سوق الشيوخ تاريخها وعشائرها
أياد علي الحسني
شبكة أخبار الناصرية - مقالات - 2 - 1 - 2013 م
المقدمة
تأكد لي بما لا يقبل الشك أن أكثر الأخطاء شيوعا في توثيق الأسر والمدن هو عدم الاعتماد على الزيارات الميدانيه والاكتفاء بما تيسر للباحث بمراجعة المخطوطات والمشجرات التي لا يمكن أن تعطي الحصيلة الحقيقية الخالية من الشوائب, أن الزيارات الميدانيه ومراجعة تواريخ المدن وأسرها الموجودة والمهاجرة ,والربط بينها وبين ما هو وارد في المؤلفات الكثيره بشيء من الدقة والتأني يسلط لنا مزيدا من الضوء على الحقائق المطلوبة, التي نستشف من خلالها واقع الحال بعيدا عن الاجتهادات وخلق المآثر الخيالية والمبالغة غير المستحبة وهذا ماسعيت إليه منذ أعوام . حتى وفقني الله إلى هذه الحصيلة التوثيقية.
لقد طالعت ما على رفوف المكتبات من مؤلفات تنحدر عن عشائر العراق ولمست أن البعض من مؤلفيها لم يقتنع بالكثير من المعلومات التي سطروها ببراعة , ويعلن عن شكه بها , وهذا يدل على أن من سبقه في التوثيق لم يكن دقيقاً أو أميناً .
ان التوثيق عمليه شاقه تضطر من يمارسها ان يمزن اوراقه في نصف الطريق ان لم اقل في اوله اذا كان غير متسلح بالصبر وبرودة الاعصاب, اني اؤكد تاريخ المدن والممتزجه بالعشائر يحتاج لها توثيق دقيق في النسب الرئيس الاصلي للعشيره ولايهمني بشيء هي مع من في الرايه ورايت البعض من رؤساء العشائر لما تسأله عن عشيرته يذكرها نسباً حتى مع العشائر المتحالفه معه والاجدر ان يذكر العشائر المتحالفه معه وتحت رايته ويقول تلك العشيره ترجع الى كذا من العشائر وهي بالراية معنا ومنذ زمن طويل .حتى يتمكن النسابه ايجاد طريقه بالكتابه دون ان ترتابه الشكوك والضنون فيما بعد.ومن اجل تحقيق اللقاءات عمليه مضنيه لايمكن خوضها الا بالسفر الدائم الذي لم يخطر في بال السندباد وابن بطوطه لتباعد المحافظات والقرى والارياف والاهوار والبوادي هذا مايخص جانب العشائر والبحث في الانساب.
اما في واقع المدينه فقد لمست، بقدر إستطاعتي، كل مظاهر الحياة في سوق الشيوخ المدينة العراقية الأصيلة التي تصلح، وهذا ما عنيت في كتابي هذا ــ أن تكون نموذجا لجميع مدن العراق،عدا الحواضر منها ، فالتخلف كان يلف أرض العراق جميعه. لكن الناس في هذه المناطق كانت وظلت تتطلع الى غد أفضل…. غد تسود فيه العدالة والأمن والتقدم، كما هي تتطلع الى حياة إقتصادية ميسرة وخدمات كتلك التي تتمتع بها الحواضر من المدن الكبرى نسبيا… بل حتى الى مستويات تتمتع بها مدن عالمية غربا وشرقا بعد أن تفتحت عيون وأذهان الناس الى تلك المستويات من خلال وسائل الإتصالات من إذاعات وصحافة.
ويظل كيف أن التفاعل الفكري مع ما يجري في العالم كان يتصاعد يوما بعد آخر بفعل الصحف والمجلات التي تصل سوق الشيوخ، وبفضل خبرة وتجربة أبناء المدينة الذين ساعدتهم الظروف على أن يطٌلعوا على حياة أمم أخرى إما من خلال زياراتهم أو دراساتهم. ولقد أغنى التنافس بين التيارات الفكرية والسياسية الخارجية على غزو عقول الشعوب، أعنى هذه التجربة. لهذا كنا نشعر بشبه غزو فكري بلشفي تمثل في إنتشار مطبوعات تدعو الناس لتبني الفكر الماركسي اللينيني. ولا أشك في أن أموالا وحوافز كانت تقدم من خلال مريدين لهذا الغرض. بالإضافة الى ميل بعض الناس للتطلع الى العدالة الإجتماعية والإقتصادية التي ينادي بها الإشتراكيون لعلهم يجدون فيها، كما يرون، الخلاص من واقعهم المتدني في كل مجالات الحياة.ومقابل هذا نجد التيار الرأسمالي الأوروبي إذ لم يكن للأمريكان في تلك الحقبة من الزمن وزن في تلك المنطقة. فمن المعروف أن النفوذ الأمريكي إنما حلّ في المنطقة بعد أن قلصت الإمبراطورية البريطانية قواعد نفوذها في بعض المناطق،خصوصآ في الشرق الأوسط، تاركة ملىء الفراغ هذا للولايات المتحدة الأمريكية في خمسينات القرن الماضي. الأمر الذي قامت به هذه الأخيرة خير قيام هذان التياران الفكريان كانا شغل الناس الشاغل حتى أن التحزب المتطرف كان يودي بعلاقات الناس من هذا التيار أو ذاك الى خراب وضياع. كان المفكرون يتلمسون تيارا ثالثا غير هاذين…فكان أن نادى الناس بالعودة الى الأصول القومية وآخرون الى التمسك بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف. يبدو هذا منطقيا.. فالناس في سوق الشيوخ كما هم في المدن العراقية الأخرى مسلمون، وهم في معظم تلك المدن عرب ذو أصول واحدة لو تتبعت خط سير أجدادهم لوجدتهم في غالبيتهم قد قدموا من اليمن ومن جزيرة العرب. إلا أن أمرا آخر بدأ يعكر صفو وحدة الأصل هذه وحرمتها حين إكتشف البعض أن فروقا في الإجتهاد الديني قد وجدت طريقها لتصنف الناس الى مذاهب، هي جميعها لا تخرج، في الحقيقة،عن ثوابت الإسلام العظيم. ولكنها لأسباب كثيرة، ليست محل بحثنا هذا، خلقت لدى هذا الطرف أو ذاك شنآن وضغينة ما كان يجب أن تكون.
بعد هذا المدخل الموجز أعود لنفسي لأقول أن سوق الشيوخ، هذه المدينة الجميلة في مخيلتي، أم البلابل ، التي لم يخل بيتنا من قفص لها تصدح فيه طول الوقت ، و أم البساتين الوارفة.... بائسة متخلفة ماديا في واقعها المعاشي الذي حرمها مما تستحقه من إهتمام ورعاية أفضل عبر الأجيال، فلقد ظلت هذه المدينة الصابرة محل إهمال جميع العهود بلا إستثناء.
الفصل الأول : موقع مدينة سوق الشيوخ
انه قضاء يعود الى محافظة ذي قار واقدم قضاء في المحافظه وهي من أكثر المدن العراقية لفتا للنظر، بما يكتنفها من إنفتاح إجتماعي، وملامح لمجتمع حضري، تعج به حركة إبداع فكري من شعر وأدب. وهي تقع في محيط ورث أرض سومر في الصميم. لقد أسموها السومريون (سوك مارو) أي سوق الحكيم وها هي أطلالها (ايشان) كبقية المدن السومرية المندثرة في جنوب العراق. يقول الرواة ان سوق الشيوخ نشأت على مرتفع واسع من الارض او تل كبير وعلى إحدى اليشن السومرية القديمه حيث وجده بعض الباعة من ابناء الارياف القريبه منه خير ساحه لمبادلة البضائع المختلفة وكان يعرف بتل الاسود ثم بعد ان بنيت علية عدة دكاكين من طين او القصب.
ثم تبدل أسم السوق الى سوق النواشي، وربما يكون محرف من كلمة (مواشي)،او من أسم قديم محلي، والنواشي كما يقول عبدالرزاق الحسني فخذ من عشائر بني اسد، وكان افراد هذه القبيلة يبتاعون منها ما يحتاجون اليه من طعام وكساء قبل ان يرحلوا الى البادية، فلما نزل آل سعدون هذه السوق ايام مشيخة عبد الله المحمد المانع "الذي هو اخو سعدون الذي اشتهرت باسمه الاسرة - اشتهرت السوق المذكورة بسوق الشيوخ، لان آل السعدون كانوا شيوخ المنتفق اي زعماؤه، فلما حل ثويني العبدالله السعدون محل ابيه في المشيخة على المنتفق في سنة1175هـ – 1761م امر ان تكون هذه السوق ثابتة. (ويقول يعقوب سركيس في مباحث عراقية ان سوق الشيوخ لم تشيد الا بعد ستة 1781م- 1196هـ)،أي مركزا ثابتا لمهمات الشيوخ المذكورين، ومخزنا لذخيرتهم، وملجأ حصينا يلجاون اليه عند الحاجة، وخطط لهذا الغرض عمارة على الضفة اليمنى من الفرات في موضع يبعد عن الناصرية غربا 35 كيلومترا. فما انتهت المشيخة الى حمود الثامر السعدون تظإهر بالارتياب من الحواضر، وكانت الحكومة العثمانية تعمل يومئذ على توسيع الحركة العمرانية في جنوبي العراق لتقضي على النفوذ القبلي وتمدن الرؤساء والشيوخ، فانتهز الوالي مدحت باشا ذلك فرصة فأسس لواء المنتفق وجعل "سوق الشيوخ " مركز قضاء تابع لها منذ عام 128 7هـ -1870 م فلم تزل في تقدم وتوسع حتى غدت مدينة كبيرة يقطنها زهاء عشرة آلاف نسمة من النجديين وحضر من العرا قيين المتجمعين من هنا وهناك طلبا للرزق ورغبة في الكسب.
ثم اتسعت رقعة السكن الدائم بأتساع النشاط الاقتصادي والاجتماعي وتوافد التجار والحرفيين على المدينة فظهرت المحلات على الأساس المألوف في المدن الإسلامية وقسمت على أساس الإنحدارات العشائرية أو الإقليمية، فنجد مثلا محلة النجادة نسبة للنجديين القادمين من نجد عبر الصحراء ثم محلة البغاده وأهلها جاءوا من بغداد، وهذه محلة الحويزه للذين هاجروا من الاحواز وما جاورها، ومحلة الحضر وسكانها الذين جاءوا من مدن متفرقه وبعض الارياف المجاوره للمدينة وكانت هذه المحلات الاربع متجاورة على التل الذي علية المدينة التي سورت وفتحت فيها الابواب في العهد العثماني التي تسمى (القول) جمع (قولة) وذلك في. ولاية مدحت باشا والتي اصبحت وسميت بقضاء سوق الشيوخ عام 1870م وعين حسين باشا قائمقاما فيها. . . وفي القرن العشرين توسعت، فهناك عبر النهر محلة الصابئة الذين جاءوها من ميسان والعماره وبعدد كبير من الحرفيين، وعملو في الحدادة والنجارة واالصناعات المعدنية كالحلي وصناعة الزوارق، فأنتعشت المدينة بنشاطهم، وأمست منتجة. وهناك محلة الاسماعيلية في المنخفض الغربي للمدينة.
وعين أول قائمقام عراقي بعد تكوين الدولة العراقية عام 1921م وهو صالح الحجاج. ومازالت المدينة تحتفظ بمسيات معالم أندثرت كما مثلا خان العجم،حيث أمه الأيرانيون على المدينة حتى اصبح لهم قنصل فخري لحكومة ايران فيها،وهو المدعو محمد علي البهبهاني. وحينما نمر اليوم في بداية الزقاق المؤدي الى دار العرفج في محلة النجاده تجد آثار الكنيس اليهودي(التوراة)،ومازال الناس يتذكرون شيخهم المدعوا الياهو يعقوب القماش. وكان لسوق الشيوع أخبار خلال ثورة العشرين وأشتهر بعض أعلامه ممن شارك فيها مثل الشيخ باقر حيدر و الشيخ محمد حسن حيدر.
وفي عام 1935م كانت الانتفاضة في المدينة دعما ومساندة لما حصل في الفرات الأوسط. ويصفها عبدالرزاق الحسني خلال تلك الفترة بأنها عبارة عن غابة من النخيل وبؤرة من المستنقعات تجعل الهواء فيها وخما والحا لة الصحية غير مرضية، إلا أن ا لسلطات الادارية قطعت في السنوات الاخيرة، ولاسيما في عام 1935 م، مساحة كبيرة من النخيل المذكور ودفنت بعض المستنقعات محولة إياهـا إلى حدائق حدائق عامة وارباض واسعة ومبان. فتحسنت البيئة و نتعشت الحالة الصحية إلى حد ما، ثم أنشأ مشروعا للكهرباء واخر للماء، ومدت جسرا عبر النهر لتسهيل المرور، وفرشت بعض الشوارع بإلاسفلت وهدم للأسف سور الطين الذي كان يحيط بها. وكانت في (سوق ا لشيوخ) سوق قديمة أحرقها الثوار في انتقاضة عام 1935 م فجددها اصحابها كما أنشئت فيها في الخمسينات دوائر حكومية للشرطة والادارة المالية والطا بو والمحكمة، ومدارس، وناديا للموظفين الخ.
.
تاريخ وجغرافية سوق الشيوخ
أن المدينة، أية مدينة، إنما هي كائن عضوي حي تولد وتنمو وتهرم وتموت أو تندثر على فترات تتفاوت بين القصيرة والممتدة في الزمان .. فهي إما أن تندثر وهي في شبابها بفعل عدوان أو تخريب إنسان لها، وإما إن إمتد بها العمر حتى تضيق بما تحمل على ظهرها، فتهرم وتندثر بعد أن تكون الطبيعة والإنسان قد جارا عليها.هذا في تقديري توصيف صحيح للمدينة أرى تجسيدا له في سوق الشيوخ التي هي موضع بحثي. فهي كغيرها من المدن كائن تكون شبكة المياه فيها شرايينها، وشبكة الأسلاك الكهربائية جهازها العصبي الذي يوصل في نهاياته النور اليها، وشبكة الهاتف والإتصالات أداة سمعها وبصرها، وما أسواق المواد الغذائية من خضراوات ولحوم إلا فمها الذي تتغذى منه. كما أن شبكة الصرف الصحي، بدائية كانت أم متطورة، ليست سوى مخرج جهازها الهضمي . ورب سائل عن عقل هذه المدينة، أقول أنه الإنسان الذي تحمله بصبر وأناة على ظهرها. فإن كان ذلك الإنسان متحضرًا مسؤولا، فقد أراحها وأمدٌ في عمرها، وإن كان متخلفاً فقد عجّل في إهلاكها.فإذا ما طبقنا توصيف المدن هذا على سوق الشيوخ في الثلاثينات من القرن الماضي لوجدنا المدينة تخلو من الكهرباء والهاتف والإتصالات وإسالة المياه والصرف الصحي. كل هذا حرمت منه، فما بقي من تلك المعايير غير أسواقها وسكانها .. فتصور أي أنها كانت مقتصرة على الفم والعقل دونما تسهيلات الحياة ومستلزماتها. فالفم والعقل هما هبة الباري عز وجلٌ أما الخدمات فمن عمل الإنسان والمجتمع الذي يبدو تقصيره واضحاً هنا. هذه في رأيي صورة تشريح لأية مدينة وليست مدينة سوق الشيوخ بشاذة عنها. ولقد قيل، صدقا، أن الإنسان المثقف هو من يدرك ويعرف أين يكون في هذا العالم وأين يكون الحدث أو الظاهرة التي يبحث فيها، فتلك هي الجغرافيا. كما أنه هو من يدرك ويعرف متى يكون حيث هو من سير الزمن، ماضيه وحاضره ومستقبله، بمثل ما يدرك ذلك ألحدث أو الظاهرة التي يبحث عن الحقيقة فيها، فذلك لعمري هو التاريخ. بهذا المفهوم للمنهج العلمي، نرى أن تاريخ مدينة سوق الشيوخ يقدر بأكثر من مائتين وخمسين عام حين أعلنت عن وجودها كمركزحضري يعتمد عليه شيوخ المنتفك من آل السعدون وفي مقدمتهم ثويني المحمد بن عبد الله السعدون، وقبلهم كان النواشي وغيرهم فيتبضعون منها حاجاتهم المعاشية المختلفة . ولهذا سميت المدينة بسوق الشيوخ، والمدينة أقدم وحدة حضرية في المحافظة. وعشائر المنتفك تمتد مناطق نفوذها في لواء المنتفك ذي قار حاليا من سوق الشيوخ مرورا بنهر الغراف حتى مدينة الحي. وكانت مشيخة المنتفك المنتفج معقودة لآل السعدون وعلى رأسهم ناصر باشا السعدون، أيام الحكم العثماني وهو الذي أمر ببناء مدينة الناصرية التي أخذت اسمه في سنة 1869.
أقول أن سوق الشيوخ مدينة صغيرة ككل مدن العراق، عدا الحواضر منها، وهي تقع الى جنوب خط عرض 32 على ضفاف نهر الفرات تحيط بها مسطحات مائية تجعلها شبه جزيرة، وترتبط ضفتا النهر بجسر خشبي ومع مرور الزمن إستمر النهر بالتقلص حتى أن المرء ليعبره الآن خوضا لضيقه وضحالته، وهو الذي كنا نراه بحرا عميقا يتبارى الرياضيون بعبوره سباحة . أقرب مدينة لها شمالا مدينة الناصرية وهي مركز المحافظة، وسوق الشيوخ إداريا قضاء تابع لها. يتبع القضاء كل من نواحي العكيكة والجبايش وكرمة بني سعيد. وقد تغير هذا التقسيم الإداري فيما بعد ليواكب التوسع في النواحي وتشعبها.
أهل المدينة بين تاجر وحرفي يتبادلون المنافع الإقتصادية في ما بينهم ومع المجتمع الريفي المحيط بمدينة سوق الشيوخ والذي يقدر عدد أهله بأضعاف سكان المدينة.
يقع القسم الأعظم من المدينة الى الجانب الغربي من الفرات. أما الجانب الشرقي فمقتصر على أهل السوق من الصابئة المندائيين ونسميه صوب الصبَه . والى شمال المدينة تبدأ البساتين في غرب الفرات تمر خلالها ثلاثة أنهار أو قنوات يغذيها الفرات. أولها الرزاقية الوقعة جنوب المدينة وقدسميت على إسم قائمقام المدينة حينذاك وهو عبدالرزاق حلمي. والثانية الى شمال المدينة وهي قناة الدكسنية وإسمها مشتق من ديكسون الذي كان حاكما بريطانيا للمنطقة سابقا، وقد طمرت هاتان القناتان فيما بعد. والى شمال الدكسنية تقع قناة البدعي والثالثة، وهي الأبعد قناة علثة التي تسير من الفرات الى جانب ساتر ترابي ينتهي عند طريق السوق ــ ــ الناصرية الذي يبلغ طوله 28 كم مرورا بأم العباس فالفضلية فالخضر. أما الى الغرب من المدينة فهناك بركة واسعة من الماء المنحسر من الفيضانات نسميها البركة وهي مرتع لقطعان الجاموس، حيث يسكن أصحابها من النواشي بالقرب منها، و الجاموس من فصيلة الابقار كأنه ثور ضخم اسود الجلد ثقيل الحركة يتواجد قرب المياه حيث يمضي معظم الوقت غاطساً لتبريد جلده، وهو مصدر مهم للحليب و مشتقاته،و المعروف ان القائد الاسلامي موسى ابن نصير هو الذي ادخل الجاموس الى المنطقة حيث الاهوار خلال الفتح الاسلامي للهند الموطن الاصلي للجاموس، وقد استقر الجاموس في اهوار جنوب العراق ثم انتشر وراء مصادر المياه . أما الى جنوب المدينة فتمتد بساتين النخيل الوارفة الى النواشي وكرمة بني سعيد وآل جويبر حتى يتصل الفرات عند الطار بهور الحمّار.
أن موقع المدينة القريب من حافة هورالحمار جعل منها شبه جزيرة في موسم الفيضان تربتها طينية إسفنجية مالحة لا تسمح بزراعة رقيقة، لهذا إستأثرت النخلة المباركة بمساحة واسعة من المنطقة بسبب تحملها و صلابة عودها.
يضم الجانب الغربي من المدينة القديمة الديرة التي ترتفع قليلا عن حي الإسماعيلية الحديث. وفي الديرة أربعة أحياء هي الحضر، الحويزة، البغادة والنجادة. أما الجانب الشرقي فهو صوب الصبّة . والقسم القديم من المدينة مكتظ بالبيوت القديمة التي تربطها أزقة ضيقة درابين ولها سبعة مداخل يتوسطها سوقها التجاري.
وسوق المدينة شريان حياتها ومركز الحركة الإقتصادية فيها. كنت أسمع وأنا صغير أن صاحبه رجل يهودي من أهل الناصرية أو من بغداد وإسمه دانيال وقام الناس بتحريف الإسم فكانوا يسمون السوق بأنه سوق دانير وكان الناس يصفون بالمبالغة شخصا بأنه إبن دانير للسخرية منه عندما يكون مسرفا رغم ضيق ذات يده.
يبدأ السوق عند إلتقاء فرعين مكشوفي السقف يبدآن من ساحة واسعة تقع بين محلتي الحويزة والحضر وهي تؤدي بإتجاه معاكس جنوبا الى الثكنة مقرالحكومة . وكانت الساحة تستخدم أيام الأعياد فتنصب فيها المراجيح ودولاب الهوا ويمكن لمن يرغب أن يستأجر الحمير لركوبها بأجر زهيد من هناك. يضم أحد هذين الفرعين الجامع الكبير وسوق الصفافير للذين يعنون بطلي القدور النحاسية بالقصدير. والفرع الآخر فيه بعض باعة الكتب والمجلات والصحف. وهناك قسم يتفرع الى الشمال وكان مسقوفا ويسمى قيصرية وعلى جانبيه دكاكين صغيرة ومتوسطة وبعض الخينان جمع خان وفيه أيضا مقهى ومحلات لبيع التبوغ وعطارين ومخازن لبضائع مختلفة كالملابس والأدوات المنزلية وتسمى خرده فروش وهي كلمة فارسية. في هذه المنطقة من السوق تقع تفرعات الى يمينه ويساره، اما التفرعات الى اليمين فتؤدي الى محلة الحويزة والى المدرسة الإبتدائية والى حمٌام المدينة الذي يزدحم بزواره في الأعياد. كنت أسمع الناس يقولون أن العيد تسبقه مناسبتان، أحداهما أم الحللٌس والثانية تسمى أم الوسخ. يقصد أن زيارة الحمٌام قبل العيد هي عادة ربما كان صاحبها يؤديها مرة واحدة في العام بهذه المناسبة .
أسواق ومحلات
يمتد السوق الذي يستدير الى اليسار بزاوية حادة ليضم محلات البزٌازين باعة الأقمشة ويتفرع منه الى اليمين سوق الخياطين الى أن يصل الى نقطة الى اليمين منه فتجد سوقا صغيرأ للخرٌازين، أي من يتعاملون بالجلود، ويؤدي الى محلة البغادة. وإستمراره الى الشمال يدخل منطقة باعة التبوغ ثم يؤدي الى دائرة البريد والى نهر الفرات. ومن هذا الفرع يخرج فرع الى اليسار منه يضم سوق الصاغة للذهب والفضة. وفي آخره بعض الحدادين ثم سوق القصابين. وينتهي السوق المسقوف بساحة واسعة مكشوفة هي الصفاة حيث يكون البقالون ومحلات بيع الخضراوات والفواكه في دكاكين غير ثابتة. فتجد القرويات يبعن منتجات الحليب من زبدة وروبة لبن وفي طرف الصفاة هذه وقفة واسعة للحيوانات. وأكثر هذه الحيوانات من الحمير أو الجمال أو الغنم والماعز و الدواجن وهي إما أن تكون معروضة للبيع أوأنها بإنتظار أصحابها للعودة بهم الى مناطقهم.
وفي الصفاة مقهيان واسعان أو ربما ثلاثة، أذكر أن أحدهما يملكه علي المظلوم والآخر طعمه بن مرداس، ويبدأ العمل بهما عصرا حين تكون أشعة الشمس قد بدأت تميل الى الغروب، فترصٌ الكراويتات المقاعد ومعها كراسي الخيزران وترش الأرض المتربة بالماء تخفيفا للحرارة وتثبيتا للتربة. وكان كل ما تقدمه هذه المقاهي لزبائنها الشاي بالإستكان أكواب صغيرة تميز أهل العراق بإستخدامها لشرب الشاي . كما توفر الدومينو والطاولي النرد لمن يطلبها.كما توجد قي داخل سوق المدينة ثلاثة مقاهي تفتح صباحاً لكونها تقع في الظل وهي مقهى الشكرجي و مقهى سلمان الداوود، وقد كان هناك مقهى كبير يملكه ويديره المرحوم ناصر الولي، كان يغني فيه أحيانآ المطرب الشعبي المشهور ناصر حكيم،وكزار تبينه حتى أني سمعت مرة من إذاعة بغداد أغنية لهذا المطرب كان يردد فيها القول آه يا ناصر الولي .واغلق هذا المقهى بعد ثورة السوق عام 1935م والى شمال الصفاة تقع مخازن الحبوب (السيف) بكسر السين. وأشهرها سيف الذرب وسيف الدهش. وإذا ما تركت السيف وراءك فستكون قد وصلت الى مرآب (كراج) المدينة حيث تقف سيارات الأجرة لنقل الركاب الى الناصرية و ربما الى ما بعدها. والى شمال ذلك بمحاذاة نهر الفرات توجد علوة الأسماك حيث تعرض الأسماك التي تم إصطيادها من النهر أو من هور الحمّار القريب من المدينة.
وكنا ونحن صغار نصطاد سمك الجرّي بسهولة لوفرته ، ثم نعيده الى النهر ذلك لأن جميع أهل سوق الشيوخ يعافون أكل هذا النوع من السمك. فهناك فئة من الناس ترى أكله مكروهأ أو محرمآ لأن جلده أملس دون حراشف.. وأما الفئة الأخرى من المسلمين فكانت تمتنع عن أكله تضامنا مع الآخرين وليس عن إعتقاد بأسباب التحريم. وأعتقد أن هذا النوع صار أكله مرغوبا الآن لدى العراقيين بعد أن دفعتهم الحالة الإقتصادية لذلك بحكم رخص سعره ، فهم يتلذذون بلحمه ويستخدمون جلده الأملس السميك نسبيا لصنع آلة الإيقاع (الدنبك) أو الطبله.
تقع بعد هذه العلوة محلة النيايير (النجارين) الذين يصنعون البسيط من الأثاث من سعف وجريد النخيل كالكراسي وأسرة النوم ومهود الأطفال وأقفاص الطيور . الملاحظ أن سوق الشيوخ لم تكن مؤهلة لزيارة السياح سواء من العراقيين أو من غيرهم فهي تخلو من المطاعم والفنادق، عدا محلات الكباب ومسافرخانة إستخدمت كمدرسة أولية لبعض الوقت ،وكان في المدينة خان العجم الذي يأوي اليه عمال ايرانيون وغيرهم من الحرفيين الذين لا سكن لهم ،على ان الإستثناء الوحيد تمثل في وصول قوافل البدو القادمين من البادية للتبضع من سوق المدينة من الحبوب والتمر. وكنا نشتري منهم (المكل) بتضخيم الكاف، وهو حليب الناقة المجفف وهو غذاء جيد يتميز بحموضة مستساغة.
وإضافة لهذا فهم يحملون معهم الحطب الصحراوي الجاف من الغضا،جذوع الشجيرات ، والرمث” بكسر الراء و الميم “ وهي الفروع الرفيعة من تلك الشجيرات الصحراوية و تكون سريعة الإشتعال. وكانت القافلة تستقر في منطقة البدعي الى أن ترحل بإبلها المثقلة بما إشترت من خام وطعام خصوصا الحبوب والتموركما أن المثقف هو من يدرك ويعرف متى يكون حيث هو من سير الزمن، ماضيه وحاضره ومستقبله ، بمثل ما يدرك ذلك ألحدث أو الظاهرة التي يبحث عن الحقيقة فيها ، فذلك لعمري هو التاريخ .
فبهذا المفهوم للمنهج العلمي، نرى أن تاريخ مدينة سوق الشيوخ يقدر بأكثر من مائتين وخمسين عام “1761” حين أعلنت عن وجودها كمركزحضري يعتمد عليه.
يضم الجانب الغربي من المدينة القديمة (الديرة) التي ترتفع قليلا عن حي الإسماعيلية الحديث. وفي الديرة أربعة أحياء هي : الحضر ، الحويزة، البغادة والنجادة . أما الجانب الشرقي فهو (صوب الصبّة). والقسم القديم من المدينة مكتظ بالبيوت القديمة التي تربطها أزقة ضيقة (درابين) ولها سبعة مداخل يتوسطها سوقها التجاري.
يبدأ السوق عند إلتقاء فرعين مكشوفي السقف يبدآن من ساحة واسعة تقع بين محلتي الحويزة والحضر وهي تؤدي بإتجاه معاكس جنوبا الى الثكنة ( مقر الحكومة). وكانت الساحة تستخدم أيام الأعياد فتنصب فيها المراجيح ودولاب الهوا ويمكن لمن يرغب أن يستأجر الحمير لركوبها بأجر زهيد من هناك. يضم أحد هذين الفرعين الجامع الكبير وسوق الصفافير للذين يعنون بطلي القدور النحاسية بالقصدير . والفرع الآخر فيه بعض باعة الكتب والمجلات والصحف. وهناك قسم يتفرع الى الشمال وكان مسقوفا ويسمى (قيصرية) وعلى جانبيه دكاكين صغيرة ومتوسطة وبعض الخينان (جمع خان) وفيه أيضا مقهى ومحلات لبيع التبوغ وعطارين ومخازن لبضائع مختلفة كالملابس والأدوات المنزلية وتسمى (خرده فروش) وهي كلمة فارسية. في هذه المنطقة من السوق تقع تفرعات الى يمينه ويساره ، اما التفرعات الى اليمين فتؤدي الى محلة الحويزة والى المدرسة الإبتدائية والى حمٌام المدينة الذي يزدحم بزواره في الأعياد. كنت أسمع الناس يقولون أن العيد تسبقه مناسبتان ، أحداهما أم الحللٌس والثانية تسمى أم الوسخ. يقصد أن زيارة الحمٌام قبل العيد هي عادة ربما كان صاحبها يؤديها مرة واحدة في العام بهذه المناسبة.
الفصل الثاني : التركيب السكاني للمدينة وما حولها
أهل سوق الشيوخ الطيبين خليط من أعراق عدة يشكل تجمعا بشريا هو حصيلة هجرات متعددة ومتنوعة إستقرت بدوافع إقتصادية بالدرجة الأساس منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر. فكانت هذه البقعة من الأرض مركز جذب لهجرة ريف ــ– مدينة تتسع بمرور الوقت.وقد ترى أن هجرات اخرى قد وقعت لكن مصدرها هده المرة من مدن الى مدن و إن كان الدافع إقتصادي أيضآ، فقد جاء من بغداد من إستقر في محلة البغادة ، ومن الأحواز فكانت الحويزة ، ومن العمارة فكانت محلة الصابئة ، ومن الجزيرة العربية و من الخميسية المجاورة فكانت محلة النجادة و الإسماعيلية ،ومن العشائر ومدن أخرى فكانت محلة الحضر ، أن غالبية هؤلاء القوم عرب مسلمون ينتمون الى عشائرعربية قربت أو بعدت عن المنطقة ، ربما كان عدد المحيطين بالمنطقة منها أضعاف سكان المدينة ممن ينتمون في غالبيتهم الى حجام وبني خيكان وتميم وبني ركاب والمنتفك وبني أسد والعساكرة وآل نجي وحجام وغيرهم. رجال هذه العشائر شجعان معتدٌون بأنفسهم ، لدرجة أن أتباع الشيخ نجي العودة، شيخ المطيرات، عندما بادرته المنية، كانوا يهوسون (يهتفون) خارج البيت ويطلقون الأعيرة النارية مرددين : ياموت إسترخص من شيخك ! أي إستأذنه ، وكانٌي بهم وقد ورثوا تفاخر عمرو بن كلثوم بقوله في اخر معلقته “ إذا بلغ الفطام لنا صبي تخرٌ له الجبابر ساجدينا “.
أما الفئة الأخرى من أهل السوق فهم النجادة الذين إستوطنوا أول الأمر منطقة الخميسية على حافة البادية الجنوبية ، الى الجنوب الغربي من السوق على بعد 17 كم، ومنها إنتقلوا الى سوق الشيوخ ، فهم أول من إستوطنها في رأي معظم المحققين، رغم حنينهم للخميسية فقد كانوا يرددون في رقصة (الهلاي) بتضخيم اللام، في المنابسات السعيدة ، نعبر الهور ونسكن بالخميسية حتى سموها ديرة العز. والنجادة الطيبين المسالمين هم من هاجر من أرض نجد وقد حلٌ معظمهم في الخميسية اولاٌ قادمين من القصيم و بريدة ، أو من أقطار الخليج العربي المجاورة للعراق طلبا للرزق أو بدوافع أخرى، فهم في غالبيتهم يمارسون التجارة وفيهم أسر عريقة من الشيوخ والعوام .وقد تركز تواجد هذه الفئة في محلة واحدة هي محلة النجادة ولو أن سكان هذه المحلة ليسوا بالضرورة جميعم بالنجادة بل أن ما يجمعهم هو أنهم يتبعون مذاهب الأئمة : إبن حنبل أو الشافعي أو المالكي او ابو حنيفة النعمان عليهم السلام ، وغالبيتهم العظمى عرب ، وفيهم كما في المحلات الثلاث الأخرى ، بعض من هو من أصل كردي أو تركي وآخرون سود البشرة من بقايا الزنج ممن جلبوا إلى جنوب العراق أيام الخلافة العباسية ، عندما فتحت الدولة الإسلامية الساحل الشرقي لآفريقيا الممتد من تنجانيقا وزنجبار(تنزانيا حاليآ ) الى كينيا والصومال. وقد إستقر هؤلاء في حوض دلتا دجلة والفرات جنوب العراق وكانوا يعملون بالسخرة في ظروف عمل قاسية كالممالح جنوب البصرة وشق قنوات الري ، الى ما شابه. تراكمت على هؤلاء القوم صعوبات الحياة حتى أعلنوا ثلاث ثورات على الحكومة ، وكان عددهم حوالي المائة وسبعين ألفا ، بين القرنين السابع والتاسع. إلا أن أعظم تلك الثورات الثلاث كانت بين الأعوام 868 ــ– 883م ، وهي فترة حكم الخلفاء العباسيين : المعتز والمهتدي والمعتمد . ثم أخمدت في النهاية فإنتشر السكان الى جهات عدة من العراق والخليج العربي والجزيرة . وهكذا كان نصيب سوق الشيوخ بعض أسر من بقايا الزنج :ـ هم عائلة الكبسو وكنيهر، وكريم و سلمان العبد وأبوقارم وعبد عويٌد وفاطمة العبيد ، وهي التي تحيي طقوسآ في حفلات نسائية فيها رقص إيقاعي يدعى الهيوا على نقر الدفوف او الطبل.
لم يكتب كثيرا عن ثورة الزنج سوى بعض البحوث التاريخية . وبهذه المناسبة أذكر أن الدكتور فيصل جرىء السامر ،– الباحث العراقي ،– كان قد حصل على الماجستير من جامعة فؤاد الأول في القاهرة في نهاية أربعينات القرن الماضي على رسالته “ثورة الزنج”............................. أعود للحديث عن الخميسية ، لاهميتها في كل مناحي الحياة في سوق الشيوخ ، فقد ظهرت الخميسية للوجود في اواخر ثمانينات القرن التاسع عشر علي يد مؤسسها عبد الله محمد الخميس الذي اعطاها اسمه ، والذي اتاها قادماً من بريدة في نجد وقد شجعه شيوخ السعدون على هذا المشروع فانتعشت الخميسية خصوصاً في فترات فيضانات عظيمة عزلت سوق الشيوخ عن طرق المواصلات التجارية ، فاصبحت مركزاً مهماً وهمزة وصل بين غرب العراق وشرق نجد مما شجع العديد من العوائل النجدية من منطقة القصيم على الاستقرارفي االخميسية، على ان هذا قد تراجع بسرعة بسبب استعادة السوق لدوره في التجارة بعد انحسار مياه الفيضان عنه و حلول بريطانيا محل العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الاولى الامر الذي حمل معظم الاسر النجدية على الانتقال بمالهم وخبراتهم الى سوق الشيوخ التي اصبحت منطقة جذب لهم ، وهكذا بدأت الخميسية المزدهرة تذبل و تتراجع بعد ان كانت المقر الحربي لآل السعدون وقد ضمٌت مدرسة دينية مشهورة لتعليم فقه الامام احمد ابن حنبل .وقد شاهدت الخميسيه ذات في سفرة مدرسيه ذهبنا لهذا الغرض والاطلاع على أبرز معالمها سنة 1978م ركبنا مع اخرين السياره من منطقة الصلبة حتى وصلنا الخميسية وبالسفينه عبر هور نجي فبقينا فيها ثلاثة ايام غادرناها الى تل اللحم (كيسيكا)وقد سارت بنا السياره الفولكا في ظلام دامس بضعة كيلومترات حيث اخذنا القطار الى الناصرية ومنها العودة الى السوق ،كان رفيقي جلال نوري فشاخ السعدون وآخرين الذي دلٌني على معالم المدينة الآفلة نصف الخربة ،كما اخذني خارج المدينة ليريني حفرة كبيرة تحرق فيها الحامية العسكرية البريطانية المتمركزة في تل اللحم المهملات ،وهكذا كتب لي ان اشهد ذبول تلك المدينة العزيزة مع الاسف.. اعود للحديث عن احياء السوق.
فإذن نجد أن المسلمين الإثنا عشرية ،أتباع الإمام جعفر الصادق عليه السلام،وانا منهم بصرف النظر عن العرق ،– قد تمركزوا في ثلاثة أحياء من المدينة، هي محلة الحويزة ومحلة الحضر و بعض من محلة البغادٌة .. أما المسلمون السنٌة، بصرف النظر عن العرق، فقد تمركزوا في محلة النجادة . وبعد بدء توسع المدينة نشأ حي جديد هو الإسماعيلية. وسكانه مسلمون من جميع المذاهب الإسلامية ، فهو لم يخضع للفصل المذهبي الطوعي الذي صبغ المحلات الأربع الأخرى.
ولقد تميزت هذه المحلة بحداثة عهدها فكانت شوارعها عريضة متوازية ليس كمثل المحلات الأربع في مركز المدينة التي نسميها (الديرة) والتي ترتفع عن الإسماعيلية وهي ذات أزقٌة ضيقة (درابين) توحي للمرء بأن مصممها كان يفترض وقوع هجمات على المدينة بقصد الغزو مما يسهل حمايتها من خلال تلك الأزقة الضيقة. والفكرة في التصاميم واحدة. والحق أن هاجس هذا المخطط قد تحقق حين هاجمت العشائر المدينة في ثورة سنة 1935 ، مما سيأتي ذكره عند الحديث عن هذه الثورة.
ولكي ما تكتمل صورة سكان سوق الشيوخ ، نعبر الفرات الى الجانب الأيسر من المدينة الذي إعتدنا على تسميته (صوب الصبّة) يعني ضفة الصابئة المندائيين. وهم قوم مسالمون لهم طقوسهم الدينية الخاصة، خصوصا ما يتعلق منها بمراسم الزواج حيث كان العروسان يغمران في مياه نهر الفرات الى وسطهما ومعهما رجل الدين المكلف بإجراء مراسم الزواج. ولست أريد الخوض بأصل الديانة الصابئية الا أن المعروف أنهم من أتباع نبي الله يحي إبن زكريا عليهما السلام.
بسم الله الرحمن الرحيم” هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38 ) فنادته الملائكة وهو قائم يصلٌي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين(39)
وهم عادة ما يعملون في صياغة الذهب والفضة في داخل السوق. وقد نلاحظ أن أبناء هذه الطائفة متميزون في ذكائهم وجديتهم في الدراسة وهم مبرزون بصورة خاصة بالرياضيات وعلوم الفلك. ويسرني أن أستحضر هنا بعض أسماء من أبناء هذه الطائفة، وإن كانوا من مناطق أخرى من العراق، لأنهم رفعوا إسم بلدهم العراق بإنجازاتهم. أول هؤلاء عيدان غانم عكيلي وداخل حاضر وحميد رشيد والدكتور عبدالجبار عبد الله والدكتور عبد العظيم سبتي الذي كان يظهر في برنامج العلم للجميع للمرحوم كامل الدباغ وحاليا يقيم في شيفيلد في بريطانيا والاستاذ فيصل السبتي كان مديرا لتربية العماره في بداية الثمانينات هاكم من برز منهم وأبدع في الشعر والأدب كالشاعر عبدالرزاق عبدالواحد والدكتوره لميعة عمارة كما برع عديد منهم في علوم الطب ولا أشك أن هناك اخرين ممن برعوا في مجالات متعددة ممن لم يسعدني الحظ للتعرف عليهم.
ولا بد لي أن أبين أني لم أر من أتباع الديانات الأخرى في سوق الشيوخ غير شخص مسيحي إفتتح محلا لبيع الخمور وهو من عائلة طوبيٌة في الناصرية ، ثم أجبر على إغلاقه وهاجر. كما أن عائلة يهودية من المعلمين مكثت في سوق الشيوخ لمدة عام أو أكثر ثم إنتقلت الى الناصرية، وهي عائلة موشي. علماً بأن كنيسا يهوديا (توراه) كانت قائمة في المدينة في زمن غابر ،فقد عاشت في المدينة جالية يهودية ربما في القرن التاسع عشر تتعاطى التجارة و الصيرفة ثم هاجروا قي اوائل القرن الماضي وكان اخرهم تاجر الآقمشة الياهو يعقوب . وقد بقي أثر المبنى وهو بيت قديم مهجور كتب على بابه الخارجي باللغة العبرية ما يشير الى أنه كان معبدا يهودياً واقع في محلة النجادة مقابل بيت العرفج.
الفصل الثالث : الحالة الثقافية
لا أدري سبب إنتعاش الحركة الثقافية في مدينة صغيرة منعزلة نوعا ما كسوق الشيوخ . علماً بأن أول مكتبة أنشأت خلال الحرب العالمية الثانية. فلقد كثر فيها المثقفون من دبلوماسيين وأطباء و رجال قانون ومربين وفنانين وأدباء وشعراء ، بل وحتى رواد حركات سياسية . فأنت تجد فيهم القومي والشيوعي وفيما بعد البعثي. ربما كان لبساطة الحياة وجمال الطبيعة حولها أثر بالغ في ذلك. لقد كان عبدالرقيب اليوسف وحمدي الحمدي ومجيد النجار وسلمان عبدالرحمن ومعن العجلي و إبراهيم عثمان و شاكر حيدر ومصطفى جمال الدين وغيرهم أدباء و شعراء و خطباء .
كنت ترى لفيفا من هؤلاء الطيبين يجوبون محيط المدينة عصرا يتطارحون الشعر أو يلجون أبواب السياسة و الفلسفة ، فما أشبههم بالمشٌائين من الفلاسفة اليونان أتباع أرسطو، وهم يقرأون كل ما تقع عليه اليد من نتاج أدبي عربي أو عالمي وبالأخص من الأدب المصري كمجلة الرسالة و تراجم المنفلوطي لعيون الأدب الأوروبي الرومانسي كروايات ماجدولين و سيرانو دوبرجراك و ألام فرتر .
ولقد أعطت مدينة سوق الشيوخ للعراق فنانين مثل الملحن عازف القانون الماهر سالم حسين. والمطرب وناصر حكيم من منطقة الثامريه واصدقائهم من الشطره حضيري ابو عزيز وداخل حسن وهم رواد الأغنية الريفية. و لفن التصوير باسم محمد عارف . ليس هذا حسب فقد كنا ونحن صبية نستمع إلى برامج الموسيقى الكلاسيكية من إذاعة لندن التي تبث باللغة العربية ، وكنا نسميها الموسيقى الغربية، فكنا منجذبين اليها دون فهم ، وكان فريق من أقراننا يسخرون منا وينعتوننا (بالمتفرنجين) وإعتقادي أن السبب هو تخلفهم عن تذوق هذا الفن العالمي الذي هو ملك للبشرية عبر المكان و الزمان.
كما أن إذاعة بغداد كانت فيما بعد تذيع أمسيات يعزف فيها كل من ساندو ألبو على الكمان وجوليان هرتز على البيانو ،وهما فنانان هنغاريان إنتدبا للتدريس في معهد الفنون الجميلة الذي كان يديره الشريف محي الدين حيدر، ومن هناك خرجت الفرقة السمفونية العراقية للوجود وأنجبت موسيقيين كبار في مقدمتهم بياتريس أوهانسيان وغيرها.
نعود لحالنا نحن الصبية ، فقد كنا الى جانب ما تقدم نحفظ ونقلد أغاني محمد عبد الوهاب حين كنا نمضي أمسيات الصيف جالسين على الجسر تتدلى أرجلنا في مياء الفرات المنعشة ونحن نتبارى بأغنية ( عندما يأتي المساء) وغيرها يشهد علينا القمر من عليائه مضيئا صفحة النهر، ألا سقى الله تلك الأيام الجميلة التي مرت كحلم صيف ومن اصدقاء الصبيه سامي عزيز صفوك وخضير عوض هلال وناظم عبد حسن مشري وعبد الحسين ابو تيجان وسعد الحربيه وفاضل جبار وانعام البطاط (والي) وشعبان عبد الله عاتي ومجيد مبدر ياسين ومصطفى فشسيل آخرين ومن الاعتذار لأن الذاكره تخونني لاسيما والعمر قارب الخمسين.
ولقد ظلت سوق الشيوخ أماً ولوداً لشخصيات ثقافية متميزة في خدمة العراق ، فقد أعطت للسلك الدبلوماسي العراقي من السفراء كلا من السادة عبدالغني الدلٌي وعبدالجبار الهدٌاوي و إبراهيم ألولي و يعقوب الحمداني وجعفر العيد وحسن خيون ال شهاب ، ومن القضاة والمحامين السادة راجي يونس الهداوي وهداوي محمد الهداوي وحسن محمد الهداوي وكاظم يونس الهداوي وعبدالله محمد العرب وإبراهيم عثمان العثيم و عبود جايد العلوان وعبدالجبار الدلٌي وعبدالكريم الدلي ومحمد جواد حيدر ومجيد حمد النجار وطالب بدر و شاكر الحمداني وحسين الحجامي. ومن الإقتصاديين والعلماء ، كان السادة د.عبدالله أبا الخيل ، رجل ألأعمال و عالم الفيزياء النووية، ود. محمد علي العبدالله أبا الخيل “ الإقتصادي المتميز الذي تولى وزارة المالية و الإقتصاد للمملكة العربية السعودية بكفاءة مشهودة لفترة ممتدة “ ود. محمد علي العيد ود. عبدالقادر اليوسف ود. جواد الهداوي ود. طالب العيدي، ود.عبد الفتاح المطلك ود عادل الشاهر. ومن المهندسين الإستشاريين السادة محمد علي العبد وعبدالكريم على الولي . ومن المربين الأفاضل كان السادة عبدالمنعم سعدون حسين القطان وحسين حسن وسالم البراك ونعيم حداد” الذي دخل فيما بعد معترك الحياة السياسية فكان وزيراً و رئيساً للبرلمان وقيادياً ” ومهدي راضي وراضي على العبد وعبدالعزيز عثمان وسلمان عبدالرحمن وحسين الراضي وحسين عبدالرزاق و ورد شجر و ورد عنبر و حامد الشنون و نوري جابر ومحمد زمام عبد الرزاق الذي كان وزيرا للداخليه وغيرهم ومن ضباط واخرين من الضباط . الجيش الزعيم الركن ناجي طالب واللواء الركن (فريق) عبد الحسين حسن الصافي.
ومعذرة فأنا أذكر بعض هذه الأسماء التي عايشتها فيالستينات والسبعينات ومابعدها من القرن الماضي . ولست أشك في أن هذه الشجرة المباركة قد انتشرت فأثمرت حتى الآن بأكثر مما أنجبت قبلا.
بالرغم من هذه الصورة المشرقة عن الحياة الثقافية في سوق الشيوخ إلا إأنها لم تكن لتخلو من السلبيات التي مردّها الجهل والتعصب، فلا بد من الإعتراف بأن المجتمع بغالبيته كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. ولم يكن النظام التربوي المركزي للدولة قد عمّ البلاد فلم يكن لسوق الشيوخ وحتى لإخواتها المدن المماثلة سوى مدارس أولية ، أي ذوات أربعة صفوف ثم نمت حتى إكتملت الى الستة صفوف. فقد كنا نذهب الى الملاّ حنتوش ، رحمه الله، ليعلم بطريقة لا منهجية بعض سور القرآن الكريم من الفاتحة حتى سورة الفجر، وهنا يقام لنا إحتفال بهذه الختمة . وحتى ذلك الحين لم تكن في سوق الشيوخ مدرسة متوسطة أو ثانوية ،الا في باكورة الخمسينات لهذا كان أهلنا يرسلوناسلافنا الى الناصرية لإكمال الدراسة المتوسطة والثانوية وكان ذلك يشكل عبئا ماليا كبيرا على العائلة .
مواكب عاشوراء
كانت مراسم إحياء عاشوراء وغيرها من المناسبات الدينية تجرى في سوق الشيوخ وذلك بإقامة مجالس العزاء (القرايات) في الليالي العشر الأولى من شهر محرم ، في بيوت الهداوي والدلٌي والحمداني والسنيد وآل حيدر والعلوان وآخرين، وكانت تتم بإلتزام شديد . وكانت مواكب العزاء الحسينية تمر من أمامنا ونحن نسمع المشاركين يرددون : “هذي عادة ما نبدّل لا وحق سيد الرسالة” والردة الأخرى: “ويفكنه من حكم السنّة” . وكنت وأنا صبيٌ أجري خلف المواكب مع صبيان اخرين ، وأسمع شعارات المرددين ولا أفهمها ، فضلا عن أننا نحتفل بالعيد في يوم لا يشاركنا فيه أصدقاؤنا إلا بعد يوم أو يومين. كانت هذه الفروق تحزنني ولم أستطع أو لم يرد عقلي الصغير هضمها.
جدير بالذكر أن مواكب أخرى نشطت إثر وفاة الملك غازي في حادث إصطدام سيارته في 5 نيسان/ابريل 1939. وهو أمر لم تحسم أسبابه بعد. كان المردد يقول :”الله وكبر يا عرب غازي أنفكد من داره وإرتجٌت ي أركان السما من صدمة السيارة” ..
كانت تلك الشعارات تطلق تعبيرا عن مواقف سياسية مخطط لها مركزيا وإن كانت تصدر عن عقيدة.
الملك غازي – تولى عرش العراق في أيلول/سبتمبر 1933 وتوفي في إبريل نيسان 1939.
بدأ مشروع لجمع التبرعات لفلسطين في عام 1936 فكنا في السبعينات ونحن صبية نتبرع لفلسطين بمصروفنا اليومي الذي كان يتراوح بين الخمسة والعشرين فلس والدرهم (خمسون فلس)وكنا نتباهى بورقة صغيرة نعلقها في عروة السترة كدليل على تبرعناوبرزت في تلك الحقبه مجموعة اناشيد لها آثارها الواقعيه.
أثارت تلك الأناشيد في نفوسنا الحماس فلم نكن ندرك بعد ونحن صغار لعبة السياسة الدولية ولعبة الأمم و وما ستؤول اليه الأمور سواء في فلسطين أو غيرها من وطننا العربي.
وكان آخر ما تغنينا به وما نزال وأنا الآن في الخمسين ، أردده بيني وبين نفسي هنا في بيتي وغربتي، فتدمع عيناي : موطني .. موطني.. الجلال و الجمال و السناء و البهاء في رباك ، و الحياة و النجاة و الهناء و الرجاء في هواك ، هل أراك ! سالماً منعما و غانماً مكرما ، هل أراك في علاك تبلغ السماك موطني....
هذه الأغاني الوطنية كانت تهز مشاعرنا وتثير فينا، نحن الصبية، الإعتزاز بإنتمائنا لوطننا العراق ولأمتنا الأكبر . وهذا التمازج الفطري بين الموسيقى والكلمات النبيلة المتمثلة بتلك الأناشيد واللحن البسيط الذي يسهل أداؤه للجميع.
أرجو ملاحظة أن لهجة أهل سوق الشيوخ وما حولها تشبه لهجة أهل الخليج العربي خصوصا الجزء الشمالي منه. فنحن هنا نحوٍل حرف الجيم الى ياء، فنقول:ـ النيايير للنجارين ودياي للدجاج ورجٌي للرقٌي وريّال للرجل ونيدي للنجدي وهكذا . ولعل الإختلاف في تلفظ مخارج الكلمات وأحيانا مدلولاتها كان يسبب لنا إزعاجا عند السفر الى بغداد أو الى مدن وسط وشمال العراق. فنحن مثلا نستخدم كثيرا كلمة (جا) كمتكئ لفظي من شأنه إعطاء المتحدث فسحة قصيرة من الوقت كي يسترسل بأداء الفكرة .. وقد عرف الباحثون أن هذه الكلمة كانت تستخدم لنفس الغرض في العصر السومري في اللغة الكلدانية. ولا عجب، فمدينة سوق الشيوخ تقع في منطقة نفوذ الحضارة الكلدانية بحكم موقعها الجغرافي . وغير هذا فنحن نقول:ـ فاتيه للصندوق ورازونه للكوٌة الصغيرة في الحائط ، وجاز لكعب القدم ،وكض بمعنى أمسك، ونوّي أي الى جانبي أو قربي، وحذاي اي بجانبي ، وجيه بمعنى لأن أو بسبب، وكوّاك أي جيد، وحدر بمعنى أسفل الشىء ،ويبغج بمعنى يصرخ بشكل مزعج ، وطك بمعنى الضرب على الدفوف للرقص ، و يلصف بمعنى يلمع ،وباشط أي حاد ، و يمرعد بمعنى يمزق ، و يتمقلج أو يتعيقل أو يتنحور وكلها بمعنى التكلف والتظاهر ،ونسمي الباذنجان باينذان و البامية بانية وهكذا ...
كما ينفرد أهل سوق الشيوخ بظاهرة لغوية أخرى ، تلك هي تصغير الكلمات... فترانا نسمي:ـ قطعة الخبز .. خبيزة ، والولد وليد ، والماء أمميٌة، و التمرة تميرة، والبيت بويت، وقلبي كليبي، والسمكة سميجة. وإذا كان الرجل متوعكا تراه يقول : ماني طويِب .
كان هذا الخلط في لفظ حروف العلة بدل الساكنة يسبب للبعض حرجا، فعلى سبيل المثال ذهب أحدهم الى مدينة أخرى لعلاج عينيه، فإذا به يصرح بأنه جاء لعلاج (عجوني بدلا من أن يقول عيوني) ظنا منه أن هذا هو النطق الصحيح. كما أنه كان يسأل البقال عن سعر كيلو (الخجار) أي الخيار ... وهكذا. ذلك يذكرّني بإستبدال بعض أهل الخليج العربي حرفي القاف والغين أحدهما مكان الآخر، حتى إختلط على السامع ما إذا كان المقصود الإستقلال أو الإستغلال أو العكس ، على أن هذا الخلط بين حرفي القاف والغين لم يصل الى سوق الشيوخ لحسن الحظ ونحن في المنطقة نقول (إي) بدل نعم كجواب بالأيجاب و أحياناً للتعجب ، فإذا تحرينا هذه الكلمة لوجدناها في الآية 53 من سورة يونس في القرآن الكريم :
بسم الله الرحمن الرحيم “ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين” صدق الله العظيم.
لا بد لي أن أنوه هنا بأن الحديث عن اللهجات ونطق الكلمات لم يكن بالضرورة مقتصرا على أهل سوق الشيوخ و العشائر المحيطة بها ، بل لعل هذه الظاهرة تغطي العديد من مناطق العراق الجنوبية خاصة بل العراق عامة ..كما يلأحظ ان الجيل الجديد من ابناء المدينة لم يعودوا متمسكين بتلك المفردات اللغوية أو اللهجة المتميزة .
الحياة السياسية
يعلم القارىء أن فترة الثلاثينات من القرن الماضي كانت بالنسبة للسياسة الدولية مفصلا يرتبط أولها بنتائج وآثار الحرب العالمية الأولى 1914-_ 1918و يأتي في مقدمة التأثير فيها مؤتمر فرساي وتوابعه في سان ريمو ولوزان وسيفر ، و لا يفوتني التذكير بوعد بالفور المشؤم ، و إعلان سايكس بيكو، تلك المعاهدات والمؤتمرات قسٌمت الشرق الأوسط كما هو معروف الى مناطق نفوذ فرنسية وبريطانية ، مع تعاظم نفوذ الإتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية وإنحسار تأثير النازية والفاشية التي تبنتها ألمانيا وإيطاليا في شخصي هتلر وموسوليني وحزبيهما بمثل ما إندثر ،– الى زمن ،– دور اليابان الإمبراطوري. كما أن آثار تلك الحرب صبٌت في هزة للإقتصاد العالمي تبلورت في الممتدة ذروتها من 1929–1949 والتي أثرت سلباً على الحياة الإقتصادية للبشر كافة ، حتى انها ألقت بظلالها على عائلتي كمثل تأثيرها على ملايين الناس في العالم الواسع.
فقد حكى لي جدي أنه كان خلال فترة العشرينات من القرن الماضي في تجارة للجلود والتمور وبضائع أخرى مع البصره، و اخرى يذهب بها مع رئيس عمله المرحوم عباس البلداوي الى الموصل. على أن آخر رحلاته كانت في عام 1949 مع ذروة الإزمة موضوع البحث ، مما سبب لهما خسارة فادحة أفلستهما تقريبا، فلم يعد جدي بعد ذلك الى ممارسة التجارة وإقتصر نشاطه الزراعه في ريفه وكذلك تربية الحيونات الى أن توفاه الله في عام 1987 ، رحمة الله.
فأين سوق الشيوخ من هذه الصورة الكونية! أقول ، لقد ظل العراق الذي وقع تحت الإنتداب البريطاني ومن ثم وصاية عصبة بعد إعلان الملكية في دولة العراق 1921، وسوق الشيوخ جزء منه، يتخبط في حراك سياسي كمن يفتش في الظلام عن بصيص نور يعينه على الرؤية الواضحة. فكنا نرى تدخل بريطانيا في كل شأن من شؤون العراق سياسي وإقتصادي وإجتماعي، فقد ساعدت على خلق طبقة من العراقيين خصوصا ملاك الأراضي الزراعية، ممن إرتبطت مصالحهم بالتاج البريطاني من خلال التاج العراقي. هكذا إذن صرنا نرى أحد أفراد إحدى العائلات قد ترشح الى مجلس النواب أو حتى الى الوزارة. فهنا ترسخ تيار ربط حياته بالغرب وقد ظهر ذلك بأوضح شكل خلال الحرب العالمية الثانية 1939ــ-1946 حين كانت بريطانيا، تحت إسم الحلفاء، تنشىء مكتبة ودار للسينما المتنقلة في سوق الشيوخ، هدفها الظاهر ثقافة الشباب وباطنها ربط هؤلاء الشباب والشيب بأهداف الغرب في محاربة النازية والبلشفية سواء بسواء. وذلك على الرغم من مظاهر التحالف بين الدول الغربية والإتحاد السوفييتي في ذلك الحين. هذا تيار سياسي واضح صبغ حياة العراقيين بلونه بما فيهم من في سوق الشيوخ.
أما التيار الجديد فهو الدعوة الى الشيوعية تحت مسمى الإشتراكية، فجأة وجدنا من يدعو لحضور إجتماع سري لشرح مفهوم الشيوعية وكيف أنها تعطي ببساطة لكل حسب حاجته وتأخذ من كل حسب طاقته، وكانوا يرددون قول لينين أن “الدين أفيون الشعوب” وما الى ذلك من تعاليم اللينينة الماركسية. وعلى الرغم من مناهضة الغرب للتعاليم البلشفية ، إلا أن تحالف الغرب مع الإتحاد السوفييتي في مواجهة المانيا النازية كان يحمل الإنجليز أو الحلفاء في العراق على غض النظر عن نشاطات الشيوعيين حينئذ، ريثما ينتصر الحلفاء فيما بعد فيظهر العداء الى العلن. على أي حال ، كان هذا التيار -، الدعوة للشيوعية-، نشطا في سوق الشيوخ والناصرية .وكان دعاته من المثقفين في المدينة الذين كان بعضهم يحاول أن يوهم غير المتعلمين بأن الدعوة للشيوعية إنما تعني الدعوة الى الشيعية وذلك لإغرائهم بالإنتماء الى الحزب.
أما التيار الذي يصنف بأنه رجعي بعكس التيارات الأخرى التي تعتبر تقدمية ، فهوالتيار الديني الذي يحرص على ممارسة الشعائر الدينية والإلتزام بها . وقد كان هذا التيار مدعاة عند البعض لزرع الطائفية والفرقة بين المسلمين، ولا أعمم ذلك.
على أن تيارا قوميا قد برز في تلك الفترة ينتصر لألمانيا النازية ، ليس حبا بهتلر بل بإعتبار عدو عدوي صديقي ... لقد كنا ونحن صغار نتصورأن في النازية مخرجآ من ذلك الوضع السياسي، فكنا نستمع الى إذاعة برلين وصوت مذيعها العراقي يونس بحري يلعلع في المقاهي. ليس هذا حسب ، بل لعلنا كنا نترقب على الراديو خطب هتلر بالألمانية التي لا نفهمها ولكننا كنا مأخوذين بحماسته وصوته القوي. هذا التيار القومي ساد بين الكثير من العراقيين عامة وبضمنهم أهل سوق الشيوخ .
وأخذ التيار القومي يتلمس في الحركات القومية في الغرب مثالا يمجده ويحتذيه لعله ملاقٍ فيه مخرجاً من الضياع. ولهذا نجد أن المناداة بالقومية العربية والعودة الى الأصول قد إنتعشت وأدخلت الروح العسكرية الى مدارسنا عن طريق الكشافة والفتوة واللباس الموحد والتدريب على التمارين والممارسة العسكرية البسيطة.
هكذا كان الجو السياسي في سوق الشيوخ ، فالناس بين متأبط ، فكرًا ، كتاب (كفاحي) لهتلر وبين (رأس المال) لكارل ماركس، أو المادية التاريخية وتعاليم لينين. أو داعيا الى القومية العربية أو الى الأصول الدينية، ولم يكن الفكر البعثي قد تبلور أو ظهر للساحة السياسية بعد.
الفصل الخامس : الحياة الاقتصادية
أهل سوق الشيوخ الكرام جلهم عمال وكسبة ومن ذوي الحرف الذين يعيشون على عملهم اليومي دون أن يكون لهم أي ضمان أو توفير للمستقبل عند تعطلهم عن العمل أو تقاعدهم. وقلة قليلة تعمل في وظائف حكومية على ندرتها . كما نشأت طبقة صغيرة من التجار و ملاك العقار أو الأراضي الزراعية وهي البساتين التي تحيط بالمدينة من كل جانب وهي في الحقيقة بما تنتج تكون محور الحياة الإقتصادية للمدينة .
هذه البساتين الكثيفة ذات الإنتاج الغزير من التمور الجيدة التي يستهلك بعضها محليا ويصدر أكثرها الى داخل العراق أو خارجه بواسطة شركة بريطانية مقرها البصرة وإسمها (بيت اللنج)).
وأشهر تلك التمور هي الخضراوي والقنطار والشويثي والبرحي والخستاوي والبريم والأستعمران والزهدي والديري والحابسي والمياسي وغيرها حتى بلغ عدد اصنافها 550 ، وقد قدٌر عدد نخيل العراق في القرن الماضي ب 35 مليون نخلة لم يبق منها عبث الإنسان سوى 14 مليون .
النخلة... هذه الشجرة الجميلة الرشيقة المباركة الصابرة على ملوحة التربة ، كريمة في عطائها، فهي تعطينا تمرًا لغذاءنا ونصنع من سعفها عندما يكون بعد طريا مادة للنجارة . وأما جريدها فتصنع منه أسرّة النوم والكراسي. وأما أوراقها (الخوص) فيستعمل في صناعة المهافيف (المراوح اليدوية) والزنابيل (السلال الصغيرة) وسفرة الأكل. أما إذا ما جفٌت السعفة فهي خير وقود لإعداد الطعام ، كذلك نفعل بكربها ، وأما جذعها فيستخدم في بناء سقوف المنازل و كمعابر على قنوات المياه في البساتين.
ومن شغفنا بالنخلة المباركة فقد سمٌينا حديثة العهد منها بالنشوة، أما الصغيرة الرقيقة فهي (لينة) سورة الحشر – الآية (5) “مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّـهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ” .
وإما إن طالت كثيرا فإنها (عيطة) . كما أننا نسمي ما ينمو من أبناءها (فسيلا) وهو ما نقل الكثير منه الى الخليج العربي وكاليفورنيا في الولايات المتحدة خصوصا البرحي منه. وكل مرحلة من مراحل إنتاجها لها إسم ، فهي في أول الموسم تدفع بالطلع ونسميه (الطليّع) فإن تلقحت كبرت حبات الثمرة فسميناها (حمبوبوك) ثم (جمري) في المرحلة التي تليها وتكون خضراء لا تؤكل. فإن نضجت وإصفرٌت فتصبح (خلال) بتضخيم اللام.
فإن نضج نصف هذه الثمرة الأسفل أصبحت (رطباً) وهو ما يصلح للأكل. فإن تركناه في (عثوقه) وهو (القنوان الدانية) سورة الأنعام “وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۗ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿99﴾” فقد صار تمراً وهو الناتج النهائي.
أما إذا لم تلقح النخلة فستحمل حشفاً لا يؤكل وهو الذي يضرب المثل برداءته حين نقول مستنكرين عند شراء بضاعة رديئة نوعاً وكيلآ : أحشفاً وسوء كيل! ونحن نحفظ التمر بكبسه في سلال مصنوعة من سعف النخلة ، حيث يرصٌ التمر بما نسميه (الكوصره) ليستهلك في موسم الشتاء أو ليصدرالى بلدان الخليج العربي أو في داخل العراق .
ومن وسائل الحفظ الأخرى أننا كنا نسلق (الخلال بتضخيم اللام) الأصفر والأحمر قبل أن يرطّب وننشره في الهواء تحت أشعة الشمس حتى يجف تماما فتتجعد قشرته الخارجية بفعل تبخر السوائل منه فتكون حلاوته عالية بفعل تركز المادة السكرية، وهذه الطريقة تبقي الثمرة صالحة للخزن وللأكل حتى بعد سنين ونسميها (خلال مطبوخ) ولا يفوتني ذكر (الديري) فهي تمرة جافة كنا نملأ جيوبنا منها عندما نذهب للعب. وما أكثر إستعمالات التمر في صنع الأطعمة . تصنع منه حلاوة تسمى (الشعث) وذلك بخلطه مع قليل من الزبدة ليطهى على نار هادئة ، وتقدم هذه الحلوى في شهر رمضان المبارك. كما تصنع من التمر (الكليجة) العراقية الشهيرة وذلك بحشوه بعجينة من الطحين والدهن. وبالإضافة لما تقدم فإن التمرة مخلوطة بالسمسم والكزبرة والهيل بحيث يغمر الخليط في قليل من الدبس فيكون (المعسَل) وهو مربى التمر. أما الدبس فهو عصارة التمر أو عسل التمر الذي نحصل عليه بوضع إناء تحت كمية مكبوسة من التمر لنجمع ما يقطر منه ، كما يستخرج تجارياً بغلي كميات من التمر وعصرها ألياً ،
بقي أن أذكر أن نسيج الألياف حول جذع الشجرة يستفاد منه في حشو المقاعد. وتظل النخلة كريمة حتى بعد موتها ، إذ تعطينا في قلبها كتلة من السليولوز حلو المذاق هو (الجمّار) . وأخيرا وليس آخرا، فإن نواة التمرة (الفصمة) هي خير غذاء إذ تستخدم كعلف جيد للحيوانات كالأغنام والأبقار. ولقد كان النوى يصدر، لهذا الغرض، الى بلدان الخليج العربي في ذلك الوقت فهو مصدر مهم للبروتين . ومعذرة إن أطنبت في تفاصيل حبيبتنا النخلة ، ولي عذر في شجرة ذكرها الله سبحانه وتعالى عشرين مرة في محكم كتابه الكريم ، وقال فيها نبينا الكريم "صلٌى الله عليه و سلٌم" (أكرموا عمتكم النخلة فانها خلقت من فضلة طين أبيكم آدم)
ولقد صدق الشاعر” أبو العلاء المعري “ حين زار العراق قائلا:
وردنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وفوق هذا فإننا نشبه بلدنا الحبيب العراق بالنخلة لثبات أصولها وجذورها ووفرة عطاءها.وحلاوته.
أود أن أشير هنا الى أن فلٌاحي المنطقة ، عدا الحساوية ، كانوا يأنفون من زراعة الخضراوات فهذا النوع من الزراعة،عدا النخيل، يحط من قدرهم في نظرهم ، فهم يفضلون شراءها من مصادر أخرى، وكانت هذه الخضراوات كالطماطم والباميا والباذنجان وغيرها تأتينا من منطقة الفضلية التي تقع بعد أم العباس الى شمال المدينة.
وقد إعتادت الأسر هنا على إستغلال فترة وفرة هذه الأنواع من الخضراوات وتدنٌي أسعارها فكانت تعمل على تجفيفها بنشرها في الشمس حتى تجف ثم تحفظ بعدئذ في الظل معرضة للهواء كي يعاد طبخها في فترات ندرتها. بنطبق ذلك على معجون الطماطة، حيث تعصر نساء العائلة كميات كبيرة من الطماطة الحمراء الناضجة في أوانٍ واسعة حتى تنفصل عنها القشرة فيضاف الملح للخليط الذي بكون قد تجانس نتيجة لعملية العصر. بعدها يصب الخليط في اوان مسطحة ويترك في الشمس ليتبخر بعض الماء منه ، ثم يحفظ الناتج وهو معجون الطماطة لحين إستعماله.
وفيما عدا النخيل ، فإن أنواعا أخرى من الفواكه تزرع وتسوٌق في المدينة كالعنب والرمان والمشمش والتين وبعض الحمضيات مثل الأطرنج الحامض (الدمبلان) . أما ما نراه في السوق من الرقي والبطيخ والتفاح والبرتقال والموز فتلك تكون مستوردة من ديالى أو من كربلاء أو سامراء.
كانت اللحوم الحمراء متوفرة وكذلك الأسماك النهرية سواء من نهر الفرات أو من هور الحمّار القريب. وهي بمعظمها من البنٌي والشبوط والكطان والصبور. ولكي أعطي فكرة عن أسعار السمك .. أذكر أني كنت أرافق والدي لشراء السمك من العلوة ومن (مرار) فذلك إسم البائع، وكنت أبلغ من العمر حوالي السبع سنوات، فكان البائع يقول لأبي أن الصبور اليوم الثلاثة بفلس واحد ....فتصور عزيزي القارىء! كانت بقية أنواع السمك متدنية السعر كذلك خصوصا في موسم (الزرٌة) أي تكاثر السمك ، ولهذا كانت العائلات تشتري كميات كبيرة من السمك لتجففه مع الملح في أشعة الشمس كي نأكله عند ندرة المحصول. هذا النوع المجفف كان يسلق بالماء مع قليل من الزيت والبصل وبعض البهارات وتسمى هذه الأكلة (المسموطة) ، فإن نزعت أشواك السمكة فنحصل على المرق وإسمه (مهروثة) وكانت من الوجبات المحببة لنا. وبالمناسبة، فقد وجدت خلال عملي في السويد، أن القوم هناك يأكلون السمك المقدد بنفس الطريقة بعد نقعه في الماء لعدة أيام خلال أعياد الميلاد ثم يطهى بعد ذلك. كما وجدت الفرنسيين يستهلكون السمك المجفف المحفوظ لمدة طويلة في الطحين وإسمه (باكالان). إذن فليس لأهل بغداد الحق أن يعيٌروننا بأكل المسموطة التي يدٌعون أنها سمك جائف (فاسد). الفرق بيننا وبين السويديين والفرنسيين أن السمك في سوق الشيوخ نهري وهو إما (بنِي) أو (صبور) بينما سمكهم بحري. وهكذا تتمكن العائلة من تقديم السمك في وجبة الغداء الى جانب أنواع أخرى من الطعام إن تيسرت . أما في أيام البرد القارص و المطر فكانت وجبة الغداء تتكون من الخبز اليابس يطبخ مع الزيت والملح والحامض ويقدم ساخنا ويسمى (محروق إصبعه). أما وجبة الإفطار فكانت تتكون من الشاي والخبز وأحيانا البيض أو القيمر. أما الغداء ففيه نوع من مرق الخضراوات أو السمك ، و أما العشاء فكان يحتوي على الرز والروبة (اللبن الرائب) والفجل. ونادرا ما نحصل على لحم البط الخضيري شتاءا ، وهو الذي يطير من موطنه روسيا وإسكندنافيا ليحط في مياه الهور. ولا يفوتني وأنا أتحدث عن الطعام أن أذكر طرشي الشلغم (اللفت) والشوندر (البنجر أو الشمندر) والجزر فقد كان هذا الخليط المكبوس يثير الشهية بلونه الأحمر القرمزي. وكانت منتجات الألبان كالحليب والقيمر والزبدة والروبة متوفرة ومصدرها الجواميس التي كان أصحابها يرعونها في منطقة (البركة) حيث وفرة المياه .
ويجب أن أذكر أن (التكيّ) الأحمر والأبيض وهو نوع من التوت ، كان يكثر في موسم الفيضان وكذلك (النبق) وأخيرا وليس آخرا (الخرّيط) بضم الخاء وتشديد الراء، وهو مسحوق أصفر اللون يجمع من نباتات القصب عندما تكون غضٌة وأولها (العنقر) فأما المسحوق فهو (نتح) القصب، ويبدو أنه يغلى مع بعض السكر ليكون هذه المادة التي لم أر مثيلا لها في أي مكان آخر.
والبنية التحتية للمدينة والخدمات العامة لا تكاد تذكر. فما كان مصدر مياه الشرب سوى من خلال (السقاء) ، كان المرحوم محمد الخالد ،وهو رجل أعمى، يسقي لمحلتنا يساعده حمار مطيع يتجاوب معه بشكل ملفت في الإستدلال على وجهته ، وقد عرف عن الرجل خفة دمه تراه يداعب كل من يتعرض له ، فكان يجلب الماء من النهر مباشرة ليصبه في (الحب) بكسر حرف الحاء وهو إناء فخاري كبير مخروطي الشكل لخزن الماء في البيت نرى فيه الماء عكرا تسبح فيه أسماك صغيرة. فكنا نلجأ لمعالجته بوضع الشب ، وهو من مركبات الألمنيوم (هايدروكسيد الألمنيوم) الذي من خصائصه ترسيب جميع الشوائب كي يبقى الماء صافيا . وعادة ما نضع تحت (الحب) إناءا خزفيا تتجمع فيه نقاط الماء الراشحة من الحب يسمى الناقوط . وقد قامت مصلحة إسالة الماء بمدٌ الأنابيب الى بعض البيوت. وكنت أذكر أن النسوة من أهل الإسماعيلية كن يتقاطرن على بيتنا لأخذ الماء من الحنفية. فقد كنا محظوظين أن أنابيب المياه إمتدت لبيتنا قبل غيره ، وكان ذلك تقدما يستحق الحديث عنه في ذلك الوقت صورة لصبيٌ يشرب من (الحب أما الكهرباء فليس لها وجود عدا ما ينير بعض الشوارع، ومن نافلة القول الحديث عن المجاري .. لهذا إستعاض الناس عنها بالبلاليع في بعض البيوت)).
ولم يكن في المدينة شارع معبٌد واحد فكلها تغرق في الوحل عندما تمطر السماء فتتحول الى (غيلة) التي هي عبارة عن أكوام التراب الذي خلط بالماء والتبن حتى يتخمر فيقطع الى (اللبن)بكسر حرفي اللام و الباء ، أي الطابوق الطيني الذي يجفف في الهواء لإستخدامه في البناء .
كانت أسعار الملابس زهيدة ،ولأضرب مثلا على ذلك ، فعندما أنهيت المدرسة الإبتدائية كان علىّ أن أكمل الدراسة المتوسطة في الناصرية ، إصطحبني خالي محمد الى محل حمزة ليختار لي ملابس كاملة فكانت البدلة بـ 750 فلس مع قميص ياباني بياقات إضافية بـ 50 فلسا ثم حذاء انكليزي الصنع كلاصي Glossy بـ 170 فلسا وسدارة أيطالية ممتازة بـ 100 فلس. هكذا كانت الأسعار وهي مؤشر على القدرة الشرائية المتدنية للناس حينها.
وبالرغم من رخص أسعار المواد الغذائية فقد كانت العائلات تشتري غذاءها بما يكفيها مؤونة يوم واحد لعدم وجود وسائل تبريد لحفظ الأطعمة في الجو الحار الذي تزيد حرارته عن خمسين درجة في الظل مصحوبا بهبات هواء محملة بالغبار والأتربة. على أن تأسيس مصنع للثلج جلب لنا شيئا من الرفاهية حين كنا نشتري ربع قالب من الثلج ونضعه في صندوق خشبي فكنا نستمتع بشرب الماء البارد ونحفظ فيه بعض الأطعمة .
أذكر أن فصل الشتاء كان باردا جدا لدرجة تجمد طبقة من المياه نسميه (جحيل) وكانت وسيلة التدفئة مقتصرة على المنقلة المتنقلة والموقد الثابت. ولم يكن أي بيت ليخلو من التنور وهو فرن طيني نخبز فيه الخبز ونشوي فيه السمك. أما الوقود المستخدم في التدفئة فكان سعف النخيل الجاف والكرب (أعقاب السعف) ومن الغضا والرمث وهي بقايا شجيرات صحراوية جافة تمتاز بسرعة الإشتعال. كما يستعين الناس ، بدرجة أقل ، بمصادرأخرى من الطاقة ك (السرجين) وهي أقراص مجففة من روث البقر تسمى عند بيعها (مطّال) بضم الميم وتشديد الطاء و كذلك ( بعرور ) الأغنام، أما مخلفات الخيل فهي ( الصون ) وهذه كلها تمثل مصدر طاقة متجددة من خارج الأحفوريات.
وفي المدينة طاحون يملكها السيد (بعنون) فكانت النساء يحملن الحنطة الى الطاحون لطحنها مقابل أجر. وكانت هناك مطحنة أخرى يملكها السيد لفتة الكرادي الدي يملك بالإضافة لها معملا صغيرا لعمل مشروب غازي يعبأ بزجاجات تسدها بإحكام خرزة زجاجية تمنع الغاز من التسرب. وكان المعمل ينتج (سوده) و (سيفون) وهذا الأخير سائل ملون حلو الطعم ،هذه المشروبات تكون مكبوسة مع كاربونات الصودا لدرجة أن من يشرب منها يشعر بالغاز يخرج من أنفه وفمه بعد أخذ جرعة من (البطل – بضم الباء والطاء) ونعني الزجاجة.
يمتلك معظم أهل سوق الشيوخ بيوتهم ولم يكن هناك مكتب للعقار، ولهذا فكنا نرى نسمع مناديا ، وهو الدلاٌل، يعلن بصوت جهوري جيئة وذهابا في سوق المدينة عن العقار المطلوب بيعه ، معددًا صفات الدار المعروضة للبيع بأنها دار ممتازة لقربها من النهر وهذا يعني سهولة جلب الماء وكذلك لقربها من سوق المدينة مما يسهٌل التسوٌق وهما صفتان هامتان لمن يرغب في الشراء.
وبالنسبة للخدمات البريدية التي تربط سوق الشيوخ بالعالم فكانت تتم عن طريق متعهد إسمه (كاطع) وهو رجل نشيط يشعر بحجم المسؤولية التي يتولاها، فهو يستلم كيس البريد من دائرة البريد ليوصله الى الناصرية ويستلم الوارد عائدا به الى سوق الشيوخ.
تبعد مدينة الناصرية عن سوق الشيوخ بحوالي 28 كم وكانت وسيلة المواصلات التي تربطنا بالناصرية مجموعة من السيارات تديرها عائلة الكريمي . وعن طريق النهر بواسطة الفلكة (بكسر الفاء) أو (الماطور) كما نسميه وكان يقطع المسافة في النهر ليصل الى الناصرية بحوالي أربع ساعات ذهابآ عكس تيار النهر و اقل من ذلك عند العودة مع التيار ، وكان المشرف على هذه الوسيلة السيد رمضان .
الفصل السادس : الحالة الإجتماعية
يتميز أهل سوق الشيوخ ، بحكم محدودية رقعة المدينة وتقارب بيوتها من بعضها البعض، بنوع من التكافل الأجتماعي كلّ بحسب المحلة التي يسكنها والتي تحدد لدرجة ما إنتماءه لدين أو مذهب أو عرق واحد. لكن هذا لا يمنع من بروز ظاهرة تكاتف وتعاون بين مختلف تلك الجهات . يحمل أهل السوق رجالا ونساءا العديد من بقايا صفات ومزايا مد البداوة الى التحضر. فهم بمجموعهم ينتمون لأصول عشائرية قد تكون العشيرة من نفس المنطقة أو من غيرها من عشائر العراق أو حتى من البلدان المجاورة . إنهم شجعان و كرماء تراهم يتمسكون بمظاهر الشرف والغيرة على العرض حتى يصل الأمر الى حد القتل دفاعا عمٌا قد يخل بالشرف ، وجميعهم يتمسكون بقيم الدين الإسلامي الحنيف.
والتميز الطبقي واضح عند حصول بعض حالات الزواج. فترى مثلا أن شخصا نجديا إسمه (الضعيٌف من عشيرة الحميٌد )وهو رجل نحيف الجسم تجارته بيع الفحم يرفض تزويج كريمته من شاب نجدي جامعي ناجح، وسبب رفضه أنه شيخ أصل كما يقول وأن الخاطب في نظره ، عامي، وهذا يجعل الزواج غير متكافىء.
كما يظهر هذا التمايز في الأسر الشيعية ، فلطالما رفضت عائلات خطيبا لبناتها على إعتبار أن الخطيب ليس من نفس المستوى العائلي.. ولم تتم في سوق الشيوخ ، على حد علمي، زيجات مختلطة بين المذاهب مطلقا ،بل إن الزواج بين الأعراق المختلفة معمول به بشرط وحدة المذهب. وتلك ظاهرة أظن أن الزمن قد عفا عليها فيما بعد.
وسكان سوق الشيوخ بمجملهم بسطاء يمكن إقناعهم إن جئتهم بالحسنى وبالرفق. ويقول المثل عندنا “ شيٌم العربي وخذ عباءته”. أي أنك تستطيع أخذ أعز ممتلكات الأعرابي، وهي عباءته ، إن جئته مستنجدا بشيمته. وأهل السوق كرماء، كل حسب مقدرته، فهم يساعدون الضعيف ويكرمون الضيف . ولكني لاحظت أن هناك ميل لإستغفال القادمين من الريف. وأذكر هنا مثالا على ذلك فقد إختلف رجل من أهل المدينة مع آخر من الريف على تحديد مبلغ لقاء خدمة ما، فما كان من الرجل من سوق الشيوخ إلا أن يقسم بعلي الولي وعلي المظلوم ليثبت للأعرابي صحة قضيته. والحقيقة أنه كان يقسم بإسم والدي علي بن حسين الولي وبعلي المظلوم وكان صاحب قهوة في سوق الشيوخ. وصدَق الأعرابي القسم بإعتبار أن المقصود هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، لكن الأمر لم يكن كذلك بالطبع .
وأهل السوق محافظون على عادات أجدادهم ومن الصعب أن تحيدهم عنها. ففي ذلك الوقت – وأنا أتحدث دائما عن فترة أواسط الثلاثينات في القرن الماضي – كنا كبارا وصغارا نلبس لباس الرأس، أكان سدارة أم كوفية ... الى غير ذلك من أغطية الرأس، فالمهم أن لا يظهر الرجل أو الفتى حاسر الرأس ، فذلك أمر مشين يلصق بفاعله أقبح النعوت، على أن شابا رائعآ من أهل المدينة، وقد تخرج معلما ، عاد من بغداد حاسر الرأس مسرٌح الشعر هو المرحوم مهدي الراضي، وقد تعرض لأشد الإنتقاد في حينه مما زاده إصرارا على توجهه، جزاه الله عنا جميعا خيرا فقد فتح لنا بابا ولجناه لنحذو حذوه فتخلصنا من ذلك القيد الثقيل في ذلك الحين أعني السدارة .
وبمناسبة الحديث عن غطاء الرأس ، أود أن أبين هنا أن الرجال في سوق الشيوخ وما جاورها كانوا يلبسون اليشماغ والعقال. فإن كان الغطاء أسودا في نقشه عرف أن صاحبه شيعي، أما أن كان أحمرا فذلك سنيٌ. وقد لاحظت أن هذا التميز المقصود قد تلاشى الآن بعد أن تقلصت وظيفة اليشماغ وكان كبار السن يلبسون كوفية بيضاء لا تخلو من تطريز بخيط اصفر ، وفي هذه الحالة يكون عقال الرأس مختلفاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق