التسميات

الاثنين، 14 أغسطس 2017

من القصر الصحراوي إلى " المدينة الحديثة " ...

من القصر الصحراوي إلى " المدينة الحديثة "pdf

 أ. خليفـة عبد القــادر
جامعة قاصدي مرباح- ورقلة (الجزائر)
مجلة العلوم الإنسانية و الا جتماعية - العدد الأ ول - ديسمبر 2010 - ص ص 126 - 140 :
ملخص:
  إن المرور من القصر أو المدينة التاريخية إلى المدينة " الحديثة " نتيجة للتحولات التاريخية والاجتماعية يطرح العديد من التساؤلات والإشكاليات حول التغيرات التي يحدثها على أنماط الحياة الاجتماعية لسكان الصحراء المتميزين أصلا بنوعين من التركيبة الإجتماعو_إقتصادية، القرويين القلاحين القدامى ذوي التقاليد الحضرية، والمجموعات البدوية المتمدنة حديثا، وأيضا على الممارسات الحضرية الجديدة وأنماط الحضرية الجديدة في هذه المناطق المطبوعة بالخصوصية الصحراوية.
  من خلال مقاربة أنثروبولوجية نوعية في مدينة تقرت عاصمة إقليم وادي ريغ في الجنوب الشرقي الجزائري. يمكن أن تكون بعد الدراسة المعمقة  نموذجا للإجابة على إشكال هام: أي مدينة هي في طور الإنجاز في مدن الصحراء الجزائرية اليوم؟ 

كلمات مفتاحية:
 الصحراء الجزائرية،التحولات الاجتماعية، تمدن البدو، فلاحي النخيل، العمران الصحراوي، المجال، تقرت، وادي ريغ.
مقدمة:
الصحراء الجزائرية اليوم هي حضرية بالدرجة الأولى، إذ لم تعد الواحة كما كانت عليه منذ ماض قريب!حقيقتها العمرانية والاجتماعية تؤدي بنا إلى الوقوف على ساحة من التحولات الاجتماعية العميقة و المتسارعة. الواقع الإحصائي يثبت أن 80 بالمائةمن سكان الصحراء باتوا "حضريين"، هذا الواقع لم يتكرس إلا في العشريات الأخيرة، من خلال   ما عرفته مدن الجنوب الجزائري من  ديناميكية عمرانية تفوقت حتى على مدن الشمال ( COT: 1998. p89).وتحولات اجتماعية  ونمو ديموغرافي لم تشهدها هذه المناطق طيلة آلاف من السنين من وجودها، وهذا بفضل عوامل "التحديث" بعد استرجاع السادة الوطنية، وأيضا نتيجة التحولات والتغيرات المجالية- الاجتماعية العميقة التي مست أساس البنيات الاجتماعية لمجتمعات الصحراء التي بدأت منذ الفترة الاستعمارية والمستمرة إلى اليوم.
إن الملاحظات الميدانية، والتحليل السوسيو- أنثروبولوجي للمجال الاجتماعي  في مدينة تقرت[1] وهي أهم مدينة في إقليم وادي ريغ.  يوفر نموذجا مكتملا لمحاولة تفسير العلاقات الاجتماعية والمجالية الجديدة الناتجة عن تحولات البنية الاجتماعية والحركية الاجتماعية سواء للمجموعات الاجتماعية الواحاتية التقليدية أو للقبلية المتمدنة في هذه المدينة. لمعرفة أكثر عمقا للواقع الاجتماعي في مدن الصحراء الجزائرية للإجابة على سؤال واسع الأفق، أي مدينية هي في طور الإنجاز اليوم في صحراء الجزائر؟
-        عمران الأمس: أصالة، تناغم بيئي وتدرج اجتماعي
  للعمران في الصحراء جذورا تاريخية عميقة، مظاهر الحضرية والتمدن كانت مألوفة في القصور والمدن التاريخية منذ مئات السنين، ازدهرت المدن التاريخية كمحطات للقوافل التجارية التي كان مسرحها الفسيح بين ضفتي ( بحر الصحراء) منذ 10 قرون (Cote ; 2005p05)   بذلك امتلكت ذاكرة حضرية غنية وجذور أصيلة من خلال مايعرف بالقصور الصحراوية، والتي بنيت في الأساس على توافق بين ثلاثة عناصر رئيسة هي: الطين(الأرض)، الماء( المياه الجوفية عموما)، المقدس( الضريح، الولي الصالح أو الزاوية). يتركز العمران عادة في كتل رئيسية  تتفرع إلى مراكز صغيرة مشكلة شبكة محلية من القصور المرتبطة بعالم الفلاحة (النخيل) وآبار المياه أو الفقارات، تشرف عليها أكبر القصور التي تتطور إلى مدينة تاريخية مرتبطة بدورها بعالم تجارة القوافل والنظام السياسي القائم  والإشراف الديني. بالإضافة إلى علاقة هذه القصور بعالم القبائل البدوية وأنصاف البدو الذي لعب دورا هاما في عمرانية و نشاطات هذه المدن والقصور من خلال التبادل الاقتصادي والتكامل الاجتماعي والحماية المتبادلة.
القصور على طول وادي ريغ، والذي يشمل حوضه معظم المنخفض الجنوبي الشرقي على مسافة 160كم بين الزيبان وورقلة، شكلت المجال السكنيلفلاحي النخيل " بني ريغة "( ابن خلدون عبد الرحمان، 1921 ص96.)،في هذه الواحات قرى بسيطة وكثيفة مبنية بالطوب النيئ معدة أساسا لسكن فلاحي النخيل " الحشاشنة ". تشرف عليها المدن التاريخية وأهمها مدينة تقرت( المدينة القديمة مستاوة) بحكم موقعها وظروفها عرفت تطور علاقات تجارية على المستوى المغاربي والإفريقي.شكلت مركز انطلاق قوافل ووصول أخرى في نظام موسمي وسنويبالإضافة إلى الوظيفة السياسية، كمركز توافق بين القصور  زمن (سيدي أمحمد بن يحي " رجال الملاح" )، و" مملكة محلية " (بني جلاب[2] ) ودينية كالزوايا  ( الزاوية التيجانية بتماسين، 10كم)  بذلك تصبح تقرت التقليدية عاصمة جهوية تلعب دورا إقليميا هاما مشرفة على شبكة قصور وقرى وادي ريغ، تلفت أنظار الممالك والقوى السياسية المجاورة، الحفصيين،والحكام العثمانيين في بايليك الشرق وغيرهم الذين أخذوا في بسط نفوذهم على مناطق الحضنة والزاب ووادي ريغ.
تقرت المدينة التاريخية (1879. p   (FERAUD, التي تنطبق عليها أوصاف المدينة العربية الإسلامية،تتكون أساسا من أنسجة عمرانية مهيكلة انطلاقا من مجموعة من تجهيزات مركزية عامة تنطلق من المسجد الجامعالمتصل بالسماء والمنفتح علىساحة السوق الرئيسية والمتاجر أوحوانيت الصناعة  التقليدية، لتتفرع للشوارع الرئيسية المغطاة والمنطلقة من المركز إلى أطراف المدينة تنتهي عند الأبواب الرئيسية ( باب السلام، باب الخضرة، باب الغدر) تمثل  هذه الفضاءات شريان الحياة الاجتماعية العامة بإتحادها معالساحة العامة تشكل المجال العامPUBLIC مجال المرور والنشاط والالتقاء للسكان أو الوافدين على المدينة. أما القصـر والذي يقع في الترتيب من حيث الأهمية العمرانية والوظائف في درجة أقل من المدينة التاريخية، القصور في وادي ريغ هي مكان سكني بالدرجة الأولى لفلاحي النخيل لم يبلغ تعقيد المدينة، تتركز وظائفه على العلاقة بواحة النخيل، هذه القصور الممتدة في شكل سبحةchaplet تتبع اتجاه انحدار وادي ريغ من بدايته ( قوق، 20كم جنوب تقرت) إلى نهايته عند الشطوط  (مروان وملغيغ قرب المغير).
 في مدينة تقرت بالخصوص يمكن التمييز بين نوعين من السكن التقليدي، السكن الذي وجد في النواة الأصلية مستاوة المدينة التاريخية، والذي بحكم وضع المدية كمركز سياسي لحكم أسرة مشايخ بني جلاب ومركز تجاري أرتبط بحركة قوافل التجارة والعلاقات مع المحيط الجهوي البعيد و أيضا القبائل البدوية، أما بقية القصور فقد ارتبطت أصلا بثقافة زراعة النخيل وضمت السكان المحليين " الحشاشنة "، مما يجعلنا نميز بين نوعين من السكن التقليدي حتى وإن كان هذا التمييز غير عميق إذ تبقى السمات الأساسية والمحددة تبقى موحدة بالنسبة للنوعين وبين النوعين هناك قواسم مشتركة ومركبة بين الثقافة المحلية الفلاحية وتأثيرات المحيط الخارجي.  السمة البارزة التي طبعت منطقة السكن في هذه المنازل قبل انهيار الحدود الثقافية بين المجتمعات في حدود القرن 19 (Hassan, 1985. p 64) نلاحظ أشكالا و تفاصيل هندسية محلية كانت ثمرة التزاوج المتناغم بين مخيال هذا المجتمع المحلي و الشروط البيئية المحلية، وثقافة المعيش والمخيال العربي الإسلامي.
 من خلال مختلف الأوصاف التاريخية نلاحظ أن المدن والقصور المرتبطة معها تتميز بأنسجة بنائية خاصة تتميز بوجود العناصر التالية، المنازل، المساجد، الساحات، الشوارع، القلعة أو البرج، الأسواق، الدكاكين، و ورشات الصناعة التقليدية. القرى و المدن في مجملها تموقعت على مناطق مرتفعة Pitons- حسب ما تسمح به طبوغرافية المنطقة، تأخذ الشكل الدائري في معظمها، عند قراءة هيكلتها نحس أن أولوية مخططها كانت مسألة الدفاع، بسبب الصراعات المتكررة التي شدتها المنطقة في فتراتها التاريخية المتعاقبة ( FERAUD, 1879. P66) الإثنية و أيضا المتعلقة بعملية الإنتاج الزراعي، في تلك الأثناء كان السكان يعرفون مزايا البناء في الأماكن المرتفعة.
  المورد الأساسي لهذه القصور بالدرجة الأولى هو إنتاج التمور، إضافة إلى منتجات موسمية محلية، هذا الإنتاج الذي سمح للمنطقة بالتبادل التجاري مع مناطق أخرى في الشمال والجنوب، وسمح أيضا بتغطية الحاجيات الأساسية للسكان، كما سمح لبعض المجموعات والعائلات بالثراء، الوظيفة الأخرى والتي لا تقل أهمية في عالم الصحراء هي التجارة والتبادل الجهوي، أحيانا بعيد المدى يصل إلى أعماق الصحراء لربطها بالشمال وبالشرق وبالغرب. إن نظم الري والاستفادة من المياه القريبة من السطح في هذه المنطقة المنخفضة سمح بإيجاد الواحات، امتداد هذه الواحات وكبرها يتوقف على كمية الماء المتوفرة من المنابع والعيون وعلى مساحة الأرض الصالحة للزراعة أي القليلة "النز[3]" والملوحة، امتداد وسائل الري وتنظيمه وأيضا يتطلب الأمر إيجاد شبكة من القنوات لتصريف المياه الزائدة والتي قد تتسبب في قتل النخيل مثل الجفاف تماما، كل هذه التجهيزات والأعمال تطلبت مجهودات مضنية من الفلاحين.
إن تاريخ المدن الصحراوية على العموم يوضح لنا من خلال الفسيفساء البشرية والاجتماعية التي تتماثل مع تنوع ديني ومذهبي، إباضية، سنية مالكية، زوايا. تأثرت المنطقة ولمدة طويلة بالإباضية الذين قدموا بمذهبهم بعد سقوط عاصمتهم تيهرت على يد الفاطميين أسسوا مدينة جالوا بالقرب من بلدة عمر (20 كلم شمال تقرت) المذهب المالكي ينتشر في المنطقة على يد الدعاة من الذين قدموا إلى المنطقة في حدود القرن السادس عشر أمثال سيدي أمحمد بن يحي الإدريسي وغيره من المغاربة الذين نشروا المذهب المالكي بعد رحيل الإباضيين نحو سدراتة ووادي ميزاب.كثيرة هي العادات الشيعية بالمنطقة حسب الشيوخ الذين سألناهم حول هذه المسائل يمارسها السكان بعفوية والتي تعود حسب روايتهم إلى زمن الصراعات المذهبية التي شهدتها المنطقة.
-      مجتمع صحراوي، مهيكل متنوع متكامل: 
قامت علاقات تاريخية طويلة بين مجتمع فلاحي الواحات وقبائل البدو في الصحراء على أساس تكاملي يظهر في تقاسم العمل والمقايضة والمبادلات والحماية، علاقات دامت طويلا زمن ازدهار القوافل التجارية، يظهر في قوة من التماسك الاجتماعي الذي كان قائما بين البدو الرحل من التجار أو المحاربين أو الرعاة المربين الذين يضمنون المبادلات وحركة السلع وحماية القصور في إطار من التحالفات والو لاءات، القصور وسكانها من الفلاحين ونخبالمدن من الإقطاعيين والملاك الكبار الذين يجمعون الفائض من المبادلات التجارية عن طريق المساهمة في تجارة القوافل العابرة للصحراء لإنشاء المزيد من حقول النخيل والملكيات الواحاتية، التي هي أساس حياة التجمعات الحضرية في الصحراء، هذا النظام الذي وصفه:  Capot REY في كتاباته حول الصحراء ( REY, 1953, p 564) ، أين كانت الوضعية تتميزبديمومتها التاريخية، بما يقرب من الألف سنة من هذا النظام الذي عزز التعاون الاقتصادي والتعايش الاجتماعي.
" الحشاشنة " المجموعة السكانية التي تشكل العدد الأكبر من سكان وادي ريغ ، تسكن الأنسجة العمرانية القديمة  تسمى ميزتهم لون البشرة السوداء.يذكرهم ابن خلدون في تاريخه (عبد الرحمانٍ ابن خلدون، 1921، ص96)
 «... وأما بنو ريغة فكانوا أحياء متعددة. ولما افترق أمر زناته... ونزل أيضا الكثير منهم ما بين قصور الزاب وواركلا، فاختطوا قرى كثيرة في عدوة واد... يشمل المصر الكبير والقرية المتوسطة... وكثر فيها العمران من ريغة هؤلاء، وبهم تعرف لهذا العهد، وهم أكثرها ومن بني سنجاس وبني يفرن وغيرهم من قبائل زناتة..» فيروFéraud تحدث أيضا عن هؤلاء السكان ، الذين يسكنون القصور المجاورة لتقرت التي قيم عدد سكانها آنذاك حوالي الخمسة آلاف من السكان، ويؤكد أن تقرت مثل وادي ريغ هو ملتقى بين" الزنوج والبربرنتيجة التهجين أخرجوا جيلا جديدا من المولدينMétisses ذوي ملامح البشرة السوداء ( Féraud, 1879. p 59-60)المختصين في فلاحة النخيل منذ قرون طويلة و نظام السقي أبناء الملاك الصغار من البربر أو أبناء العبيد القدامى الذين استقروا منذ تاريخ طويل(DUBOST, 1989, Tours, p 134.) كمجموعات اجتماعية ذات تقاليد حضرية قديمة واستقرار فلاحي امتد عبر تاريخ الواحات والقصور في الصحراء، أنتجوا وطوروا أنواعا من التمور والزراعات المحلية الصحراوية التي تندثر تقنياتها اليوم.
البدو وأنصاف البدو[4](semi-nomades)، مجموعات ارتبطت بالوسط الصحراوي أو هوامش الصحراء، عشريات من التمدن غيرت كثيرا من طرق وأنماط حياتهم، الفترات الطويلة من الجفاف التي أصابت مناطقهم في الصحراء أو على الهوامش الصحراوية شمال الصحراء التي ينتشرون فيها، وعوامل التحولات التي أدخلت على الواحات منذ بداية القرن العشرين، ساعدت في تسارع عملية تمدنهم، ضمن مدن الواحات (1989, p 5.   (BISSON,. في ظروف الصحراء الجديدة لم يكن البديل أمامهم من خيارات سوى التمدن أو التهميش، هذا التمدن الذي أحيا إشكالية التمييز بين نوعين من الحياة الريفية في الصحراء، البدو والسكان القرويين في الواحات، والعلاقات بين هذه المجموعات المتمايزة اجتماعيا وثقافيا مع عالم سكان الواحات من فلاحي النخيل.
-      التحولات بين الإنقطاع والتواصل.
مع إقامة الدولة الوطنية كثمرة للإستقلال، يأخذ الاندماج في المجتمع الوطنـي العـام عدة أشكال، إذ يشكل الجنوب وبخاصة الجنوب الشرقي أهمية إستراتيجية للحكومة المركزيــة بفضل آبار البترول والتي ترجع بدايـة استغلالها إلى سنة 1956 تم تأميمهـا سنـة 1971 زاد في أهمية الثروة الاقتصادية الوطنية والمحلية التي تنتج عن استغلاله.في ظرف 20 سنة بعد استرجاع السيادة الوطنية ، الصحراء تتحول كلها وبعمق، استغلال والتنقيب عن النفط، وتأسيس إدارة جديدة. وذلك بالاستثمار والتجهيز على المستــوى الوطني ويصبح التعمير واقعا غالبـا وتتضاعـف المصادر الاقتصادية مما يسمح بنمو شرائح اجتماعية جديدة جهوية ووطنية أيضا.
إن التنظيم والتقطيع الإداري، والتجهيز الاقتصادي هي مفاتيح سياسة الاندماج في المجتمع الوطني العام للصحراء،  تدمج منطقة وادي ريغ ضمن ولاية ورقلـة وجزء منها في ولاية الوادي.هذه اللحمة الجديدة للتنظيم الإقليمي حتى وإن لم تضع في الحسبان الوحدة البيئية والاجتماعية والتاريخية بتقسيمها بين عدة ولايات،ورقلـة،بسكرة ثم الوادي.هذا لقسيم والتنظيم يسمح بإنشاء وخلـق أنشطة جديدة للتجهيـز والخدمات، مديريات إداريـة مستشفيات مراكز صحية، مدارس ثانويات، شبكة بريد، بنوك…الخ.كانت لها آثار كبيرة على التشغيل، والسكن وتحسن مستوى المعيشة. إن استغلال النفط جاء بإقامة قاعدة كبيرة في حاسي مسعود تستقطب أبناء المنطقة  وغيرهم من الشمال للعمل الدائم والمؤقت وتعطي ديناميكية جديـدة للمجتمــع، وللأشغال الكبرى القاعدية والطرقات والمطارات تسهل الحركية داخل هذه الشبكة جهويا وربطها أيضا بالوطن وبالعالم. وتسمح للمنطقة والمدينة تقـرت الخروج نهائيا من محليتها بلا رجعة وبهذه النشاطات تتغير الكثير من معطيات المجتمع الشكلية والنوعية.
تلتقي هذه التحولات الخارجية مع ديناميكية داخلية للمجتمع في المنطقة المتعدد الأصول والانتماءات وأشكال التنظيمات الاجتماعية ارتكزت هذه الديناميكية على منابع ومصادر ثقافية للمجتمع الصحراوي بالرغم من نزعة التوحيد المرتبط أساسا بالمنطق الاقتصادي وتوحيد طرق وأنماط الحياة وأشكال السكن، يبقى سكان المنطقة مطبوعينبخصوصياتهمالتاريخيةوهياكلهم الاجتماعية.بتأقلم السكان مع مقتضيات الاقتصاد العام الجديد و أفول الأشكال التقليدية للاقتصاد الصحراوي برزت أشكال من التأقلم الذكي بين منطقها الهوياتي ومنطق " الدولة " المتميز "بالعصرانية " أو التحديث.
إن الاندماج في سوق العمل في القطاع الصناعي وفي القطاع الخدماتي بالخصوص والتأقلم مع الشبكات الجديدة في الشكل الرسمي (formel)أو غير الرسمي (informel )والذي سيطرت عليه شبكات من التجارة والتهريب، امتهنته المجموعات البدوية القريبة من المدن أو الحديثة التمدن حول المدن الصحراوية عوض لها سالف عهدها بالقوافل والطرق التجارية،وتطور قطاع الصناعات الصغيرة(PMIوبقاء النشاط الزراعي ولو محدودا، هذه الأنشطة والوظائف الجديدة تشهد على حركية داخلية حقيقية وهامة.
في ظرف أربعين سنة الماضية تضاعف المجتمع في هذه المدن تضاعف سكان مدينة تقرت كان جد مهم من سنة 1960 إلى 1998 يتضاعف عدد السكان ست مرات وفي الولاية ورقلة يتضاعف 15 مرة في نفس المدة إحصاء (الديوان الوطني للإحصاء1998 ) الدافع الأول والهام لهذه الزيادات يرجع إلى الزيادة المفرطة في المواليد من جهة، كباقي جهات الوطن وأيضا يعتمد على قوة جذب سكاني هام من مختلف مناطق الوطن بحثا عن التشغيل، كما لعب تمدين البدو دورا كبيرا في تضخيم هذه الزيادات الطبيعية وغير الطبيعية.
ساهم الرحل دوما في تجديد سكان الواحات والمدن الصحراوية، لكن هذه المرة وابتداء من الستينيات وكثمرة للاستقلال وتحديث الحياة كان هذا التمدن شامل ونهائي بنسبة كبيرة، على هامش المدن ثم داخلها والاندماج في النشاطات الجديدة والمصادر الجديدة للدخل ( (BISSON 1989.p 66.    حتى وإن أبقى البدو على علاقات اجتماعية واقتصادية تربطهم بعالم الريف والبداوة، إذ بنهاية النشاطات التقليدية الرعي والنجع يجبر السكان على تغيير طرق حياتهم والانضمام تدريجيا إلى حياة المدينة ولاندماج في النشاطات الجديدة والمصادر الجديدة للدخل والاستفادة من الخدمات والتوزيع منذ سنوات الستينيات حتى نهاية السبعينيات، نسبة الرحل في مدن ولاية ورقلـة مثلا تنخفض من 40% إلى 10% إذ يتمدن ثلاثة أرباع الرحل في الولاية)الدليل الإحصائي لولاية ورقلة 2001(.هذا التضاعف والتحول تم أيضا على مستوى المجال، وصل حده الأعلى إلى التهام تجمعات حضرية كانت في الزمن القريب متجاورة (قصور النزلة،الزاوية العابدية، تبسبست ) لتصبح مدينة واحدة متلاصقة تؤلف نسيجا عمرانيا واحدا مدينة متعددة المجموعات والشرائح و" الهويات" التقليدية.
هذه الكيانات تتناسب مع انتماءات جهوية متعددة، نموذج متراكبله تمظهرات اجتماعية متعددة ومتنوعة وأشكال من التنظيم الاجتماعي المتمايز،لتأخذ صورة الجنوب الشرقي المطبوع بالمحروقات،بمركباته الأصيلة والجهوية والوطنية،بين البدو المتدنين حديثا، والسكان ذوى التقاليد الحضرية القديمة،المتأثر بالشبكات التجارية النشطة حوله، كسوف و وادي ميزاب. ظاهرة العمران والتعمير في طور الإنجاز دائما غير متساوية ولا متماثلة.
في أغلب الأحيان حاليا تأخذ المرفولوجية المجالية للمدينة الصحراوية شكل انضماملعدة أنسجة تتماثل مع أربعة فترات تاريخية للعمران، القصر أو المدينة التقليدية التاريخية و التي تؤلف نواة المدينة، المدينة أو الإضافات الكولونيالية حول المدينة القديمة أو على جانبها، الأحياء العشوائية التي ميزت الفترة الأولى للاستقلال أوالتي ضمت تثبيت البدو الرحل، أحياء التعمير المبرمج في إطار البرامج السكنية المختلفة من سكن فردي ذاتي وسكن جماعي.
إن مسار تدهور الأنسجة التقليدية في تسارعه يشير في نفس الوقت إلى نوع من المقاومة وإن كانت ضعيفة ودون وسائل مادية، حتمية توسع الأنسجة الجديدة وخصوصية الواقع المحلي الجديد وبشكل عام على مستوى الصحراء، أصبح السكن التقليدي يمثل نسبة هامشية أكثر فأكثر مما يعكس تدهور القصور بقي هذا النوع يعادل (17.7%) في تقرت الكبرى من حظيرة السكــن.
توضح وضعية المدينة التاريخية مستاوة مستقبل الأنسجة التقليدية، فقد حطم جزء منه في العهد الاستعماري بما فيه قصر السلطان الذي وضعت في مكانه ثكنة عسكرية ومنذ ذلك الحين يشهد تدهورا مستمرا نتيجة خروج المدينة عن أسوارها وبداية التعمير بمنطق جديد. نتيجة تدهور سكناته وغياب الترميم قامت السلطة المحلية بعدة مشاريع إسكان لعائلاته لكن بمجرد خروج السكان يعوض هؤلاء بسكان جدد في الثمانينات وذلك تحت ضغط أزمة السكن موجات من الهجرة إلى المدينة من الضواحي والبدو الرحل وأيضا النمو الديمغرافي الكبير، وانتهت بتدهوره النهائي وتحطيم عدة أجزاء منه بقرار من السلطات المحلية بعد أن وحد معظم السكان للاستفادة من سكنات اجتماعية أو في إطار السكن الريفي أو السكن التطوري.
القصور أيضا تشهد تدهورا كبيرا وتحولا عميقا نلاحظ أن معظم السكان استفادوا من سكنات جديدة في أحياء مختلفة، والعائلات التي استفادت من السكن لم تتحول في مجملها بل احتفظت بسكناتها القديمة والتي بقي فيها جزء من الأسرة أو قامت بكرائها في طور التمدن ا أو القادمين الجدد من التل أو من الأوراس أو من أحواز المدينة، وأصبحت مقاطعات حقيقية للفقر،  كثافة هذه القصور كانت مسئولة عن جزء كبير في هذه التدهور وإضعاف مساكنها.
وضعت تخصيصات لأراضي جديدة، زاحمت الصحراء، والشطوط، وتوسعت في كل اتجاه حولت العمران في الصحراء من منطقه التقليدي الممركز إلى عمران خطي يتبع طرق المواصلات والتجارة. التطور العمراني هذا فرض على السكان إستراتيجيات سكنية جديدة شجعته السياسة العمومية وساهم في بناء هويات اجتماعية جديدة[5] ، المدينة اليوم تتوفر على أحيائها السكنية الراقية الفيلات المنجزة بهندسة مختلفة كان الهاجس الكبر في إنجازها هو إبراز الثروة  وتتطور المضاربة العقارية التي تؤدي إلى ظهور أحياء متمايزة اجتماعيا  وعمراني.

مساكن عائلية في معظمها أنجزت بتكاتف جهود الأسرة من توفر وادخار ومساهمة الأبناء الكبار وأيضا في كثير من الأحيان بيع مجوهرات الزوجة، وعمل الأبناء، المسكن القديم يتم كرائه أو استعماله في وظائف تجارية ليساهم مدخوله في توسيع المنزل الجديد وإتمام بناؤه هذه الأشكال من الممارسات هي العنصر الغالب الآن في التمظهر العمراني الجديد.
-      من العائلة إلى الأسرة، دلالات أشكال التعايش الاجتماعي.
لمحاولة فهم الهياكل الأسرية وأنواع التعبئة في المجال في مدن الواحات المتميز بتجاور مجموعات اجتماعية تركيبتها من السكان القرويين إلى البدو المتمدنين ألى الوافدين من الشمال أحياء تعبر عن نماذج اجتماعية متمايزة، كواقع اجتماعي يخلق أوساط اجتماعية موزعة على أحياء المدينة.
انطلاقا من المعطيات النوعية و الإحصائية بالنسبة للأسـرة، سواء بالنسبة لمجتمع الفلاحين القدامى  أو البدو المتمدنين في المدينة، وإعادة التركيب أظهرت أنواعا جديدة من التعايش داخل المجال السكني ساهمت في رسم ملامحه أزمة السكن بدرجة كبيرة التي أصبحت تمس المنطقة كغيرها من مناطق الوطن، مما يجبرنا في الأخير على التساؤل عن حقيقة التركيبات الأسرية المتعددة. هل هي أنواع من التعاضد الأسري كتسيير لأزمة السكن أم هي اختيارات في هيكلة الأسرة تقود إلى رسم ملامح تركيبة أسرية جديدة في مدن الصحراء اليوم؟
الأوساط الاجتماعية المشكلة للمجال السكني والإقاماتي الواقع الاجتماعي يثبت أنها مجموعات اجتماعية بين التمايز والذوبان فيما بينها،بين الحشاشنة ذوي البشرة السوداء سكان الواحة الحضريين القدامى الذين عدد كبير من مجموع السكان في هذه المدن ، والبدو المتمدنين ، في إطار مدينية جديدة في مدن الصحراء اليوم ضمن مجال عمراني ذو منطق عمراني غير واضح المرامي، أصبح يتطور ضمن منطق متعدد يطبعه التقاطع بين المنطق الاجتماعي الهوياتي الذي يتخذ من الهيكلة الاجتماعية والأسرية الجديدة التي أعيد تشكيلها وصيغتها تجاوبا مع التحولات في إطار مجتمع وطني غالب دون فقدان الهيكلة الاجتماعية التقليدية والأصيلة المعبرة عن الهوية الاجتماعية، إن مؤسسة الزواج هي المعبر الرئيسي عن هذه الاستراتيجيات الاجتماعية والتشكلات الجديدة ، في مواجهة منطق مؤسساتي رسمي المطبوع بالنظرة " العصرانية"  التي لا تتكيف معها المجموعات الاجتماعية أو الأسر دون إعادة صياغتها على منوال التصورات والتمثلات الاجتماعية.
-      خلاصة
الخريطة العمرانية التي تتشكل في مدن الواحات التي هي مشروع عمراني مفتوح في طور الإنجاز، هي في الحقيقة الهيكل الذي يضم خريطة اجتماعية على شكله ومقاسه، السكان ليسوا مجرد أرقام في جداول يسكنون ، يتعلمون، يستهلكون، بل هم فاعلون نشطون من خلال ممارساتهم واستراتيجياتهم واحتلالهم للمجال هم يرسمون المدينة و يخططون لها ويقيمون التقسيمات والعلاقات بينهم ويبنون مساكنهم على صورة هوياتهم الاجتماعية والأسرية ويعيشون المدينة بتمثلاتهم، إن المعرفة الجيدة لهذا الواقع العمراني والاجتماعي في هذه المدن هو الذي سوف تحديد نوع المدينة المراد إنشاؤها في الجنوب.  حاضر ومستقبل الواحة في طور التشكل ملامحه النهائية لم ترتسم بعد، الحتمي هو ضرورة استعجال البحث المعمق بأدوات مناسبة لفهم هذه التحولات للإجابة على إشكالات ومعضلات تخص التنمية. إن التحولات المجالية  والاجتماعية التي تشهدها مدن الواحات هي تحولات عميقة، غيرت في فترة وجيزة نسبيا نسقا دام قرونا طويلة الممارسات المهنية الجديدة أعادت تصنيف المجموعات والنخب في هذه المنطقة، الحشاشنة تحولوا من فلاحين إلى وظائف وأنشطة جديدة سمحت بها ظروف الاندماج في المجتمع الوطني العام، أما البدو المتمدنين فقد كانت مراحل تمدنهم هي محطات اكتساب وظائف جديدة، هذه الوظائف والأنشطة ساهمت أيظا في التوزيع المجالي الجديد، المجموعات مستفيدة من الوضع التقليدي والتضامنات الاجتماعية والأسرية وتركيبها في شبكة فاعلة مع الوضع المادي للتمركز في المجال وتملكه بطريقة ليست محايدة هي الأخرى، إنها تعبير واضح ومتعمد عن الهويات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة في مدينة في طور الإنجاز لمجتمع في طور إعادة التشكل. 
الهوامش:

[1] تقرت: مقر دائرة، تمثل عاصمة إقليم وادي ريغ، 140000 ساكن، 640 كم جنوب شرق العاصمة الجزائر، من أهم مدن الصحراء الجزائرية ماضيا وحاضرا.
[2] بني جلاب: أسرة مرينية أصلها من فاس حكمت وادي ريغ منذ القرن السادس عشر حتى الاحتلال الفرنسي في 1854. اتخذت من تقرت عاصمة لحكمها.
[3]النز: في لغة أهل المنطقة هو صعود الماء الجوفي، نتيجة سوء تصريف المياه الزائدة عن حاجة الري. 
[4] أنصاف البدو نقصد بهم المجموعات التي تمارس الرعي وتربية الماشية إلى جانب زراعة النخيل غير المسقية في الأحواض المنخفضة وتعيش شبه استقرار أو التنقل في مساحات جغرافية محدودة.
قائمة المراجع:
 ابن خلدون عبد الرحمان  »كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر« الطبعة الثانية، بيروت 1921
  الدليل الإحصائي لولاية ورقلة 2001
1-       Capot REY «  le Sahara Français » PUF; 1953; Paris.
2-       Daniel DUBOST : la ville ; les paysans et le développement agricole au Sahara Algérien, in  Le nomade,L’oasis et la ville   Fascicule de recherche n°20 URBAMA, 1989, Tours
3-       FATHY Hassan,«Construire avec le peuple, histoire d’un village d’Egypte, Gorna»4 éd. Paris 1985.        
4-      Féraud (L.Ch) « Notes historiques sur la province de Constantine - les Ben – Djellab, sultans de Touggourt » in Revue africaine N° 23 1879.
5-       Jean BISSON : «  le chaanbi et le Hammam : Zelfana, boite noire de l’amagement au Sahara Algérien », in le nomade L’oasis et la ville, Fascicule de Recherche, n °20  URBAMA, 1989.
6-       Jean BISSON «  le nomade, L’oasis et la ville » URBAMA, n °20, 1989
7-       Léan Charles FERAUD « les Ben – Djellab, sultans de Touggourt _; Notes historiques sur la province de Constantine ; in Revue africaine N° 23. 1879.
8-       Marc COT: « Dynamique urbaine au Sahara » ; in Insaniyat  (Revue algérienne      d’anthropologie et sciences sociales)   n°05. Mai-Août 1998.
9-       Marc Cote La ville et le désert ; le Bas-Sahara algérien IREMAM  KARTHALA Paris 2005 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا