالمكان فقد اتجه البحث إلى استقراء وتحليل السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي ولدت فيه التجربة الشعرية ومن ثم التساؤل عن طبيعة العلاقة بين التحولات والمراحل التي شهدها هذا الخطاب بالنظر إلى ارتباط الموضوع الشعري بقضايا الأرض والمقاومة والمنفى وغيرها من الموضوعات التي وصلت الشعر بالمكان . 

 وكما كانت انطلاقة الإشكالية من التساؤل حول حدود المصطلح وعلاقة الشعر بالمكان فإن بحث بنية وهوية المكان في الشعر من صميم هذا الموضوع لأنه لا يمكن قراءة دلالات وأبعاد المكان دون تحديد لبنيته وطبيعة تنويعاتها المتداخلة، فكان لزاما على البحث إثارة مسألة اتساع هذه البنية لتشمل عناصر الطبيعة والذات الإنسانية ومختلف المكونات الممتدة على المساحة المكانية . وبالتالي فإن التساؤل امتد إلى البحث في إمكانية تحديد هذه البنية حسب الصورة الشعرية أو حسب الحقول اللغوية أو حسب المضامين والمرجعيات الثقافية والتاريخية المرتبطة بالمكان.

   وبالنظر إلى طبيعة العلاقة بين المكان والمرجعيات الثقافية والنفسية فإن البحث في دلالات المكان بدا أشد تداخلا لما وجدته من صعوبة في الفصل بين الحقول اللغوية، إذ أن نفس البنية المكانية تحتمل مجموعة من الأبعاد المترابطة وبالتالي فإن عدم الفصل بين الحقول يعني الوقوع في مشكلة التكرار نظرا للطبيعة الشمولية لصورة المكان والتي تأتي محملة بمضامينها التاريخية والأسطورية والدينية والنفسية والفلسفية، ولحل هذا الإشكال ارتأيت أن أوسع البحث إلى طبيعة الصور المكانية وكيفية تنوعها ضمن نفس المشهد المكاني العام ومن ثم البحث في أبعادها ومستوياتها المختلفة. 

  وإذا كانت الأمكنة ذات المرجعية الفزيائية أو الجغرافية قابلة للتحديد، فإن الأمكنة الخفية ذات طبيعة مختلفة، لأنها لا تمتلك مرجعية واقعية، وإنما تكتسب بعدها المكاني من مفاهيم اللجوء والحماية والألفة، ومن ثم فهل تُعتبر صور الحلم وتأملات العزلة والتمركز في الذات أبعادا مكانية يمكن أن تشكل عوالم خفية في القصيدة ؟ وتأسيسا على هذه القضايا التي وجدت مبررا لها في طبيعة الموضوع وتنوع مفاهيم المكان وامتداده على المساحة الشعرية فقد اعتمد البحث في دراسة المكان على الخطة التالية:

- باعتبارطبيعة المصطلح المرنة وتجاوره مع مجموعة مصطلحات متقاربة في الخطاب النقدي،حيث تناوبت الدراسات النقدية الحديثة على توظيف مصطلحي المكان والفضاء بالفصل بينهما أحيانا وبالتداخل بينهما أحيانا أخرى، كان لا بد من التعرض إلى هذه الإشكالية بالتحليل وقد أسعفتني دراسة حسن نجمي لهذه القضية في مؤلفه "شعرية الفضاء" بالإضافة إلى دراسات أخرى عربية وأجنبية أثارت الإشكالية نفسها. وتكمن أهمية البحث في حدود المصطلح في تحديد المصطلح الأنسب لهذه الدراسة التي تتجه إلى البحث في دلالات المكان تحديدا. وبالإضافة إلى إشكالية المصطلح نلاحظ أن دراسات المكان والفضاء في الخطاب النقدي قد استندت على تحليل المتن الروائي وفي المقابل قلت بل ندرت الدراسات التي توجهت لتحليل المكان في المتن الشعري العربي.

   وإذا اتجه هذا البحث إلى تحليل ظاهرة المكان في الشعر الفلسطيني فإنه كان لزاما أن يخصص فصلا تمهيديا لاستقراء الشعر الفلسطيني الحديث في مراحله المختلفة، وتكمن أهميته في بحث علاقة الخطاب الشعري الفلسطيني بالمكان ومن ثم محاولة فهم طبيعة هذه العلاقة في ضوء المعطيات التاريخية والثقافية التي واكبها.

  وأمام كثافة المادة العلمية، ولكثرة الدراسات التاريخية في الموضوع، وحتى لا يتحول هذا الفصل إلى بحث مضاعف يكرر ما سبقه من دراسات اكتفيت بالتلميح والاختصار، والتركيز على إشكالية العلاقة بين الشعر الفلسطيني والمكان وفهم أسبابها ونتائجها والتي ملخصها أن هذا الشعر ظل مرتبطا بنواته الخلفية، بحيث أصبح فيه المكان جغرافية شعرية حاضرة في النص باعتبارها واقعا وحلما استلهمته القصيدة وجعلته أرضا خلفية لها.

  ومادامت الصلة لم تنقطع بين الشعر والمكان في مختلف المراحل فإنه من الضروري التعرف على بنية وهوية المكان في النص الشعري الفلسطيني، خاصة وأن مفهوم المكان بلغ من المرونة حدا يصعب معه تحديد الأمكنة في مجموعات أو في حقول لغوية معينة. ومن ثم فإن البحث في هوية المكان اتجه إلى دراسة طبيعة بنيته وعلاقاتها المكانية الممكنة لأن إبداع المكان في الشعر لا ينفصل عن علاقته بالذاكرة الجماعية والفردية، إذ يشكل بالدرجة الأولى علاقة تاريخية تقوم على استرجاع المكان، كما تختلقه في النص ليتحول إلى فكرة أو صورة متخلية تربطه بعلاقات إضافية على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي والثقافي وهو ما يوحي إلى اعتباره هوية شعرية جمالية بالإضافة إلى كونه انتماء.

  وأمام تنوع وكثافة حضور النماذج المكانية فقد ارتأيت تقسيمها إلى محورين تضمنهما الفصل الثاني ، فالمحورالأول يتعلق بالجغرافيا الشعرية وأعني بها حضور الصورة الفزيائية للمكان مثل الأرض وعناصر الطبيعة والأماكن الاجتماعية كالمدن والأوطان والبيت وما ارتبط بأمكنة المنفى والصحراء والبحر وغيرها. والثاني يرتبط بالأمكنة الخفية والتي تعتمد على التفسير والتاويل لاكتشاف ارتباطاتها الخفية بالمكان ومن نماذجها الحلم والتأملات الشعرية وعوالم القصيدة .

   أما بالنسبة للمحور الأول فقد اعتمدت في تحديد حقوله البنيوية على أسلوب الإحصاء من خلال تحديد عينات تستجيب لشرط الفترة الزمنية المحددة لهذه الدراسة ولتمثيل الشعر الفلسطيني، كما اعتمدت على تصور للحقول المكانية يمكّن من الوقوف على بنية المكان وطبيعته وتحولاته ووضائفه في الصورة الشعرية، وهو ما يعني رصد بعض الصفات أو الأحوال أو التأملات التي أسندها الشعراء للمكان. وهذه العملية تتطلب جهدا إضافيا كما أنها تستهلك من الوقت ما يدعو إلى ضرورة تحديد عينة على سبيل التمثيل لا الحصر، ولذلك فقد اكتفيت بإحصاء أمكنة الأرض وعالم الطبيعة والأمكنة الاجتماعية في شعر عز الدين المناصرة وإبراهيم نصر االله ومحمد القيسي مع التعليق على طبيعة العلاقات المكانية وتحولاتها من خلال هذه العينات . 

  وأما ما يتعلق ببنية الأمكنة الخفية فإنني اكتفيت بالإشارة إلى طبيعتها لأنها تعتمد على التأويل والاستنتاج أي اكتشافها من خلال القراءة، وحتى يتفادى البحث الوقوع في التكرار فإنني اتجهت إلى دراسة وتحليل هذه الأمكنة في فصل جماليات المكان . 

  وفي الفصل الثالث "صورة المكان" اتجه البحث إلى مقاربة المكان تفسيرا وتأويلا وهي مقاربة لشبكة من العلاقات التي تربط المكان بالمجال الدلالي وبالخيال الشعري لأن مسألة المكانية لا تتوقف عند حدود الصورة بل ترتبط بالنص ارتباط وجود وانتماء وهوية. وبعد التأكد من الحضور الكثيف للمكان في الفصل السابق ونظرا لتوسع النصوص في توظيف صور المكان رأيت أن أقسم فصل صورة المكان إلى مجالين كبيرين يرتبط الأول بصور الأرض وتحولاتها المختلفة في النص الشعري، ويتعلق الثاني بتحولات المنفى. 

  فأما بالنسبة لتحولات صور الأرض فقد اتجه التحليل إلى دراسة التنويعات المكانية المرتبطة بموضوعة الأرض وبمختلف التفاصيل المكانية التي حولها الخيال إلى كون شعري حيث نوع الشعراء صياغة الأماكن واتخذت صورا تستنطق مختلف العناصر فصورة الأرض تلخص جزئيات المكان الفلسطيني، باعتبارها خلفية للقصيدة، إذ تحولت كونا شعريا يمد المكان في تجلياته المختلفة بمعاني الحياة والانتماء وتوحدت خلالها كل المدركات .

   ولأن صورة الأرض شكّلت نواة التجارب الشعرية المرتبطة بالمكان، فإنها اكتسبت قابلية للتحول والتماهي مع كل الأشياء، ولذلك تبدوا صورتها في الشعر الفلسطيني نموذجا فنيا وأدبيا يستحضر عالما دلاليا تمتزج في مستواه العلاقات الانسانية المختلفة فهي متماهية مع الخطاب الأنثوي بدء من الأرض الأم وصولا إلى الأرض المعشوقة، كما اكتسبت بعدا ملحميا عمق سؤال الوطن وسؤال الوجود، إذ تبنّى أغلب الشعراء نماذج نسائية تقمصت موروث الأرض،واحتفت بأزمنتها وأمكنتها حتى غدت النماذج النسائية من علامات تحيل على قضايا المكان. وبالنسبة لتحولات المنفى فإنه اعتمد على مكانية جمعت بين المنفى وبوابات الوطن خاصة منها صورة الصحراء والبحر لأنها أمكنة ارتبطت بتجارب الرحيل وحلم العودة، ولذلك فإن صورة المنفى -في مظاهرها وتحولاتها المختلفة- مزيج من الأمكنة التي لايمكن حصرها،وعندما نتأمل تفاصيل أمكنة المنافي كجزئيات من هذا الموضوع العام نجدها تتوزع على صور مكانية لبوابات المنفى وأمكنته الهامشية كصورة البحر والصحراء والشوراع والطرق والمطارات، والسفن والموانئ...،كما أن المدن والعلاقات التي كونتها نواة المدينة كان لها حضورها المستقل، وربما هذا ما يفسر كثرة حضورها في الشعر الفلسطيني، وبالإضافة إلى أمكنة الخارج(المنفى) فإن ذاكرة الداخل أو الوطن ظلت حاضرة وماثلة في خيال الشاعر، وبالتالي يكون عالم الشتات ذاكرة وواقعا من العوالم المهمة التي تناولها الخيال الشعري الفلسطيني. فصورة المنفى لم ترتبط بقيم مكانية محددة، وإنما ورد فيها المكان باعتباره متغيرا داخل مجموعة متغيرات لاتنتهي، كما أن دلالاته تتحرك على محور الوطن/المنفى ، ونظرا لتنوع الأمكنة وتقاطعها على مستوى الدلالات فقد عالجت صورة أمكنة المنفى من خلال مجموعة تنويعات رئيسة هي : - صورة المخيم لأنها ارتبطت في الذاكرة الفردية والجماعية بحياة اللجوء والشتات ولذلك فإنها تكاد تنحصر في دلالة اللجوء المرتبطة بحياة البؤس والشتات، وهذه الصورة التي احتفظت بها الذاكرة وجهت خيال المنفى إلى ربط صورة البؤس بذاكرة المخيم. -صورة البحر حيث أن انفتاح البحر على المنفى بالدرجة الأولى يعكس رمزية عامة في جماليات القصيدة، لأنه اللامتناهي المقترن في الخيال الشعري بالمغامرة وأساطير الرحيل القديمة وقصص الضياع ، وافتتان خيال الشعراء به يتقارب من حيث الفهم العام وذلك ما يؤكد تحول صورة البحر إلى معادل موضوعي لصورة المنفى في جانب صلة مشهده بالواقع التاريخي لحياة المنفى. - صورة الصحراء: ارتبطت -هي الأخرى- بالشتات الفلسطيني والذي كان له أثره في تركيز الصور المختلفة للمكان الصحراوي على دلالات المنفى ولغة الرحيل والسفر والتيه والغربة، وفي بعضها تحول مشهد الصحراء إلى مساءلات فكرية ووجودية تعيد مناقشة حلم العودة ووضعية الوجود خارج المكان.

- الأوطان والمدن : جمع تنوع صور المدن والأوطان بين غربة المنفى وحنين الوطن، إذ ارتبط حضور المدينة في النص الفلسطيني بواقع حياة المنفى والغربة ولذلك تتبع الشاعر تفاصيل هذا الواقع عبر تسجيلات تراوحت بين رصد واقع الحياة في المدينة وتأملات شاعريةالحياة فيهاوطبيعة العلاقات المؤقتة والمترتبة عن حياة المنفى، كما أن الوجود في مدن المنافي لم ينسِ الشاعر مدن وقرى وطنه بل إنه مزج بين المدن في نفس النص وشكل منها جغرافيا سياسية أعادت صياغة العالم شعريا وفق رؤى وصلتْ مدن المنفى بمدن الوطن. وتناول الفصل الرابع دلالات المكان، وبما أن الظاهر المكانية في الشعر الفلسطيني لم تنفصل عن مخزونها المعرفي والثقافي، فإنها بهذا التوصيف شكّلت مخزونا خصب النص الشعري بأنواع المعرفة التاريخية والدينية والأسطورية التي ارتبطت بالمكان أو بالحالات المشابهة لواقع المكان وحاضره. ومن هنا توزعت دلالات المكان على إنتاج مجموعة من الفضاءات تمحورت حول الفضاء التاريخي والفضاء الديني والفضاء الأسطوري ، أما الفضاء الفكري والفلسفي فقد عالجه البحث في فصل جماليات المكان والذي يعتبر فصلا متمما لصور المكان ولدلالاته. وبالنسبة للدلالة التاريخية فإن البحث ركز على ثلاث مستويات:

- مستوى خص التجربة التاريخية بصفة عامة وتتمثل في مختلف التجارب التي قد يختزنها المكان ولا يمكن جمعها تحت عنوان واحد ،إذ أنها أمكنة استعارت العمق الكنعاني والروماني والإسلامي والحدث التاريخي المعاصر، كما أنها في الجانب الثقافي اعتمدت تقنية الأقنعة ممثلة في استلهام الشخصيات التاريخية التي ربطتها الأحداث بتاريخ المكان ومن نماذج هذه الشخصيات امرؤ القيس والمتنبي وعنترة ابن شداد وكثير من النماذج التي تناولها البحث بالتحليل.

- مستوى حضور الأندلس: ويعد النموذج التاريخي الأهم ظهورا في الشعر الفلسطيني لكونه ظاهرة ارتبطت بالمكان وبمفهوم الفردوس المفقود الذي بلوره الشعر الفلسطيني من خلال هاجس فقد الوطن ، وسواء أكانت اشبيلية أو قرطبة أو الأندلس أو غرناطة فإنها تبقى من التفاصيل التي حركها خيال المنفى وهاجس الخوف من فقد المكان. ولقد توزع حضور الأندلس على مستويين ارتبط الأول بالمدينة الأندلسية بينما ارتبط الثاني باستحضار الشخصيات الأندلسية خاصة منها شخصية أبي عبداالله آخر ملوك غرناطة .

  وقد اتجه البحث في هذه المستويات إلى تحليل علاقة المعرفة التاريخية بالمكان وتداخل الشعري بالتاريخي على مستوى القصيدة وأثره في إنتاج الدلالات المختلفة للحدث المعاصر . وبالنسبة للدلالة الدينية فقد اتجه البحث في علاقة التجربة الشعرية بالنص المقدس باعتباره رمزا دينيا استلهم علاقة المكان بأحد المكونات الثقافية الأساسية، وإن كان مفهوم المقدس يتسع ليشمل كل المفاهيم والنصوص الدينية الموظفة، فإن الدراسة تقتصر على ما له علاقة بالتأملات في المكان والتي ترتكز في الغالب على العلاقات الذاتية والعامة بالأمكنة، حيث أن مفاهيم القرب والبعد، والعودة والنفي والهجرة والرحيل ظلت حاضرة في الذات الشاعرة باعتبارها تجربة خاصة وعامة ارتبطت بالواقع التاريخي والسياسي وبصورة عامة بطبيعة الصراع القائم حول هوية المكان. 

   من ثم فإن مفهوم المقدس ببحث العلاقة الروحية التي أضفاها الشاعر على أمكنته والتي اعتبرها مصدر انتمائه، وعنصرا مكونا لكيانه ووجوده ولذلك فهي فردوسه المفقود الذي يحاول استعادته،وجنته الضائعة التي يسترجع من خلالها نموذجه الأول مرتكزا على قصة خروج آدم من الجنة وما تبعها من قصص تروي المسيرة الكونية للإنسان، فهو يرى في الجريمة المرتكبة في حقه،والهجرة والإبعاد امتدادا للجريمة الأولى ممثلة في قصة قابيل وهابيل ، كما امتدت عذاباته إلى عذابات المسيح وهجراته إلى هجرات الأنبياء ... وفي كل هذه المصادر الدينية اتجه الشعراء إلى إثارة ما ارتبط بالأرض من موضوعات وتعتبر الكتب السماوية (القرآن والتوراة العهد القديم والجديد) من أهم الروافد التي أكسبت المكان بعدا روحيا يضاف إلى بقية الأبعاد، كما أن موضوع العودة وارتباطه بالظروف المأساوية لحياة المنفى اكتسب قيمة خاصة وجهت خيال الشعراء إلى استلهام قصص هجرات الأنبياء فأكسبها بعدا رمزيا وارتقى بها إلى اعتبار العودة أو الرحيل باتجاه الوطن قيمة مقدسة ومدخلا إلى بعث ووجود جديد.

   وفي بحث الدلالة الأسطورية بما تحمله من أبعاد وقدرة على استيعاب الموضوعات الشعرية المختلفة فإنها احتفظت في الشعر الفلسطيني الحديث بوظيفة "القناع" أوالخلفية الرمزية التي اتكأ عليها النص الشعري. حيث أن موضوع البحث لا يتجه إلى دراسة الأسطورة كظاهرة شعرية وفنية مستقلة وإنما يبحث في ارتباط المكان بالأسطورة ما دامت موضوعة النص تتحرك في فضاء النواة الخفية "الأرض". وهو في بعد آخر استعادة للمكان من الأساطير التي تؤكد مرجعياته في الثقافات الحضارية المختلفة في مقابل محاولات الآخر اختلاق المكان عبر المرجعية التوراتية، كما أن التجربة الأسطورية لا تختلف،في وظيفتها، عن التجربة التاريخية والدينية من حيث علاقة حدث الماضي بالواقع المعاصر، ومن هذا التوازن يدخل فضاء الأسطورة في تجليات العلاقات المكانية القائمة على ثنائية القرب والبعد باعتبارها من المجالات التي تشكّل علاقة المكان بالذات بوصفه انتماء وكينونة تضيء الجانب المغيب من علاقة الأسطورة بالمكان.

   ومن هذا المنظور فإن علاقة الأسطورة بالمكان وبالشعر تبدو في كونها فضاء إضافيا للتأملات الشعرية، فهي في النص لا تقتصر على بعدها الجمالي أو صورتها الرمزية، بل تتجاوز ذلك إلى أنها اختلاق للمكان المفقود في الواقع، واسترجاع داخلي لأمكنة الانتماء، فالشاعر عندما يستحضر أو يتذكر هذه الأساطير إنما يتجاوزها لإعادة إنتاج ما يوازيها في الداخل، فهي بوابته المفتوحة على تأملات اليقظة واستعادة الذاكرة المحملة بالأماكن المفقودة، كما أنها ذاكرة تاريخية من نوع آخر، يتجاوز التاريخ إلى ما قبل التاريخ انطلاقا من فرضيات الأسطورة، وبذلك فهي عودة إلى نوع من الحياة المرتبطة بحميمية المكان الأول. ومن هذه التصورات اتجه البحث في الأسطورة إلى بحث العلاقة بينها وبين المكان إذ لم تبتعد دلالتها المركزية في الشعر الفلسطيني عن نواته سواء تعلّق الأمر بأساطير الخصب أو الرحيل أو البحث عن الخلود.

  أما الفصل الأخير "جماليات المكان " فيعتبر فصلا مكملا لأنواع الصور المكانية ولعالم الدلالات ،إذ انه يعتمد على تحليل التأملات الشعرية باعتبارها امتدادا للتنويعات المكانية التي تكتسب من مفاهيم المكان ما يمكن ربطه بمفاهيم اللجوء والألفة والحميمية، ولذلك فإن هذه الأمكنة تعتمد على التأملات الشعرية التي بها شكل الشاعر نوعا من الأمكنة الخفية فاكتسبت بعدا فضائيا يقوم على معمار المتخيل الذي يلجأ إليه الشاعر في تأملات العزلة أو الألفة ومن هذه الأمكنة الخفية اتجه البحث إلى تحليل الظواهر التالية:

- فضاءات الموت أو القبر وعلاقته بالأبعاد الفلسفية والوجودية وارتباطه بالواقع وبجغرافيا الأرض.

- عالم القصيدة أوالتجربة الشعرية، باعتبارها من الأمكنة الخفية لتأملات العزلة وأحلام اليقظة لكونها تبعث دلالة اللجوء والبحث عن الحماية والاستقرارفي مقابل فقد المكان في الواقع. ومن هذا المنطلق اعتبار القصيدة كونا فيه تلتمس الذات الشاعرة مكانا حميميا، ولذلك تتحول التأملات الشعرية إلى عالم خاص ومستقر حميمي بديل للذات، وتصبح القصيدة أو الصورة الشعرية أحد أهم الأمكنة الخفية لما تقربه من بعيد وتستحضره من أليف وتستعيده من مفقود،فهي في بعض ملامحها الملجأ المتخيل للذات والمترجم لنفسانية البعيد .

- التمركز في الذات: ويقوم على قراءة وعي الذات أو التمركز في الأنا، واعتباره مكانا خفيا للتأملات ونموذجا إضافيا للجوء والبحث عن الحماية ، ومن خلاله تُستعاد ذاكرة المكان عبر إعادة إنتاجه في مواجهة الشتات التي تحركها تجربة الخوف من فقد المكان. وبهذا التصور يتحول النص في حد ذاته إلى مكان تمارس فيه الذات وعيها وتحقق عبر صوره وجودها. ههنا لا نتعامل مع النص باعتباره مكانا مفتوحا أو مغلقا ولا باعتباره شكلا هندسي الأبعاد، ولكن ينظر إليه باعتباره مظهرا للأنا وتمركزا في الذات يشكّل أحد النماذج المكانية التي قدمها النص الشعري ومن خلاله تحقق الذات نوعا من الوجود الداخلي الذي يقوم مقابل الخارج.

- تأملات الحلم والبحث عن العالم الممكن وفيه يناقش البحث تصورا آخر للمكان من حيث دخول التجربة الشعرية تأملات الحلم باعتبارها من الأمكنة الخفية لما تنتجه من أبعاد مكانية،إذ يبعث الحلم قيم اللجوء والاستقرار والحميمية ويصبح عالما بديلا وكونا شعريا يقوم على قراءة الحلم في ضوء مفاهيم اللجوء أو الخلاص من حصار الواقع. فالحلم كمكان للجوء يمنح الشاعر إحساسا آخر بالوجود وقدرة على تحسس المكان في ذاته، واستلهام ما يثيره من ذكريات ومشاعر وتجارب خاصة.

- وامتدادا لهذه التأملات بحثت في نقطة مستقلة جمالية الألفة والعزلة باعتبارها من التأملات التي ارتبطت بثنائية البيت والسجن . فبالنسبة لشاعرية الألفة فإن الذاكرة لا بد وأن تحتفظ بمأساة لا تقلّ أثرا وعمقا عن مأساة فقد الوطن ممثلة في بيت الطفولة وما ترتّب عليه من آثار نفسية التقطها النص الشعري وخيال الشعراء الذين شكّلوا من البيت والحنين لأماكن الطفولة صورا حالمة وتجارب تمحورت حول خيال الألفة والحنين لزمن الطفولة. وهو كغيره من الأماكن الأليفة يتميز بحساسية شعرية عالية تذكّر بحميمية الوطن. وعندما نعود إلى تفاصيل البيت أو الدار أو المنزل وغيرها من المسميات التي أطلقتها التجربة الشعرية الفلسطينية على هذا النوع من الأمكنة نلاحظ أنه يترافق مع حلم الوطن،وتحديدا موضوعات العودة والرحيل، وبالتالي فهو نوع من الانتماء إلى الأرض باعتبارها البيت الكوني الأكبر. واعتبارا لهذه العلاقات والأبعاد أملت طبيعة هذه التأملات الاتجاه إلى مناقشة جماليات الألفة حسب ما يتصل بها من موضوعات تأملية تقوم على توحد العام والخاص داخل إطار التجربة الشعرية في شموليتها. 

- وبالنسبة لتأملات العزلة فقد ارتبطت بأنواع مختلفة من الأمكنة، لكن تحديد السجن كمكان لتأملات العزلة لا يعني تخصيص هذا المكان دون غيره بهذا النوع من التأملات، ولذلك فإن التركيز على السجن يجد مبرره في علاقة هذا المكان بالتجربة الشعرية الفلسطينية حيث أن أغلب الشعراء كانوا على علاقة بالسجن إما بحكم التجربة والمعايشة أو بطرق هذه الصورة باعتبارها لصيقة بحياة الفلسطيني في ضوء واقعه التاريخي والسياسي. ولذلك فإن التركيز على تأملات العزلة يواصل متابعة المستويات المختلفة لجماليات المكان، من حيث كون التأمل في فضاء السجن نوعا من التركيب الجدلي القائم على المفارقة بين عالم مغلق وآخر مفتوح وعلى المستوى النفسي جدل بين الداخل والخارج.

  كما أن صورة السجن وإن أشارت في أحيان كثيرة إلى طبيعة هذا المكان وما يترافق معه من أصوات وأشياء. فإنها تجاوزته بتأملات العزلة إلى إنتاج أمكنة بديلة حولت الضيق والمحدود واسعا لا محدودا. وبالنظر إلى طبيعة موضوع البحث والذي تتداخل في إشكاليته أنواع مختلفة من المعرفة التاريخية والاجتماعية والفلسفية والنفسية إضافة إلى طبيعته الجمالية فإنه كان لا بد أن ينعكس كل ذلك على الاختيارات المنهجية والإجرائية حيث أن مقاربات المكان دلالة وصورة اعتمدت على مزيج من الدراسات إذ تنوعت بين المقاربات النفسية والاجتماعية والفلسفية أما المقاربات النقدية فإن البحث استفاد من الآراء البنيوية ونظريات التلقي والتأويل وإجرائيا فقد اعتمد على المنهج الاستقرائي والوصفي .

  وحتى لا يتوسع البحث في المادة الشعرية الكثيفة فقد تم تركيز مادة الشعر على عينة من الشعراء رأيت أنهم يمثلون الفترة الزمنية المقترحة لهذا الموضوع ويتوفر في شعرهم ما يؤهله ليكون مادة لدراسة المكان، ومن هؤلاء محمود درويش وإبراهيم نصرالله ومحمد القيسي ومريد البرغوثي وسميح القاسم وعزالدين المناصرة والمتوكل طه.

  أما بالنسبة لمراجع البحث فإن الدراسات النقدية المتخصصة كانت من بين أهم الصعوبات التي واجهها البحث، إذ أن أغلب الدراسات التطبيقية والنظرية اتجهت إلى تحليل ظاهرة المكان أو الفضاء في الخطاب الروائي العربي بينما شحت تلك التي تناولت المكان في الشعر العربي باستثناء مجموعة مقالات وكتيب تناول المكان في شعر السياب بالإضافة إلى دراسة تناولت فلسفة المكان في الشعر العربي القديم. ولذلك فلا مفر من الاعتماد على المراجع الأجنبية والتي وفرت مرجعية هامة في دراسة شعرية المكان في الخطاب الشعري تحديدا مع ما يحف ذلك من صعوبات في الترجمة .

   أما عن الصعوبات التي واجهت البحث فإنها تمثلت في مستويين الأول شساعة التنويعات المكانية الموظفة في الشعر الفلسطيني وتداخلها الشديد في إنتاج الدلالات بحيث يصعب الفصل بينها لشدة تداخلها، ولتفادي الوقوع في التكرار حاولت معالجة هذا المشكل بجمع مادة المكان بحسب تقارب دلالاتها وأنواعها . أما الصعوبة الأكبر فهي تداخل مصطلح المكان في الدراسات الأجنبية خاصة مع المصطلح الفلسفي حيث اعتمدت كل الدراسات التي رجعت إليها على ما قدمته فلسفة هايدغر و باشلار في موضوع المكان بالنظر إلى كون تطبيقاتهما كانت على النص الشعري، والصعوبة تكمن في هضم المفاهيم الفلسفية المتداخلة مع التأملات الشعرية إضافة إلى فقري للمعرفة الفلسفية المتخصصة. 

  وأخيراً واعترافاً بالجميل، وبصدق وامتنان أرفع آيات التقدير والعرفان إلى كل الذين أعانوني على إتمام هذا العمل توجيها ورعاية وتشجيعا. ولا يفوتني بصفة خاصة أن أعبر عن جزيل شكري وامتناني للأستاذ الدكتور العربي دحو الذي تفضل بقبول الإشراف على هذه البحث وبمتابعة مراحله والذي أمدني بمعونته ونصحه، كما أتوجه بالشكر إلى الأستاذة الدكتورة زينب علي بن علي التي أتاحت لي فرصة متابعة البحث في جامعة باريس8 ، وإلى كل الذين كانوا وراء إتمام العمل . 

والله ولي التوفيق





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا