المحاضرة العاشرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3- القــرى
في العصر الحجري الحديث ص155
كانت القرى ضرورة اقتضتها حياة الاستقرار ومعرفة الزراعة، وبالرغم من ذلك فإن السكن يعد ظاهرة قديمة، ففي العصر الحجري القديم الأعلى وجدت مساكن مبنية من الأخشاب والطين، وفي بعض المناطق استغل الإنسان وجود حفر طبيعية في الأرض وقام ببناء مسكنه فوقها، وبذلك ظهرت مساكن الحفر التي استمرت موجودة حتى الوقت الحالي عند معظم جماعات الصيد التي تعيش في الأصقاع الباردة في نصفي الكرة الشمالي والجنوبي.
واختلفت قرى العصر الحجري الحديث من منطقة إلى أخرى وإن اتفقت فيما بينها في بعض الخصائص، وعلى أية حال، قد تحسن الإشارة إلى الخصائص العامة التي ميزت قرى العصر الحجري الحديث مع إعطاء نماذج لبعض القرى في بعض مواقع هذا العصر في بعض جهات العالم، ومن هذه الخصائص:
1- أثرت الاختلافات الإقليمية في شكل ومادة بناء المنازل،
أ- ففي البيئات التي توافر فيها الطين شيدت المنازل من الطين المقوي بالبوص أو من الطوب اللبن.
ب- وفي بيئات أخرى شيدت من الحجارة.
ج- وأحيانا ظهرت منازل مبنية من عظام الحيوانات خاصة الماموث أو من الأخشاب.
2- اتصفت القرى في أوائل العصر الحجري بغياب وسائل الدفاع. وفي بعض القرى حفر خندق أو شيد حولها لتجنب خطر الحيوانات المفترسة.
ولعل القرية الوحيدة التي توافرت لها وسائل الدفاع هي قرية جريكو (أريحا) في فلسطين، مما جعل البعض يعتقد بأنها بما كانت مدينة وليست قرية.
3- اشتركت جميع قرى العصر الحجري الحديث في غياب الخطة والاستثناء الوحيد كان في قرية مرمدة بني سلامة والتي أظهرت شيئا من التنظيم.
ولتوضيح الفرق بين قرى العصر الحجري الحديث يمكن الإشارة إلى بعض الأمثلة عن القرى التي قامت في مواطن حضارات هذا العصر.
نموذج1- في وادي النيل في مصر، حيث المناخ الدافئ الجاف والتربة المتجددة والفيضان السنوي، لم يجد فلاحو هذا العصر أو حتى في المراحل الحضارية التالية ثمة حاجة لإقامة منازل ثابتة.
ففي قرى الفيوم شُيدت المنازل من البوص على هيئة أكواخ، وحدث الشيء نفسه في مرمدة بني سلامة في مرحلتها الأولى، وفي مرحلة لاحقة تمكن أصحابها من استخدام الحُصر في بناء أكواخهم بل عرفوا أيضا كيف يشيدون أكواخاً طينية على شكل قباب، وعاش أصحاب حضارة البداري في جنوب مصر في أكواخ من الحصير تشبه تلك التي ظهرت في مرمده بني سلامه في فترة متأخرة. 156
نموذج2- في إقليم جنوب غربي آسيا، كانت قريتا جريكو في فلسطين وجارمو في العراق من أقدم القرى التي قامت في هذا الإقليم واستخدم في بنائهما الأحجار والطوب واللبن، واتخذت منازل أريحا الشكل الدائري في مرحلتها الأولى بين الألف الثامن والألف السادس قبل الميلاد وتراصت المنازل بجوار بعضها وبدت متكدسة بشكل ملفت للانتباه تذكرنا بالأحياء القديمة في المدن، وفي مرحلتها الثانية تحولت المساكن إلى الشكل المستطيل،
أما قربة جارمو فكانت صغيرة ذات منازل مستديرة متعددة الحجرات مبنية من الطين، وزودت المساكن بأفران للخبز وأحواض للغسيل.
نموذج 3- في قارة أوروبا، وبسبب تباين الظروف الطبيعية بين أجزائها المختلفة تباينت القرى في أشكالها ومادة بناء المنازل.
ففي السواحل المطلة على البحر المتوسط شيدت المنازل من الحجارة والأخشاب، وفي مناطق الغابات شيدت من الأخشاب.
وفي منطقة البحيرات السويسرية أقام أصحاب حضارات هذه المنطقة منازلهم فوق أعمدة خشبية لكي تكون مرتفعة عن سطح الأرض، كما لجأ البعض الآخر إلى تغطية الأرض بالأخشاب أو الصلصال.
ثالثاً: أهم حضارات العصر الحجري الحديث: ص157
تضمنت الدراسة الخاصة بانجازات الإنسان في المجالين الاقتصادي والحضاري في العصر الحجري الحديث إشارات إلى بعض مواطن الحضارة في هذا العصر، ويختص هذا القسم بإلقاء الضوء على أهم المراكز الحضارية التي قامت في مناطق العالم المختلفة مع تأجيل دراسة بعضها إلى مواضع أخرى، ومع الأخذ في الاعتبار صعوبة حصر كل المواقع الحضارية في كل مركز، وبالتالي فإن دراسة بعض هذه المواقع تأتي من أهميتها في كل مركز حضاري. وتبدأ الدراسة بحضارات إقليم جنوب غربي آسيا باعتباره أهم المناطق الحضارية في هذا العصر ثم المراكز الحضارية في أوروبا وفي شرق آسيا وجنوبها ثم الأمريكيتين.
1- في إقليم جنوب غربي أسيا: ص157
أظهرت دراسة نشأة الزراعة أن إقليم جنوب غربي آسيا (أريحا، سوريا ولبنان وهضبة الأناضول) هو الوطن الأصلي للزراعة رغم تحفظات البعض خاصة "سور"، وقد تمكن سكان هذه المنطقة من التغلب على عيوب النظام الاقتصادي في العصر الحجري الحديث التي تمثلت في الصراع بين الزراع ومنتجي الطعام من ناحية وجامعي الطعام من القناصين والصيادين والملتقطين من ناحية أخرى. ففي هذه المنطقة زاد الإنتاج مما سمح بوجود فائض غذائي يسمح بإعالة قسم كبير من المجتمع لا يشترك مباشرة في إنتاج الطعام، وقد ساعد ذلك ما تتمتع به المنطقة من إمكانات كبيرة لعبت دورا هاما في تطور الحضارة.
وفي حوالي 6000 ق.م، كان سكان هذا العصر قد استقروا في هذا الإقليم في مواقع مختلفة فشيدوا مساكنهم من الطين والطوب اللِبن، وصنعوا أدواتهم من الصوان والحجر وبعض المواد العضوية، كما صنعوا الفخار بمستويات متباينة ولأغراض مختلفة، كما عرفوا النسيج، وبعبارة أخرى يعطي هذا الإقليم مثلا جيدا لمجتمع أرسى قواعد اقتصاد العصر الحجري الحديث، رغم استخدامهم للنحاس –على نطاق محدود- في صنع أشياء للزينة. وتشير الأدلة الأثرية إلى وجود حوالي تسع عشرة موقعا في هذا الإقليم تنسب إلى العصر الحجري الحديث، غير أن أهمها في جريكو وجارمو وتل حسونة وكهف البلت وتل العبيد وسيالك، وقد تمكنت هذه المواقع منذ أواخر الألف السادس قبل الميلاد من الانتقال من حياة العصر الحجري المتوسط إلى حياة العصر الحجري الحديث. (Clark, 1972, pp. 83 - 93).
وتتجمع هذه المواقع في ثلاثة مراكز حضارية رئيسة: يتمثل المركز الأول في جنوب تركيا وشمال فلسطين وغرب سوريا، ويمتد المركز الثاني في شمال العراق وشرق سوريا، أما المركز الثالث فيقع على الهضبة الإيرانية، وتسهيلا للدراسة يمكن إجراء تعديل على هذا التقسيم بحيث يضم فلسطين وسوريا ولبنان، والعراق، وهضبة إيران ثم هضبة الأناضول.
أ-حضارات فلسطين وسوريا ولبنان: ص158
قامت في فلسطين وسوريا ولبنان عدة حضارات تنسب إلى العصر الحجري الحديث:
1- جريكو (أريحا) Jericho:
وهي واحة تقع على عمق 330 متر تحت مستوى سطح وادي الأردن، ويعود تاريخ أريحا إلى العصر الحجري المتوسط حيث عاش أصحاب الحضارة الناطوفية الذين استطاعوا أن ينشروا حضارتهم من حلوان في مصر جنوبا إلى سوريا شمالا، بل وامتد تأثيرهم إلى موقع بيلديبي في جنوب تركيا (Clark, 1972, p87)، وفي أواخر العصر الحجري المتوسط تمكن الناطوفيون من استئناس الحيوان (الكلب) ورعاية النباتات من الحيوانات.
وتشير الأدلة الأثرية إلى أن حضارة أريحا قد مرت في العصر الحجري الحديث بمرحلتين حضاريتين، كان لكل مرحلة صفات خاصة.(سميت المرحلة الأولى بالحضارة الناطوفية والمرحلة الثانية الحضارة الطاحونية)
المرحلة الأولى: في خلال الألف الثامن قبل الميلاد تطورت الحضارة الناطوفية في أريحا إلى حياة العصر الحجري الحديث بجوار نبع ماء أقيم بجواره ضريح:
أ- هجر أصحاب هذه الحضارة حياة القنص والصيد وجمع الثمار ليتحولوا إلى تربية النباتات والحيوانات.
ب- صنعوا أدواتهم وأسلحتهم الحجرية بالطريقة نفسها التي صنع أسلافهم بها أدواتهم.
ج- عرفوا الرحي لطحن الحبوب .
د- كانت أدوات أريحا في ذلك الوقت قزمية مما يشير إلى عدم اختفاء تقاليد العصر الحجري المتوسط بشكل كامل.
هـ - زرع أهل أريحا في هذه المرحلة القمح والشعير
و- ربوا الأغنام والماعز والثور والخنزير والكلب
ز- لم تكن لهم دراية بصناعة الفخار.
المرحلة الثانية: في أواخر الألف السابع قبل الميلاد حل مكان سكان أريحا سكان جدد أرسوا أسسا حضارية تختلف عن المرحلة السابقة، ويطلق على حضارة أريحا في هذه المرحلة(الحضارة الطاحونية):
أ- كون أصحاب هذه الحضارة قرية جديدة في أريحا كانت أكثر تقدماً من القرية الأولى.
ب- تغير شكل المسكن من المستدير إلى المستطيل
ج- برعوا في صناعة الأواني الحجرية والجلدية والخشبية. ص159
د- خطت الزراعة عند أصحاب هذه الحضارة خطوات واسعة بدليل كثرة المناجل والمقاشط والرحى .
مع ذلك لم تستخدم الفأس في الزراعة، واختفاؤها لا يدل على عدم معرفة الزراعة، إذ أن كثرة الأحجار المثقوبة ترجح أن أهل أريحا استخدموا عصي الحفر في الزراعة بدل الفأس.
هـ - يوحي وجود عظام الحيوانات وتماثيل صلصالية للماعز والأغنام والماشية والخنازير إلى استئناس الحيوان، ومع ذلك فقد كان الصيد وجمع الغذاء مصدراً ثانوياً في اقتصاد أريحا.
و- في النصف الثاني من الألف السادس (5500ق م.) تمكن أصحاب هذه الحضارة من صناعة الفخار وإن كانت أوانيهم رديئة الصنع.
ز- كان لأصحاب حضارة أريحا حياتهم الروحية الخاصة يستدل عليها من وجود تماثيل النساء والجماجم المزينة مما يوحي بعبادة الأجداد وعبادة آلهة الخصب والنماء، وهي ظاهرة عامة ميزت معظم حضارات إقليم جنوب غربي آسيا.
2- حضارات سوريا ولبنان: ص160
ارتبطت مواقع حضارات العصر الحجري الحديث في سوريا بتجمعات المياه أو بالمناطق القريبة من الأنهار، خاصة في سهل العمق قرب مصب نهر العاصي، وفي هذه المنطقة تجمعت السهول والأودية والمستنقعات والتلال، واتُخذت التلال مواضعاً لقرى العصر الحجري الحديث والتي بلغ عددها نحو 200 تل، أهمها عطشانه وتل الشيخ (رشيد الناضوري، 1986: 144) .
ومن مناطق الاستقرار الأخرى في سوريا مرسين، وطرطوس، وحماة، ورأس شمرا (أوغاريت)، وقرقميش (جرابلس) (Mallowan, 1980, p. 414)0
وفي لبنان قامت مواقع حضارات هذا العصر بالقرب من الساحل أو في سهل البقاع، ومن هذه المواقع بيبلوس، وبركة راما، ووادي الكلب، وحراجل، وعين ابل ووادي الزهراني، واهم خصائص حضارات العصر الحجري الحديث في سوريا ولبنان ما يلي:
أ- شيدت قرى العصر الحجري الحديث في سوريا من الأحجار ، بينما قل استخدام الطين بسبب ارتفاع مستوى الماء الأرضي، ومع ذلك وجدت بقايا منازل مبنية من الطوب اللبن في مرسين (أحمد أمين سليم، 1995، ص 443).
ب- صَنع أصحاب حضارات العصر الحجري الحديث في سوريا ولبنان أدوات معظمها من الفؤوس والمناجل.
ج- كان لكل قرية مخازنها الخاصة.
د- صنعوا أوان حجرية وأدوات من العظم.
هـ - عرفوا الفخار منذ 5000 ق.م، وكان معظمه غير ملون، بينما عرف الفخار الملون في منتصف الألف الخامس قبل الميلاد في شمال شرقي أنطاكية، وقد ظل الفخار يصنع بالطريقة اليدوية حتى الألف الرابع قبل الميلاد عندما عرفت عجلة الفخار.
و- كان مجتمع حضارات العصر الحجري الحديث في سوريا زراعيا، إذ زرعوا الشعير، وإن لم يتأكد معرفتهم للقمح.
ز- ربوا الحيوانات.
ك- كان لأصحاب حضارات سوريا صلات تجارية مع الحضارات العراقية خاصة العبيد.
وتعد بيبلوس من أهم مواقع حضارات العصر الحجري الحديث في لبنان، حيث توافر لها عنصر الحماية الطبيعية بموقعها الساحلي ووجود الجبال في مناطق الظهير، وشيد أصحاب حضارة بيبلوس منازلهم من الطوب اللِبِن فوق أساس من الحجارة، واتخذت منازلهم الشكل المستطيل، وصنعوا أدواتهم من الحجر والعظم كما عرفوا الفخار.
ملتقى طلاب وطالبات جامعة الملك فيصل,جامعة الدمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق