محاضرة 1: نشأة المدينة وتطورها
يرجع تاريخ نشأة المدن إلى بضعة آلاف من السنين ،أي إلى عهود أقدم بكثير مما يعتقد معظم الناس ، فقد ظهرت الحياة الحضرية في الأغلب حوالي 6000 أو 7000 سنة قبل الميلاد .وقد دلت الاكتشافات في عصر أقدم من ذلك في مناطق أخرى مثل سهول الأناضول في تركيا ، وكانت هذه المدن القديمة تضم بضعة آلاف من السكان ، ولكن العامل الأساسي في الحكم على قيام الحياة الحضرية ليس بعدد السكان رغم أهميته ، بقدر ما هو نوع نمط الحياة السائد في تلك المجتمعات ،وهو نمط يتميز في المحل الأول باشتغال الناس بأنواع من النشاط الاقتصادي لا تتعلق بإنتاج الطعام كما هو الحال في الجمع والالتقاط أو الصيد والقنص أو حياة الرعي أو الزراعة، فهذه كلها ترتبط بإشكال الحياة الأكثر بداءة وتأخرا عن حياة الحضر وحياة المدن ،وذلك فضلا عما تتطلبه الحياة الحضرية بالضرورة من الاستقرار اللازم لقيام نظم اجتماعية ، وعلاقات معقدة ومتشعبة ،ومتشابكة بين السكان نتيجة لاختلاف الأصول السلالية التي ينتمون إليها ،وتباين عاداتهم وقيمهم الاجتماعية على الأقل في بداية الأمر ،لا سيما حين تنزح جماعات عرقية مختلفة إلى منطقة واحدة تستقر فيها ،وتؤلف نواة لقيام مجتمع حضري .
واضح إذن أننا عندما نتكلم عن "المدينة City "فان هذه الكلمة تعني أشياء كثيرة ومختلفة ومتباينة ،مما يقتضي دوما أن توضع منذ البداية بعض المعايير التي تساعد على توضيح أهم الملامح التي يجب أن تتوفر في المجتمع الحضري ،وهذا ما سنوضحه عندما نتكلم عن الحضرية فيما بعد .
1-النشأة الأولى للمدن
رأى ابن خلدون أن المدن الأولى لم تظهر بصورة مفاجئة وسريعة ولكنها مرت بمراحل معينة في عملية نشأتها ،واستنتج ابن خلدون أيضا أن المدينة تتأثر إلى حد بعيد بالعناصر الطبيعية للإقليم الذي تقع فيه من حيث حجمها ووظيفتها وعلاقاتها الخارجية مع المناطق التي تحيط بها .فالمدينة حسب رأيه لكي تبقى في الوجود لابد وان تشغل موقعا تتوفر فيه مناطق الرعي والزراعة والوقود ومواد البناء الضرورية لسد حاجة السكان من المواد الأولية والزراعية.وهكذا قدم فون تونن(Von Thunen) هذا المبدأ نفسه ولكن بطريقة اقتصادية نظامية في نظريته (1).
إذن نشأة المدن يرتبط بعوامل قيامها في العصور القديمة أو العصور الحالية، فمن العوامل التي أدت إلى نشأة المدينة ،أن مجتمع قرية من القرى استطاع إن ينتج ما يكفي جميع أفراده بحيث يستطيع جزء منهم بإنتاج الطعام ويتفرغ جزء آخر لإنتاج أعمال أخرى كان يتفرغ للتفكير والتأمل والإبداع والتنظيم والتخطيط والفن أو الدين أو السياسة.
واقترن ظهور المدن بتقدم العلوم والقدرات الفنية ،ومن أهم هذه القدرات استعمال المعادن والاشتغال بالنشاط غير الزراعي ،وهكذا ظهرت التجارة والصناعة في بعض القرى فتحولت إلى مدن .وقد كان التخصص في الصناعة في العصور القديمة وظيفة انفردت بها المدن .
وترتبط مسالة نشأة المراكز الحضرية من الناحية التاريخية بمعرفة متى تحولت القرية إلى المدينة ؟ فبعض الباحثين يربط هذا التغير ونشأة الحضارة Civilization أي أن كلمتي المدينة والمدنيةCity and Civil لها الأصل نفسه (2).
لقد كان التخصص في العمل بين سكان المدينة غير الزراعيين قاصرا على ظهور الكهنة والقادة والرجال الحرفيين ،غير انه مع الاختراعات والاكتشافات في عصر البرونز والحصول على الأخشاب والنحاس والأحجار بوساطة التجارة ساعد على زيادة هذا التخصص .ومن ثم اتسمت حضارة المدن منذ بداياتها في الشرق الأوسط بوجود التجارة التي ساعدت في إحضار بعض المواد اللازمة للحضارات التي قامت في كل من وادي الرافدين والنيل.
ومن دراسة المظاهر الرئيسة لمعظم المدن القديمة المعروفة يمكن اقتراح بعض المقاييس المعتمدة على الأدلة الأثرية للمراكز القديمة وهي :
أ- إن هذه المركز كانت اكبر حجما وأكثر اتساعا واشد كثافة من المستوطنات التي سبقتها ،وان كانت لاتصل إلى المستوى الحضري الذي عليه العالم في الوقت الحاضر .فقد تراوح عدد سكان مراكز الحضر السومرية ما بين 17-20 ألف نسمة (*)في حين بلغ عدد سكان مراكز الحضر التي قامت في حوض السند حوالي 20 ألف نسمة وربما أن عدد سكان المدن المصرية القديمة لم يكن بأقل من ذلك .
ب- أن اغلب سكان المدن القديمة لم ينفصلوا عن الأرض ،بل كانوا زرّاعا إلى جانب طبقات كبيرة من المتخصصين .
ج-فضلا عن ذلك فقد امتازت مراكز الحضر القديمة بوجود فائض من السلع كان يجمع من المنتجين ليكون رأسمال فعال للمدينة .
وقد لجا كل مركز حضري للتعبير عن ذاته رمزيا ببناء مبنى عام أو نصب تذكاري.فقد كان للمدن السومرية قلاع كبيرة Large castles أو زقورات Ziggurats مصحوبة بالمعابد ومخازن الحبوب ،في حين ضمت أراضي النيل الأهرامات Pyramids ومقابر الملوك ،بينما امتازت مدن نهر السند بقلاعها ومدن المايا Maya بأهراماتها المتدرجة ومعابدها .وامتازت المدن القديمة بالتركيب الطبقي ،حيث كان لرجال الدين والقادة المراكز الأولى وكان يذهب أليهم معظم الفائض .ففي حضارة المايا كانت الهدايا تقدم إلى رجال الدين مرتين في السنة عند بدايتها ووسطها كما تقدم أيضا عند الزراعة وعند الحصاد .
د-أما المقياس الأخير فهو التجارة التي ميزت كل الحضارات والحضر والتي كان من نتائجها أن أصبح الصناع جزءا حيويا من المجتمع الجديد إذ انتقل إلى جانبهم في المدينة الحرفيون الآخرون المرتبطون بهم .
2- التدرج التاريخي لنشوء المدن الأولى
تعد بلاد الرافدين وارض الشام من أولى المناطق التي حدث فيها الانتقال من مرحلة الرعي والترحال إلى مرحلة الزراعة والاستقرار ،لذلك كشفت التنقيبات الأثرية إلى أن أقدم مستوطنة بشرية وجدت آثارها في قرية المريبط التي تبعد حوالي 80 كم شرقي حلب على الضفة الغربية لنهر الفرات.أما أريحا في فلسطين فتعد ثاني مستوطنة يعود تاريخها إلى (8350-6770 ق.م) ،وبلغ عدد سكانها حوالي3000نسمة ،وعليه فهي تعد أقدم مدينة في العالم .ومن المستوطنات الأخرى التي تلتها ما عثر عليه المنقبون في تل أبي هريرة في المنطقة التي غمرتها مياه سد الفرات في سوريا ،ثم مدينة البيضة شمال البتراء في الأردن ،وتبة اسياب قرب كرمنشاه وتبة كوران المشرفة على سهول الاحواز .
وفي الألف الخامس قبل الميلاد تركزت المستوطنات الزراعية في ارض مابين النهرين عند تل باغوز قرب البوكمال عند الحدود العراقية –السورية .وتعتبر جرمو التي تقع قرب كركوك في الأراضي المتموجة أقدم قرية سكنية منظمة في العراق حدد تاريخ نشأتها قبل 6750 ق.م.
ومن المواضع الأخرى الاستيطانية تل حسونة الذي يقع على بعد 35 كم جنوب الموصل وأم الدباغية 5700ق.م. والتي تقع في ارض الجزيرة قرب الحضر ،وتل صوان (5500-5000ق.م)والذي يقع على بعد 12كم جنوب سامراء (3).
وظهرت أولى المستقرات البشرية Human settlements على شكل قرى منظمة في أقصى الجنوب الغربي من العراق ممثلة بقرى أور واريدو في (4500-4000ق.م)فيما ظهرت مستوطنات أخرى أكثر تنظيما إلى الشمال من منطقة اريدو تلك هي الوركاء ،ولعل هذا الموضع شكّل نواة لنمو أول مدينة في جنوب العراق فيما بعد الجدول (1).
ولم تكن ارض مابين النهرين البيئة الوحيدة التي نمت فيها بذور التحضر ،بل نشأت وقامت المدن في وادي النيل ووادي السند والهوانكهو،وقد تكون سواحل البحر المتوسط الميدان الذي شهد نمو المدن والموانئ التجارية لأول مرة في تاريخ العالم سواء في سواحل بلاد الشام أم في جزيرة كريت أم سواحل الأناضول والشمال الإفريقي منذ عهد الفينيقيين ومن سبقهم من حضارات كالمنيوية Almnawah مثلا .
جدول 1: مناطق النشأة الحضرية المبكرة
المنطقة
|
الفترة الحضرية
|
المدن
|
ما بين النهرين
مصر
السند
الصين
أمريكا الوسطى
الانديز الوسطى
نيجريا
|
4000-3500ق.م.
3000ق.م.
3000-2250ق.م.
2000ق.م.
1000ق.م.
500ق.م.
1000 ميلادية
|
لاجاش،أور،أروك
سنف،طيبة
موهنجودارا/هاربا
شنج،شون،آن،يانج
تيوتهواكان
كركو،تيهواناكو
ساجامو،اوو
|
Shart,J.,An Introducction to urban Geography,London,1984,p8
3- إحجام المدن الأولى
تدرّج أحجام المدن في بدايات نشأتها بين 7-20 ألف نسمة ،وبعد أن ترسخت هذه المستقرات البشرية وزاد فائضها الإنتاجي وتوفر فرص عمل غير زراعية فيها استقطبت إعدادا أخرى من السكان،فمدينتا بابل ونينوى تفوقتا على المدن العربية الأخرى بحجم سكانها الذي وصل إلى 80 ألف نسمة ،ووصل هذا الحجم في مدن أخرى في إيران واليونان ومصر والهند والصين .فمدينة طيبة المصرية تعد أول مدينة في العالم تجاوز سكانها 100 ألف نسمة سنة 1360 ق.م .وفي سنة 100ميلادية وصل سكان مدينة روما إلى 650 ألف نسمة ،تماثلها في ذلك مدينة ليونج في الصين .
أما أول مدينة تجاوز سكانها المليون نسمة هي مدينة جنجان (سيان حاليا)في الصين قيل سنة 763م.,كما أن مدينة بغداد ثاني مدينة زاد عدد سكانها عن المليون نسمة في القرن العاشر الميلادي .
لكن حجم المدن الأوروبية بدا يزداد بعد النهضة الأوروبية وحركة الاستكشافات الجغرافية ،أي منذ القرن الخامس عشر الميلادي واخذ يتضخم بعد الثورة الصناعية .فقد بلغ عدد سكان لندن 696ألف نسمة وباريس 488 ألف نسمة وروما 125 ألف نسمة في أواخر القرن السابع عشر الميلادي .وبعدئذ أصبحت أوروبا من اكبر مناطق العالم تحضرا .فظهر في أوروبا لأول مرة في تاريخ العالم إن زادت نسبة السكان الحضر على سكان الريف منذ عام 1850،كما حدث في المملكة المتحدة .وهكذا أصبحت أوروبا في بداية القرن العشرين اكبر مراكز التحضر في العالم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق