الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي
ومستقبل العمران في مصر
إعداد
دكتور عبد الباقي محمد إبراهيم
أستاذ التخطيط العمراني ورئيس قسم العمارة بجامعة عين شمس سابقاً
كبير خبراء الأمم المتحدة في التنمية العمرانية سابقاً
رئيس الجمعية المركزية لإيواء المحتاجين
رئيس جمعية إحياء التراث التخطيطي والعمراني
القاهرة في سبتمبر 1999
منشورات مركز الدراسات التخطيطية و المعمارية
الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي
ومستقبل العمران في مصر
1- مقدمة:
1-1 في الكلمة التي ألقاها السيد الرئيس محمد حسني مبارك في الحفل الذي أقيم بمناسبة البدء في مشروع وادي النيل الجديد يوم 9 يناير 1997 قال سيادته "واليوم يخوض هذا الشعب ملحمة بناء جديدة تمثل مدخله الصحيح إلى القرن الحادي والعشرين وسند قوي لمواجهة تحديات عصر قادم والجسر الذي يمكن أن تعبره مصر إلى مستقبل باهر تنتشر فيه الحياة والعمران خارج حدود وادي النيل تستثمر إمكانيات مصر كلها ويوفر لملايين المصريين حياة أفضل" ، وقال " لقد أملت ضرورات المستقبل البدء في تنفيذ هذا المشروع العملاق بعد أن أصبح أمراً حتمياً أن ننطلق خارج حدود الوادي الضيق الذي عشنا فيه قروناً طويلة لا نفكر في الخروج منه حتى ضاق بكثافته السكانية العالية ولم يعد في إمكانه أن يستوعب طموحات مصر في غد أفضل" : وقال "ولو أن الأمور مضت على هذا النحو دون رؤية جديدة شجاعة توسع رحاب التنمية وتزيد رقعة العمران على أرض مصر وتخفف من الاكتظاظ السكاني للمدن والقرى فإن النتيجة سوف تكون مزيداً من التكدس السكاني الذي يأكل ما يتبقى من أرض الوادي القديم التي تعاني الآن من زحف عمراني خطير أكل أجود أراضيها".
2-1 يؤكد ما قاله السيد رئيس الجمهورية ضرورة البحث عن رؤية جديدة شجاعة توسع رحاب التنمية وتزيد رقعة العمران على أرض مصر وألا يكون هناك المزيد من التكدس السكاني الذي يأكل ما تبقى من أرض الوادي القديم، وقد حذر في خطابه من أن الزحف العمراني إن لم يتوقف سوف يأكل أجود أراضي الوادي. وإذا كان سيادته قد أشار إلى توجه الدولة إلى إيجاد محاور جديدة للتنمية الاقتصادية العمرانية كما في مشروعات جنوب الوادي في توشكى وشرق العوينات وشمال خليج السويس وفي سيناء وشرق التفريعة في بورسعيد وفي غيرها من مناطق التنمية السياحية والزراعية وإذا كانت الدولة قد بدأت الأخذ بإنشاء مدن جديدة خارج الوادي لامتصاص جزء من الفائض السكاني من الوادي القديم وإذا كانت هذه المشروعات العملاقة والمدن الجديدة سوف تستوعب حسب تقديرات المخططين حوالي 20 مليون نسمة عام 2020 فإن تعداد السكان في ذلك الوقت سوف يبلغ حوالي 90 مليون ويعني ذلك أنه سيبقى في الوادي الضيق 70 مليون نسمة على أحسن تقدير إن لم يكن 80 مليون أي بزيادة كبيرة عما هو عليه حالياً. وعلى ذلك فإن الرؤية الجديدة الشجاعة لحل هذه المشكلة والتي أشار إليها السيد الرئيس تستدعي العمل فوراً على وضع الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي ووضع الآليات القادرة على تنفيذها دون أدنى تأخير لتفادي كارثة الانفجار العمراني على أرض الوادي باعتبار أن ذلك سوف يؤثر سلبياً مستقبلاً على كل ما تقوم به الدولة حالياً من مشروعات عمرانية وإصلاحات اقتصادية واجتماعية وتحسينات حضرية وبيئية وخدمية وتنظيمات إدارية وأمنية تنفق الدولة في سبيلها مليارات الجنيهات.
3-1 إن الدولة وهي تضع برامجها التنموية وتوجه استثماراتها لمواجهة المشكلات الحالية لا بد وأن تأخذ في الاعتبار ضرورة العمل سريعاً على مواجهة الخطر الداهم المتولد عن الاكتظاظ السكاني للمدن والقرى وذلك بتوجيه الاستثمارات المخصصة للمشروعات المختلفة حتى تحقق الاستراتيجية الاستيطانية خارج الوادي. وكثير من المشروعات التي أقيمت وتقام ويتم التخطيط لها في مختلف المجالات من طرق وإسكان ومرافق وخدمات تقام في مدن وقرى الوادي الضيق. فإذا كانت هذه المشروعات تواجه مشاكل عاجلة ومؤقتة إلا أن البعض منها في واقع الأمر يمثل عقبة في سبيل تحقيق الأهداف التي جاءت في خطاب السيد رئيس الجمهورية. الأمر الذي يستوجب توخي الحذر عند التخطيط لمثل هذه المشروعات. فالطرق الزراعية التي أعدت لربط مدن وقرى الوادي وإن كانت قد ساعدت على تحسين الحركة بين هذه التجمعات السكنية إلا أنها جذبت معها العديد من الأنشطة العمرانية والصناعية والخدمية التي انتشرت على الأراضي الزراعية وتحولت إلى عناصر جذب أكثر للاستيطان في قلب الوادي. وإذا كانت مشروعات الصرف الصحي والكهرباء والمياه قد ساعدت على تحسين الحياة للمواطنين في مدن وقرى الوادي إلا أنها ساعدت على الارتفاع بالمباني الريفية لتحاكي عمران المدينة وبالتالي اجتذبت إليها الزيادة السكانية لتقيم وتتوالد وتتكاثر على رقعة الأرض المحدودة، الأمر الذي سوف يؤثر آجلاً أو عاجلاً على كفاءة المشروعات التي أقيمت بمليارات الجنيهات. وإذا كانت مشروعات الجامعات الإقليمية والمعاهد العلمية التي أقيمت في مدن الوادي الضيق قد أدت جزءاً من متطلبات التعليم العالي حيث يقيم البشر إلا أنها جذبت إليها العديد من الأنشطة السكنية والتجارية التي تطلبت العديد من الخدمات والمرافق العامة، الأمر الذي زاد من الاكتظاظ السكاني مرة أخرى في هذه المدن. وإذا كانت الكباري العلوية والأنفاق السفلية قد ساعدت بنسب محدودة على حل مشاكل المرور، إلا أنها قد يسرت الإقبال على العمل والإقامة في المدن الكبيرة وبالتالي ساعدت على الزيادة في تعداد سكان هذه المدن وبالتالي على الزيادة في تعداد السيارات التي تضيف عبئاً أثقل على طاقة الطرق والكباري العلوية والأنفاق ويستمر تفاقم المشاكل بمعدلات تصاعدية مما يحصد أمامه كل نتائج الإنجازات التي تمت في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.
4-1 إذا كان الانفجار السكاني يبتلع معظم المجهودات الخارقة التي تقوم بها الدولة ويساعد على زيادة الفقر وتدني الخدمات والمرافق آجلاً أو عاجلاً.فإن هذا الانفجار السكاني يمكن مواجهته بواسطة الانتشار العمراني خارج الوادي. وهذا ما تعالجه هذه الدراسة التي تسعى للبحث عن الأساليب التي تساعد على زيادة عوامل الجذب الاستيطاني خارج الوادي بحيث تفوق عوامل الجذب الاستيطاني داخل الوادي. ويتم في هذه الدراسة مراجعة وتقييم الدراسات التي جمعتها رياسة الوزراء عام 1997 في مجلد بعنوان "مستقبل مصر في القرن الواحد والعشرين" وحددت مداها بعام 2020 كما تم مراجعة وتقييم الدراسات التي تمت لوضع خريطة مصر حتى عام 2017 ولم تتضمن الإشارة إلى الآليات اللازمة لتحقيق هذه الدراسات وبالتالي تحقيق استراتيجية الخروج من الوادي الضيق متضمنة جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والأمنية والبيئية. وقد تعرضت بعض صفحات هذه الدراسة إلى تقييم تجربة المدن الجديدة في مصر وما حققته من أهداف وما أصابها من قصور. كما تعرضت إلى التجارب العمرانية التي شهدتها مدينة القاهرة كأكبر تجمع عمراني في مصر وما حققته من أهداف محدودة وما أصابها من قصور كبير. وكان لا بد من الإشارة إلى عدالة توزيع الاستثمارات على الحيز العمراني المصري لتحقق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي وبالتالي تطرقت الدراسة إلى سياسة الإسكان في إطار سياسة الاستيطان وذلك للارتباط الوثيق بينهما، من إسكان الفقراء وإيواء المحتاجين إلى الإسكان الاقتصادي والمتوسط وفوق المتوسط، مع ربط مكان السكن بمكان العمل كسياسة عامة لتحقيق الاستقرار خارج الوادي وتخفيف الأعباء المعيشية. والإسكان ليس فقط هو توفير الوحدات السكنية ولكن هو بناء مجتمعات سكنية متكاملة الخدمات. إن الربط بين التخطيط واتخاذ القرار بشأن مكوناته يعتبر عاملاً هاماً من عوامل الواقعية في التخطيط والتنفيذ والدراسة تبحث في هذا المجال العلاقة الإدارية والقانونية بين خبراء التخطيط والسلطة في اتخاذ القرارات التنفيذية وهنا يبرز دور الإدارة المحلية في توجيه الاستثمارات وتأثير ذلك على تحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي وهو ما تناولته الدراسة بهدف استبدال المحافظات بحدودها الإدارية الحالية إلى أقاليم تخطيطية وإدارية تحقق أهداف الخروج من الوادي والانتشار العمراني خارجه. وتطرقت الدراسة أيضاً إلى استنباط العديد من الدروس من التجربة المصرية في مجال التعمير وخرجت الدراسة ببعض المؤشرات لتطوير مناهج وأساليب التنمية العمرانية كعملية مستمرة في المدن والقرى القديمة وقدمت نظرية جديدة لتنمية التجمعات الجديدة. وفي النهاية تضع الدراسة عناصر وآليات تحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق وما تحتاجه من إجراءات فورية تجاوباً مع ما أدلى به السيد رئيس الجمهورية من توجيهات في هذا الشأن.
- إن الهدف الأساسي لهذه الدراسة هو إنقاذ العمران المصري من المصير الذي ينتظره إذا استمرت برامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية تتم في إطار الحيز العمراني الحالي لمدن وقرى مصر. والدراسة بهذا المنطق تعمل على إيجاد التوازن البيئي والعمراني في إطار استراتيجية قومية للاستيطان خارج الوادي. حيث أنه من العبث توجيه الإنفاق القومي للمعالجة العاجلة للمشاكل البيئية دون معالجة المشكلة وغيرها من المشاكل من جذورها. حيث أن استمرار تزايد التكدس السكاني في مدن وقرى الوادي الضيق سوف يؤدي إلى استمرار تزايد المشاكل البيئية والعمرانية والاجتماعية والاقتصادية.
2- مستقبل مصر في القرن الواحد والعشرين والخروج من الوادي الضيق:
1-2 لقد جاء تحديد الصورة المستقبلية لعمران مصر في المجلد الذي نشره مجلس الوزراء تحت عنوان -مصر والقرن الحادي والعشرين- وفي القسم الثاني على التحديد تحت عنوان ملامح استراتيجية التنمية حتى عام 2017 وجاء من أهداف هذه الاستراتيجية:
- فتح المجال أمام توطين ملايين من المصريين خارج الوادي الضيق الذي لا يتجاوز نحو 5.5% من مساحة البلاد ليتسع الحيز المعمور إلى 25% من تلك المساحة - خلال عشرين عاماً.
- مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي كل عشرة سنوات بحيث يصل إلى أكثر من أربعة أضعافه عام 2017
- زيادة متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي من 4270 جنيه إلى 13750 جنيه سنوياً عام 2017
- توليد نحو 550 ألف فرصة عمل سنوياً حتى يرتفع عدد المشتغلين من 15.8 مليون مشتغل عام 1997 إلى 26.8 مليون مشتغل في نهاية 2017
2-2 وجاء في نفس المجلد أن هذه الأهداف وغيرها تتطلب تشجيع القطاع الخاص على القيام بدوره كشريك أساسي في عملية التنمية بحيث يصل إسهامه في التنمية إلى نسبة 80% والدولة إلى 20% من حجم الاستثمار مع حث القطاع الخاص على الاستثمار في مجالات البنية الأساسية من طرق ومطارات ومحطات قوى وأنشطة خدمية متنوعة وذلك في إطار الخطط التي تضعها الدولة لهذه المشروعات.
3-2 وجاء في ملامح التنمية الزراعية ضرورة تحسين إنتاجية الأراضي الزراعية القديمة وتحسين إنتاجها وحمايتها من الزحف العمراني والارتفاع بإنتاجية مناطق الاستصلاح الجديدة التي تبلغ مساحتها 1.6 مليون فدان. هذا بالإضافة إلى إيجاد وعي ادخاري بالريف المصري (في الوادي الضيق) وتشجيع قيام اتحادات للمنتجين مع ضرورة استخدام الموارد المائية (في الوادي الضيق) باستخدام مياه الصرف والمياه الجوفية والأمطار مع زيادة حجم الموارد المائية المتاحة بحيث تدفع إلى التركيز على استصلاح نحو 3.4 مليون فدان حتى عام 2017 بالامتداد خارج الوادي المعمور في جنوب الوادي والصحارى الشرقية والغربية ومصر الوسطى ومصر العليا وسيناء.
4-2 وفي مجال الصناعة يؤكد تقرير مجلس الوزراء على توفير المقومات للارتقاء بالمناخ الاستثماري وبخاصة في المناطق الجديدة وتدعيم البنية الأساسية في تلك المناطق وهو ما يؤدي إلى تطوير نمط الحياة بما يوجد من مجتمعات عمرانية متكاملة خارج الكتل السكنية القائمة وذلك مع تحقيق التوزيع الإقليمي المناسب للأنشطة الصناعية والاستغلال الأمثل للطاقات الإنتاجية للمصانع القائمة (في الوادي الضيق والمدن الجديدة).
5-2 تعرض تقرير مجلس الوزراء لتطوير قطاع الكهرباء وزيادة إنتاجيته إلى حوالي 40 مليار ك.و.س عام 2017 لتحقيق التنمية الاقتصادية الاجتماعية المتوازنة على المستوى القومي والإقليمي وعلى وجه الخصوص في تنمية محافظات سيناء وتنمية جنوب الوادي - ويتبع ذلك تطوير قطاع البترول مع تحقيق الانتشار الجغرافي لطاقات التكرير وتدعيم جهود تنمية شمال الوادي والإسهام في جهود تنمية جنوب الوادي.
6-2 كما جاء عن قطاع النقل والمواصلات أنه يهدف إلى الارتقاء بشبكات الطرق الحالية (في الوادي الضيق وخارجه) مع ربط جميع أطراف الدولة خاصة مناطق التوطن الجديدة التي تمتد من المناطق المعمورة الحالية وتوفير احتياجات الانتشار الأوسع في الحيز المكاني غير المطروق الذي يمتد إليه العمران.
7-2 وعن التنمية السياحية ذكر التقرير أن السياحة تقوم بتحقيق جانب هام من جوانب التنمية الاقتصادية هو التنمية الإقليمية وذلك بخلق مناطق ومجتمعات عمرانية وسياحية جديدة تساهم في خلق فرص عمل للمواطنين وتسمح بالاستيطان الدائم لهم وذلك بالسعي إلى الوصول بعدد السياح إلى نحو 27 مليون سائح في نهاية عام 2017 وزيادة أعداد الليالي السياحية إلى ما يقرب من 217 ليلة وزيادة الطاقة الفندقية إلى ما يقرب من 618 ألف غرفة عام 2017.
8-2 وعن قطاع الإسكان والمرافق والمدن الجديدة ذكر التقرير أن الرؤية الخاصة بسياسات الإسكان والمرافق والمدن الجديدة تقوم على الالتزام بالأهداف الاستراتيجية للخروج من الوادي الضيق والانتشار المنظم للسكان في ربوع البلاد ولتحقيق التوازن بين توزيع السكان والعمل على توفير الأراضي بمرافقها للإسكان والخدمات والصناعة حفاظاً على الأرض الزراعية وإعطاء الأولوية لتنفيذ مشروعات التجمعات الجديدة بمنطقة دلتا الوادي الجديد - وإنجاز المخططات الهيكلية للتنمية العمرانية لمدن وقرى الجمهورية كافة (في الوادي الضيق)مع التركيز على المدن ذات الأولوية وتوفير مياه الشرب والصرف الصحي بالمدن والقرى جميعاً وتطوير الطراز المعماري المحلي بما يتفق مع تراثنا وحضارتنا. مع الحفاظ على المباني ذات الطابع الخاص في إطار الحفاظ على التراث المعماري والثقافي لمصر. وتطوير المكاتب الاستشارية الهندسية والارتقاء بها لتقوم بدورها في مسيرة التنمية العمرانية. ومن أهداف هذا القطاع توفير 280 ألف وحدة سكنية سنوياً حتى عام 2017 (في الوادي الضيق وخارجه) مع العمل على تحقيق التوازن في العلاقة بين المالك والمستأجر.
9-2 وجاء في تقرير مجلس الوزراء أن الدولة تستهدف إقامة 44 مدينة وتجمعاً جديداً تم تحديدها على مناطق مساحتها 2.5 مليون فدان تحتل المدن منها 190 ألف فدان مع تحقيق معدلات نمو كبيرة في هذه المدن الجديدة وربطها بالمدن الأخرى والعواصم (في الوادي الضيق) بشبكات النقل السريع.
10-2 وتضمن التقرير بعد ذلك استراتيجيات التعليم والبحث العلمي وبناء 1500 مدرسة سنوياً حتى عام 2017 (في الوادي الضيق وخارجه) وتبع ذلك استراتيجية الموارد البشرية والقوى العاملة واستراتيجية الصحة والسكان التي جاء فيها التوسع وزيادة أعداد المستشفيات العامة والمركزية والمستشفيات القروية والوحدات الريفية والمراكز الصحية أما في مجال السكان فتوضح تقريرات النمو السكاني بلوغ السكان نحو 80 مليون نسمة عام 2017 ومحاولة حفظ معدل النمو السكاني ليبلغ 1.3% عام 2017.
11-2 وعن استراتيجية قطاع العدل والأمن الداخلي أشار التقرير إلى تطوير جميع أبنية المحاكم وتحديثها وبناء الجديد منها (داخل الوادي الضيق وخارجه)بما يبرز جماليات حضارة مصر المعمارية. وفي قطاع الثقافة يضيف التقرير العمل على تحقيق توازن دقيق بين الأصالة والمعاصرة في المجالات الثقافية مع تجديد قصور الثقافة وبيوتها في المحافظات (الحالية) وإنشاء قصور ثقافة جديدة ونشر بيوت ثقافة الطفل بالمحافظات (داخل الوادي الضيق وخارجه)وتطوير المتاحف الأثرية والإقليمية وينطبق نفس التوجه في قطاع الرعاية المدنية الذي يهدف إلى إنشاء مراكز تنموية بكل محافظة (في الوادي وخارجه).
12-2 تهدف استراتيجية الرعاية الاجتماعية - كما جاء في التقرير الوزاري - إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي من خلال تنمية قدرات المرأة مع رعاية المسنين وإنشاء أقسام لغير القادرين منهم. هذا بالإضافة إلى تنمية المجتمعات المحلية وإنشاء مراكز جديدة (في الوادي) لرعاية الطفل في الريف ومؤسسات إيواء للأطفال ودور الحضانة وإنشاء مراكز إعداد الأسر المنتجة بالجامعات مع مراكز التأهيل المهني الشامل (في الوادي الضيق).
3-البحث عن الآليات التي تحقق الاستراتيجية القومية:
1-3 لقد جاءت كل هذه الاستراتيجيات التي ذكرت في تقرير مجلس الوزراء لتؤكد توفير معظم الخدمات والمشروعات الاستثمارية في المجتمعات القائمة في الوادي الضيق وهو ما يزيد من عناصر الجذب الاستيطاني إليها دون محاولة دفع نسبة من هذه الخدمات والمشروعات إلى المناطق الجديدة وزيادة وسائل الجذب الاستيطاني إليها وذلك في إطارات التنمية الإقليمية للأقاليم التخطيطية التي تربط المجتمعات القديمة بالمجتمعات الجديدة ربطاً عضوياً واجتماعياً وسكانياً وتنموياً وحيث يمكن دفع نسبة من المؤسسات الخدمية والتنموية الرئيسية إلى المناطق الجديدة مع تسهيل وسائل الوصول إليها من المناطق القديمة وخاصة عند اختيار مواقع الجامعات أو الكليات والمعاهد الجديدة أو اختيار مواقع مراكز الخدمات الصحية والإدارية الرئيسية فالاستراتيجية القومية للتنمية كما جاءت تفاصيلها في المجلد الذي أعده مجلس الوزراء عام 1997 لم تتعرض من قريب أو بعيد للآليات التي تضمن تحقيق الهدف الأول للاستراتيجية وهو نشر العمران على 25% من أرض مصر الخروج من الوادي الضيق كما أشار إلى ذلك السيد رئيس الجمهورية في خطابه في يناير عام 1997.
2-3 ويتضح من التقرير الذي أعده مجلس الوزراء عام 1997 أيضاً أنه لم يتعرض إلى الاستراتيجية الخاصة بتطوير الإدارة المحلية بل ترك فعاليات التنمية بكل أبعادها في القطاعات المختلفة تعمل على تطوير المحافظات في إطار حدودها الإدارية الحالية ولم تتطرق الدراسة من بعيد أو قريب إلى دور الإدارة المحلية في تحقيق الأهداف التنموية للأقاليم التخطيط وتحويلها إلى أقاليم تخطيطية إدارية حتى تتحقق أهداف التنمية المحلية في إطار الأهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق. فنظام الإدارة المحلية بتقسيماتها الإدارية الحالية يعتبر حجر عثرة في سبيل تحقيق دفع السكان من الوادي الضيق إلى المناطق الجديدة ونشر العمران على 25% من أرض مصر كهدف استراتيجي.
3-3 إذا كان من المهم وضع إطار عام لاستراتيجيات التنمية القومية للقطاعات المختلفة فإن من الأهم وضع الاستراتيجيات الإدارية والتنظيمية التي تحقق الأهداف الوطنية لهذه الاستراتيجيات وهو ما غاب عن صفحات المجلد الذي أعده مجلس الوزراء عام 1997 والذي يعتبر قد حقق نصف ما ينبغي منه. فالتنمية بكل مكوناتها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية يصعب تحقيقها ما لم تعتمد على الآليات الإدارية والتنظيمية القادرة والمؤهلة. ومعنى ذلك ربط الأهداف التخطيطية على كل المستويات بالإمكانيات والقدرات التنفيذية في كل مستوى وإلا فقدت الأهداف مصداقيتها وفعاليتها الأمر الذي يجب أن يطرح عل الرأي العام بكل فئاته بهدف التوعية أولاً ثم الدعوة إلى المشاركة في اتخاذ القرارات الصعبة التي تمس الغالبية العظمى من السكان الذين تدعوهم الاستراتيجية القومية للتنمية للخروج إلى المناطق الجديدة قبل أن يحصرهم الوادي الضيق بلا متنفس اقتصادي أو صحي أو سكني، الأمر الذي يقع في أولويات الاستراتيجية الإعلامية بكل وسائلها المقروءة والمرئية والمسموعة تجنباً للأخطار التي سوف يتعرض لها المجتمع إذا استمر استيطانه للوادي الضيق الذي يضيق بسكانه حالياً ويتعرض فيه لأخطار صحية واجتماعية وأمنية ونفسية كثيرة بسبب الزيادة العالية للكثافة السكانية كما أقر بذلك خطاب السيد رئيس الجمهورية في يناير عام 1997. وإذا كان التقرير الوزاري قد قدر تعداد السكان عام 2017 بحوالي 80 مليون نسمة وأن المدن الجديدة وعددها 44 مدينة ينتظر أن تستوعب 20 مليون نسمة عام 2017 على أعلى تقدير يمكن تصوره وذلك بمتوسط 450 ألف نسمة لكل مدينة فإن ما سوف يتبقى في الوادي الضيق 60 مليون نسمة على أحسن تقدير إن لم يكن 70 مليون نسمة على أساس التقدير الواقعي ومعنى ذلك أن الضغط السكاني في الوادي الضيق والذي يقول تقرير مجلس الوزراء لعام 1997 عنه أنه قد بلغ أقصى مداه سوف يزداد إلى أكثر من هذا المدى الأمر الذي ينبئ بكارثة عمرانية في الوادي الضيق وتصبح الاستراتيجية القومية للتنمية والتي تعرض لها تقرير مجلس الوزراء غير ذات موضوع.
4- الخروج من الوادي ضرورة مصيرية:
1-4 تعرض القسم الثالث من التقرير الذي أعده مجلس الوزراء عن مصر في القرن الحادي والعشرين إلى أهم مكونات الاستراتيجية القومية للتنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية وهي الخروج من الوادي الضيق. وقد جاء في بدايته أن البعد المكاني يمثل محوراً أصيلاً من محاور التنمية بعد أن بلغ الضغط السكاني على وادي النيل وتخومه أقصى مداه. ويمثل الجدول التالي تحول العمران على المستوى القومي على مدى القرن العشرين كما جاء في التقرير:
الزمن
|
المساحة المنزرعة
|
المساحة المأهولة
|
عدد السكان بالمليون
|
نصيب الفرد من الزراعة
|
نصيب الفرد من المأهول
|
بداية القرن 19
|
3 مليون فدان
|
4.2 مليون فدان
|
3
|
1 ف/ للفرد
|
1.4 ف/ للفرد
|
بداية القرن العشرين
|
4.7 مليون فدان
|
6.6 مليون فدان
|
11.2
|
0.4 ف/فرد
|
0.6 ف/فرد
|
منتصف القرن العشرين
|
5.2 مليون فدان
|
7.3 مليون فدان
|
19
|
0.3 ف/فرد
|
0.4 ف/فرد
|
نهاية القرن العشرين
|
7.8 مليون فدان
|
12.5 مليون فدان
|
62
|
0.13 ف/ فرد
|
0.21 ف/فرد
|
الفترة حتى عام 2017
|
9.4 مليون فدان
|
15 مليون فدان (12.5+2.5)
|
80
|
0.117 ف/فرد
|
0.187 ف/فرد
|
ويقول تقرير مجلس الوزراء الذي أعد عام 1997 أنه مع زيادة المساحة الزراعية والمأهولة فإن متوسط نصيب الفرد فيها يتناقص مما يجعل الخروج من الوادي القديم إلى المناطق الجديدة ليس مجرد اختيار بين بدائل مطروحة ولكنه مسألة حياة لا لجيلنا وحده ولكن للأجيال القادمة أيضاً - (هكذا بنص الحرف) - ويقول أن التوسعات الزراعية شرق الدلتا مع امتداد ترعة السلام وترعة الشيخ زايد في سيناء والتوسعات غرب الدلتا والتي في جنوب الوادي سوف تضيف 1.6 مليون فدان بحيث تصبح المساحة المزروعة 9.4 مليون فدان.
2-4 يقر التقرير في أحد أجزائه على أن التوسعات التي طرأت على المأهول السكاني كان معروفاً سلفاً أنها لن تحدث خلخلة للزيادة السكانية أو تعالج التركيز السكاني الأمر الذي أكد منذ بداية الثمانينات حتمية النفاذ إلى الصحراء إلا أن التوسع ظل في تخوم الوادي شرقاً وغرباً وفي الساحل الشمالي الغربي والبحر الأحمر وحول الوادي في الجنوب اتساقاً مع الإمكانيات الاستثمارية التي كانت توجه في أغلبها إلى سد احتياجات الوادي القديم من إعادة بناء المرافق وبنيته الأساسية وتحديث قواعد الإنتاج ( وهي عوامل تساعد على الامتداد في الوادي الضيق) بعكس ما تهدف إليه الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي.
3-4 ويستطرد التقرير قائلاً بأنه تم توطين أغلب الصناعات في المدن الجديدة التي بلغت 19 مدينة واستحدثت 29 منطقة صناعية استوعبت نحو 3100 مصنع (ولكن لم يذكر التقرير كم استوعبت هذه المدن من السكان حتى نهاية القرن العشرين). ويتيح ذلك امتدادات في شبكة المنتجات البترولية ومحطات توليد الكهرباء والنقل البري لربط الحيز المكاني (؟) المصري شماله بجنوبه بأربعة محاور مع سبعة محاور عرضية تربط وادي النيل بساحل البحر الأحمر كما تحققت إنجازات كثيرة في النقل البري والبحري والجوي والاتصالات. كما تحققت طفرات في التنمية السياحية على طول ساحل البحر الأحمر وخليج العقبة والساحل الشمالي الغربي وهو ما يسمى إسكان المصايف وليس للاستيطان البشري - كل ذلك ولم يشر التقرير من بعيد أو قريب إلى معدلات الاستيطان البشري التابع لهذه المشروعات وفي نفس الوقت يشير التقرير إلى بناء 2.3 وحدة سكنية منذ 1981 حتى عام 1997 دون إشارة إلى مواقعها في الوادي الضيق أو في المناطق الجديدة وإلى مدى تحقيق هذه الأرقام وغيرها لأهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي. ويعترف التقرير بأن هذه الإنجازات قد واجهت عقبة الكثافة السكانية المتزايدة في الرقعة المعمورة التي ضاقت عن أن تستوعب طموحات المستقبل وآماله بل باتت متعارضة مع متطلبات التنمية ذاتها إذ أصبح التوسع التنموي الزراعي والصناعي يقتطع من مناطق كثيرة من الموارد الأرضية المنتجة أو يتم على حسابها كما أدى التركيز السكاني في بعض المناطق إلى التضحية بمتطلبات الرقي الاجتماعي والصحي.
4-4 باسترجاع خطاب السيد رئيس الجمهورية نجد أنه قال فيه " إن الانتشار المخطط والمنظم للسكان في كل ربوع البلاد أصبح أمراً لا بديل عنه" وكما يقوم التقرير الوزاري أن الإبقاء على الاختناق في الوادي وتخومه أمر له عواقبه الوخيمة المصاحبة للزحام في السكن والمدرسة والمستشفى والطريق والمواصلات بل حتى في النوادي وأماكن الترفيه وهو الذي يؤدي إلى تدهور شامل وتدريجي في مرافق المدن وفقدها لرونقها الحضاري ويجعل الجهود المبذولة في النظافة والتجميل ومكافحة التلوث حرثاً في بحر فضلاً عن خروج المصري من طبيعته السمحة وتحوله إلى العدوانية.
5-4 يقدم التقرير الوزاري مشروع تنمية سيناء ومشروع جنوب الوادي على أنهما النموذج لانطلاقة مصر نحو بناء حضارة جديدة وفي نفس المكان يقول التقرير أن هذا التحول الجذري في مجالات التنمية المكانية وما ينطوي عليه من امتدادات جديدة خارج الوادي لا يعني الوقوف عن تطوير المجتمعات القائمة وخاصة الحديث منها بل يظل الترابط كاملاً لإحداث التكامل بين هذه المجتمعات والمجتمعات القائمة في الوادي المعمور والتي يتم العمل على تحديثها واستكمال ما لم يستكمل منها ومواصلة التعمير في الشمال الغربي (الساحل الشمالي) وفي شرق الدلتا بالإضافة إلى تطوير وتوسيع إمكانات الدلتا والقاهرة الكبرى في المناطق المتاخمة للحفاظ على طاقتها الاستيعابية فتزداد كفاءة تلك المجتمعات وينتشر التعمير في مناطق الوادي في ذات الوقت الذي تنشط فيه الحياة الجديدة خارج الوادي في إطار متناسق بين القديم والحديث يحقق وحدة التنمية والاستغلال الأمثل للحيز العمراني المصري. الأمر الذي قد يتناقض مع استراتيجية الخروج من الوادي ومع كل ما في ذلك من تناقضات منهجية لتحقيق الاستراتيجية للخروج من الوادي فإن ما ذكر آنفاً يساعد على استمرار استقرار السكان في المجتمعات القديمة وهو ما يعرض الاستيطان في المجتمعات الجديدة للتوقف. ويؤكد ذلك ما جاء في نفس التقرير من أن محافظة البحر الأحمر وقد كانت وما زالت عنصر جذب للقوى العاملة (للعمل وليس للاستيطان) أما محافظة الوادي الجديد التي لم تتحول بعد إلى منطقة جذب رغم ما شهدته من مشروعات في التوسع الزراعي الأفقي وتقول النتائج الأولية للتعداد أن مدن الطرد لم تعد طاردة وإنما تكاد أن تحتفظ بسكانها (وهذه ظاهرة سلبية أكثر منها إيجابية لتحقيق الاستراتيجية القومية).
6-4 تحول التقرير الوزاري بعد ذلك إلى تعديد المشروعات المقترحة والجارية في مناطق شمال مصر وما تم فيها من مشروعات وإنجازات في المجالات الإنتاجية المختلفة زراعية وصناعية بالإضافة إلى البنية الأساسية والتنمية السياحية معزز كل ذلك بالأرقام والبيانات التفصيلية .. وتبعها سرد المشروعات المقترحة والجارية في مناطق جنوب الوادي وما فيها من آمال واسعة في مجالات التنمية الصناعية والزراعية والسياحية خاصة في مشروع الدلتا الجديدة (إذا صح التعبير) كخير نموذج تطبيقي. وقد تم وصفه تفصيلاً بالمبررات العلمية لفائدته من جميع النواحي كمبررات لإنشائه.
7-4 ومع هذا السرد التفصيلي لمجالات التنمية في شمال مصر وجنوبها والمبررات العلمية والفنية المدعمة بالأرقام التي تثبت جدواها الوطنية في تحقيق الاستراتيجية القومية للخروج من الوادي الضيق إلا أن هذا السرد لم يتطرق من بعيد أو من قريب إلى العامل السكاني أو الطاقة الاستيعابية للاستيطان البشري في هذه المناطق أو تحديد مواقعه أو مراحله كما لم يتضمن هذا السرد التفصيلي أي إشارة إلى الآليات الإدارية والتنظيمية التي تعمل على تحقيق الأهداف الاستراتيجية لهذه المشروعات العملاقة مع تحديد مراحل الاستيطان البشري المتوقع فيها والعمل على الإعداد له بكل وسائل الجذب التي تفوق وسائل الجذب في المناطق القديمة فهذا هو المحك الأساسي والرئيسي لنجاح الاستراتيجية القومية للتنمية والتي يجب أن يصاحبها في نفس الوقت استراتيجية قومية للاستيطان خارج الوادي بكل مقوماتها الإدارية والتنظيمية والإعلامية بتعظيم كل وسائل الجذب الاستيطاني وتقديم المغريات للنزوح من الوادي الضيق حتى وإن تحملت خطط التنمية أعباءً أكثر في بداياتها حتى يتم وضع البذرة وسقيها حتى تنبت ويتم العناية بها حتى تنمو وتثمر وتصبح قادرة على الاستمرار والعطاء.
8-4 يقول السيد رئيس الجمهورية في خطابه في نوفمبر 1996 أمام مجلس الشعب والشورى (لم يعد في الوادي القديم الآن متنفس لهذا الحجم الضخم من الزيادة السكانية المتوقعة التي تفرض علينا ضرورة الخروج إلى شرق الوادي وغربه) ويقول التقرير الوزاري بعد ذلك في عام 1997 "أن التحول الجذري في مجالات التنمية المكانية وما ينطوي عليه من امتدادات جديدة خارج الوادي لا يعني الوقوف عن تطوير المجتمعات القائمة (في الوادي الضيق) فسوف ينتشر التعمير في مناطق الوادي في ذات الوقت الذي تنشط فيه الحياة الجديدة خارج الوادي". وفي ذلك تناقض مع ما جاء في خطاب السيد رئيس الجمهورية .. فالوادي القديم لم يعد يتحمل أي توسعات إلا على حساب الأرض الزراعية في معظم الأحيان .. والتقرير الوزاري لم يكن دقيقاً في تحديد طبيعة الربط بين المجتمعات القديمة والمجتمعات الجديدة وهي طبيعة دقيقة جداً وفي غاية الحساسية خاصة وأنها تمس متطلبات بشر يقيم في المجتمعات القديمة وله متطلباته وطموحاته المستقبلية وفي نفس الوقت يطلب من هذه التجمعات القديمة أن تكون طاردة للسكان بهدف الاستيطان في المناطق الجديدة الأمر الذي يتطلب قياس معدلات سرعة التنمية في المجتمعات القديمة وربطها بمعدلات سرعة التنمية في المجتمعات الجديدة. ومن ناحية أخرى فإن الأمر يستدعي النظر في أسلوب توجيه الاستثمارات في البعد المكاني بين المناطق القديمة والمناطق الجديدة أخذاً في الاعتبار قوى الضغط والبعد السياسي والاجتماعي القائم في المجتمعات القديمة.
5- خريطة التنمية والتعمير لعام 2017 خطوة تبحث عن آليات:
1-5 جاء في مقدمة التقرير العام الذي أعدته الهيئة العامة للتخطيط العمراني عن هذه الخريطة أنه تأسيساً على الفرضية التي تقول أن التجمعات العمرانية بالوادي والدلتا قد تشبعت بالسكان وأن أي زيادة سكانية بها تعني مزيداً من تآكل الأرض الزراعية ومزيداً من التدهور في الخدمات والبنية الأساسية والتلوث البيئي وأن الخروج إلى الصحراء هو بداية الطريق إلى حل كثير من المشاكل العمرانية والاقتصادية والبيئية وبالتالي السكانية والاجتماعية وأنه في حالة تواجد فراغات (إن وجدت) بالتجمعات الحالية فإنها سوف تخصص للإحلال والتجديد والعجز في الخدمات (وليس للإضافة أو الزيادة) وبالتالي فإن هذه التجمعات لا يمكن أن تستوعب أي زيادة سكانية متوقعة … الخ ) ويعني ذلك أن التجمعات الحالية لا يمكن أن تستوعب أي زيادة في النشاط الإداري أو التجاري أو الصناعي أو الخدمي أو الترفيهي …الخ- ويعني ذلك أيضاً أن المخططات العمرانية التي توضع للتجمعات العمرانية القديمة لن تستوعب مزيداً من الأنشطة وبالتالي مزيداً من السكان . وأنها في مضمونها يمكن أن تتحول إلى مناطق طرد أو مراكز إرسال إذا ما توفرت معها مراكز استقبال في التجمعات العمرانية الجديدة - الأمر الذي يتطلب منهجاً تخطيطياً خاصاً يعمل على تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية ويصبح من العبث وضع تخطيط لمدينة في الوادي الضيق على أساس الزيادة السكانية المنتظرة فيها على المدى الزمني المحدد لهذا التخطيط - مع أن التخطيط أو بمعنى آخر التنمية العمرانية هي عملية مستمرة لا يحدها زمن معين - بل هي سياسة تنموية مبنية على استراتيجية معلنة وما يطبق على مستقبل المدن القديمة كمدن طاردة يطبق عكسه على مستقبل المدن الجديدة كمدن جاذبة الأمر الذي لم يظهر بعد على ما يعد من مخططات عمرانية تقليدية لم يعد لها موقع في الفكر التخطيطي المعاصر الذي تبلور في ضوء التجارب التخطيطية التي تمت على مدى النصف قرن الأخير من القرن العشرين. والشواهد في مصر كثيرة ومتعددة وقد تم تحليلها لاستنباط النظرية المعاصرة لتنمية المدن الجديدة من ناحية والارتقاء بالمستوى القائم في المدن القديمة من ناحية أخرى في تزامن واحد لزيادة عوامل الجذب في الأولى وتفعيل عوامل الطرد من الثانية . الأمر الذي يدخل في السياسات العامة للدولة والتي تشمل جميع القطاعات وهو ما يتطلب الآليات التنظيمية والإدارية التي تحقق هذه السياسات. (وقد طلبت التركيز على هذا الجانب عندما كنت عضواً فاعلاً في اللجنة القيادية التي دفعت الأعمال الخاصة بإعداد خريطة التنمية والتعمير في البداية).
2-5 من الأهداف القومية التي ذكرت في خريطة التنمية والتعمير المحافظة على الأراضي الزراعية وخلخلة الكثافة السكانية من الوادي وزيادة الدخل القومي واستغلال الموارد الطبيعية. ومن الأهداف الوسيطة التي ذكرت فيها تحديد المناطق ذات الإمكانيات الطبيعية والاقتصادية وتحديد حجم التحرك السكاني المطلوب توجيهه خارج الوادي ثم تحديد المناطق الصالحة للتعمير وتحديد المناطق التي يمكن أن تدعمها البنية الأساسية وتحديد أولويات مناطق التعمير أما الأهداف القطاعية فتأتي ترجمة للأهداف الوسيطة شاملة قطاعات الخدمات والمرافق والقطاعات الإنتاجية من صناعة وزراعة وسياحة .. الخ. المهم هنا هو السبيل لتحقيق الأهداف وليس فقط تحديدها.
3-5 قسمت دراسات خريطة التنمية والتعمير حتى 2017 إلى مرحلة الوضع الراهن للجوانب البيئية والموارد الطبيعية والمائية والسكانية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والخدمات وشبكات البنية الأساسية ويتبع ذلك المرحلة الثانية التي تتحدد فيها مجموعة من الخدمات الأساسية المستفيدة من تكامل الدراسات التخصصية ذات التأثير المباشر على اختيار مناطق التنمية والتعمير وفي المرحلة الثالثة تستخرج التوصيات التي تتوصل إليها الدراسة وتقدمها كمؤشرات وتوجيهات عامة لمناطق التنمية والتعمير. ومن خلال الدراسات الأكثر تفصيلاً لكل منطقة على المستويين الإقليمي والمحلي يظهر أنه يمكن التأكد من المؤشرات الواردة من المهام وتطويرها إذا لزم الأمر وصولاً إلى المرحلة التفصيلية والتنفيذية لإقامة المجتمعات العمرانية الجديدة.وهكذا تصبح منهجية الدراسة المقدمة بهذا التسلسل التقليدي وكأنها موجهة إلى مشروع تنفيذي قصير الأمد مع أن عمليات التنمية تتم بصفة مستمرة وعلى كل المستويات القومية والإقليمية والمحلية في آن واحد وفي إطار تنظيمي وإداري واحد. مع إحكام العلاقات التبادلية بين هذه المستويات في البعد الرأسي مع العلاقات التكاملية بين القطاعات المختلفة في البعد الأفقي لكل مستوى معتمدة في ذلك على قاعدة بيانية متجددة لها مخرجاتها على المستويات القومية والإقليمية والمحلية. فالموضوع ليس مشروعاً له بدايته ونهايته بل هو أسلوب عمل وقواعد أداء تعمل بها القطاعات المختلفة لتحقيق استراتيجية قومية محددة ويمكن العمل بها فوراً دون انتظار ويواكبها دراسات تحليلية وبيانات عملية تساعد على عملية اتخاذ القرار في كل مستوى قومي أو إقليمي أو محلي. وهنا لابد من تعريف الإقليم وحدوده التنموية والإدارية وتحديد المجال المحلي الذي يضم التجمعات السكنية في إطار كل إقليم تخطيطي إداري بعيداً عن القوالب الجامدة للحدود الإدارية للمحافظات الحالية.
4-5 توصلت النتائج العامة لدراسة خريطة التنمية والتعمير إلى (1)تحديد حجم السكان المطلوب تحريكه خارج الوادي والدلتا عام 2020 مع حجم العمالة المتوقع (2)تحديد مواقع المناطق الصالحة للبناء (3) تحديد المناطق ذات الإمكانيات الاقتصادية المؤكدة (4) تحديد المناطق الصالحة للبناء والتنمية مع أولويات التنمية (5) تحديد البنية الأساسية الداعمة لمناطق التنمية المقترحة.
5-5 قدرت الدراسة (التي بدأ إعدادها عام 1995) حجم الزيادة المتوقعة والمضافة لعدد السكان في مصر 39 مليون عام 2020 وتعتبر هذه الزيادة فائضاً عن القدرة الاستيعابية للوادي والدلتا ومطلوب تحريكها إلى خارج الوادي ولم تتوصل الدراسة إلى كيفية تحقيق ذلك. كما تؤكد الدراسة أن المدن والقرى القائمة لا يمكن أن تستوعب زيادة سكانية جديدة متوقعة. ولكن لم تذكر الدراسة كيف يمكن مواجهة ذلك عند وضع المخططات العامة لهذه المدن كمناطق طاردة تقابلها المدن الجديدة كمناطق جاذبة.
6-5 توضح الدراسة أيضاً أن إجمالي مساحات مواقع التعمير والمجتمعات الجديدة الصادر أو الجاري إصدار قرارات تخصيص لها تبلغ 250 ألف فدان تستطيع استيعاب نصف الزيادة المتوقعة (وهي 19.5 مليون نسمة على أحسن تقدير يفوق نتائج معدلات التوطين في المجتمعات الجاري إنشائها ) وإنه مطلوب 250 ألف فدان أخرى لاستيعاب 20 مليون نسمة (عام 2020) يلزمها توفير 5.6 مليون فرصة عمل بمعدل إعالة اقتصادية 3.6 فرد (ورد في الدراسة جدولاً يحدد حجم السكان والعمالة في عدد 55 تجمع عمراني جديد) ويذكر الجدول على سبيل المثال أن الحجم المخطط له في مدينة السادات هو 500000 نسمة بعد عشرين عاماً أي عام 2005مع أن عدد السكان في هذه المدينة حتى عام 1998 هو 16000 نسمة فقط وكان المنتظر في هذه السنة 50000 نسمة. والحجم المخطط له لمدينة 6 أكتوبر هو 2 مليون نسمة عام 2020 وهو في عام 1998 لم يتعدى 150000 نسمة وقس على ذلك باقي المدن .. الأمر الذي يدعو إلى التشكك في واقعية تحقيق هذه الأرقام وبالتالي في واقعية المخططات التي وضعت لهذه المدن على أساس افتراضات نظرية تقليدية الأمر الذي ينقص من المنهجية المتبعة في إعداد المخططات العامة للمدن الجديدة والتي ثبت بالتجربة في مصر وفي دول العالم عدم جدواها والاعتماد عليها حيث أنه قد استحدثت نظريات أخرى جديدة لمواجهة المتغيرات التي تطرأ على تنمية المدن الجديدة مداً أوجزراً.
7-5 حددت نتائج الدراسة المناطق الصالحة للبناء حتى ولو لم يكن بها قاعدة اقتصادية لتحاشي مناطق السيول أو محاور الزلازل أو المناطق الشاطئية لم توضح الدراسة كيفية التعامل مع هذه المناطق عمرانياً إذا لم يكن بها قاعدة اقتصادية كأن يمكن بناء تجمعات إنتاجية للحرف والصناعات الصغيرة بها أو يمكن بناء مدن جامعية مع مجمعات خدمات تعليمية أو صحية عليها وما هو السبيل إلى تحقيق ذلك وإلا ما الفائدة من تحديد هذه المناطق التي تتحاشى السيول.
8-5 حددت الدراسة في نتائجها المناطق ذات الإمكانيات الاقتصادية مثل الزراعة والصناعة والتعدين والسياحة .. الخ وعلى ضوء ما سبق حددت الدراسة المناطق الصالحة للبناء وبها إمكانيات اقتصادية لوضع أولويات التنمية والتعمير وهي المناطق التي سوف تستوعب الفائض السكاني البالغ 20 مليون نسمة حتى عام 2020 سواء أكانت هذه المناطق بها إمكانيات اقتصادية مؤكدة أو لها أهمية سياسية واستراتيجية أو تحتاج لبنية أساسية أو بها مشاكل سكانية ملحة مع التركيز على أولويات التنمية في شبه جزيرة سيناء والمثلث الحدودي الجنوبي مع السودان ومنطقة بحيرة السد العالي وتوشكى وشرق العوينات واقترحت الدراسة عناصر البنية الأساسية الداعمة لمناطق التنمية المقترحة سواء بوسائل النقل البري أو شبكات الطرق بتفاصيلها المحددة أو بوسائل النقل البحري أو النهري أو الجوي بالإضافة إلى توفير الطاقة ومن خلال هذه الدراسة يمكن للدول أن تضع برامجها التنفيذية التي تحقق أهداف خريطة التنمية والتعمير لمصر عام 2020حيث وضعت الخريطة بمقياس رسم 1:مليون على أمل أن تكون أكثر تفصيلاً مستقبلاً باستخدام خرائط بمقياس رسم 100000:1 إلى أن ننتقل بعد ذلك إلى مراحل أكثر تفصيلاً حتى نصل إلى مقياس رسم من 50000:1 إلى 2500:1 في المستقبل إذا استمر العمل في إنجاز الأهداف المتوقعة من هذه الخريطة وأقيمت لها إدارة خاصة بها.
9-5 حددت الدراسة أهداف استراتيجية التنمية والتعمير في مصر وهي إعادة التوازن إلى النسق العمراني في ضوء النتائج التي توصلت إليها الدراسة وذلك من خلال إعادة توزيع العناصر الأساسية (مثل السكان والأنشطة … الخ) على النطاق الإقليمي مع النطاق المحلي (معاً) سواء من خلال سياسة التخطيط الإقليمي أو من خلال سياسة التنمية العمرانية سواء بإنشاء توابع للمدن القائمة أو باقتراح مراكز للتنمية الإقليمية من خلال الانتشار الإقليمي للتنمية الطويل المدى (كما تقول الدراسة) وهكذا تستمر نتائج مثل هذه الدراسة في صورة توصيات عامة منطقية لا تحتاج إلى هذا الكم من الدراسات والمسوحات والتحليلات.
10-5 وبعد هذه الرحلة الطويلة من الدراسات والتحليلات والاستنتاجات والاقتراحات لم تتطرق الدراسة من بعيد أو من قريب بعد كل ذلك إلى لب المشكلة وهو كيفية توطين الزيادة المستقبلية المتوقعة من السكان البالغ عددهم التقديري 20 مليون في المناطق الجديدة حتى عام 2020 أي بمعدل توطين مليون نسمة سنوياً وما هي القرارات التنظيمية والإدارية اللازمة لتحقيق هذا الهدف .. وما هو معدل توفير فرص العمل على مدى العشرين سنة في المناطق الجديدة حتى يمكن الاستعداد بتوفير السكن والخدمات اللازمة للاستيطان بها شاملاً السكن والعمل معاً .. والذي بناء عليه تتحدد سياسة الإسكان أو الاستيطان خلال العشرين عاماً حتى 2020 ولم تشر الدراسة من قريب أو من بعيد إلى المنهجية التخطيطية الجديدة في تخطيط المدن القديمة حتى تصبح مراكز طرد أو إلى المنهجية التخطيطية الجديدة في تخطيط المدن الجديدة حتى تصبح مراكز جذب، تفوق قوى الجذب فيها ما في المدن القديمة التي لا تزال الدولة توجه إليها معظم استثماراتها خاصة مدينة القاهرة التي تمتص 40% من ميزانية الدولة ليستفيد منها 20% من سكان مصر في القرى والمدن الأخرى مع أن الجميع متساوون في الحقوق والواجبات. فدافع الضرائب في القاهرة يحصل على خدمة أكثر تميزاً مما يحصل عليها دافع الضرائب خارج القاهرة. كيف يتم تحقيق استراتيجية الخروج من الوادي كهدف حتمي والدولة لا تتوقف عن التصريح ببناء المراكز التجارية الكبيرة وناطحات السحاب والكليات والمعاهد والمسارح ودور السينما وأبراج الوزارات والشركات في القاهرة لتمتص مزيداً من العمالة الرسمية يتبعها العمالة الهامشية ومزيداً من المركبات التي تحتل الشوارع والطرقات وتنشأ لها الكباري العلوية والأنفاق الذي يتحمل معظم نفقاتها المواطن المصري من خارج القاهرة الأمر الذي يستوجب دراسة أسعار الخدمات التي تقدم للجمهور في الريف أو في الحضر سواء في المدن الكبيرة أو في المدن الصغيرة.
11-5 لم تتطرق الدراسة من بعيد أو قريب كذلك إلى أهم محرك لتحقيق أهداف استراتيجية الخروج من الوادي والمتمثل في أسلوب اتخاذ القرار سواء على المستوى المركزي أو المستوى المحلي أو على مستوى القمة أو مستوى القاعدة وسواء في إطار السياسات المعلنة أو السياسات المستترة لأسباب استراتيجية وكذلك دور المجالس المحلية والتشريعية في اتخاذ القرار وجميعها بلا استثناء تسعى إلى توفير أكثر ما يمكن من الأنشطة والخدمات في حدودها الإدارية داخل الوادي الضيق الذي نسعى إلى تفريغه من الزيادة المنتظرة من السكان. هذا هو لب الاستراتيجية القومية للتنمية والتعمير التي تسعى إلى زيادة مساحة المعمور المصري إلى 25% من مساحة الأرض بدلاً من 5% ويبقى بعد ذلك كله تحديد ما هو عاجل وفوري وما هو قصير الأجل وما هو طويل الأجل من إجراءات لازمة للوصول إلى تحقيق الهدف الاستراتيجي.
6- تنمية المحافظات في ضوء الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي:
1-6 حددت الخريطة التي أعدتها الهيئة العامة للتخطيط العمراني في عام 1997 التنمية العمرانية المحافظات التي تعاني من مشاكل سكانية واقتصادية وهي على وجه التحديد عشرة محافظات زراعية في الوادي الضيق وتشمل محافظات المنيا - المنوفية - الدقهلية - سوهاج - قنا - البحيرة - كفر الشيخ - الفيوم - الغربية - الشرقية. وتقول الدراسة على سبيل المثال أن محافظة المنيا تعتبر طاردة للسكان لعدم توافر عوامل الجذب بها - وهذه ظاهرة إيجابية لتحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان ولكن المهم أين تذهب الهجرة الخارجة منها.. هل إلى مجتمعات عمرانية قديمة أو إلى مجتمعات عمرانية جديدة فالأولى تعتبر هجرة سالبة أما في الحالة الثانية فتعتبر هجرة إيجابية يجدر رعايتها مع العمل على تحويل الهجرة السالبة إلى هجرة إيجابية. ليس بالعمل على وضع وتنفيذ برامج في كافة مجالات التنمية الاقتصادية الاجتماعية لتوليد فرص عمل كافية لمواجهة مشكلة البطالة والحد من هجرة سكان الريف إلى الحضر كما تقول الدراسة فإن ذلك يساعد بديهياً على زيادة الجذب الداخلي للسكان والبديل هو وضع مثل هذه البرامج التنموية خارج الرقعة الزراعية على أطراف حدود المحافظة ووضع جميع التسهيلات الممكنة لجذب السكان إلى التجمعات الجديدة خارج المحافظة وليس فقط مدينة المنيا الجديدة المتاخمة للمدينة القديمة .. هنا يطبق معامل الاستيطان البشري في تحديد البرامج التنموية كأساس لتحقيق أهداف الخروج من الوادي الضيق وما يقال بالنسبة لمحافظة المنيا يندرج على باقي المحافظات الزراعية. فالأمر لا يحتاج لهذا الكم من البيانات والإحصائيات (خاصة الصادرة عام 1986) وإلى كل هذه التحليلات والتوصيات المكررة في مضمونها فالوقت لا يحتاج إلى كل هذه السنين لإنتاج خريطة التنمية والتعمير في مصر حتى تخرج بهذه التوصيات وما تتضمنه من بديهيات تدفع السكان للخروج إلى المناطق الجديدة ولكن الأهم هو إيجاد الآليات الدافعة من قوانين وقرارات تخطيطية وتنظيمية وإدارية الأمر الذي تفتقده خريطة التنمية.
2-6 يتضح من بعض التوصيات البديهية التي جاءت في خريطة التنمية العمرانية وما يخص تنمية المحافظات أن حل المشاكل داخل المحافظة يتوفر خارجها أي في مجالها الإقليمي الأمر الذي يستدعي معالجة مستقبل عمران مصر في إطار الأقاليم التي تتطابق حدودها التخطيطية مع حدودها الإدارية وتتم بالآليات التخطيطية والتنظيمية والإدارية والتنفيذية وبالأداء الذي يستمد منهجه من أهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي وتسكن الزيادة المستقبلية مع الفائض السكاني في مناطق التعمير الجديدة كمناطق جذب. الأمر الذي يؤثر بالضرورة على أهداف تنمية التجمعات القديمة كمراكز طرد ويتضمن ذلك تقييم المشروعات الاستثمارية المخطط إقامتها في الوادي الضيق على أساس جدواها الاستيطانية والخروج من الوادي وليس جدواها الاقتصادية القصيرة الأجل بمواقعها داخل الوادي. ومن المتناقضات التي تعرضها خريطة التنمية والتعمير عند دراستها لحالة المحافظات التي تعاني من مشاكل اقتصادية وسكانية أن تذكر في توجيهاتها لأحد المحافظات العمل على استكمال باقي أفرع الكليات المتخصصة الناقصة دون أن نذكر المواقع المقترحة لهذه الكليات على الأرض الصحراوية المتاخمة للمدن القديمة كأنوية لمدن جامعية -أو تقصد الدراسة استكمال الكليات المتخصصة في مواقع الجامعات الإقليمية القائمة وهذا يتعارض بالضرورة مع أهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي، وقس على ذلك مباني الخدمات المركزية أو الإقليمية.
7- التجمعات العمرانية في الوادي بين التخطيط والتطوير والتهجير:
1-7 تعرضت مدن الوادي إلى العديد من المحاولات التخطيطية بداية من عام 1958 عندما قامت وزارة الشئون البلدية والقروية بإعداد المخططات العامة للعديد من مدن الوجه البحري والصعيد وكان منها مدن القاهرة وبنها وطنطا وأسيوط كبداية لوضع مخططات عامة لباقي المدن. وأعدت هذه المخططات في ضوء البيانات والخرائط والإحصائيات المتوفرة في ذلك الوقت وتحددت في ضوئها صورة استعمالات الأراضي وشبكات الطرق وارتفاعات المباني بعد عشرين عاماً من تاريخه حتى تكون دليلاً أمام البلديات لتنفيذ مشروعاتها ولوائحها، وقدمت هذه المخططات على خرائط كبيرة محمولة على ألواح خشبية ما فتئت أن تحولت بعد عامين إلى قواطيع في الغرف والممرات نظراً لصعوبة الرجوع إليها من ناحية وعدم جدواها عملياً في التطبيق من ناحية أخرى فلم تكن يسندها قانون أو لوائح ملزمة لأعمال البناء والتطوير. وفي بداية السبعينات وبعد إنشاء هيئة تخطيط إقليم القاهرة الكبرى - على غرار لندن الكبرى- بدأ العمل في وضع المخططات العامة لمدينة القاهرة ومحيطها الإقليمي الذي تحددت حدوده تقديرياً ليضم إليه المجتمعات التي ترتبط بالقاهرة بأكبر نسبة من الحركة. وجاءت حدود إقليم القاهرة الكبرى ليضم شمالاً جزءاً من محافظتي القليوبية والمنوفية كما يضم غرباً محافظة الجيزة وقد أعدت المخططات العمرانية دون هدف واضح يساعد على الاستيطان خارج الوادي كما كان الهدف من تخطيط لندن الكبرى هو إنشاء تجمعات عمرانية حولها لتمتص الكثافة السكانية العالية في وسط المدينة. وبعد ذلك تحولت هيئة تخطيط القاهرة الكبرى إلى الهيئة العامة للتخطيط العمراني ليشمل نشاطها إعداد المخططات الإقليمية والمخططات العامة للمدن والمخططات العمرانية التفصيلية للمناطق ذات الأولوية وذلك في ضوء المحددات والقواعد والأساليب التي حددها قانون التخطيط العمراني رقم 2 لعام 1983 الذي سبق وأن قدم لمجلس الشعب عام 1971 حاملاً الفكر التخطيطي الذي كان سائداً في الستينات في دول الغرب أي أنه تمت الموافقة عليه من البرلمان بعد أحد عشر عاماً من تقديمه الأمر الذي ينم عن عدم وضعه ضمن الاهتمامات الأولى للدولة في ذلك الوقت ربما لوجود بعض القيود المنظمة للعمران والتي ربما لا تروق لأصحاب المصالح الخاصة. وأعيد التخطيط العام للقاهرة مرة أخرى في منتصف الثمانينات. وبدأت تظهر المشاكل الإدارية والتنظيمية في تنفيذه فهو معد بواسطة هيئة في وزارة الإسكان وتقوم بتطبيقه إدارة عامة للتخطيط العمراني تعمل في إطار أجهزة محافظة القاهرة التي يوجه أعمالها مجلس محلي وآخر تنفيذي لكل منهما رؤيته الخاصة في التطبيق سواء أكان ذلك من منظور سياسي أو لهدف قومي أو لمصلحة خاصة أو غير ذلك من الأسباب ومع ذلك فهناك جهات عديدة لها قراراتها الخاصة في مجال تعمير المدينة. الأمر الذي تسبب في وقف العمل بهذا المخطط إلى أن اعتمده الوزير المختص ليستطيع أن ينفذ بعض المشروعات. ومع ذلك فلم يخرج عن المخطط العام المعتمد إلا عدد قليل من المخططات التفصيلية لبعض المناطق في المدينة وهنا تطلب المخططات التنفيذية فقط في حالات تطوير شبكات الطرق أو تطوير بعض المناطق العشوائية أو تخطيط بعض المناطق المستجدة والتي تحتاج إلى مخططات تفصيلية توضح عليها استعمالات الأراضي ونظم ولوائح البناء المناسبة لكل قطاع عمراني فيها. وهذه المناطق كثيراً ما يتم التعامل معها من قبل الإدارة المحلية بما يخالف المخطط التفصيلي المعتمد لها سواء أكان ذلك رغبة من المجالس المحلية أو التنفيذية أو رغبة بعض المسئولين في تخصيص أراضي لمشروعات معينة سياحية أو تجارية أو إدارية وقد يتطلب الأمر في بعض الأحيان التغيير في بعض مسارات الطرق أو السماح للبناء على أراضي مخصصة كمناطق مفتوحة وربما يتطلب الأمر بناء كباري علوية أو أنفاق سفلية في بعض المواقع التي كانت معدة لاستعمالات أخرى في المخططات التفصيلية ومعنى ذلك أن المخططات العامة للمدن أو المخططات التفصيلية التي توضع لبعض المناطق تفقد أهدافها التي وضعت لتحقيقها بسبب أو لآخر يقره متخذ القرار ويجد له مخرجاً من بنود قانون التخطيط العمراني . وهذا ما يؤكد عدم صلاحية المخططات العامة التي ترسم صورة المدن بعد عشرين عاماً من تاريخ إعدادها وهي فترة طويلة جداً يتم فيها العديد من التغيرات و التعديلات التي تخرج المخطط العام عن صورته الأولى . وهذا ما يجرنا إلى أهمية دراسة أسلوب اتخاذ القرار بالنسبة للمشروعات العمرانية وبالتالي يمكن وضع المخططات الهيكلية التي تتصف بالمرونة لمقابلة ما يطرأ عليها من متغيرات يفرضها متخذ القرار من وقت لآخر. كما تسمح بمرونة التغيير أو التعديل في مسارات شبكات البنية الأساسية والطرق التي هي المحدد الوحيد للملامح العمرانية للمخطط العام.
2-7 لقد أجمع خبراء التخطيط العمراني في العالم أن النظرية التقليدية لإعداد المخططات العامة للمدن التي ترسم صورة العمران لها بعد عشرين عاماً من تاريخ إعدادها لم يعد لها قيمة عملية أو تطبيقية وذلك من واقع الممارسة والمتابعة المستمرة والتقييم العلمي لهذه النظرية الجامدة. وكان البديل الذي قدم في الستينات هو وضع المخططات الهيكلية ذات الخاصية المرنة التي تقبل المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية المستقبلية. ومع أن هذا البديل ليس له سند قانوني في قانون التخطيط العمراني رقم 3 لعام 1982 إلا أنها أحد دلائل الأعمال التخطيطية التي كلفنا بإعدادها عام 1986 تحت عنوان إعداد المخطط الإرشادي وهو ما بدئ الأخذ به في التسعينات ولا يزال قانون التخطيط العمراني لم يراجع أو يتطور ولكن أجهزة التخطيط العمراني في الدولة بدأت تأخذ بمبدأ التخطيط الهيكلي كبديل شرعي للمخطط العام كما جاء وصفه في القانون.
3-7 وإذا كانت متطلبات الإنسان تختلف من شعب إلى آخر كماً ونوعاً فإنه من الصعب تعميم هذه المتطلبات على جميع الشعوب بنظمها السياسية والاجتماعية والبيئية المختلفة. وهكذا المدن يصعب أن توضع لها نظرية عامة سواء في تخطيطها أو في الارتقاء بها عمرانياً. فهناك أسس فنية ومنهجية علمية في التناول ولكن السياسات والأهداف تختلف من مدينة إلى أخرى. تبعاً لدورها في منظومة التنمية القومية أو الإقليمية . وإذا كان هذا التوجه يتم العمل به في العديد من دول العالم إلا أنه في الحالة المصرية يعتبر ضرورة حتمية نظراً للخاصية الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية لمصر .. حيث يقيم 95% من البشر على 5% من المساحة الكلية للدولة. فهنا يكمن الهدف في توزيع السكان على أكبر رقعة ممكنة من الأرض حددتها الاستراتيجية التي قدمها مجلس الوزراء المصري عام 1997 بنسبة 25% وهذا الهدف بالضرورة يتطلب سياسات تنموية اقتصادية واجتماعية وعمرانية تضمن تحقيقه على أرض الواقع. من هذا المنطلق فإن أهداف المخططات العمرانية للمدن القديمة في الوادي تختلف عن أهداف المخططات العمرانية للمدن الجديدة في مناطق التعمير الجديدة . فالهدف التخطيطي الأولي يعتبر هذه المدن طاردة بينما الهدف التخطيطي للثانية يعتبرها مدن جاذبة. وبالتالي تختلف السياسات التي تحقق الهدف الأول عن السياسات التي تحقق الهدف الثاني وإن كانت كل من السياستين تعمل لهدف واحد وهو جذب السكان من المدن القديمة وتوطينهم في المدن الجديدة. وبالتالي كذلك تختلف أساليب وآليات التنمية العمرانية في الحالة الأولى عنها في الحالة الثانية وإن كانت هذه الأساليب وهذه الآليات تعمل معاً لتحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق.
4-7 ويبقى التساؤل عن البعد المكاني للاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي وهل تتم باعتبار الدولة إقليماً واحداً أو أنها مكونة من عدة أقاليم تخطيطية بكل منها مجموعات من التجمعات العمرانية المحلية. وقد بدأ الفكر التخطيطي في أول الأمر بالبعد المحلي للتجمعات العمرانية والقرى وبعد فترة بدأ البعد الإقليمي يظهر كضرورة لتحديد الوظائف العمرانية للمدن والقرى وربط العلاقات بينها كما جاء في نظريات التخطيط الإقليمي التي ظهرت في بولندا في الخمسينات ثم في ألمانيا ثم في المملكة المتحدة وفرنسا وغيرها من الدول التي يختلف نسيجها العمراني القومي والإقليمي عن النسيج العمراني لمصر . ففي هذه الدول ينتشر العمران والسكان على معظم المساحات الكلية لهذه الدول وهو نسيج معاكس تماماً للنسيج العمراني لمصر ففي الدول السابقة يعيش حوالي 95% من البشر على حوالي 95% من الأرض بينما في مصر يعيش 95% من البشر على 5% من الأرض. الأمر الذي لا تصلح معه نظريات التخطيط الإقليمي الواردة من الغرب في مثل هذه الحالة حيث يمكن اعتبار الدولة كإقليم واحد فيه 5% من المساحة الكلية منطقة طاردة ومناطق التعمير الجديدة مناطق جاذبة. فقد ثبت عملياً أن تقسيم الدولة إلى ثمانية أقاليم تخطيطية لم يجني ثماره . فوزارة التخطيط تعتبر هذه الأقاليم حيزاً مكانياً لاستطلاع متطلبات المحافظات فيه من استثمارات الخطط الخمسية. وهذه عملية لا تتطلب وجود أجهزة تخطيطية تابعة لوزارة التخطيط في كل إقليم - وعلى الجانب الآخر أنشأت الهيئة العامة للتخطيط العمراني أجهزة تابعة لها في كل إقليم تخطيطي من هذه الأقاليم لمعاونة المحافظات في الإقليم على إعداد المخططات العامة أو الهيكلية للتجمعات العمرانية فيها باعتبار كل محافظة إقليماً إدارياً. وهذا ما أدى إلى غياب التكامل بين التخطيط الاقتصادي الاجتماعي والتخطيط العمراني أو حتى التنسيق بينها.
5-7 وفي أي الحالات لا تزال التنمية المستدامة غائبة في العمليات التخطيطية سواء منها التخطيط الاقتصادي الاجتماعي أو التخطيط العمراني. فالتنمية المستدامة تعمل على استغلال الموارد المتاحة طبيعياً أو بشرياً أو مالياً وعدم استنزافها خاصة في المناطق الجديدة الجاذبة التي يتم تنميتها من خلال مشروعات استثمارية يتحدد فيها حجم المنتج أو الخدمة وبالتالي يتحدد حجم العمالة اللازمة في مراحل المشروع والذي على أساسه يتولى المخطط العمراني حساب حجم العمالة المعاونة في المجالات الإدارية والتجارية والتعليمية والصحية أي حساب حجم السكان المرتبط بالمشروعات ومصادر اجتذابها من المواقع الطاردة في المجتمعات العمرانية القديمة وبالتالي يمكن وضع الآليات التي تساعد على عمليات الإرسال من الثانية وعمليات الاستقبال في الأولي وهذه الآليات هي التي تعمل على تحقيق الأهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي. وعلى هذا الأساس تتحدد أهداف وسياسات المخططات الهيكلية لتطوير أو تحسين الأوضاع في التجمعات العمرانية القديمة كما تتحدد أهداف و سياسات المخططات الهيكلية لبناء التجمعات العمرانية الجديدة كل منها مدعمة باللوائح والقوانين مع النظم الإدارية والمالية والفنية المناسبة بحيث يتأكد مبدأ المساواة بين أفراد المجتمع فلا يعقل أن يكون نصيب الفرد في القاهرة من الخدمات أضعاف نصيب الفرد من الخدمات في المدن الأخرى داخل الوادي الضيق . كما لا يعقل أن يكون نصيب الفرد من الخدمات في مدن الوادي الضيق أضعاف نصيب الفرد من الخدمات في المجتمعات العمرانية الجديدة. فالعكس هو الأصح لتحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي. إن ذلك يستدعي إعادة النظر في أسعار هذه الخدمات فمن يريد أن يقيم في القاهرة بخدماتها عليه أن يتحمل أعباء إقامته فيها. وهذه الأعباء تتمثل في أسعار الخدمات التي تتوفر في المدينة وما ينفق فيها لإنشاء الطرق المعلقة والجسور فوق الأرض والأنفاق تحت الأرض. وما ينفق على المعاهد والجامعات والمراكز التجارية والترفيهية التي تعتبر عناصر جذب هنا في الوقت الذي يفترض أن تكون المدينة طاردة إلى المناطق الجديدة التي تتوفر فيها هذه الخدمات بالأسعار المقبولة للمستوطنين الجدد في هذه المناطق وفي حالات كثيرة تتوفر هذه الخدمات دون مقابل خاصة للرواد الأوائل لهذه المناطق. وهذه إجراءات لا تستدعي انتظار المخططات القومية أو الإقليمية أو المحلية ولا تستدعي كل هذه الدراسات والخرائط والبيانات بل هي إجراءات تنظيمية إدارية فورية يمكن أن تضعها الدولة وتعمل على توعية المجتمع بأسبابها وأهدافها حتى يكون مشاركاً في اتخاذ القرار أو متفاعلاً معه بدلاً من أن ينزل عليه فجأة من أعلى.
6-7 وإذا كانت المدن القديمة أو الجديدة هي كيانات عضوية كالشجرة تبدأ كبذرة ثم تنمو وتنمو حتى تثمرأو يتوقف نموها عند حد معين في بعض الأحيان أو تموت بعد فترة قصيرة في أحيان أخرى فإن التعامل مع هذه المدن يبدأ من هذا المنطلق والعمران يكونه البشر اقتصادياً واجتماعياً والحجر وظيفياً وإنشائياً متمثلاً فيما يبنى فوق سطح الأرض أو ما في باطنها فالعمران هو مزيج من البشر والحجر في كيان عضوي واحد يتأثر بكل العوامل التي يعيش فيها بيئياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً. فمن المنطق أن يتم التعامل مع المدن ليس بالتخطيط الجامد ولكن من مفهوم التنمية العمرانية كعملية مستمرة تحتاج إلى رعاية تنظيمية وإدارية وتشريعية قادرة على التفاعل والتجاوب مع التغيرات التي تطرأ على العوامل المحيطة بالعمران من البشر والحجر معاً. سواء أكانت هذه العوامل داخلية في المجتمع أو خارجية من مؤثرات سياسية وهي التي يلعب فيها متخذ القرار دوراً هاماً في خلق المتغيرات أو المؤثرات في النظم الاقتصادية التي توجه أساليب الاستثمار في البناء حيث يكون لرأس المال العام والخاص الذي تمثله المصالح الشخصية دوره المؤثر على التنمية العمرانية. ما لم تتدخل الدولة وهذا من واجبها في توجيه هذه الاستثمارات لخدمة المصالح القومية الذي تفرضه الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي. وهكذا تصبح التنمية العمرانية عملية مركبة ومتشابكة العوامل مختلفة البدائل والأولويات. الأمر الذي يتطلب أساليباً متطورة للمعلومات المغذية لهذه التنمية بحيث تتجدد باستمرار ويمكن استرجاعها عند الحاجة. وهذه عملية تحتاج إلى تقنية متقدمة تنتج الأرقام والمعلومات كما تنتج الخرائط والبيانات على مختلف المستويات القومية والإقليمية والمحلية من ناحية وفي أبعادها القطاعية من ناحية أخرى. هذه هي ميكانيكية العملية التنموية التي تقوم بها أجهزة متكاملة التخصصات فهي لا تحتاج إلى اجتهادات شخصية أو قرارات عنترية بقدر ما تحتاج إلى عشرات من دلائل الأعمال التي توضح بالتفصيل كيفية التعامل مع المكونات المختلفة لميكانيكية العملية التنموية سواء في المكونات الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية أو الخدمية أو الهندسية أو التنظيمية أو الإدارية أو التشريعية أو السلوكية. وهنا تتغلب علوم التنمية العمرانية لتصبح علوماً متكاملة ينخرط فيها الاقتصاديون و الاجتماعيون والمعماريون و المهندسون و الإداريون والبيئيون والجغرافيون في مناهج متكاملة بحيث تقوم كل من هذه التخصصات بدورها في العملية التنموية المتكاملة وتتكون هذه التخصصات من خلال برامج علمية في الدراسات العليا المتكاملة حتى يعمل كل منهم في مجال تخصصه وفي إطار ميكانيكية العملية التنموية -كما اقترحنا ذلك عام 1972 لمجلس جامعة عين شمس.
7-7 تلعب الإدارة المحلية دوراً هاماً ومؤثراً في التنمية العمرانية بصفتها القائمة على تنفيذ المشروعات المدرجة لها في الخطط الخمسية المتتالية. والإدارة المحلية تقترح مشروعاتها حتى يمكن تقدير قيمة الاستثمارات الملازمة لها من موارد الدولة. والإدارة المركزية هي التي تحدد في النهاية حجم الاستثمارات المتاح وبالتالي تتمكن الإدارة المحلية من تغيير خططها في ضوء الموازنات الجديدة. والإدارة المحلية قد تتولى الإشراف المباشر على مشروعات الخدمات التعليمية والصحية والأمنية والإدارية الواقعة داخل حدودها وقد لا تتولى الإشراف على المشروعات الإقليمية التي تمر داخل حدودها الإدارية. وكذلك المشروعات ذات الوظيفة المركزية. وهنا تتداخل اختصاصات أجهزة التخطيط المحلي باختصاصات أجهزة التخطيط المركزي وبالتالي تختلط الأوامر الإدارية والتنظيمية كما تختلط الصلاحيات المالية بين المركزية والمحلية وتختلط قرارات المجالس المحلية بقرارات المجالس التنفيذية في نفس المحافظة. وكلما زادت أعداد المحافظات زاد تعقيد العلاقات بين المركزية والمحلية خاصة وأن المجالس المحلية هي المؤثرة على اتخاذ القرار في المشروعات العمرانية المحلية ولأيهما تحقيق الاستراتيجية كأولوية مطلقة على المستوى القومي. فكل ما يهم المجالس المحلية هو توفير أكبر قدر من الخدمات وجذب أكبر قدر من الاستثمارات داخل حدودها الإدارية وهي بذلك تساعد على التركيز السكاني داخل حدودها الإدارية في الوادي الضيق. والخروج من هذا التضارب في القرارات المركزية والمحلية يستوجب الإقلال من الحدود الإدارية وتجميع المحافظات الحالية في أقاليم تخطيطية يضم كل منها جزء من المناطق القديمة وآخر من المناطق الجديدة مكونة بذلك حدوداً إدارية جديدة وتوجيه الخطط التنموية فيها بآليات تنظيمية وإدارية لتحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق وبهذا المنطلق سوف تتطابق الحدود الإدارية مع الحدود التخطيطية مكونة بذلك أقاليم تخطيطية إدارية أقل عدداً وأكثر فعالية لتحقيق الاستراتيجية القومية كهدف حتمي لا يمكن الخروج عنه تفادياً للكارثة العمرانية التي قد تواجهها الدولة إذا لم تسرع في تنفيذها دون تأخير.
8- تجربة المدن الجديدة في إطار الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي:
1-8 تعرضت تجربة المدن الجديدة في مصر إلى العديد من المراجعات والتقويمات قامت بها مؤسسات علمية بحثية على فترات زمنية مختلفة. بعد بدء تنفيذ هذه المدن في منتصف السبعينات. وكان التقويم في كل وقت مبني على ما هو متوفر عن هذه المدن من معلومات في حينه وعلى ذلك اختلفت نتائج التقويم باختلاف تاريخ إعدادها. فجاء التقويم وقتياً لا يعبر إلا عن نتائج التجربة في وقت إجراء التقويم ولكن أجمعت الدراسات التي تمت بهذا الشأن على أن هذه المدن في كل أوقات التقويم لم تحقق أهدافها التخطيطية التي وضعت لها فكان لا بد من مقارنة هذه النتائج بمثيلاتها عند تطبيق نظرية المدن الجديدة في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وغيرها من الدول والتي كانت تهدف إلى تخفيف الضغط عن العواصم والمدن الكبيرة فيها وبناء بيئة عمرانية جديدة تواكب متطلبات العصر من خدمات متطورة وأنماط جديدة من إسكان أكثر تحقيقاً لطموحات الإنسان مع طرق ووسائل نقل ومرافق عامة لا تلوث البيئة وتوفر استهلاك الطاقة كذلك فإن المخططات العمرانية التي تعد لهذه المدن تحافظ بيئة المكان وتوفر الراحة للإنسان وتساعد على استدامة التنمية.
2-8 لقد اختيرت مواقع المدن الجديدة في الدول السابقة بجوار تجمعات صغيرة قائمة وفي إطار منظومات متكاملة من التخطيط الإقليمي الذي يحدد الترابط الاجتماعي والاقتصادي بين المجتمعات العمرانية القائمة والجديدة بأحجامها ووظائفها المختلفة. وعندما انتقلت نظرية المدن الجديدة إلى مصر حيث يقيم 95% من السكان على 5% من الأرض كان الهدف هو الخروج إلى الصحراء بعيداً عن الوادي الضيق. فقد اختيرت مواقع الجيل الأول من المدن الجديدة في مصر في مواقع بعيدة عن العمران فمدينة العاشر من رمضان اختيرت في مكان متوسط شرق الدلتا على الطريق الصحراوي الذي يصل القاهرة بمدينة الإسماعيلية وعلى بعد 20 كيلومتر من أقرب مدينة لها في الدلتا وهي مدينة بلبيس و45 كيلومتر شمال شرق القاهرة وبالمثل اختير موقع مدينة السادات غرب الدلتا على بعد 70 كيلومتر من القاهرة على الطريق الصحراوي الذي يربط القاهرة بالإسكندرية وعلى محور عرضي يصلها بمدينة شبين الكوم عاصمة محافظة المنوفية وسط جنوب الدلتا. وبعدهما اختير موقع مدينة 6 أكتوبر شمال منطقة الهرم على طريق القاهرة الفيوم الصحراوي .وتحدد الحجم النهائي لمدينتي العاشر من رمضان والسادات بنصف مليون نسمة والحجم النهائي لمدينة 6 أكتوبر بمليون ونصف نسمة والقاهرة الجديدة باثنين مليون نسمة وغيرها من المدن التي تحددت أحجامها النهائية فيما بين 35 ألف و200 ألف نسمة. وهكذا كان اختيار المدن الجديدة من قبل المسئولين اختياراً مناسباً من الناحية المكانية وليس في إطار مخططات إقليمية تتحدد فيه وظائف المجتمعات العمرانية بأحجامها المختلفة وعلاقاتها مع التجمعات العمرانية الواقعة في الدلتا أو الصعيد.فلم يعد تخطيط إقليمي لتعمير شرق وغرب الدلتا حيث تقع بعض هذه المدن. ودارت عجلة التعمير بوضع المخططات العامة لهذه المدن بالأسلوب التخطيطي التقليدي الذي يقسم المدينة إلى منطقة وسط وعدد من الأحياء بها أعداد من المجاورات السكنية بخدماتها المختلفة وتربطها شبكات من الطرق الرئيسية والفرعية والمحلية. وعلى هذه المخططات العامة تحددت مراحل التعمير المختلفة في مواقع مقطعة الأوصال يتم تقسيم أراضيها وتحديد استعمالات الأرض تفصيلياً فيها. وبدأت أعمال التنفيذ بشق الطرق وتوفير البنية الأساسية وبناء بعض مباني الخدمات العامة وأنماط من الإسكان العام وعلى جانب آخر تم تقسيم المناطق الصناعية على أصحاب الصناعات المختلفة وقد حصلوا على ميزات كثيرة مثل الإعفاء الضريبي لمدة عشر سنوات كعوامل جذب لبدء أعمال التعمير في هذه المدن.. وأقيم لكل مدينة جهاز خاص لإدارتها عند أطرافها. ودارت حركة التعمير والبناء فازدادت معدلاتها بنسب مختلفة على مر الأيام في المناطق الصناعية عما كان مخططاً له وانخفضت معدلاتها بنسب مختلفة في المناطق السكنية بخدماتها عما كان مخططاً له ويعني ذلك انقلاب التوازن العمراني وانتهاء فاعلية البرامج التنفيذية ومرحليات التعمير التي وضعت في التخطيطات العامة لهذه المدن الجديدة. وإذا كانت القسائم في المناطق الصناعية قد خصصت لشركات أو مصانع محددة إلا أن القسائم في المناطق السكنية وما تم البناء عليها من وحدات سكنية لم تكن مخصصة لأحد بل تركت مفتوحة لمن يريد أن يستثمر في الإسكان سواء بالتمليك أو بالتأجير في ظل آليات السوق.
3-8 بدأ الطلب على الوحدات السكنية قليلاً في بداية التعمير وإن كان قد أخذ في الزيادة بمعدلات بطيئة بعد ذلك حيث بدأت عمليات الاستيطان لمختلف الفئات فمنهم من يعمل في القاهرة أو مدن قريبة ويقيم في المدينة الجديدة وقليل منهم يعمل ويقيم فيها وذلك بنسب متفاوتة تتغير من وقت لآخر، ومع تزايد الأعداد في سكان المدينة تتزايد الخدمات التجارية والترفيهية والصحية والإدارية والتعليمية بمعدلات ضعيفة. خلاف تزايد الطلب على القسائم الصناعية الأمر الذي دعا المسئولين إلى مضاعفة المناطق المخصصة للصناعات عما كانت عليه في المخططات الأولى ويعني ذلك اختلال آخر في المخطط العام الذي وضع للمدينة الجديدة وفي خلال مراحل التعمير المتتالية اتضح أن الفئات المنخفضة الدخل من العاملين ليس لها من الوحدات السكنية في المدينة ما يتناسب مع إمكانياتها المادية فقام جهاز أحد المدن ببناء عدد من الوحدات السكنية بنظام المنزل النواة وتم عرضها وبيعها للفئات المنخفضة الدخل سواء منهم العاملين في المدينة أو من خارجها وتركت لهم حرية استكمال البناء الذي تم بصورة عشوائية حولت المنطقة السكنية إلى عشوائيات جديدة بأمراضها الاجتماعية والأخلاقية والأمنية والصحية. فتوقفت التجربة في هذا النوع من الإسكان. مع أن مثيلاتها من التجارب قد نجحت في دول أخرى حيث يتم استكمال المسكن النواة تحت إشراف مراكز خاصة للبناء بالجهود الذاتية تضمن سلامة الإنشاء وحسن اختيار مواد البناء في ضوء قدرات الدفع لدى الفئات المستهدفة.
4-8 لقد أقيمت العديد من المباني التعليمية في بداية التعمير في المدن الجديدة لتستوعب أعداداً محددة من الطلبة عند نهاية مرحلة التعمير. وكانت النتيجة أن أجزاءً كثيرة من هذه المباني تركت دون استعمال وذلك لقلة أعداد الطلبة الذين تواجدوا في المراحل الأولى للتعمير. فقام المسئولون بتحويل الأجزاء المعطلة من هذه المباني إلى أغراض أخرى اجتماعية أو ترفيهية ويعني ذلك عدم مرونة التصميمات المعمارية لمثل هذه المباني لمواجهة المتغيرات التي تطرأ عليها على مدى مراحل التعمير المختلفة وينطبق هذا الوضع على مختلف عناصر التعمير المختلفة من إسكان ومباني عامة وشبكات للطرق والصرف الصحي والمياه ومباني الإسكان والخدمات وبذلك تصبح تجربة المدن الجديدة حقلاً لتطوير أسلوب التخطيط ليتناسب مع مواجهة المتطلبات المتغيرة على مدى مراحل التنمية العمرانية للمدينة الجديدة بحيث تنمو كل العناصر المكونة للمدينة بشكل متكامل ومتوازن على مدى مراحل التنفيذ دون أن تفصلها فراغات تسئ إلى البيئة العمرانية. فقد لوحظ من أسلوب إعداد المخططات العامة للمدن الجديدة في مصر أن مراحل التعمير فيها توضع بشكل متقطع الأوصال تفصلها مساحات من الأرض الصحراوية تترك دون تنمية عمرانية لفترات طويلة من الزمن تفقد بسببها المدينة صورتها العمرانية المتكاملة والمترابطة التي يمكن أن تظهر بها على مدى مراحل نموها. الأمر الذي يستوجب البحث عن نظرية جديدة للتنمية العمرانية للمدن الجديدة ليس فقط لمواجهة المتغيرات التي تطرأ عليها ولكن لتحقيق الأهداف التي وضعت لها وهي جذب الفائض السكاني من الوادي الضيق إلى مناطق التعمير الجديدة وهو ما يتطلب زيادة عوامل الجذب فيها عنها في المدن القديمة التي تعامل كمناطق طرد، الأمر الذي يستدعي ربط أسلوب تنمية المدن الجديدة بأسلوب تطوير المدن القديمة في عملية واحدة يتم فيها التناغم بين عمليات الاستقبال في المدن الجديدة وعمليات الإرسال من المدن القديمة. وكل ذلك يعتمد لتحقيقه على أسلوب متكامل من التنظيم والإدارة لعملية التنمية العمرانية المستمرة حتى يمكن تحقيق أهداف التنمية العمرانية في المدن الجديدة مع أعمال التطوير في المدن القديمة في إطار الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق.
5-8 إن عملية تقييم تجربة المدن الجديدة لا تنحصر فقط في مدى تحقيقها للأهداف التخطيطية التي وضعت لها في شكل مخططات عامة ترسم صورة كل مدينة على مدى عشرين عاماً - مع أنه لا يوجد زمن يحدد عمراً للمدن - فالتقييم هنا لا يعدو أن يكون نتائج رقمية لعمليات متابعة لما يتم على أرض الواقع - ولكن التقييم الحقيقي يجب أن يبنى على أساس مدى تحقيق المدن الجديدة لأهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق في ضوء السياسات والقوانين العمرانية والبنائية التي تطبق في المدن القديمة والتي تعيق من تطوير المدن الجديدة ويمكن إثبات ذلك بالأرقام والبيانات من واقع تجارب العمران في مصر. ولكن الهدف من هذه الدراسة هو محاولة التركيز على الجوانب الموضوعية التي تعرضها تجربة المدن الجديدة في مصر أكثر من عرض الجوانب الرقمية التي يكثر فيها الاختلاف.
6-8 ومن الأمثلة العديدة التي توضح مدى تأثير القرار السياسي على تخطيط المدن الجديدة ما تم في تخطيط مدينة العبور. فقد بدأ وضع التخطيط العام للمدينة الجديدة بهدف استيعاب فئات العاملين في المصانع القائمة على الجانب الغربي لطريق القاهرة / بلبيس .. وغيرهم من فئات الدخل المحدود . وذلك بمبادرة من جهاز المعونة الألمانية التي وضعت التخطيط العام كما وضعت الشروط والمعايير التخطيطية للمدينة والشروط والمعايير التصميمية لمساكن ذوي الدخل المحدود التي تحددت مواقعها في المخططات التفصيلية للأحياء السكنية التي تحدد إنشاؤها في المراحل الأولى للتعمير. وبعد الانتهاء من وضع التخطيط العام والمخططات التفصيلية للأحياء الأولى من المدينة تغيرت القيادات السياسية وتغيرت معها السياسة التنموية فأعيد تخطيط المدينة مرة أخرى بأهداف أخرى يغلب عليها الاتجاه الرأسمالي في التنمية العمرانية وذلك باجتذاب أصحاب الدخول الكبيرة والمستثمرين في الإسكان الفاخر والمشروعات الترفيهية كالملاهي أو الجولف مع تخصيص بعض المناطق للصناعات المختلفة لاجتذاب المستثمرين إليها. وهكذا انقلب التوجيه الاجتماعي إلى التوجيه الاستثماري فانقلب التخطيط ليوفي السياسة الجديدة وتبع ذلك إعداد التخطيط التفصيلي الجديد للمناطق المختلفة بعد استبعاد التخطيطات الأولى التي وضعها خبراء المعونة الألمانية بالتعاون مع الخبراء المصريين.
7-8 إن ما تم في مدينة العاشر من رمضان شرق الدلتا تم مثله في مدينة السادات غرب الدلتا من تنمية عمرانية. وإن كان معدل التنمية في مدينة العاشر من رمضان وهي على بعد 45 كيلومتراً من القاهرة أسرع من معدل التنمية في مدينة السادات التي تبعد 70 كيلومتراً من القاهرة فقد كان لعامل البعد من مدينة القاهرة أثره على معدل التنمية وحيث أن معظم العاملين في مدينة العاشر من رمضان يقيمون في القاهرة ونسبة أخرى تقيم في مدينة بلبيس والقرى المحيطة بها على بعد 20 كيلومتراً ! وذلك بخلاف مدينة السادات التي يفصلها فرع رشيد عن وسط الدلتا وبصفة خاصة محافظة المنوفية. الأمر الذي قلل من معدل نموها عمرانياً. ومع تسارع التنمية الصناعية في المدينتين فقد وصل تعداد سكان مدينة السادات إلى 16 ألف فرد عام 1998 بخلاف ما كان مخططاً لها بأن يصل تعدادها في ذلك الوقت إلى 50 ألف فرد. وكما تعرضت مدينة العاشر من رمضان إلى العديد من المتغيرات التي استدعت زيادة المناطق الصناعية تعرضت مدينة السادات أيضاً إلى الكثير من المتغيرات فرضتها بعض القرارات السياسية التي ظهرت في اختيار مواقع قرب مدخل المدينة خصصت لمباني السجون. واختيار مواقع أخرى في نفس المنطقة لإنشاء معاهد أزهرية على الطريق السريع القاهرة / الإسكندرية الصحراوي أصبح جاذباً للاستثمار على جانبيه تماماً كما حدث على طريق القاهرة/ الإسماعيلية حيث اجتذب الجانب الغربي منه للعديد من الاستثمارات في بناء المعاهد والمدارس والجامعات الخاصة في المسافة بين القاهرة ومدينة العاشر من رمضان. وهكذا اختل التوازن العمراني لكلا المدينتين ولم تعد للتخطيطات التي وضعت لهما من قبل الفعالية التي كانت منتظرة. حتى أن التخطيط العام الذي وضع لمدينة القاهرة عام 1998امتد ليصل مشارف مدينة العاشر من رمضان في شمالها الشرقي. وهكذا يتلاحم العمران تدريجياً في المناطق الجديدة كما تتلاحم المدن والقرى تدريجياً في المناطق القديمة في الوادي الضيق الأمر الذي قد يؤدي إلى اختفاء الرقعة الزراعية في الدلتا عام 2035 إذا امتد العمران فيها بنفس المعدلات الجارية عام 1997.
8-8 إذا كانت مدينة السادس من أكتوبر الواقعة شمال منطقة أهرامات الجيزة قد بدئ في تعميرها بعد مدينتي العاشر من رمضان والسادات إلا أن معدل التعمير فيها فاق معدلات التنمية في المدينتين الأوليين. وذلك للعديد من الأسباب التي ساعدت على ذلك. منها بناء مشروعات الإسكان المتميز والقرى السياحية التي تستثمر مواقعها المطلة على هضبة الأهرام ومنها بناء المصانع لقرب المدينة من الشريان الرئيسي وهو طريق القاهرة/ الإسكندرية الصحراوي الذي يصل المدينة بموانئ الإسكندرية ومنها قرب المدينة الكبير من محافظة الجيزة وبالتالي وسط القاهرة. الأمر الذي دعا أصحاب القرار إلى مضاعفة المساحة التي كانت مخصصة للمدينة بهدف بيع المساحات المضافة لكبار المستثمرين مقابل حصيلة كبيرة من الأموال تضاف إلى خزينة الدولة. ومع الطفرة التي شهدتها مدينة السادس من أكتوبر في بداية التسعينات إلا أنها بدأت تواجه تقهقراً في الاستثمار العقاري في نهاية هذه الحقبة الأمر الذي قد يتسبب في هبوط معدلات النمو السكاني فيها. وإن كانت معظم الاستثمارات في المدينة تتجه إلى المشروعات الخدمية والترفيهية والإعلامية فإن الاستثمار في الإسكان المتميز بدأ يتحول إلى الاستثمار في الإسكان المتوسط والاقتصادي وإسكان الشباب.أما الإسكان لذوي الدخل المحدود فلم يجد له مكان بعد على خريطة التنمية العمرانية للمدينة ومع كل ذلك فتعداد سكان المدينة المقيمين فيها حتى عام 1998 يقدر بحوالي 150 ألف نسمة.
9-8 تختلف طبيعة التنمية العمرانية في المدن الجديدة الأخرى باختلاف موقعها من التجمعات السكنية القريبة منها. كما ظهر العديد من المدن التوأم لمدن قائمة مثل المنيا الجديدة وأسيوط الجديدة وأسوان الجديدة وغيرها ممن اختيرت مواقعها على أراضي صحراوية متاخمة للمدن القائمة وقد أعدت مخططات هذه المدن الجديدة العامة بنفس الأسلوب التقليدي الذي يرسم صورة العمران بعد عشرين عاماً من تاريخ الإعداد دون اعتبار للمتغيرات السياسية والاقتصادية والسكانية التي قد تطرأ مستقبلاً. فهذه المدن الجديدة لا تعدوعن كونها مواقع قسمت أرجاؤها إلى قسائم للاستثمار السكني أو الخدمي أو الإنتاجي يعمل بآليات السوق دون أن توضع لها الآليات التي تساعد على جذب السكان إليها من المدن القائمة. فلا تزال عوامل الجذب في التجمعات العمرانية القديمة أقوى بكثير من عوامل الجذب إلى هذه المدن الجديدة خاصة وأن إيجارات الوحدات السكنية في المدن القديمة لا تزال تخضع للنظام الاشتراكي الذي حدد قيمتها لتصبح بلا قيمة تذكر. الأمر الذي ساعد كثيراً على تمسك السكان بمساكنهم الحالية داخل المدن القديمة يتوالدون ويتكاثرون فيها فازدادت بذلك معدلات الإشغال في غرفها. وهذه ظاهرة تبطل من فعالية الاستراتيجية القومية التي تسعى إلى جذب السكان من 5% من أرض مصر إلى 20% من الأرض خارج الوادي الضيق.
9- مدينة القاهرة حقل للتجارب العمرانية:
1-9 للقاهرة كما للعواصم الكبيرة طبيعة سكانية خاصة فسكانها عام 1996 بلغ عددهم ليلاً 6.8 مليون نسمة ونهاراً 8.2 مليون. فالمدينة يدخلها يومياً حوالي 1.5 مليون نسمة ويعني ذلك أن القاهرة تقدم خدماتها ومرافقها اليومية لسكان غيرها من المدن فهي تقدم وسائل النقل كما تقدم الخدمات التجارية والترفيهية والثقافية والتعليمية والإدارية أيضاً لهم وكأنهم مقيمون ولكن لا ينامون. كما أن هذه الأعداد الكبيرة التي تدخل القاهرة يومياً يترسب منها أعداد كثيرة تقيم مع زملاء أو أقارب لهم لفترات محددة يتم فيها البحث عن سكن مؤقت للإقامة وهكذا تترسب أعداد كبيرة من السكان الذين يؤدون أعمالاً هامشية كسياس سيارات أو منادين أو بائعين أو بوابين أو خدم أو مساعدين حرفي.. وغير ذلك من الأعمال الهامشية. الأمر الذي يجر معه كثيراً من المشاكل الأمنية والأخلاقية والاجتماعية والبيئية. وهؤلاء يمثلون نسبة كبيرة من ركاب مترو الأنفاق وسيارات النقل العام ويستهلكون قدراً كبيراً من المرافق والخدمات العامة. وإذا كان هناك كثير من الدراسات السكانية والمرورية والاجتماعية والاقتصادية للقاهرة فإن هذه الدراسات لم تتكامل لتصل إلى الأسلوب الأمثل والمتكامل للتعامل مع القاهرة الكبرى التي يمثل سكانها 17.3% من سكان مصر و41% من سكان الحضر عام 1996 وهي نسبة يمكن أن تستمر حتى عام 2020 . إن لم تتحقق المعجزة الأمر الذي يؤكد ضرورة الإسراع الفوري في تنفيذ الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي.
2-9 مرت مدينة القاهرة بعدة مراحل تخطيطية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. بعد أن كانت مدينة هادئة تعدادها 3.5 مليون نسمة في بداية الخمسينات .. وكانت تحيطها غرب النيل حقول زراعية شاسعة وكانت جامعة القاهرة تتوسط هذا البساط الأخضر وبجوارها حديقة الحيوان وحديقة الأورمان وكانت ضاحية العباسية في الطريق الشمالي من المدينة هي آخر حد دون المدينة وبعدها صحراء العباسية وثكنات الجيش.. وفي أقصى الجنوب أحياء السيدة زينب ومصر القديمة تفصلها عن ضاحية المعادي بفيلاتها وحدائقها حقول خضراء وعلى بعد منها جنوباً مدينة حلوان التي عرفت بآبارها الكبريتية وحدائقها اليابانية باعتبارها منتجعاً شتوياً صحياً. وفي الشمال الغربي كانت تمتد حدائق شبرا بفيلاتها وحدائقها .. واحتفظ وسط المدينة بطابعه الكلاسيكي الذي اختاره الخديوي إسماعيل متأثراً بالعمارة الفرنسية في ذلك الوقت وفي الشرق احتفظت القاهرة التاريخية بمقوماتها العمرانية وأسواقها التجارية ومبانيها الأثرية وكان يحدها شرقاً تلال الدراسة التي كانت تطل على منطقة المقابر في الوادي الشرقي بعيداً عن حركة العمران. وفي إطار هذه الصورة العمرانية كان حي جاردن سيتي معبراً عن معنى الكلمة حيث القصور والفيلات والحدائق الغناء والشوارع المتعرجة والهدوء التام وفي جزيرة الزمالك تكررت نفس الصورة حيث كان يقيم فيها كبار القوم من مصريين وأجانب.
3-9 استمرت الصورة الجميلة للقاهرة حتى عام 1948 حيث بدأت وزارة الأوقاف تنظر غرب النيل على الأراضي الزراعية التي كانت تمتلكها وقد وجدت فيها فرصة سانحة للاستثمار العقاري الأكثر ربحاً من الاستثمار الزراعي فأقدمت على فكرة عبقرية لتخطيط هذه الأراضي الزراعية وتقسيمها بين الجمعيات المهنية المختلفة وعلى رأسهم جمعية المهندسين التي استمدت منها المنطقة اسمها بعد أن كانت تسمى مدينة الأوقاف. ووضع لهذه المدينة الجديدة نظام بناء خاص يجيز البناء على 40% من مساحة القطعة وبارتفاعات ما بين دورين إلى أربعة أدوار وبدأ التعمير يسري في عروقها بعد زوال الأرض الخضراء إلى أن تقدم أحد المسئولين بفكرة عبقرية أخرى في بداية السبعينات كوسيلة لحل مشكلة الإسكان التي تحتاج إلى شبكات من المرافق العامة فوجد في مدينة الأوقاف ضالته وعدل نظام البناء السابق وسمح بالبناء على 60% من مساحة القسيمة وبارتفاعات تتناسب مع عروض الشوارع العريضة بنسبة مرة ونصف .. وبدأت ثاني الكوارث العمرانية التي شهدتها القاهرة حيث ارتفعت أسعار الأراضي ارتفاعاً جنونياً وارتفعت معها العمارات وجذبت إليها الأنشطة التجارية والإدارات الخدمية وغيرها من الأنشطة فازدادت بذلك الكثافات التي لم تعد تتحملها طاقات المرافق العامة وازدادت بالتالي كثافات المرور سنة بعد أخرى مع الزيادة السكنية حتى قاربت المدينة أن تختنق ولم يعد للتخطيط الأول أي أثر على خريطة المدينة.
4-9 في شرق القاهرة وفي بداية الستينات بدأ العمران يتجه إلى صحراء العباسية فأنشئت شركة عقارية لتقسيم الأراضي ومدها بالمرافق في مدينة جديدة توازن مدينة الأوقاف شرقاً وأطلق عليها مدينة نصر .. فوضع لها التخطيط العمراني التقليدي حيث قسمت إلى مناطق وسط كل منها مركز يضم المدرسة والمسجد والمحال التجارية. وقد ساعد على إقامتها شق شريان طولي شرق القاهرة هو طريق صلاح سالم. وسمحت المدينة الجديدة بإنشاء مركز إداري حكومي على هذا الشريان المروري كما سمحت بإنشاء العمارات المرتفعة على جوانب الشوارع الرئيسية الواسعة المحيطة بالمناطق السكنية بينما العمارات المنخفضة تنشأ في قلب كل منطقة .. واستمر التعمير مع تطبيق نفس نظم البناء التي ساعدت على ارتفاع أسعار الأراضي على الشوارع الرئيسية المحيطة بالمناطق السكنية والمحددة لها وارتفعت معها المباني التي اجتذبت إليها أنشطة غير سكنية من تجارية وإدارية أفقدت المناطق المختلفة توازنها العمراني وأصبحت الشوارع الفاصلة بين المناطق السكنية شرايين من الأنشطة الرابطة بينها . وهكذا ضاقت الشوارع المحيطة بالمناطق السكنية بكثافات المرور المتولدة عن زيادة كثافة الأنشطة على جوانبها ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ففي الثمانينات ظهر مسئول آخر رأى تطوير نظم البناء في المدينة وأمر بالسماح بارتفاعات المباني كما في غيرها من المناطق بمقدار مرة ونصف عرض الشارع وألغيت النظم القديمة، فاشتعلت أسعار الأراضي وارتفعت إلى عنان السماء في كل مكان وارتفعت معها الكثافات وانتشرت فيها المخالفات التي زادت من الكثافات المرورية على الطرق كما ازداد الضغط على شبكات المرافق حتى كادت المدينة الجديدة هي الأخرى أن تختنق بعمرانها وسكانها.
5-9 مدينة أخرى جديدة لم تسلم من نفس العبث الإداري هي ضاحية مصر الجديدة التي أنشأها البارون إمبان على الأراضي الصحراوية شمال مدينة القاهرة وجعل منها نموذجاً يحتذى في إدارة التنمية العمرانية المتكاملة والمتوازنة. فقد خرج مسئول آخر يريد أن يفتح بنفسه آفاقاً جديدة في التعمير فرأى إلغاء نظم البناء التي وضعتها شركة مصر الجديدة من قبل وأمر بتطبيق نظم البناء العامة التي تسمح بزيادة النسبة المبنية من الأرض والارتفاع بالمباني إلى مرة ونصف عرض الشارع، ولم تسلم الضاحية من المصير الذي آلت إليه مناطق أخرى في القاهرة واختل التوازن العمراني فيها وزادت الكثافات السكنية فزادت معها الأنشطة التجارية والإدارية وغيرها وبالتالي زادت كثافات المرور على الشوارع التي لم تعد تتسع لها حتى كادت الضاحية الجميلة سابقاً أن تختنق بسكانها.
6-9 في بداية الثمانينات وبعد تفاقم العمران في القاهرة رأى الخبراء الفرنسيون الذين تعاقدت معهم الجهات المسئولة لوضع تخطيط جديد للقاهرة أنه لا بد من إنشاء طريق دائري حول القاهرة لتفريغها من وسائل النقل الثقيل والحد من امتداداتها شرقاً وغرباً. ومع هذا الاقتراح رأى الخبراء إنشاء تسع تجمعات سكنية خارج الطريق الدائري لامتصاص الزيادة السكانية المتوقعة في القطاعات المتجانسة من المدينة. واختاروا مواقع لخمسة تجمعات سكنية شرق القاهرة وأربعة تجمعات غربها. وأسند تخطيط هذه التجمعات للمكاتب الاستشارية المحلية. واجتهد كل منهم بقدر فكره وطاقته. فوضعت المخططات العامة والتفصيلية وبدأت عجلة التعمير تدور في هذه التجمعات بدون الآليات التي تعمل على خفض الكثافات السكنية في المناطق المزدحمة في القطاعات المتجانسة في المدينة وتوجيهها بكل وسائل الجذب إلى التجمعات الجديدة. ولكن تركت حركة العمران خاضعة لآليات السوق كما كان الحال في تعمير مدينة نصر. فتعثر العمران في هذه التجمعات حيث لم يترك قانون العلاقة بين المالك والمستأجر الذي حدد إيجارات المساكن القديمة في ظل النظام الاشتراكي في بداية الستينات لم يترك الفرصة لسكان المناطق القديمة للتحرك إلى المناطق الجديدة التي افتقرت إلى عوامل الجذب التي تشد الناس إليها كما فعل البارون إمبان من قبل في ضاحية مصر الجديدة عام 1909.
7-9 في بداية التسعينات تغيرت القيادات السياسية المسئولة عن أعمال التعمير فظهرت للقيادة الجديدة فكرة عبقرية أخرى وهي ضم كل التجمعات السكنية الخمس الجديدة شرق القاهرة في مدينة واحدة بتخطيط جديد يستوعب 4.5 مليون نسمة أطلق عليها القاهرة الجديدة . فضاعت بذلك مخططات الخبراء الفرنسيين والمصريين وبدأت أعمال بيع الأراضي في القاهرة الجديدة لأصحاب المشروعات الاستثمارية والسياحية فأقيمت نوادي الجولف مع منتجعات الإسكان الفاخر بالإضافة إلى العديد من المدارس الخاصة التي تخدم القاهرة القديمة أكثر مما تخدم القاهرة الجديدة التي لم يقطنها البشر الكافي بعد وسوف تتعرض القاهرة الجديدة إلى نفس المصير الذي تعرضت له مدينة نصر من قبل. وهكذا ينتشر العمران بأسلوب القطعة تبعاً للظروف القائمة.
8-9 مع هذه الامتدادات الكثيفة شرقاً وغرباً ومع التزاحم البشري وتزايد الكثافات المرورية على شوارع القاهرة وضواحيها رأت الدولة إنشاء العديد من الكباري العلوية لربط أوصال المدينة التي تقطعت وكلما ازدحم كوبري منها أنشئ كوبري آخر لحل المشكلة المرورية في مواقع الاختناقات الجديدة في إطار خطة مرورية بدأت منذ ثلاثين عاماً من تاريخه. وهكذا توالى إنشاء الكباري العلوية لتختنق هي الأخرى الواحد بعد الآخر ومع الكباري العلوية امتدت شبكات مترو الأنفاق لتربط أوصال المدينة شمالها بجنوبها وشرقها بغربها لتساعد على امتصاص الزيادة المستمرة في ركاب المواصلات العامة. الأمر الذي زاد من عوامل الجذب للاستيطان البشري في القاهرة الكبرى. وعندما اختنقت الشوارع بالسيارات المتحركة والواقفة لم يعد هناك مجال لمواقف السيارات فأنشئت المواقف متعددة الأدوار في بعض المناطق وعندما ازدحمت هذه المواقف طرحت الدولة مشروعات أخرى لإنشاء مواقف للسيارات تحت الأرض أسفل الميادين والشوارع الرئيسية والأندية الرياضية حتى يجد البعض أماكن لوقوف سياراتهم إلى أن تزدحم هذه المواقف بمن فيها مرة أخرى يتم بعدها البحث عن أراضي أخرى لمواقف أخرى وهكذا يستمر التضخم العمراني في مدينة القاهرة دون توقف.
9-9 شهد ميدان التحرير في القاهرة العديد من التجارب المتتالية وكأنه لوحة رسم يمارس عليها المخطط أفكاره. فكم من مرة تم تخطيط الميدان ثم ألغي التخطيط ليبدأ تخطيط آخر.. وكم من مرة تقام فيه المنشآت المرورية وكم من مرة تزال هذه المنشآت لتقام بدلاً منها منشآت أخرى وكم من مرة أعدت فيه مواقف لسيارات النقل العام والسياحي. وهو الآن يشهد تجربة أخرى في بناء مواقف للسيارات أسفله وتقوم الدولة بتجربة جديدة بإنشاء نفق للسيارات أسفل شارع الأزهر يصل بين شارع صلاح سالم وميدان الأوبرا .. دون حساب للنتائج المترتبة على ذلك حيث لم يتم التخطيط للنفق في إطار تخطيط كامل للمرور السطحي في المنطقة حيث سيترتب على إنشاء النفق هدم كوبري علوي كان يخدم المنطقة. وهناك اقتراح بإنشاء دار جديدة للأوبرا في ميدان الأوبرا القديم وهدم الجراج متعدد الأدوار في نفس المكان. وهكذا تتخبط أعمال الهدم والإنشاء دون وجود استراتيجية قومية تحد من ظاهرة التكدس السكاني في المدن القديمة جميعها بما فيهم القاهرة فظاهرة التكدس هي السبب الأساسي في جميع المشاكل البيئية والصحية والأمنية والخدمية والتعليمية التي تنفق عليها المليارات دون النظر إلى المستقبل البعيد الذي قد تصل فيه الدلتا عام 2035 إلى تجمع عمراني واحد. وقد تمتد الظاهرة إلى جنوب الوادي/ ما لم تحدث معجزة.
10-9 وإذا كانت القاهرة قد تعرضت لكثير من التجارب فهناك العديد من عواصم المحافظات الأخرى التي تتعرض لتجارب مماثلة مع الفارق في الحجم. ويشهد على ذلك ما تواجهه المدن الواقعة على طريق القاهرة/ الإسكندرية الزراعي. الذي أصبح طريقاً صناعياً أكثر منه زراعياً، فقد جذب إليه العديد من الأنشطة الصناعية والعمرانية ولم تعد تحويلاته المرورية خارج المدن تؤدي وظيفتها بل أصبحت داخل المدن كما بدأت تظهر الكباري العلوية في المدن الإقليمية بعد أن أقيمت فيها الجامعات والخدمات المركزية لتجذب مزيداً من السكان لتزيد من ضغط الاستيطان في الوادي الضيق وذلك بالرغم من التحذيرات المتتالية منذ بداية السبعينات. ولكن كانت قرارات المجالس المحلية هي المطالبة لكل نشاط عمراني في هذه المدن واستبعدت الخبرة التخطيطية التي ترى الأمور في أبعادها الطويلة الأجل. فلم تعد لعلوم التخطيط العمراني أو نظرياته أو خبرائه أدنى أثر في توجيه مستقبل العمران في مصر. وهي مقبلة على كارثة عمرانية ليس لها حل قبل نهاية منتصف القرن الحادي والعشرين إن لم تتخذ الإجراءات الفورية لإيقاف نزيف الانفجار العمراني الذي يحصد أمامه نتائج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي.
10- العمران وعدالة توزيع الاستثمارات:
1-10 القاهرة كما يصفها العامة هي مصر. وتثبت ذلك الأرقام فهي فعلاً تستأثر بمعظم الخدمات والاستثمارات. وإذا كان في القاهرة الكبرى 20% من سكان مصر فهي تستأثر بنسبة 40% من استثمارات الخطط الخمسية. وهذا هو سر تضخمها والعامل الرئيسي في زيادة مشاكلها البيئية والصحية والأمنية والمرورية. وكلما تزايد تعدادها ازدادت نسبة الاستثمارات الموجهة إليها لحل مشاكلها ويقترح البعض توجيه نسبة من هذه الاستثمارات إلى المدن الأخرى في الوادي الضيق وتنمية المناطق الريفية درءاً لمشاكل القاهرة. مع أن المدن والقرى في الوادي الضيق تعاني مما تعاني منه القاهرة من تكدس سكاني. ومع ذلك فلا تزال القاهرة تزداد تضخماً بسبب ما يقام فيها من إنشاءات حتى كادت أن تصاب بتوقف الشرايين وهي تعالج وقتياً بالحقن المسكنة المتمثلة في الكباري العلوية أو الأنفاق التحتية لحل مشاكل المرور وقتياً وذلك في غياب الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق والتي هي المفتاح الحقيقي لحل مشاكل مصر السكانية والاقتصادية والاجتماعية.
2-10 لقد نبه المخططون والخبراء منذ الخمسينات ثم في الستينات إلى مصير القاهرة المحتوم إذا لم يوضع مستقبلها في إطار الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق. فالعاصمة لا تزال هي مركز الحكم المركزي وبها كل الوزارات والمصالح وكل الخدمات ومعظم الجامعات والإدارات والشركات ومراكز النشر والإعلام التي تتحدث باسم الرأي العام. فهي لذلك تتمتع بعناية خاصة عن أي مدينة أخرى داخل الوادي أو خارجه ومع أن جميع المواطنين في جميع المدن يتساوون في دفع الضرائب للدولة. فإن سكان القاهرة يحصلون على النصيب الأكبر من الخدمات دون زيادة فيما يدفعونه من ضرائب. الأمر الذي يعبر عن غياب العدالة في توزيع الأعباء على المواطنين في كل الأرجاء. فمن يريد الإقامة في القاهرة فليدفع نصيبه من الخدمات المتميزة. ومن يريد أن يقيم خارج الوادي فليعفى مما يقدم له من خدمات حتى يتوازن التوزيع المكاني لاستثمارات الخطط الخمسية على كامل سعة الأرض.
3-10 تقول الإحصائيات أنه يوجد بالقاهرة عام 1999 حوالي 1.25 مليون سيارة تجري في شرايينها الضيقة وبها 25% من تلامذة مصر و50% من طلبة الجامعات ، فيها 420 ألف بائع متجول و 75% من كبار الأطباء، بها أكبر نسبة من التلوث في العالم ، نسبة غاز الأوزون بها أكثر من 80 جزءاً في المليون، يتعاطى حوالي 62% من سكانها العقاقير المهدئة وتنخفض إنتاجيتهم بحوالي 14% ، نصيب الفرد فيها 45سم2 أي 5سم ×9سم أقل من موضع قدم واحدة، وبها 50% من الجرائم مع أن بها 20% من سكان مصر، وهي تحتل 0.06% من أرض مصر الصحراوية، الجبانات فيها تحتل أكثر من 11 كيلومتراً مسطحاً. تعداد مدينة القاهرة فقط عام 1996 6.8 مليون نسمة والقاهرة الكبرى 12 مليون نسمة. بها حوالي 800 منشأة صناعية وحوالي 9000 ورشة حرفية و92 فندقاً، 162 نادياً رياضياً و166 وحدة خدمات اجتماعية و 3400 جمعية أهلية وحوالي 24000 أسرة منتجة، نصيب الفرد فيها 480 لتر مياه نقية ، 700 كيلو وات كهرباء ، 293 لتر مياه صرف صحي، فيها 55كلية جامعية، 31 معهداً عالياً. بها 316 مؤسسة صحية ، وطبيب لكل 650 مواطن، معدل الزيادة السكانية فيها 1.6% سنوياً ، في القاهرة حوالي 6638 كيلومتراً من الطرق المرصوفة المستغل فيها للمرور على أحسن تقدير حوالي 4400 كيلومتراً، والباقي جراجات سطحية ونسبة البطالة فيها 8% واستثمارات الخطة الخمسية الثالثة في مدينة القاهرة فقط بلغت 12 مليار جنيه أي بمقدار 23% من إجمالي استثمارات الجمهورية وهذا ما يثبت مرة أخرى عدم العدالة في توزيع الأعباء على المواطنين في كل أنحاء مصر، يبلغ سكان المناطق العشوائية في القاهرة الكبرى قرابة ثلاثة ملايين نسمة، تنفق الدولة المليارات لتطويرها في مكانها ومدها بالمرافق والخدمات العامة دون النظر إلى الزيادات المستمرة في أعداد سكانها وهي التي تضم الفئات الأكثر فقراً مالياً وثقافياً واجتماعياً، الأمر الذي يكلف الدولة مستقبلاً أضعاف ما تنفقه حالياً على أعمال التطوير العمراني والخدمي في هذه المناطق. وهو ما يستدعي إعادة النظر في السياسات الحالية لتطوير هذه المناطق في ضوء أهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي.
4-10 وكما أن القاهرة تستأثر بالنسبة الأكبر من الاستثمارات في الخطط الخمسية فهي بالتالي تستأثر كذلك بالنسبة الأكبر من العمالة الرسمية وما يتبعها من عمالة طفيلية، تبلغ حوالي 30% من الأولى وبالتالي تزداد الحاجة في القاهرة إلى مشروعات خدمية مضافة تزيد بالتالي من الجذب السكاني للمدينة ويتبع ذلك مزيد من الكثافات السكانية تنعكس بدورها على المشاكل الخدمية والمرورية والأمنية والصحية والتعليمية والبيئية. التي تتفاقم بمعدلات تصاعدية يصعب مواجهتها إدارياً وتخطيطياً أو مالياً .. الأمر الذي يستدعي تنفيذ المشروعات الجديدة في القاهرة تبعاً لجدواها الاستيطانية وليس بجدواها الاقتصادية، فالمشروعات الجاذبة للسكان تتناقص جدواها الاستيطانية بعكس المشروعات الجاذبة للسكان خارج الوادي الضيق تتضاعف جدواها الاستيطانية وينطبق هذا المبدأ على كل ما يقام في المدينة الكبيرة من مشروعات خدمية أو مرورية أو إدارية أو صحية أو ترفيهية، فإنشاء أوبرا جديدة مثلاً في القاهرة ليس بالطلب الجماهيري الضاغط ويمكن بناؤها في أي مدينة جديدة وإنشاء كليات جديدة للجامعات الموجودة في القاهرة يمكن أن تكون أنوية لمدن جامعية خارج الوادي. وكذلك المراكز التجارية الكبيرة ليست من الحاجيات الجماهيرية الضاغطة ويمكن بناؤها في الضواحي البعيدة في المناطق الصحراوية بحيث تصلها السيارات وطرق المواصلات أما القروض التي تمنح للشباب لإنشاء صناعات صغيرة في مواقع إقامتهم فيمكن تقديمها إلى تجمعات إنتاجية خارج الوادي تتوفر فيها فرص العمل والسكن معاً بالإضافة إلى الخدمات اللازمة وهكذا تتحقق أهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي.
11- سياسة الإسكان في إطار سياسة الاستيطان:
1-11 عادة ما توضع سياسة الإسكان في إطار الخطط الخمسية المتتالية بهدف توفير الوحدات السكنية للفئات المختلفة من المجتمع وتوزع استثماراتها المتوفرة بين القطاعين العام والخاص بحيث يتحمل القطاع العام 20% من الاستثمارات توجه للإسكان الاقتصادي والنسبة المتبقية وهي 80% توجه للقطاع الخاص لبناء الإسكان المتوسط وفوق المتوسط والمتميز. وإذا كان من الممكن التحكم في استثمارات القطاع العام في الإسكان الاقتصادي فإنه من الصعب التحكم في استثمارات القطاع الخاص الذي يخضع نشاطه لآليات السوق. وحجم الطلب على الإسكان عادة ما يتحدد على أساس الطلب الخاص لمواجهة الزيادة السكانية ومواجهة بدل الفاقد من الوحدات السكنية التي تنهار بسبب القدم، يضاف إلى ذلك حجم العجز المتراكم من الإسكان في السنوات السابقة. ويبقى توزيع الاستثمارات الخاصة بالإسكان على محافظات الجمهورية بقدر حاجة كل منها، وهو الأمر الذي يتطلب توفير المواقع المرفقة المناسبة لبناء الإسكان عليها في كل من هذه المحافظات. وإذا كان من الممكن توفير مثل هذه المواقع في المحافظات الصحراوية أو التي لها ظهير صحراوي فإنه من الصعب توفير مثل هذه المواقع في المحافظات الزراعية سواء في المدن أو في القرى، في ضوء هذا الواقع عملت الدولة على السماح بزيادة ارتفاعات البناء في هذه المناطق لتصبح مرة ونصف عرض الشارع أو الطريق، الأمر الذي أدى إلى ظهور الأبراج السكنية في المدن الزراعية كما ظهرت في القرى المحيطة بها، إلى الحد الذي كاد يطمس الطابع الريفي لهذه القرى التي أصبح معظمها بحجم وطابع المدن الصغيرة. ومنها من دخل في تعريف المدن ومنها ما ينتظر وهكذا تتزايد نسبة الحضر عن الريف بصفة مستمرة.
2-11 مع الزيادة المستمرة في السكان في المدن الزراعية يزداد الطلب فيها على الإسكان بمختلف مستوياته وبالتالي يزداد الطلب على المرافق والخدمات العامة التعليمية و الصحية و الإدارية و التجارية. ويزداد الطلب بالتالي على الأرض المناسبة للبناء مما يزيد من ارتفاع أسعارها. وتستمر الزيادة السكانية على نفس المكان فتتفاقم بالتالي المشاكل البيئية والأمنية والاجتماعية وتضغط على طلب الأراضي مرة أخرى فلا يجد المجتمع أمامه غير البناء عشوائياً على الأراضي الزراعية مخالفاً للقانون الذي يمنعه من ذلك إذا لم يتوفر له البديل في إطار استراتيجية قومية للاستيطان خارج الوادي الضيق.
3-11 على جانب آخر من الصورة تقوم بعض الجمعيات الأهلية ببناء مساكن للشباب في الامتدادات العمرانية للمدن أو في مناطق محددة من المدن الجديدة فمنها ما تقوم ببناء مساكن اقتصادية في المناطق العشوائية داخل المدن أو على أطرافها. وهذه المساكن تولد بالتالي الطلب على الخدمات التجارية والإدارية والتعليمية والصحية. سواء في نطاقها العمراني أو في نطاقات بعيدة عنها في نفس المدن. ومنها ما يتبرع العديد من المقتدرين بقطع من الأراضي الزراعية لإنشاء المدارس أو المستشفيات فتقيم الدولة هذه المنشآت التعليمية والصحية عليها الأمر الذي يجذب إليها كثير من الأنشطة الأخرى. وهكذا تستمر هذه الظاهرة ما لم توقفها آليات تنفيذ الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق.
4-11 تعمل الدولة من خلال الصندوق الاجتماعي على توفير القروض المالية والمعونات الفنية للشباب حتى يستطيع أن يجد له فرصاً للعمل والإنتاج في الصناعات والخدمات الصغيرة. والدولة بذلك توفر بعض هذه الخدمات للشباب حيث يقيم في مدن الوادي الضيق حيث يتوالدوا ويتكاثروا ويضيفوا أعباءً سكانية جديدة على المجتمعات القديمة وكان يمكن توجيه هذا النشاط خارج الوادي. وبنفس المنطق تعمل الدولة على تعظيم إنتاجية المجتمعات الريفية بمعاونة الأسر المنتجة فيها على القيام بصناعات خفيفة لزيادة دخلها الذي انقطع من الزراعة ويعني ذلك إضافة فرص عمل جديدة في القرى القائمة والتي قل اعتمادها على الزراعة. وهي بذلك تساعد على استمرار هذه الفئات من الأسر المنتجة على البقاء في القرى التي يقيمون فيها ليتوالدوا ويتكاثروا ويضيفوا أعباءً جديدة على المجتمعات القائمة التي تئن من الزيادة السكانية في الوادي الضيق.
5-11 مما سبق يتضح أن سياسة الإسكان تهدف إلى توفير الوحدات السكنية حيثما يزداد الطلب عليها وليس حيثما يتناسب مع أهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي. كما يتضح أن نظام توفير الوحدات السكنية للفئات المختلفة لا يرتبط سكانياً بمواقع العمل وفي جميع الأحوال تخطط مشروعات الإسكان الجديدة في المواقع المرفقة وتترك لآليات السوق ليسكنها من يشاء قريباً كان أو بعيداً من مقر عمله فليس هناك علاقة مباشرة بين ربط مشروعات الإسكان بمواقع عمل المحتاجين إلى الوحدات السكنية الأمر الذي يتولد عنه كثير من الأعباء في الانتقال من المسكن إلى العمل أو من المسكن إلى مواقع الخدمات العامة وينفرط بذلك عقد التخطيط المتكامل ويتحمل الاقتصاد القومي مزيداً من الأعباء لمواجهة المشاكل المترتبة على ذلك.
6-11 وإذا كانت الاستراتيجية القومية للدولة تسعى إلى الخروج من الوادي الضيق فإن سياسة الإسكان بالتالي يجب أن تساعد على الاستيطان في المناطق الجديدة. وإذا كانت هناك العديد من المشروعات القومية الواعدة لتحقيق هذه الاستراتيجية مثل مشروع توشكى وشرق التفريعة وشمال خليج السويس وغيرها. فإن هذه المشروعات سوف يستغرق تنفيذها وقتاً طويلاً وبالتالي فإن جذب السكان إليها يستغرق وقتاً طويلاً أيضاً حتى وإن تمت على مراحل حتى عام 2020، وإذا قدر استيعاب هذه المشروعات وغيرها من المدن الأربعة والأربعين الجديدة لحوالي 20 مليون نسمة في سنة الهدف عندما يكون تعداد سكان مصر في ذلك الوقت حوالي 90مليون نسمة فسوف يتبقى في الوادي الضيق 70 مليون نسمة أي بزيادة 10 مليون نسمة عما هو عليه عام 1999. الأمر الذي يستدعي سرعة العمل على استقطاب كل ما يمكن استقطابه من سكان الوادي في المجتمعات العمرانية الجديدة كبيرة كانت أو متوسطة أو صغيرة في منظومة من العلاقات الوظيفية في الأقاليم التخطيطية الصغيرة. أو يمكن بناء مدن جامعية صغيرة خارج الوادي لتستوعب الكليات الجديدة للجامعات الإقليمية كما تضم إليها الإسكان المناسب لأعضاء هيئات التدريس والعاملين والطلبة بالإضافة إلى الفئات التي تعمل في مجال الخدمات التجارية والإدارية والترفيهية التي يتطلبها المجتمع الجديد. وإذا كان في ذلك التوجه احتياج أكبر للاستثمارات في الوقت القريب فإن العائد الطويل الأمد سوف يتوفر للدولة عما تنفقه على المرافق والخدمات العامة في الوادي الضيق وفي مجال آخر يمكن العمل فوراً على بناء مجتمعات عمرانية صغيرة كقرى إنتاجية تستوعب الشباب المستفيد من قروض الصندوق الاجتماعي شاملة السكن الذي يقيمه الشباب يقام بالجهود الذاتية مع مكان العمل عندما تتوفر له الخدمات الاجتماعية والتجارية والمكملة ويمكن للدولة أن تمد هذه المجتمعات الصغيرة بالمرافق وتوفير مواقع الإسكان للسكان الجدد دون مقابل نظير جذب فئات الشباب لإنشاء هذه القرى الإنتاجية الجديدة خارج الوادي. وبنفس المنطق يمكن جذب الأسر المنتجة إلى مثل هذه القرى الجديدة كما يمكن نقل الفئات الفقيرة التي تسكن العشوائيات والعشش في المدن القديمة إلى مراكز جديدة للعمل والإقامة معاً بعد تأهيلهم اجتماعياً ومهنياً قبل توفير السكن الذي يقيمونه بالجهود الذاتية. وفي نفس الوقت يمكن إيقاف التصاريح الخاصة بإقامة مراكز تجارية كبيرة داخل المدن في الوادي وتوفير أماكن لها في مراكز حضرية بعيداً على الأطراف الصحراوية بحيث تتكامل مع المراكز الإدارية الجديدة التي تستقطب إدارات الشركات الكبيرة المتواجدة في مدن الوادي، وبطبيعة الحال فإن تحقيق هذه المشروعات في إطار الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي يتطلب آليات خاصة تربط بين تنمية المناطق الجديدة وتفريغ المناطق القديمة من فائض السكان والأنشطة التي تقام بها. وبالتالي فإن سياسة الإسكان يمكن أن تقوم على أساس تحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق مع ربط مواقع السكن بمواقع العمل في المناطق الجديدة للفئات المختلفة من الشعب في منظومات اجتماعية متكافلة ومتكاملة ليس فيها تفرقة.
7-11 وإذا كانت سياسة الإسكان ترتبط بسياسة الاستيطان خارج الوادي الضيق كحتمية استراتيجية فإن ذلك يعني ربط توفير المساكن بتوفير فرص العمل، سواء في الخدمات الإنتاجية أو في الخدمات الاجتماعية أو الأعمال الهامشية، ومع هذا الترابط بين مكان السكن بكل مستوياته ومكان العمل بكل نوعياته يتم الترابط الاجتماعي بين الطبقات في المجتمعات الجديدة. فالمجتمعات لا تبنى على أساس فئة دون أخرى بل لا بد من اندماج الطبقات المختلفة وتراحمها عمرانياً على مدى مراحل التنمية العمرانية بحيث لا يظهر الفارق الكبير بين مستويات الإسكان المختلفة تفادياً لإثارة حفيظة الطبقات الفقيرة وشعورها بالدونية الاجتماعية وبذلك يصبح إسكان الفقراء مكوناً أساسياً في سياسة الإسكان فالطبقات القادرة تستطيع أن تقيم المساكن في إطار قدراتها الشرائية أو الإيجارية أو الملكية. والطبقات المتوسطة تستطيع أن تأخذ نصيبها من الإسكان في إطار الجمعيات التعاونية أو من خلال الشركات الاستثمارية، أما الطبقات الفقيرة وخاصة من الشباب والتي تقل قدرتها على توفير المقدمات والأقساط المناسبة للوحدات السكنية التي توفر لهم من خلال الجمعيات الأهلية أو المؤسسات الحكومية فيمكن استثمار قدراتهم في أعمال البناء والتشييد بالجهود الذاتية وذلك للإقلال من مساهمتهم المالية، إذا ما توفرت لهم نظم البناء المناسبة والمقومات الفنية المتاحة وتدريبهم عملياً ومحلياً بحيث تتم أعمال البناء في منظومة متكاملة من أعمال البناء الاجتماعي والاقتصادي ويعني ذلك تأهيل المجتمعات الفقيرة اجتماعياً وثقافياً حتى يستوعبوا المتطلبات الإنتاجية الحديثة إذا ما توفرت لهم القروض من الصناديق الاجتماعية بحيث تكون سياسة الإسكان هي في واقع الأمر سياسة استيطان أكثر منها توفير الوحدات السكنية فقط.
12- العلاقة بين المخططين والسلطة في اتخاذ القرار:
1-12 من الظواهر التنظيمية عدم وضوح الرؤية الحقيقية للعلاقة بين دور المخطط العمراني ودور السلطة المحلية أو المركزية في اتخاذ القرارات اللازمة لتنفيذ المخططات العمرانية، فالتخطيط العمراني في مصر يتم في إطار بنود القانون رقم 3 لعام 1982 سواء بالنسبة للأسس التخطيطية أو لأسلوب تقديم المخططات ومراحل اعتمادها من السلطة المحلية أو السلطة المركزية لتكون ملزمة لجميع الجهات التي تقوم بمشروعات في إطار هذه المخططات ، وتزيد نسبة هذا الالتزام أو تقل تبعاً لقوة السلطة المحلية ونفوذها. فالمخططات العامة للمدن لا تأخذ في الاعتبار ما قد يستجد من مشروعات يقوم بها القطاع العام أو الخاص مستقبلاً في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويبدأ بالبحث عن مكان لها على الخريطة المعتمدة. هنا يعرض الأمر على المجالس المحلية التي تصدر قراراتها في هذا الشأن معتمدة على المصالح القومية أو الحاجة المحلية أو بتأثير المصالح الشخصية ويصبح دور الجهاز التخطيطي المحلي دوراً استشارياً أكثر منه توجيهياً ولا يغير من القرار السياسي الذي تتخذه السلطة المحلية أو المركزية. وكثيراً ما يظهر الاختلاف بين السلطتين في اتخاذ القرار من حيث اختصاص كل سلطة ومدى نفوذها السياسي أو قوتها المالية والإدارية في اتخاذ القرار. وهنا تتعرض المخططات المعتمدة إلى العديد من التعديلات والإضافات التي قد تخرج المخططات المعتمدة عن الأهداف التي كانت تسعى لتحقيقها. وفي كثير من الأحيان تبقى المخططات العمرانية حبراً على ورق بكل تقاريرها ومخططاتها وكثيراً ما يبدأ كل مسئول جديد بوضع رؤية جديدة لتحقيق أهداف جديدة سواء أكان ذلك من خلال رؤيته الشخصية أو من خلال توجيهات عليا، وخبير التخطيط العمراني في معظم الأحيان ليس له إلا التسليم بما تقرره السلطة المحلية أو المركزية والتي تعتبر المخططات العمرانية مجرد وسيلة للتعامل مع الأرض. والمخططات العامة من ناحية أخرى يصعب ملاحقتها للمتغيرات التي تطرأ على المجتمع كما يصعب تعديلها أو تطويرها، مع أن القانون يسمح بمراجعتها كل خمس سنوات وهذا ما لم يحدث منذ عام 1983 حتى نهاية 1999.
2-12 تبقى العلاقة بين خبير التخطيط ومتخذ القرار غير مستقرة كما في العديد من الدول النامية التي لم يستقر فيها مبدأ ديموقراطية القرار والتي لم يرفع فيها الوعي التخطيطي والقومي وحيث لا يتقدم فيها الصالح العام على المصلحة الخاصة. فهناك نماذج تتغلب فيها المصلحة الخاصة لأحد المجالس المحلية على المصلحة القومية. ففي بداية السبعينات عندما بدأت الدولة في إنشاء الجامعات الإقليمية في عواصم المحافظات الزراعية كلف أحد أساتذة التخطيط العمراني بتخطيط جامعة الزقازيق على مساحة 300 فدان من أجود الأراضي الزراعية ولكنه اعترض على الموقع المختار. وعرض بديلاً له على صحراء بلبيس على الجانب الشرقي لترعة الإسماعيلية حيث يمكن بناء الجامعة على مساحة أكبر تضم مساكن الأساتذة والطلبة والملاعب الرياضية وتجذب لها بالتالي العديد من الأنشطة التجارية والإدارية والخدمية لتكوين مدينة جامعية على المشارف الصحراوية شرق الدلتا خاصة وأن المسافة بين مدينة الزقازيق ومدينة بلبيس حوالي 22 كيلومتراً. وهي مسافة كافية للربط الإقليمي بين المدينتين حتى لا تتضخم مدينة الزقازيق عمرانياً بسبب بناء الجامعة فيها ولم يوافق المسئول الذي كان رئيساً لجامعة في القاهرة على الاقتراح المقدم له من أستاذ التخطيط العمراني قائلاً بأن اختيار موقع الجامعة في مدينة الزقازيق هو قرار سياسي صادر من المجلس المحلي للمحافظة وليس لأحد الاعتراض عليه أو تعديله. فتقهقرت الخبرة وتقدمت المصلحة الخاصة. ودارت الأيام وأقيمت الجامعة في مكانها في المدينة وجذبت إليها مختلف الأنشطة من خدمات وإدارات ومساكن وتضخمت وازدحمت بسكانها وازدادت مشاكلها وبدأت تعالج بمسكنات الكباري العلوية مثل مدينة القاهرة. وما أبدي من رأي من خبراء التخطيط في حالة جامعة الزقازيق أبدي على مشروعات أخرى عديدة أقيمت في القاهرة على مدى العشرين عاماً السابقة ولم يعط لآرائهم أي اعتبار فقد دأب المسئولون على اتخاذ قراراتهم من واقع المنظور قصير الأجل حتى تظهر منجزاتهم في أقرب وقت دون اعتبار للمنظور القومي بعيد المدى الذي يعتبر أن ما يقام من مشروعات في مدن الوادي الضيق يزيد من زحامها ويزيد من إنفاق الدولة فيها على المشاكل الأمنية والصحية والبيئية والتعليمية والذي كان يمكن توجيهه إلى نفس المشروعات خارج الوادي الضيق أخذاً برأي المخططين وإن زادت الأعباء المالية لها على المدى القريب إلا أن العائد القومي سوف يتعاظم على المدى البعيد ويقلل من الأعباء المالية التي تنفق لمواجهة المشاكل المترتبة على التزاحم.
3-12 نظراً للعلاقات المتعارضة في بعض الأحيان بين خبيرالتخطيط ومتخذ القرار ونظراً لجمود المخططات العامة للمدن في تحديد صورة محددة للمدينة بعد فترة طويلة من الزمن ونظراً لأن الفكر التخطيطي التقليدي للمدن لا يأخذ في الاعتبار البعد المكاني لتوزيع الاستثمارات المدرجة في الخطط القومية التي تهدف إلى تفريغ الوادي الضيق من الزيادة السكانية عليه. ونظراً لصدور القرارات السياسية في النظام الحالي للإدارة المحلية بهدف توفير الخدمات والمرافق العامة للأعداد المتزايدة من السكان في المدن القديمة دون اعتبار لمستقبل العمران في مصر، فإن كل ذلك سوف يزيد من قوى الجذب والإقامة في المدن القديمة الأمر الذي يتعارض مع الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق. لكل هذه الأسباب فإن الأمر يحتاج إلى تطوير الفكر التخطيطي وبالتالي تطوير قوانين التخطيط العمراني ونظم البناء بحيث تهدف في بنودها المتكاملة إلى إضعاف قوى الجذب السكاني للإقامة في المدن القديمة وتعظيم قوى الجذب السكاني للإقامة في المدن والمناطق الجديدة وهذا يتطلب بالتالي الربط التنموي بين تطوير المدن القديمة وتعمير المدن الجديدة كما يتطلب توسعة الحدود الإدارية للمحافظات الحالية بحيث تتطابق حدود الأقاليم التخطيطية بالحدود الإدارية حتى يمكن نشر العمران على مساحات أكبر وأوسع خارج الوادي الضيق. ويبقى إعداد اللوائح والقوانين التي تحقق هذه الأهداف وبالتالي تحدد الآليات والنظم التي تستطيع تحقيق هذه الأهداف الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي. على أن يكون لأسلوب اتخاذ القرار في المسائل العمرانية لوائح ونظم خاصة تعمل على تفضيل العائد القومي لجميع مشروعات الخدمات والمرافق مع تفعيل المشاركة الشعبية في اتخاذ هذه القرارات لهذه الأهداف الاستراتيجية، وبطبيعة الحال فإن الأمر يستوجب تطوير مناهج إعداد المخططات العمرانية للمدن والمناهج التعليمية بحيث يتم التكامل الفكري والعمل والتنظيم بين أعضاء المجموعات التخطيطية المتكاملة التخصصات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والتي تسير العملية التخطيطية وتقوم على متابعتها وتطويرها لمواجهة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على المخططات العمرانية على مدى الزمن دون تحديد لفترات زمنية محددة لكل مخطط.
13- الدروس المستفادة من التجربة المصرية في مجال التخطيط العمراني:
1-13 من المعروف أن النظريات التخطيطية التي وضعها الغرب وقدمتها الكتب والمراجع العلمية كانت وليدة لبحث عن مخارج للمشاكل التي أفرزتها النهضة الصناعية في بداية القرن التاسع عشر ثم تطورت هذه النظريات لمواجهة المشاكل التي نتجت عن ثورة المواصلات والاتصالات وما يصحب ذلك من متغيرات اقتصادية واجتماعية وحضارية، وكان في متابعة وتقييم تطبيق هذه النظريات الأساس لتحديثها وتطويرها والنشر عنها، وهكذا تتجدد النظريات والمناهج باستمرار لمواجهة متطلبات العصر و كل عصر. ونتجت عن هذه النظريات مجموعات من المعايير والأسس والأساليب والآليات والقوانين واللوائح التي تساعد على تحقيقها وهي تتطور مع تطور النظريات والمناهج. وتظهر حصيلة ذلك في الكتب والمراجع والدراسات والبحوث التي تقدم بطبيعة الحال إلى عمليات التنمية العمرانية. والحالة المصرية نظراً لما لها من مقومات خاصة تحتاج إلى البحث عن نظرية خاصة تعتمد على استنتاج الدروس المستفادة من التجربة المصرية بعد تطبيق في مجال التخطيط العمراني في المدن الجديدة والمدن القديمة ويمكن إجمال هذه التجارب وما نتج عنها من دروس تخطيطية في التجارب التالية:
أ- في تجربة مدينة نصر تحولت شرايين المرور الفاصلة بين المناطق السكنية إلى شرايين تجارية إدارية تربط هذه المناطق بعكس ما كان مخططاً له. الأمر الذي يستدعي البحث عن كيفية تفادي ذلك في النظرية الجديدة بحيث يتم توفير الشارع التجاري على محور المنطقة وليس على أطرافها بحيث يتحول هذا المحور التجاري إلى طريق للمشاة مع حزمة الأنشطة التجارية.
ب- في تجربة المدن الجديدة وضعت المرحليات في مواقع متباعدة وقد نشأت المدينة منقطعة الأوصال غير متكاملة العمران ويمكن تفادي ذلك بانتهاج أسلوب خاص للتعمير المتكامل لكل مرحلة من المراحل بحيث تنمو المدينة متكاملة المرافق والخدمات والبناء في كل مرحلة كطبيعة المدن ذات النمو العضوي.
ج- في تجربة ضاحية مصر الجديدة التي صدر في حقها العديد من القرارات التي أفقدتها خصائصها العمرانية التي وضعت لها عام 1910 ، ويمكن الإفادة من هذه التجربة بانتهاج نظام إدارة العمران الذي اتبعه البارون إمبان عند بداية المشروع بحيث يمكن تطويره وتطبيقه في المدن الجديدة.
د- في تجربة المناطق العشوائية التي كادت تخنق المدن القائمة و يمكن الإفادة من استثمار الآليات والطاقات البشرية الكامنة في المجتمع التي أوجدت هذه المناطق العشوائية واستغلالها في بناء مناطق منظمة بنفس الآليات والطاقات في مناطق خارج الوادي الضيق.
هـ- من تجربة المخططات العامة التي وضعت للمدن الحالية والجديدة باعتبار كل مدينة وحدة عمرانية واحدة ينقصها آليات الترابط في إطار التخطيط الإقليمي الذي يهدف إلى زيادة عوامل الجذب في المدن الجديدة عنها في المدن الحالية وذلك لتحقيق الاستراتيجية النوعية للاستيطان خارج الوادي.
و- بمراجعة الآليات التي أفرزت المدن التاريخية وتطويرها في ضوء متطلبات كل عصر يمكن الربط بين الأصالة بالمعاصرة العمرانية وذلك على اعتبار أن الطابع العمراني للمدينة يعتبر عاملاً اقتصادياً قبل أن يكون متطلباً حضارياً.
2-13 من الدروس المستفادة من التجربة المصرية يمكن مراجعة وتقييم الدور الذي أداه قانون التخطيط العمراني رقم 3 لعام 1982 حتى تتواءم بنوده مع متطلبات القرن الواحد والعشرين مع ربط المخططات العمرانية التفصيلية لمناطق العمل المختارة بنظم البناء التي تناسب الطبيعة العمرانية لكل جزء من كل منطقة، بدلاً من تطبيق نظام البناء الموحد على سائر أنحاء مصر الأمر الذي يتطلب بالتالي توفير الكوادر القادرة على تنفيذ قانون العمران الجديد شاملاً تخطيط المدن ونظم البناء معها ويدخل ذلك بطبيعة الحال في إطار تطوير أجهزة التخطيط والتنمية العمرانية في نطاق الحدود الإدارية التي تتطابق فيها حدود الأقاليم التخطيطية بحدود الأقاليم الإدارية الأمر الذي يساعد على تقوية دور الإدارة المحلية التي تعمل على مستوى الأقاليم التتخطيطية الإدارية وتعظيم فعاليتها في تحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي.
3-13 في ضوء الدروس المستفادة من التجربة المصرية يمكن الخروج بالنظرية المحلية للتنمية العمرانية وتوثيقها ونشرها وبالتالي دخولها المناهج التعليمية لعلوم التخطيط والتنمية العمرانية بعناصرها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، التي يمكن أن تنبثق عنها مجموعة من دلائل الأعمال التي توضح بالتفصيل كيفية تطبيق كل مكون من مكونات عملية التنمية العمرانية المستدامة، الأمر الذي يتطلب بالتالي تكوين مجموعات عمل مؤهلة وقادرة على تحقيق ذلك في فترات زمنية محددة دون الاعتماد على نظام اللجان التقليدية.
14- الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق - المنهج والآليات:
1-14 إذا كانت المشروعات القومية الكبيرة في توشكى والعوينات وشمال خليج السويس وشرق التفريعة وسيناء بالإضافة إلى أربعة وأربعين مدينة جديدة قدر لها أن تستوعب 20 مليون نسمة على مدى عشرين عاماً بمعدل مليون نسمة سنوياً على أحسن تقدير أو على الأقل نصف مليون نسمة سنوياً. مع أن هذا الرقم لا يزال موضوع تساؤل عن مدى تحقيقه. الأمر الذي يستوجب البحث عن قنوات إضافية لتحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي، وذلك لن يتأتى إلا بالعمل على توطين الأنشطة والمشروعات الاستثمارية المدرجة في الخطط الخمسية المتتالية للمحافظات والمدن القديمة خارج الوادي الضيق أو على أطرافه، الأمر الذي يتطلب الآليات التي تساعد على تحقيق ذلك من خلال زيادة قوى الجذب إلى الخارج مع زيادة قوى الطرد من الداخل دون أن يخل ذلك بالمتطلبات الحياتية الأساسية للمجتمعات القائمة. ومع قياس الجدوى الاستيطانية لكل مشروع على حدة حتى يمكن وضعه على الخريطة العمرانية للدولة.
2-14 بالمنطق السابق يمكن قياس الجدوى الاستيطانية -لأي مشروع مثل مبنى الأوبرا المزمع إقامته في ميدان الأوبرا القديم. فالمشروع لا يعد من المتطلبات الحياتية لمجتمع القاهرة كما أنه سوف يتولد عنه حجم كبير من حركة المرور التي سوف تضاف على الكثافة المرورية الشديدة التي تتحرك في الميدان وفي ما حوله من شوارع. كما أن المشروع سوف يجذب إليه أعداداً كبيرة من العمالة سواء في داخل المبنى أو في خارجه بالإضافة إلى ما سوف يجذبه من أنشطة هامشية أخرى تزيد من الضغط السكاني في المنطقة التي هي جزء من القاهرة، وبذلك يفقد المشروع جدواه المحققة للاستراتيجية القومية للاستيطان. ويمكن البحث له عن موقع آخر في مدينة جديدة خارج الوادي الضيق ليزيد من عناصر الجذب إليها وهكذا تتم دراسة الجدوى الاستيطانية للمشروعات العمرانية.
3-14 كذلك يمكن إدراج المتطلبات المستقبلية للجامعات الحالية الموجودة داخل الوادي الضيق ضمن خطط الاستيطان خارج الوادي. وذلك بتجميعها في كليات جديدة تكون جامعات جديدة ومراكز بحوث أنوية لمدن جامعية جديدة تضم إسكان هيئات التدريس والعاملين والطلبة. بالإضافة إلى الخدمات العامة التي تترتب على ذلك مكونة مجتمعات علمية جديدة في بيئة جديدة وبفكر أكاديمي جديد خارج الوادي الضيق حتى تتحقق الطفرة التكنولوجية التي تطمح إليها مصر. وفي هذا السياق يمكن مراجعة مكونات المباني الجامعية الحالية في الوادي الضيق والبحث عن إمكانية تحويلها إلى مباني تعليمية أو صحية تخدم المتطلبات العاجلة للمجتمعات المحلية القائمة داخل الوادي.
4-14 في مجال آخر يمكن استغلال القروض التي يمنحها الصندوق الاجتماعي للشباب لمساعدتهم على فتح آفاق جديدة للعمل في مجال الصناعات الصغيرة أو الحرفية في بناء الإسكان بالجهود الذاتية في مجتمعات إنتاجية صغيرة يتوفر فيها العمل والسكن معاً وما تتطلبه الخدمات والمرافق العامة المحلية وذلك في إطار العلاقات العمرانية في الأقاليم التخطيطية للمناطق الجديدة التي تضم المدن الكبيرة والقرى الإنتاجية الصغيرة. في هذه الحالة يمكن قيام الشباب بالمساهمة بالجهود الذاتية في بناء مساكنهم بأنفسهم بأساليب مناسبة للبناء كما يمكن بنفس المنهج مد المرافق وتوفير الخدمات المحلية كما يمكن توفير الإسكان للفقراء بنفس الأسلوب بعد تأهيلهم اجتماعياً ومهنياً وثقافياً أولاً ثم تدريبهم على أعمال البناء لأنفسهم بأنفسهم خلال مرحلة الإيواء قبل الانتقال إلى مساكنهم الجديدة وهم أكثر استعداداً للتعامل معها بعد الارتقاء بهم اجتماعياً وثقافياً. ويستدعي هذا الاتجاه قيام الجمعيات الأهلية التي تستطيع تنظيم وإدارة أعمال التنمية المتكاملة للمجتمعات الفقيرة أو لمجتمعات القرى الإنتاجية على غرار الجمعية المركزية لإيواء المحتاجين. على أن تعمل هذه الجمعيات تحت مظلة مؤسسة عامة لإسكان الشباب وإيواء المحتاجين تكون حلقة الربط بين الدولة التي توفر الأراضي المرفقة والجمعيات الأهلية التي تقوم بالدراسات الاجتماعية والإحصائية للفئات المستفيدة وإخراجها من المدن القديمة وتوطينها في المجتمعات الصغيرة أو القرى الإنتاجية والتي يجب أن تعطى الأولوية والأفضلية في التنمية والتعمير عن القرى الريفية داخل الوادي الضيق في نفس الوقت الذي يتم فيه توثيق الربط الاجتماعي بين القرى الجديدة والقرى الريفية القديمة في الوادي الضيق.
5-14 في إطار البحث عن الآليات التي تحقق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي يمكن للدولة أن تقوم بدمج الأجهزة القائمة على أعمال التنمية في آلية واحدة تعمل على الربط بين التنمية الاقتصادية الاجتماعية بالتنمية العمرانية حتى تتحقق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي ونظراً للأهمية العظمى لهذه الاستراتيجية في بناء مصر المستقبل فإن ذلك يستوجب تواجه الآليات القادرة على تحقيق أهداف هذه الاستراتيجية ويتحقق ذلك بدمج أجهزة التنمية الاقتصادية الاجتماعية مع أجهزة التنمية العمرانية في إطار إداري وتنظيمي واحد يعمل على المستوى القومي والإقليمي والمحلي بعد تطوير حدود الإدارة المحلية بحيث تتطابق الحدود التخطيطية بالحدود الإدارية. وتتحدد العلاقة التبادلية بين المستويات التخطيطية المختلفة رأسياً كما تتحدد العلاقات التكاملية بين الأجهزة القطاعية أفقياً في الإقليم التخطيطي الإداري الواحد. وهذا يتطلب بدوره توفير نظام المعلومات المناسب لكل مستوى أجهزة للمعلومات مركزياً ومحلياً بنظام موحد.
6-14 من الآليات التي تساعد على تحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي تكليف الشركات العقارية التي ترغب في الاستثمار العقاري خارج الوادي أن تتكفل بتطوير المناطق المزدوجة أو العشوائية داخل المدن القائمة بهدف تحسين البيئة العمرانية فيها وتوطين نسبة من سكانها خارج الوادي واستثمار المناطق التي تخلو في هذه المناطق من مشروعات خدمية أو ترفيهية محلية للسكان الباقين في هذه المناطق.
15- الخاتمة:
1-15 نظراً للضرورة الحتمية والملحة للخروج بالعمران المصري خارج الوادي فإن الأمر يتطلب اتخاذ الإجراءات الفورية في وضع الخطوات التنفيذية لتحقيق الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي ومراجعة جميع مشروعات الدولة المخطط لها أو التي تحت الدراسة ودراسة جدواها الاستيطانية بحيث تتكامل أجهزة التخطيط والتنمية الاقتصادية الاجتماعية بأجهزة التخطيط والتنمية العمرانية في كيان واحد يعمل على جميع المستويات لتحقيق هذه الغاية الحيوية.
2-15 ونظراً لأن استمرار العمران بصورته الحالية سوف يكلف الأجيال القادمة الكثير من الأعباء الحياتية والمعيشية الأمر الذي لن تتحقق فيه نتائج الإصلاح الاقتصادي أو العقد الاجتماعي أو التقدم التكنولوجي. فإن على الدولة أن تعي هذا الوضع في ضوء التطور المستقبلي لعمران مصر وفي هذه الحالة يصبح تطوير نظام الإدارة المحلية من نظام المحافظات الإدارية بحدودها الإدارية إلى نظام الأقاليم التخطيطية الإدارية بما يتبع ذلك من تطوير في الهياكل التنظيمية والإدارية والقوانين واللوائح التنفيذية.
3-15 إن سياسة التعمير والإسكان في ضوء المتطلبات الحياتية للمستقبل العمراني لمصر يجب أن تتم في إطار الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي لتوفير المجتمعات العمرانية الجديدة بكل فئاتها المنظومة في إطار المخططات الإقليمية التي تزيد فيها عوامل الطرد على عوامل الجذب في المجتمعات العمرانية في الوادي الضيق. الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في قوانين التخطيط العمراني ونظم البناء السارية. وتطويعها لخدمة الاستراتيجية القومية للاستيطان خارج الوادي الضيق مع الحفاظ على التوازن العمراني بين القديم والحديث.
4-15 إن إرجاع العلاقة بين المالك والمستأجر تدريجياً إلى آليات السوق سوف تساعد بفاعلية على حركة الانتقال والاستيطان خارج الوادي لعدم التقيد بالمساكن القديمة المنخفضة الإيجار.
أو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق