الاتجاهات الحديثة في نظرية التخطيط العمراني
من عموميات النظريات المعيارية
إلى خصوصيات الممارسة بحكمة في الواقع
الطـاھر لـدرع
Courrier du Savoir – N°16, Octobre 2013,pp107-124:
Université Mohamed Khider – Biskra, Algérie, 2013 .
المستخلص
يستعرض البحث تطور نظرية التخطيط العمراني
Urban Planning
واتجاهاتها الحديثة ويشير لبعضالإشكالات التي تعترض عملية التخطيط ممارسة وتنظيراً . فالتخطيط بحكم طبيعته المعيارية normative يسعى جاهداً لتشكيل بناء نظري متماسـك يؤسـس لواقـع عمراني مرغوب فيه . إلا أن هذا التخطيط مضطر في ذات الوقت لتوصيف ال واقع كما هو قائم ثم يتعامل معه بموضوعية آخـذاً فـي حسبانه تضارب الرغبات وصراع المصالح مما يحيل الوضع المعياري المرغوب نظرياً مجرد حلم صعب المنـال واقعيـاً . وتـاريخ التخطيط العمراني حافل بالأفكار المعيارية التي انتكست بمجرد نزولها لواقع الممارسة في دنيا الناس . وهذا مـا حـدا بكثيـر مـن المنظرين أن يصفوا تاريخ التخطيط بتاريخ انتكاسات التخطيط. هذه الطبيعة المزدوجة للتخطـيط (المعيـاري normative مقابـل الوصفي descriptive) فرقت الباحثين في موضوعه تيارات متعددة واتجاهات متشعبة تسعى للتوفيق بين النظرية والتطبيق من زوايا مختلفة. ففي البداية كان التخطيط العمراني يتماهى إلى حد بعيد مع فن العمارة إلى درجة أن مخرجاته كانت تحاكي منتجات العمـارة لكن على نطاق واسع. إلا أنه وبعد النتائج الهزيلة التي أفرزتها تجربة هذا الاتجاه العقلاني في التخطيط
rational planning
لم يكـن هناك مناص من برو ز اتجاه آخر يسعى للملمة وضع التخطيط وتقويمه . فظهر الاتجاه الـذي يـرى أن علـى التخطـيط أن ينـأى بموضوعه عن التعامل مع إنتاج الأشكال الفيزيقية
planning a as product
التي هي جوهر الفكر المعماري ليركـز علـى عمليـة صياغة السياسات واتخاذ القرارات التخطيطية
planning a as process .
إلا أن هذا لم يحسم الجدلية القائمة بين الطبيعـة المعياريـة normative المثالية idealist للتخطيط وطبيعته التوصيفية descriptive الواقعية realistic . فظهرت اتجاهات تعلـي مـن شـأن الجانب المعياري فـي التخطـيط لعـل أهمهـا الاتجـاه التواصـلي planning communicative الـذي يعنـي بتـشكيل اتفـاق وإجماع consensus building عن طريق التفاوض والحوار بين مختلف الأطراف المتصارعة مصالحها فـي العمليـة التخطيطيـة، واتجاه العمران الجديد
New Urbanism
الذي يحاول أن يستلهم من الصياغة التقليدية للعمران أشكالا جديدة تناسب الوضع الجديد لما بعد الحداثة، واتجاه المدينة العادلة Just City والمدينة متعددة الثقافات والإثنيات
Multi-ethnic City .
وفي المقابل ظهرت تيـارات تثمن الجانب الواقعي الموضوعي في التخطيط كتيار الممارسة بحكمة في التخطيط
phronetic planning
حيث يعنى هذا الاتجاه بما يحدث فعلاً في واقع التخطيط
what is actually done
بدل الاهتمام بما ينبغي أن يكون عليه التخطيط أو ما ينبغي أن يحـصل فيـه
what planning ought to be or what should be done .
أي أنه يزيح التخطيط من برجه العاجي المثالي لينزله إلى دنيا الناس حيث يحتدم الصراع على السلطة وتتضارب المصالح
power struggle and conflict ofinterests
ليتـرجم ذلـك فـي واقـع المخططات ممارسة وتنظيراً . بهذا تكون كل وضعية تخطيطية حالة متفردة لها ظروفها الخاصة التي تستدعي حكمـة فـي التعامـل والممارسة ولا تحتمل التعميم أو الاستنساخ . يتعين على كل حالة تخطيطية أن تراعي ت وزيع السلطة ضمن المجتمع المحلي وصـراع القوى والمصالح . يخلص البحث في النهاية إلى نتيجة مفادها أن نظرية التخطيط تبقى نظرية عرجاء ما دامت تستلهم أطرها الفكريـة من تجارب المجتمعات الغربية (أوروبية أمريكية وأسترالية ) متجاهلة إلى حد ما إسهامات المجتمعات الأخـرى (العربيـة والآسـيوية والجنوب أمريكية ) والمعرفة المتراكمة لديها في عملية التخطيط . فإسقاط هذه النظريات ذات الأصل الغربي على واقع بيئـات مختلفـة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً لا يتماشى والمفهوم السليم لممارسة التخطيط في الواقع بحكمة . والآسيوية والجنوب أمريكيـة ) والمع رفـة المتراكمة لديها في عملية التخطيط . فإسقاط هذه النظريات ذات الأصل الغربي على واقع بيئات مختلفة اجتماعياً وثقافياً واقتـصادياً لا يتماشى والمفهوم السليم لممارسة التخطيط في الواقع بحكمة.
ABSTRACT
The paper sets out to discuss the problems of planning theory and its development. It unravels the dichotomous nature of planning as a subject that has to reconcile theoretical abstractions and real practice. The difficulty resides in the fact that building a theory requires some internal consistency whereas the problems of the real world are not necessarily so consistent. This is probably the reason that has led many scholars to hastily jump to the conclusion that history of planning is one of great planning failures. At first, planning was seen as part of architecture or the art of building cities. Planning was thus conceived mainly as a blue-print or design oriented process. This rational approach that has dominated the sixties and seventies has not been able to produce any sound results. Another approach, known as the procedural planning, has thus emerged to overcome the problems of its predecessor. It asserts that planning is not about design but policy. Planning theory today seems to be taking three main directions. The communicative or collaborative direction aiming at consensus building among different stakeholders, the new urbanism direction inspired by the traditional patterns of public space design, and the phronetic planning that attempts to take account of power/knowledge issues within society.
The paper concludes that the theory of planning is mainly developed from western experiences and contexts of planning. It lacks any contribution drawn out from the planning experiences and contexts of oriental and less developed societies. This cultural bias must be overcome if a clearer picture of planning theory is hoped for.
خاتمة
من خلال هذا العرض السريع لتطور نظريات التخطيط وآفاقها المستقبلية من خلال الاتجاهات التي بدأت تبرز على الساحة مع بداية القرن الجديد يتضح أن السؤال الجوهري لنظرية التخطيط كان دائما يتمحور حول كيفية تأمين جـودة الحيـاة العمرانيـة وتحسين مستواها في ظل العولمة التي تكتسح الدنيا اكتـساحاً . ومن هذا المنطلق كانت النظرة المعيارية هـي التـي سـادت وطغت على الفكر التخطيطي تنظيراً وممارسة. وللإجابة علـى هذا التساؤل أخذت نظرية التخطيط اتجاهات رئيسية عدة لعـل أهمهــــا:
النمــــوذج التواصــــلي/التعاضــــدي
Communicative/Collaborative Planning
ونمـوذج العمـران الجديد
The New Urbanism
وأخيراً نموذج الممارسة الحكيمـة للتخطيط
Phronetic Planning .
جدير بالذكر أن هذه الاتجاهات الحديثة برزت كانتقـاد وكـرد فعل على طغيان التيار العقلاني الذي هيمن على فكر الحداثـة
Modern Thinking
الذي ميز القرن الماضي والذي بدوره يمد جذوره ليغرف من عصر الأنوار Enlightenment .فقـد جـاء الاتجاه التواصلي كرد فعل على التخطيط المركزي الذي يملـى مـن عـلٍ
Top-down Approach
وكانتقـاد أيـضا لخطـاب الأنوار Enlightenment الذي يعتمد على مبدأ المصلحة العامـة الموحدة والتي يكون تحقيقها عبر تبني المنهج العقلانـي . أمـا تيار العمران الجديد فه و صرخة ضد التطوير الـذي تفرضـه قوى السوق والذي يهدد نسيج الفراغ الذي يقوم عليه المجتمـع العمراني. وجاء تيار الممارسة الحكيمة في التخطيط كرد فعـل على طغيان النظام الرأسمالي وقـساوة تعاملـه مـع الفقـراء ومحدودي الدخل في المجتمع . فقد سعى هذا المنهج ليعيد النظر في قوى السلطة من خلال عمله على تمكـين Empowerment المستضعفين لخوض الصراع بندية بغرض افتكاك مـصالحهم وانتزاعها انتزاعاً من دون منة من أي جهة أو سلطة . وبهـذا سيكون لهم دور في إقامة المدينة العادلة The Just City وافتكاك حصتهم فيها والذوذ عن مصالحهم بها. يلاحظ أن جذور نظرية التخطيط تمتد بعيـدا علـى المـستوى الفكري والفلسفي لتنهل من الفكـر الإغريقـي ممـثلا بفلـسفة أرسطو وأفلاطون مرورا بهيجل وديكارت ثم نيتشة ومـاركس وصولا عند هيبرماس وفوكو . فهي بهذا بناء متراص لطبقـات فكرية بعضها فوق بعض . فالتخطيط إذ يسعى لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع فإنه بهذا يحلم بمجتمع فاضل ويـسعى لتجـسيد أهدافه وتعبيد الطريق لإنتاجه . إنه بهذا يعيد إلى الأذهان مبـدأ المدينة الفاضلة التي قال بها أفلاطون . وحينما يدعو التخطـيط لتمكين الطبقات المحرومة لتفتك نصيبها من الفراغ العمرانـي وتنتزع حقوقها وتفرض مصالحها فإنه يذ كرنا بالفكر الماركسي ودعوته للصراع الطبقي دفاعاً عن حقوق الكـادحين . فثنائيـة الخير والشر، النظام والفوضى، المصلحة العامـة والمـصالح الخاصة هي التي صبغت التخطيط بصبغة معيارية.
أما على مستوى النشأة والتطور التاريخي فإن الظـروف التـي نشأ في ظلها التخطيط كان لها تأثير حاسم وعميق على توجهه فكراً وممارسة . فالنظام العالمي كـان منقـسماً إلـى قطبـين متصارعين أحدهما ينـادي بالاشـتراكية ومركزيـة الـسلطة والقرارات التخطيطية والملكية العامة للأراضي، في حـين أن القطب الآخر يؤمن على النقيض من ذلك بالرأسمالية ويكـرس الملكية الفردية وحرية السوق ويقلص من طغيـان القـرارات المركزية في التخطيط . في ظل وضع كهذا برز في التخطـيط نموذجان: تخطيط تمارسه الكتلة الاشتراكية وآخر خاص بالكتلة الرأسمالية.
أما اليوم فمع إفـلاس وزوال المعـسكر الاشـتراكي هيمنـت الأحادية القطبية ومعها النظام الرأسمالي الليبيرالي على العـالم . إلا أنه مع ذلك فإن الفكر التقدمي المادي في التخطيط لم يفلـس ولم يندثر بل تأقلم مع الوضع الجديد ليظهر في شكل تيـارات تنادي بالعدالة الاجتماعية والمدينة العادلة
(فاينستاين Fainstein ;1997, 2000)
والاتجاهات المادية في التخطيط
(فليبجـرق 2001 ;Flyvbjerg ).
فضمن هذا النظـام الأ حـادي أصـبح الاهتمـام الأساسي للتخطيط هو البحث عن تحقيق جودة المستوى العـام للحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات في ظل هيمنـة النظـام الرأسمالي. كما ظهرت ثنائية فكرية جديـدة شـكلت تحـديات مستحدثة لنظرية التخطيط . فقد برز في ظـل هـذه الأحاديـة القطبية م جتمع متعدد الأعراق متنوع الثقافـات . فهنـاك عـدة مجتمعات مختلفة تتعايش ضمن حدود المدينة ولا يمكن لأي من هذه المجتمعات أن يدعي احتكاره للفضيلة أو يقول أنـه يمثـل صيغة المجتمع الذي ينبغي على الغير أن يحاكيه ويتجـه إليـه ليذوب فيه ويتأقلم معه . فكل الفئات الاجتماعية و الأقليات الإثنية لها حق الظهور والتعبير وإبراز الذات المتميزة . من هنا لم تعد مهمة نظرية التخطيط تقضي بتحقيق مجتمع فاضل تنصهر فيه الأقليات وإنما احتواء هذا التعدد وتجسيده وإبراز جميع مكوناته وتحقيق مصالحها . وهنا لابد من إدراج مفاهيم السلطة والمعرفة في أي بن اء نظري للتخطيط كما أشـارت لـذلك سـاندركوك Sandercock ونادى به فليبجرق Flyvbjerg .
أما على مستوى الامتداد الجغرافي فإن نظرية التخطـيط هـي نظرية للتخطيط كما هو ممارس في العالم الغربي ممثلا بقاراته الثلاث: أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا . وهي نظرية مبتورة لأنها تلغي مساحات كبيرة من تجارب مجتمعات وثقافات لهـا ممارساتها الخاصة في عملية التخطـيط . وهـذا الـنقص فـي التنظير لهذه التجارب يحتاج إلى اهتمام لتكتمل صورة نظريـة التخطيط. فحتى وإن كانت كثير من النظريات المطبقة في العالم النامي مستوردة من الغرب إلا أن عملية الممارسـة والتطبيـق لهذه النظريات على واقع هذه الشعوب يحتاج حتما إلى إدخـال بعض التعديلات والتحويرات عليها لتتلاءم وتتكيف مع الواقـع الجديد. هذه المحاولات في تبيئة النظريات الغربية تشكل في حد ذاتها إثراء لنظرية التخطيط و استكمالاً لجزء كبير من الـنقص الذي تعانيه النظرية المصاغة في القوالب الغربية.
فالنظرة المتأنية لما يجري في مدن "الجنـوب " تُبـدي بـروز صراع عمراني حاد وعنيف في كثير من الأحيان، وتمرد يقوم به مواطنو هذه المدن على النظام العمراني القـائم أمـلاً فـي انتزاع ما يعتقدونه حقاً مشروعاً تحاول نخبة المدينة سلبه منهم . هذه المعطيات الجديدة التي يتفرد بها واقع مدن الجنوب
cities of the South
ألهمت بعض المنظرين للحديث عن نوع جديد من التخطيط لا نظير له في الغرب هو تخطيط التمرد Insurgency planning لعله يساهم في تقديم صورة مكتملة لنظرية التخطيط.
المراجع
[1] Archibugi, F. (2004): “Planning Theory: reconstruction or requiem for planning?” European Planning Studies, Vol. 12, No. 3, April.
[2] Burayidi, M. (2004): “Urban Planning as a multicultural cannon” in: M. Burayidi (ed.) Urban planning in a multicultural society. (Westport, CT, Praeger).
[3] Fainstein, S. (2000): “New directions in planning theory”. Urban affairs Review, Vol. 35, No. 4, March, pp: 451-478.
[4] Fainstein, S. (1977): “Justice and politics and the creation of urban space” In A. Merrifield and E. Swyngedouw (ed.) The Urbanization of injustice, pp:18-44 New York: New York University Press.
[5] Faludi, A. (2004): “Territorial cohesion: Old (French) Wine in New Bottles?”. Urban Studies, Vol. 41, No. 7, June, pp: 1349-1365 .
[6] Faludi, A. (2003): “Unfinished Business: European spatial planning in the 2000s”, Town Planning Review, 78(1), pp: 121-140 .
[7] Faludi, A. (2000): “The performance of spatial planning” Planning Practice & Research, Vol. 15, No. 4, pp: 299-318.
[8] Faludi, A. (1973): “Planning Theory”. Oxford: Pergamon Press.
[9] Flyvbjerg, B. and Richardson, T. (2002): “Planning and Foucault: In search of the dark side of planning theory”. In P. Allmendinger and M. Tewdwr-Jones, (eds.) Planning futures: New directions in planning theory. London and New York: Routledge, pp: 44-62.
[10] Flyvbjerg, B. (2001): “Beyond the limits of planning theory: Response to my critics”. International Planning Studies, Vol. 6, No. 3, pp: 285-292.
[11] Flyvbjerg, B. (2001): “A materialistic concept of planning and participation”. Acta Sociologica, Vol. 24, No. 4, pp: 293-311.
[12] Hall, P. (1990): “Great planning disasters”. University of California Press.
[13] Hoffman, A. (): “Why they built the Pruitt-Igoe Project?”. Joint Center for Housing Studies, Harvard University.
[14] Innes, J. and Booher, D. (1999): “Consensus building and complex adaptive systems: A framework for evaluating collaborative planning”. Journal of the American Planning Association, Vol. 65, No. 4, pp: 412-423.
[15] Innes, J. (1998): “Information in communicative planning”. Journal of the American Planning Association, Winter, 52-63.
[16] Jenks, C. (1991): “The language of Post-modern Architecture”. London: Academy Editions.
[17] Kunstler, J.H. (1996): “Home from Nowhere”. New York: Simon and Shuster.
[18] Ledraa, T (2004): "Teaching Urban Planning in the New Century" in Journal of The Saudi Umran Society, No 3.
[19] [20] Ledraa, T (2007): “The Evolution of Urban Modeling and its Relationship to GIS Applications” Annals of Geography, Kuwait University, No 313.
[21] Ledraa, T (2009): “Evolution of Planning Theory and its Future Directions: Hegemony of the Western View and Neglect of Oriental Societies’ Experiences” In Journal of College of Environmental Design, King Abdulaziz University, Vol 15, No 1.
[22] Sandercock, L. (2003): “Planning in the ethnoculturally diverse city”. Planning Theory & Practice, Vol. 4, No. 3, pp: 319-323.
[23] Sandercock, L. (2000): “When strangers become neighbours: managing cities of difference”. Planning Theory & Practice, Vol. 1, No. 1, pp: 13-30.
[24] Sandercock, L. (1997): “Towards Cosmopolis, planning for multicultural cities”. Chichester, John Wiley & Sons.
[25] Taylor, N. (1999): “Anglo-American town planning since 1945: three significant developments but no paradigm shifts”. Planning Perspectives, Vol. 14, pp: 327-345.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق