التسميات

الأربعاء، 16 أغسطس 2017

المدينة والمدنية في الحضارة العراقية القديمة : دراسة مقارنة في التكامل الحضاري للمدن العراقية القديمة ...


المدينة والمدنية في الحضارة العراقية القديمة 

دراسة مقارنة في التكامل الحضاري للمدن العراقية القديمة
م.م. أحمد لفته رهمه القصير
كلية الآداب قسم الآثار
القادسية للعلوم الإنسانية -  جامعة القادسية - المجلد 11 - العدد 1 - 2 - 2008 - ص ص 195 - 222 :
for humanities sciences al qadisiya-  Year: 2008 Volume: 11 Issue: 1-2 Pages: 195-222  Publisher: Al-Qadisiyah University


الخلاصة:
إن دراسة العلاقة الجدلية بين المدنية كنمط سلوكي تلقائي و بين المدينة العراقية القديمة و تطورها إلى حضارة اتسمت بالخلود على مر التاريخ من خلال التفاعل بين المدنية و المدينة،تقع على قدر كبير من الأهمية. وذلك لأن كلا المفهومين عملا على بلورة الإنسان العراقي القديم الذي إرتقى بالحضارة العراقية القديمة إلى مراتب لا تضاهيها أي من الحضارات المعاصرة أو المتزامنة في الظهور معها، و من هنا جاء استخدام الباحث للمنهج المقارن في بحثه.

وأن اكتساب العناصر والمقومات الحضارية من قبل أية مدينة لا يؤهلها لأن تخلق أو تكون مدنية تستطيع استثمار هذه  المقومات أو المكونات الحضارية من أجل إنشاء حضارة تكتسب الهوية الثقافية لهذه المدينة، بل أن ذلك ينحصر عندما ينجح الإنسان، العامل الأساس الثاني في نشوء الحضارات، في تقبله وتمثله والعمل على استغلاله لمصلحته من خلال التفاعل الايجابي معها (اكتساب ما هو نافع ورفض ما هو ضار). و يتوقف نجاح عملية الاستغلال هذه على نجاح عملية إعداد الإنسان الحضري في هذه المدينة سواء عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية أو عن طريق عملية التطبيع الاجتماعي (إعادة التنشئة الاجتماعيةلإحداث التغيرات الاجتماعية السلوكية في سلوكيات الأفراد الوافدين إلى هذه المدينة لأنها تشكل مركز استقطاب وجذب للسكان عن طريق عامل الهجرة والذي يعد من أهم وسائل الاتصال الحضاري بين الحضارات القديمة فضلاً عن  التجارة و الحروب.
وتتميز الحياة المدنية لهذا الإنسان بقدر تميز هذه المدنية باستيعاب الأفراد و المخترعات و العناصر الحضارية الاخرى و تمثلها و استغلالها لصالح الإنسان المديني وهذا ما فعلته الحضارة العراقية القديمة التي تميزت عن غيرها بالصفة المدنية التي أهلتها إلى إنشاء الحضارة والحفاظ عليها بل العمل على تطورها وجعلها منار على طول الزمن للحضارات الأخرى.اذ تميزت الحضارة العراقية القديمة بنمط منفرد ومتفرد من أنماط التطور والاستمرار فهي تعد الأقدم بين الحضارات البشريةفكانت البيئة بغناها والإنسان بالعمل الدؤوب لتسخير هذه البيئة أهم مكونات هذه الحضارة.
مقدمة:
يتفق معظم الباحثين في تاريخ الحضارات القديمة  على ان  التطور الذي شهدته الحضارة العراقية القديمة يقوم على عنصرين أساسيين هما البيئة والانسان، فالموقع الجغرافي والمناخ والتضاريس والموارد المائية (البيئة)لعبت دوراً اساسياً في توجيه النشاط الحضاري للإنسان (المدنيةفقد اكتسب عبر تاريخه مقومات التميز الحضاري البشري والثقافي مما ساعده على اكتساب هويته الثقافية (الحضريةاو المدنيةوالحضارية.
ان نشوء المدن القديمة على ضفاف الانهار او عند مصباتها يكاد يكون سمة مشتركة بين معظم المدن القديمة التي نشاءت فيها الحضارات القديمة الا ان العامل المميز لهذه المدن بعضها عن البعض الاخر هو الارتباط المباشر بين الحياة فيها و بين التغيرات الطبيعية التي تحدث لهذه الانهار. بل ان استمرارية الحضارة ذاتها جاء من هذا المنطلق الذي خلق نمطا من التحدي الطبيعي لحياة الانسان في صراعه مع الطبيعة من اجل البقاء فكانت الحياة المدنية لسكان المدن القديمة هي العامل الاساس في خلق الاستجابة المناسبة في التوقيت المناسب لتحد من التاثير السلبي للطبيعة المفرطة القوة لمعظم هذه الانهار، وبالتالي فأنها العامل الاساس في استمرار الحضارة في البقاء وتطورها من خلال التراكم المعرفي والتكامل الحضاري الذي يستند الى التنوع الهائل الذي تتضمنه المدينة ممثلا في تعقد نمطية التقسيم الاجتماعي للعمل بين المكونات الديموغرافية للمدينة و التي ارتبطت بعضها مع البعض الاخر من خلال الحياة المدنية.
ان اهمية البحث في دور المدنية العراقية القديمة في خلق نمط من التكامل الحضاري الذي يسر عملية استمرار الحضارة و تقدمها ياتي من اهمية التفريق بين ما تنتجه المدينة من حضارة استمرت في تمثيل التراكم المعرفي من اجل الرقي والتقدم، وبين ما يتميز به ساكني هذه المدينة من الانماط السلوكية التي تستند الى مجموعة من الانساق اوالنظم القيمية التي تمثل الحياة المدنية التي تعمل على استمرارية الحضارة وتطورها وهو ما نطلق عليهالمدنية"التي نشأت في أول بلد عرف الزراعة، وتدجين الحيوانات والتحول الى حياة الإستقرار والإستيطان ونشوء اولى القرى والمستوطنات الزراعية،واختراع اقدم وسيلة للتدوين والتوثيق في التاريخ(الكتابة)،فضلاً عن الابداع في تدوين اقدم الشرائع والقوانين التي حددت الحقوق و الواجبات لساكني هذه المدينة.
ويكتسب البحث اهميته الموضوعية، فضلاً عن فكرة المقارنة التي تطرق اليها الباحث ،وذلك من خلال اشتراك مجموعة المدن القديمة المتزامنة في نشوئها المتشابهة في بيئاتها و المختلفة في استمراريتها ودرجة رقيها وتقدمها الحضاري
يهدف البحث الى توضيح مجموعة من الاسس التي يرى الباحث اهميتها في تحقيق عملية التكامل الحضاري في الحضارة العراقية القديمة التي نشاءت مع نشوء المدينة و التي تميزت بالخصوصية الحضارية بتميز هذه المدينة بنمط من انماط الحياة المدنيةويمكن حصر اهداف البحث بالنقاط الاتية:
1-      بيان الاختلاف المفهومي بين المدنية والحضارة، اذ تمثل الاولى قمة الهرم لانها عبارة عن مجموعة من الانساق اوالنظم القيمية (المحددات السلوكيةالتي ميزت الانسان العراقي القديم. في حين تمثل الثانية قاعدته، اذ انها تشير الى مجموعة من المنجزات والمخترعات التي يستخدمها ساكني المدن في عميلة الاستجابة للتحديات البيئية التي تهدد كيان المدينة و بالتالي استمرارية الحضارة و تطورها ورقيها.
-2  استجلاء دور الخصائص الحضرية للمدينة العراقية القديمة في ابراز الشخصية الحضرية لهذه المدينة،حيث عملت هذه الخصائص على جذب السكان و تاهيلهم للحياة المدنية من خلال مجموعة من المدن التوابع0 اذ ان المدينة العراقية القديمة ولدت مدناً اصغر كانت عبارة عن مرشحات يتلقى فيها القادمين التدريب على السلوك الحضري (المدني).
-3 التأكيد على ان عالمية الحضارة التي نشات في المدينة العراقية القديمة تاتي من خلال ما تميزت به هذه المدينة من القدرة على الانتشار الحضاري فهي حالة اجتماعية تمتاز بارتقاء نسبي في الفنون والعلوم وتدبير المُلك.
-4  ان غنى الحياة المدنية في المدينة العراقية القديمة يعود الى ذلك التنوع الهائل في البنية الديموغرافية لهذه المدينة التي توحدت على اساس من ترابط المصالح وتعقد التقسيم الاجتماعي للعمل فضلاً عن تعقد التنظيم الاجتماعي الذي حدد نمط الاستجابة الحضارية الى مثل هذه التحديات باكتشاف القوانين و العديد من المخترعات التي قدمت للإنسانية السبيل الى التواصل كاختراع العجلة والكتابة وغيرها0

وهنا لابد لنا من تحديد او التعريف ببعض المفاهيم المهمة التي تتعلق بموضوع ومضمون البحث وعلى النحو الاتي:-
اولا: المدينة (City)
المدينة في اللغة العربية تعني"مكان الاقامة الدائمة او الاستقرار، فمدن بالمكان اي اقام به"وقد تشتق من الفعل "دينت اي ملكت"، لذا فالمدينة مكان اقامة الحاكم او المالكوربما تشتق من الفعل"دان اي حكم، وديان أي القاضي، فهي مكان اقامة الحاكم او القاضي"وتجمع على صيغة مدن أو مدائن.(1)
والمدينة باللغة الانكليزية (City)، وتعرف على انها "البلدة (Town) الأكبر أوالاهم"او "هي مجموعة من البلدات التي اتحدت حول مركز واحد"في حين تعرف البلدة على انها مركز الاستيطان الحضري الذي يكون اكبر من القرية واصغر من المدينة، وتقع في العادة على اطراف المدن واكبرها هو الذي يمثل المدينة او مركزها، اذ انها تشبه المدينة من الناحيتين التركيبية والوظيفية وتشبه القرية من ناحية الحجم وارتباطها المباشر او تبعيتها الى المدينة فهي تمثل الحالة الوسط بين القرية والمدينة بكل ما تعنيه الكلمة من معان مختلفة فهي وسط بين نقيضين.(2)
والمدينة من الناحية الوظيفية تقع على النقيض من القرية على الرغم من ان كلاهما يمثلان الاستقرار باللغة العربيةالا ان الفارق الاساس بين الحالتين هو ارتباط الانسان بالارض في حالة القرية وارتباطه بالمهنة في حالة المدينة.(3)
ان المدينة ظاهرة حضارية حضرية (مدنيةميزت المجتمعات البشرية الاولى فقد كانت العامل المميز لانتقال الانسان من طور البربرية والوحشية الى التمدن والحضارةوعلى الرغم من ان علماء الانثروبولوجيا يرون ان المدينة القديمة لا تشبه في تكوينها المدينة المعاصرة، لكونها عبارة عن تجمعات حضرية على حد تعبيرهم، لعدم قدرتها على التعامل مع المشكلات الاجتماعية للمدن الذي يعد من السمات الحضارية للمدينة، واهمها مشكلة العلاقة بين المركز والاطراف، التي تعد المرشحات الاجتماعية للاعداد الاجتماعي للافراد الوافدين للتعامل مع حياة المدينة، اذ تشكل هذه الاطراف بؤرة المشاكل الاجتماعية في المدينة التي تقل كلما اتجهنا نحو المركز وتزداد الاعمال التجارية والصناعية البعيدة عن الانتاج الزراعي بنفس الاتجاه.(4) الا ان الباحث يختلف مع هذا التوجه في موضوعة بحثه وهي ان المدينة العراقية القديمة تميزت بهذه الصفة الحضارية فكان ان ولدت المدن مدنا جديدة على أطرافها كانت تعمل كمرشحات لساكني المدينة المركزاو بتعبير ادق هي اماكن الاعداد الاجتماعي للوافدين الجدد الى المدينة.
ويصنف الباحثون الجغرافيون عدة مراحل لنشوء المدن تبدا بمرحلة الظهور على شكل مستوطنة ومن ثم تتوسع نتيجة زيادة استعمالات الارض للاغراض غير الزراعية (الدينية او الصناعية او التجاريةفضلا عن اقامة وحدة معمارية تؤدي دور النواة المركزية للمدينة.(5)
ومن هنا يرى الباحث ان المدينة تبدا على شكل بلدة او مستوطنة حضرية ثم تدخل في المرحلة الثانية وهي مرحلة النمو الذي يكون في اغلب الاحيان عن طريق نمو السكان بدافع الهجرة فضلاً عن النمو الطبيعي فيها.
الامر الذي يتطلب التوسع في التقسيم الاجتماعي للعمل من خلال المؤسسات الادارية لتنظيم الحياة الاجتماعية للسكان الذين اصبحوا يفتقدون الى التجانس نتيجة تعدد اصولهم الاثنولوجية الذي تخلقه الهجرة لتصل بذلك الى مرحلة النضج التي تتمثل في الاتساع الافقي (الجغرافي للمدينة والاتساع العمودي الذي يمثله التعقد في تقسيم العمل والتنظيم الاجتماعي بسبب تعقد هيكلية بناء المدينة وزيادة الحاجة الى الخدمات وزيادة الكفاءة الوظيفية للعاملين في هذه النشاطاتلتصل بذلك عند اكمال هذه المتطلبات الى مرحلة النضج التي تتمثل في اكتساب المدينة الاهمية المركزية بين البلدات المحيطة بها او على الاقل القريبة منها لتشكل هذه البلدات بالتالي اطرافا لهذه المدينة وعند هذه الحالة لا بد ان يرقى التنظيم الاجتماعي فيها الى كل ما يضمن سلامة الحياة الاجتماعية (الاستقرار والاستمرارفضلا عن زيادة كفاءة الاستعمالات العامة للارض نتيجة ارتفاع الكثافة السكانية في المدينة.(6)
اما اهم العوامل الرئيسية لنشوء المدن فهي العامل الطبيعي والذي يتمثل في الموقع (الاستراتيجي) من حيث دوره وكفاءته في تحقيق الكفاية او الوفرة الانتاجية للغذاء وتوافر مصادر المياه لذلك نشات المدن القديمة على ضفاف الانهار او عند مصباتها. ويلعب العامل الثاني الا وهو العامل الديني دورا مهما في نشوء المدن وتطورها في معظم الاحيان، فقد كان العامل المميز للمدن القديمة اذ يحتل المعبد الرئيسي مركز المدينة في معظم الاحوال الا ان السمة الدينية لا تغلب على معظم هذه المدن نتيجة اضطلاعها بالوظائف المهمة التي قد تتساوى في بعض الاحيان مع الاهمية الدينيةوالعامل الثالث في نشوء المدن هو العامل العسكري من ناحية الدفاع عن المدينة فغالبا ما يتم اختيار مواقع المدن قرب الموانع الطبيعية لتسهيل عملية الدفاع عنها وبالتالي استمراريتها في البقاءويلعب العامل الخامس الادراي والسياسي اهمية بالغة في نشوء المدن الذي  يتناسب مع اهميتها وكبر حجمها ومركزيتها بين المدن المحيطة او البلدات فتمثل بذلك عاصمة لدولة المدينة في حالة المدن القديمة موضوع البحثاما بالنسبة الى العامل الاقتصادي الذي يطغى عليه النشاط التجاري فأنه يمثل العامل السادس في نشوء المدن، فضلاً عن تعدد النشاطات الانتاجية التي تعتمد على التجارة في استمراريتها حتى في حالة الاقتصاد الزراعي للمدينة. وأخيرا العامل السابع وهو العامل الاجتماعي، اذ تلعب الهجرة الدور الاساس في نشوء المدن وتطورها لانها تشكل عوامل جذب للسكان نظرا لوجود الخدمات وتعدد فرص العمل فتتركز اهمية هذا العامل على قدرة المدينة على استيعاب الوافدين الجدد وقدرتها على تهيئتهم للحياة الحضرية وبالتالي قدرتها على الحفاظ على الهوية الثقافية للمدينة من خلال تطبيعهم على الحياة الحضرية او المدنية بتزويدهم او تدريبهم بالقدرة على تقبل القيم الحضرية بدلا من القيم الاصلية للمهاجرين الامر الذي يتيح لهم التعايش و التفاعل الاجتماعي الايجابي داخل المدينة.(7)
ومن العرض السابق يجد الباحث ان المدينة العراقية القديمة اقرب ما تكون الى المدينة الحضارية المعاصرة من ناحية البناء والوظيفة وان تميزها ياتي من اشتمالها على جميع او معظم سمات المدينة الحضارية ناهيك عن انها اثبتت وجودها من خلال العبقرية الحضارية التي ميزتها بتفرد عن غيرها من المدن القديمة المعاصرة لها.

ثانيا المدنية (Civilization)
لقد اختلف الباحثون في تحديد مفهوم المدنية (Civilization) كما اختلفوا في تحديد مفهوم الحضارة (Civilization)، او التمييز بين مفهومي الحضارة والثقافة (Culture)0 فالمدنية في اللغة العربية تاتي من الجذر"مدن اي استقر وسكن عن الترحال".(8)
اما في اللغة الانكليزية فالمدنية تعني (Civilization) والتي تترجم الى الحضارة في بعض الاحيان،كما تشير الى "الحضرية او التحضر"0 والتي تعني مجموعة السمات الشخصية الاجتماعية العامة التي تميز ساكني المدن او الحواضر عن غيرهم من ساكني الارياف البعيدة عن المدينة أو البوادي.(9) وتقوم هذه السمات على مجموعة القيم الاجتماعية التي يتمثلها الافراد نتيجة عملية التنشئة الاجتماعية التي يمرون بها من الولادة حتى الممات.(10) اذ ان علماء الاجتماع يرون ان كل المخترعات الانسانية تاتي بقيم جديدة الى المجتمع وبالتالي فان عملية تحديد اتجاه وسرعة التغير الاجتماعي يقوم على اساس من عملية تقبل القيم الجديدة وتمثلها في الحياة الحضرية (تقبل التغير الاجتماعي).(11) الامر الذي يخلق نمطا من التوافق والتزامن بين عملية التقدم العلمي والتكنولوجي (التطور في الجوانب المادية للحضارةحتى وان كان بمعناه البسيط وبين التقدم والتطور الثقافي في المجتمعات مما يسهل عملية التخلص من النتائج العرضية للتخلف الثقافي نتيجة اختلاف سرعة التغير في جانبي الحضارة المادية والمعنوية وانعدام القدرة على تقبل القيم التي تاتي بها المخترعات، إذ إن ذلك يخلق نمط من الهوة بين التقدم العلمي والتكنولوجي وبين التقدم الثقافي خصوصا في المجتمعات التي يقل فيها الاختراع بل تعمل على استيراد المخترعات الجاهزة من المجتمعات الأخرى كما هو حاصل اليوم مع مجتمعاتنا العربية والإسلامية والمجتمع العراقي منها بشكل خاص.(12) 
ويذهب البعض الى ابعد من ذلك في تفسير المدنية فيفسرونها على انها الرقي الحضاري للحضارة بين الحضارات المعاصرة من حيث قدرتها على  الحفاظ على مركز الصدارة في التقدم والتطور والعمل على زيادة سرعتهما والتحديد المسبق لاتجاههمافيرون ان المدنية هي مجموعة القيم التي ترقى بالانسان الى مستوى الانسانية الذي يحلم به والابتعاد عن الشيفونية والنرجسية التي تعمل على غلق المجتمعات.(13)
والامر الذي يحد من عملية الانتشار الحضاري بين الحضارات المتعددة الذي لا يختلف فيه اثنان هو ان جميع الحضارات الانسانية لا بد ان تقوم وتتطور على اساس من عملية الانتشار الحضاري (التفاعل مع الحضارات الاخرى فتكتسب منها وتصدر اليهاالتي يعززها التفاعل الحضاري الايجابي في تقبل ما هو نافع وطرح او لفظ ما هو ضار او يتنافى مع القيم الثقافية والاجتماعية العامة في المجتمع والذي يخلق بالتالي نمط من المقاومة للقيم الحضارية والثقافية الوافدة او الجديدة او بمعنى ادق مقاومة التغير الاجتماعي الايجابي و بالتالي تخلف المجتمعات.(14) في حين تميزت الحضارة العراقية القديمة بنمط منفرد ومتفرد من انماط التطور والاستمرار فهي تعد الاقدم بين الحضارات البشريةفكانت البيئة بغناها والانسان بالعمل الدؤوب لتسخير هذه البيئة اهم مميزات هذه الحضارة    
وكما اشرنا سابقاً،فالمدينة (التي تعني في اللغة العربية المكان الذي يقطنه ساكني الحواضر ويستقرون فيه استقرارا دائمياكموقع جغرافي تكتسب اهميتها التاريخية من المكونات الديموغرافية لهذه المدينة التي هي عبارة عن تجمع غير متجانس من السكان تسود بينهم نمط العلاقات الاجتماعية الثانوية في اغلب الاحيان وزيادة ملحوظة في التقسيم الاجتماعي للعمل و التخصص فيه الامر الذي يضطرهم باللجوء إلى التنظيمات الاجتماعية الرسمية المتمثلة بالقوانين والنظم الادارية التي تؤمن الاستقرار الذي يشكل العامل الاساس في تقدم وازدهار الحضارة.(15)
يتميز هذا التجمع(المدينة) بكبر الحجم الجغرافي والديموغرافي النسبي الامر الذي يتطلب نمطا ادق من التخصص في العمل. كما ان كبر الحجم الديموغرافي يؤدي الى اثارة التفكير من خلال تعدد الاراء وتبادلها بين ساكني المدينة ومن ثم تنمية الفكر خصوصا اذا ما رافق ذلك نموا في المعرفة الانسانية عن طريق الاستفادة من الخبرات والمواهب التي يمتلكها ساكني المدينة او تلك التي يكتسبونها عن غيرهم من الحضارات الاخرى على مدى تاريخهاوالتي  يزداد تأثيرها في الحياة الاجتماعية وفي تحديد اتجاه وسرعة التقدم والتطور الذي تحضى به هذه المدينة نتيجة التدوين الذي يسهل عملية نقل الخبرات بين الاجيال.(16)
وهنا لا نجد بدا من الاشارة الى ان مميزات المدينة في العراق القديم انحصرت في الموقع الجغرافي الذي امن لها نوعا من الوفرة الاقتصادية التي ساعدت على انتاج كميات كبيرة من الطعام تكفي ساكني المدن مهما كبر حجمها من غير العاملين في الزراعة فضلاً عن ان نمط التحديات الطبيعية التي تمثلت في فيضانات نهري دجلة و الفرات التي تمكن ساكني هذه المدن من السيطرة عليها من خلال انشاء السدود التي تقيهم خطر الفيضان والترع والجداول التي تساعدهم على توجيه المياه نحو تطوير الزراعة و تحقيق الوفرة الانتاجية او زيادة انتاج الطعام عن حاجة اهل المدينة و بالتالي نشوء نمط من التجارة و الاحتكاك مع الحضارات الاخرى مما تطلب التفكير في تسهيل عملية نقل البضائع بهدف تحقيق اهداف التجار خصوصا اذا علمنا ان العديد من البضائع الزراعية سريعة التلفو بالتالي يحدث الاتصال الحضاريوهذا ما يشير اليه المؤرخ والباحث اندرويونك على انه ذلك الخليط الرافديني الذي لا يمكن ان تفرز عناصره (الانسان والطبيعةيمثل هذا التفاعل الفعال و الايجابي السلوك المديني الذي تميزت به الحضارة في العراق القديموالتي خلقت هذا النمط من التعايش بين الانسان و الطبيعة الى حد خلق عبقرية حضارية مثلت واحدة من ابرز الممارسات الحضارية الابداعية حتى بمقاييس الألف الثالثة بعد الميلاد اي بعد مرور ما لا يقل عن تسعة الاف سنة من عمر هذه الحضارة.(17)    
وعلى ضوء ماتقدم، يعرف الباحث المدنية على انها مجموعة القيم الاجتماعية الثقافية التي مكنت السكان من استيلاد مدنية الري القديمة ومن الحفاظ على نمط وسرعة التقدم والتطور الذي ميز هذه الحضارات بعضها عن البعض الاخر في مستوى الرقي الحضاري.

المدينة العراقية القديمة والمدن المعاصرة
تعد المدينة العراقية القديمة من بين أولى المدن القديمة التي نشأت على ضفاف الانهار اوعند مصباتهااذ يمتد عمر المدينة العراقية القديمة الى منتصف الالف الرابع قبل الميلاد بصفتها الحاضنة الحضرية و الحضارية التي ظهرت في جنوب حوض الرافدين قرب قصبة بالذات (بلاد سومر)والتي تنطبق عليها الخصائص الحضرية للمدينة المعاصرة من حيث كبر الحجم الجغرافي والتنوع الديموغرافي للسكان و قدرتها على تامين عيشها من خلال الوفرة في الانتاج الزراعي للاراضي التابعة لها، فضلاً عن بروز الشخصية الحضرية المميزة لها التي تعد من اهم عوامل جذب السكان اليها. فضلاً عن قيامها بإضفاء السمة الحضرية على الوافدين اليها و إذابتهم او دمجهم في مجتمع المدينة الذي يتيح لهم التعايش و التفاعل الاجتماعي الايجابي الذي يحقق الأهداف الفردية و الاجتماعية على حد سواء.(18)
ويشير بعض الباحثين الى ان الزراعة نشأت في شمال العراق القديم على شكل مستوطنات يمكن تسميتها بالقرى.إلا ان وعورة الأرض، و الاعتماد المباشر على الأمطار، و محدودية ضمانة الانتاج الزراعي الغذائي هو العامل الاساس في تحديد حجم هذه القرى و عدم تطورها الى مدن الا في وقت لا حق بعد ان تم اكتشاف وسائل الري و الحفاظ على المزروعات من الفيضان او الجفاف نتيجة شحة الامطار.فنمت تلك القرى بالتدريج ثم اصبحت مدناً.(19) 
لقد كانت عبقرية السومريين،اذن،ودأبهم على العمل،وقواهم الخلاقة المبدعة،هي العوامل الحاسمة التي جعلت من جنوب العراق مهداً لأولى المدنيات القديمة وينبوعاً من ينابيع العلم والمعرفة في العالم القديم .(20) وهكذا فقد تجاوز جنوب بلاد الرافدين نمط التنظيم الاجتماعي الريفي الى نمط التنظيم الاجتماعي المدني الذي يقدم ظروفاً افضل لانعاش الاعمال الفنية وازدهار التقدم التقني.كما ان العوامل الجغرافية، التي جعلت ظروف المعيشة اكثر صعوبة في الشمال عنها في الجنوب،ساعدت هي الاخرى في جعل الاخير اكثر تحضراً.ولم تقتصر هذه الظاهرة التاريخية على ارض بلاد الرافدين فحسب حيث يشاهد ان الحضارات القديمة في مصر والهند والصين قد ولدت هي الاخرى في احضان الوديان العريضة الدافئة وتأسست كذلك على الري النهري.(21)
وهنا لا نجد بدا من الاشارة الى الاساس الانساني لنشوء المدن والذي يمكن ان نطلق عليه اساس  نشوء المدنيات او مدنيات الري القديمة التي ظهرت على طول ضفاف الانهار او عند مصباتها. فعلى الرغم من التشابه بين عوامل نشوء هذه المدن الا ان هنالك نمطا من الاختلاف النوعي تمثل في السبق الزمني الذي حققته هذه المدن في تكامل ولادة المدينة كبنية حضارية اي (كمدنية).(22)
ومما يجدر ذكره في هذا المجال تزامن ولادة المدينة العراقية القديمة في بلاد الرافدين (Mesopotamia) التي مثلت المهد الاول لارقى الحضارات الانسانية مع نشوء العديد من المدن على ضفاف الانهار او عند مصباتها مما دفع الباحثين الى وسمها بسمة "مدنيات الري القديمة"، مثل مدن وادي النيل ( Nile valley) التي وسمت بانها "مدن متريفة"ومدن أمريكا الوسطى (Mesoamerica) التي وسمت بانها من "المدن الدينية"والمدينة الصينية القديمة في وادي النهرالاصفر(Hung ho) التي وسمت بانها من "المدن المعزولة".(23)
وهنا يبرز التساؤل الذي لابد من الاجابة عليه. وهو كيف نشات مدنيات الري القديمة؟ (موضوع البحث). وللإجابة على هذا التساؤل يرى الباحث ان هذه المدنيات الخمس نشأت نتيجة الية ما يسمى "قانون التحدي والاستجابة" الذي يحكم نشوء الحضارات الانسانية والذي وضعه ارنولد توينبيالا ان التمايز النوعي في بروز هذه الحضارات يقوم على الانتظام الدقيق الذي يحكم هذه الآلية. فتوقيت الاستجابة وحجمها كانا هما العاملان الاساسيان في استمرارية المدنية العراقية القديمة وتميزها. فعلى الرغم من ان مدنيات الري المذكورة انفا استطاعت ان تحصر هذه الاستجابات في تحقيق الهدف الذي يتمثل في نشوء المدنية الا انها فشلت في توقيت الاستجابة الذي يعمل على استمراريتها و بروزها النوعي بين المدنيات المعاصرة او المتزامنة وهذا يعود الى طبيعة الفعل الإنساني في الاستجابة.(24) 
لقد وقع اختيار الباحث على مدينة اور التاريخية(انموذجاً) لكونها من بين اقدم المدن العراقية في الجنوب التي يمكن ان تنطبق عليها السمات الحضارية للمدينة (المدنية) كما سيتم توضيح ذلك لاحق. فكانت مدينة اور من المدنيات العراقية القديمة التي قدمت الى الانسانية الشيء الكثير على الرغم من انها استلهمت وتمثلت فيها العديد من العناصر الحضارية للحضارات المعاصرة المجاورة لها و البعيدة عنها،وذلك عن طريق استثمار ظاهرة الانتشار الحضاري او الثقافي الذي يتم عبر الاتصال و التواصل الذي تتيحه التجارة التي ازدهرت في العراق القديم نتيجة ما ينعم به اهل المدن من الرخاء الاقتصادي وغيرها من العوامل الاخرى التي ساعدت على ازدهار التجارة والاقتصاد في مدن العراق القديم.
وارتأى الباحث هنا تقديم نبذة تاريخية واثارية موجزة عن موقع مدينة اور  واهميتها التاريخيةراذ تقع مدينة اور على مسافة(17كم)جنوب غرب مدينة الناصرية(مركز محافظة ذي قار)،وعلى مسافة(360كم)جنوب شرق العاصمة بغدادوتجاورها محطة القطار المعروفة بـ(مفرق اور)في الناصريةوتقع اور كذلك الى الجنوب من مدينة السماوة (مركز محافظة المثنى)بمسافة(105كم)،وجنوب غرب الكوت(مركز محافظة واسط)بحدود(109كم).(25)
وينتشر حول مدينة اور عدد من المواقع الاثرية المهمة والقريبة منها خاصة اريدو (ابوشهرين)،جنوبي المدينة بمسافة(30كم)،وتل العبيد الواقع الى الشمال الشرقي من اور على مسافة(6كم)،وتلول الصخيري شمالي المدينة بمسافة(12كم)،وموقع دكدكه شمالي شرقي المدينة بحوالي(2.5كم)0(26)(ينظر خريطةرقم-2-)0
لقد كان لأور مركز استراتيجي وموقع مهم ادى الى اختيارها عاصمة مزدهرة0فقد نشأت هذه المدينة جنب طرق المواصلات التي تجتاز الصحراء الواقعة وراءها،وفي وسطها منطقة زراعية خصبة وافرة المياه0وقد ربطها نهر الفرات بمدن العراق الداخلية،وكان لقربها من الخليج العربي واتصالها به اثر كبير في ارتباطها بالعالم الخارجي0(27) اذ تشير النصوص الكتابية القديمة الى ان مدينة اور كانت بالقرب من البحر- (أي الخليج العربي)في زمن سلالة اور الثالثة(2113- 2006ق0م)،بينما هي تبعد عنه اليوم بأكثر من(200كم)0(28) ويعتقد ان نهر الفرات كان يجري بجوارها،اما اليوم فتبعد عنه غرباً بحوالي(12كم)0(29)وكان مجرى الفرات القديم يحيط بمدينة اور من الشمال والغرب الى جانب قناة عريضة قد حفرت على بعد(45م)من اسفل او قدم السور الشرقي0ولذلك صارت اور محاطة بخندق من الجوانب الثلاثة ولا يمكن دخول المدينة ارضاً الا من الجنوب0اما السور الثاني ذوالطلعات الضخمة فكان يحيط بالمنطقة المقدسة في جزء المدينة الشمالي الغربي0(30)(ينظر شكل رقم-2-)0
تشغل مدينة اور مساحة واسعة تقدر بنحو(5×1.5كم)،علماً ان اغلب هذه المساحة كانت رياضاً(بساتين)خارج المدينة نفسها، وبلغت المساحة المسكونة من المدينة نحو(1200×700م)يحيط بها سور ضخم مشيد باللبن،والسور بيضوي الشكل يتسع من الشمال الغربي نحو الجنوب الشرقي مع وجه خارجي ينحدر بشدة،وكان القسم الاعلى حاجزاً امام جانب التل الذي شكل المدينة القديمة0(31) ويعود تاريخ الاستيطان في المدينة الى عصر العبيد المتأخر في الالف الرابع قبل الميلاد0(32)
وتعرف مدينة اور عند السومرين بـ"اوري"او"اوريم" (URI2/URIM2)0(33)وقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس(العهد القديم – التوراة في سفر التكوين الاصحاح الحادي عشر)بأسم "اور الكلدية" ((فخرجوا معاً من اور الكلدية  ليذهبوا الى ارض كنعان))0(34) و"اور التوراةكما يسميها بعض الباحثين0(35) ويعتقد البعض ان هناك علاقة بين مدينة اور والنبي ابراهيم الخليل(ع)اضفت عليها طابع القدسية،وعادة ما يطلق عليها"المدينة المقدسة"0فقد ولد نبي الله ابراهيم(ع)في مدينة اور التي تعد مسقط رأسه اذ خرج منها اول رجل على الارض يعترف بوحدانية(اللهسبحانه وتعالى0كما ان نبي الله ابراهيم قد اتخذ مدينة اور مركزاً ومستقراً له قبل ان يخرج منها،حيث يشير النص:
((انت هو الرب الإله الذي اخترت ابرام واخرجته من اور الكلدية وجعلت اسمه ابراهيم))0(36)
كما ورد ذكرها عند المؤرخين العرب (الطبري،ابن الاثير،المسعودي)في مؤلفاتهم(الكامل،تاريخ الامم والملوك،ومروج الذهب)،منها((اور،وقمرينه(مدينة القمر)،وذوالقار))وذلك لكثرة استعمال مادة القار في ابنيتها،وتعرف محلياً بأسم ((المقير))والتي تعني التل المطلي بالقير0(37)
تعد اور الحاضرة السومرية التي احتلت مركزاً بارزاً في تاريخ الانسانية وكان لها دور بارز في تثبيت مفاهيم المدنية والمدينة نتيجة التفاعل بين الطبيعة والانسان0واستناداً الى اثبات الملوك السومرية كانت اور مركز لسلالتين حكمتا خلال عصر فجر السلالات (2800-2371ق.م)ثم صارت قاعدة لحكم سلالة اور الثالثة(2113-2006ق.م)0(38)
نقبت المدينة من قبل المنقبين الاوائل وفي مقدمتهم وليم لوفتس الذي زارها مع جماعة من الاتراك في عام(1850م)،ثم تنقيبات المتحف البريطاني برئاسة كامبل تومبسون ثم دكتور هوك وذلك في عام(1918-1919م)،ثم بعثة مشتركة من جامعة بنسلفانيا والمتحف البريطاني برئاسة السير ليونارد وولي وذلك في عام 1922م وحتى عام 1934م0(39) ( ينظر شكل رقم -1-) .
ومن اهم ما كشف عنه هي المقبرة الملكية التي تعود الى عصر فجر السلالات الثالث (2600-2371ق.م)،ولهذه المقابر اهمية كبيرة من النواحي المعمارية والفنية والعقائدية0وتقع هذه المقابر في الجزء الوسطي من المدينة وهي محاطة بسور يسمى "التيمنوس"ويعني"الجدار المقدس"والذي يعزلها عن باقي اقسام المدينة،وقد عثر داخل هذه القبور على ادوات ثمينة مصنوعة من الذهب ومزينة بالاحجار الكريمة0(40)
لقد ساهمت النتائج التي اظهرتها تنقيبات السير ليونارد وولي في شهرتها حيث اظهرت هذه التنقيبات عظمة الانسان السومري،وما وصل اليه من التطور العمراني الذي يتمثل في البرج المدرج،وبناء المعابد،والقصور،وما وصل اليه من النحت وصناعة الفخار من تطور ودقة0وكذلك اظهرت الرقم الطينية مدى التطور الفكري عند السومريين في شتى مجالات العلم والمعرفة في الادب والعلوم والفلك والرياضيات،فضلاً عن الفكر الديني وقدسية المدينة0اذ تعد مدينة اور مركزاً دينياً مقدساً في العراق القديم حيث عبد فيها الالهة الرئيسية مثل الاله سن(اله القمر)،والاله انو(اله السماء)،والاله انكي(اله الماء)،والالهة ننكال زوجة اله القمر0(41)
وتحيط بمدينة اور ثقافات متعددة منها:-
-         ثقافة الاهوار وتتمثل في مدينة سوق الشيوخ والجبايش المطلة على هور الحمار،حيث يبعد سوق الشيوخ عن مدينة اور(40كم)جنوب مدينة اور،وعن مدينة الجبايش(80كم)الى الجنوب الشرقي0
-         ثقافة البادية المطلة او المتمثلة بمدينة البطحاء،وتبعد الى الشمال من مدينة اور بحدود (38كم)0
-         ثقافة الريف والمجتمع الزراعي المتمثلة في مدينة الشطرة والرفاعي،اللذان يبعدان الى الشمال من مدينة اور بحدود (70كم)0(42)
وهكذا تمثل هذه الثقافات الثلاثة"الثقافة التراثية والفلكلورية"للمجتمع المحيط بمدينة اور0

اما المدن المعاصرة لمدينة اور او تلك التي ظهرت في فترات زمنية متقاربة معها وشكلت علامة بارزة في التاريخ الانساني القديم فقد وقع اختيار الباحث على ثلاثة مدن مثلت المراكز الحضرية لحضارات تتزامن مع الحضارة العراقية القديمةوهي كالاتي :-
1-      مدن وادي النيل (الحضارة المصرية القديمة)
وهي مجموعة من المستوطنات الحضرية التي ظهرت على طول الشريط الاخضر الموازي لنهر النيل من شلالاته الى مصبه في البحر المتوسط تحيط بها الصحاري من الجانبين الشرقي والغربي(ينظر خريطة رقم -3-)0لذا وسمت هذه الحضارة على انها "حضارة قرية"، اذ تقوم عملية التواصل بين هذه المستوطنات على اساس من جمع الغلال الزراعية و اعادة توزيعهااذ تاثر النمط الحضري المصري القديم بالنمط القروي السائد الامر الذي اضفى صفة التريف على المدنية المصرية القديمة و بالتالي طبع الحضارة المصرية بطابع "حضارة القرية".(43)  
2-      مدن امريكا الوسطى او اللاتينية
انحصرت السمة الحضرية والحضارية في امريكا الوسطى في مدينتين هما (الانكا و الازتك)0 ونتيجة لغياب المدنية الفاعلة على غرار المدنية العراقية القديمة التي تعمل على نشر منجزاتها الحضارية في العالم الذي تتواصل معه نتيجة وقوع هذه المدنية بين حضارة هندية بسيطة في الشمال والتجمعات البدائية في الجنوب (ينظر خريطة رقم -4-)،الامر الذي اعاق عملية الانتشار الحضاري لهذه الحضارة الذي يعد من اهم وسائل تطورها و ديمومتهافانحصرت الوظيفة الاجتماعية لهذه المدنية بالوظيفة الدينية التي اعتمدت بالدرجة الاساس على وجود الشواهد والنصب المعمارية ذات المكانة الدينية كقبور الملوك المتمثلة بالاهرامات التي تكررت بكلتا المدينتين الامر الذي دفع ببعض الباحثين ومنهم الباحث الاجتماعي متعب مناف في "مدينتنا و العولمةالى عدها "مدنية مستنسخة" من الحضارة المصرية القديمة بافتراضه وجود نمط من التواصل والاتصال بين هاتين المدنيتينويعلل هذه السمة الاستنساخية بافتقار هذه المدنية الى العامل الانساني لذا فقد استوردت هذه الحضارة من الحضارة المصرية القديمة.(44)
3-      مدن وادي النهر الاصفر(هوانغ هو،مهد الحضارة الصينية القديمة) 
لقد كان لشدة تاثير فعل الطبيعة من خلال تطرف النهر الاصفرالاسفل في طبيعة التغيرات الطبيعية التي تطرأ عليه فيضانا او جفافا(ينظر خريطة رقم -5-)، فضلاً عن قدرة عالية على الترسيب التي اعاقت الى حد كبير عمليات الري المطلوبة لتامين الفائض الغذائي لسكنة هذه المدنية او المدينة هو الذي حال دون استمرارها أو تميزها بين مدنيات الري القديمة0 فتكرار هذه الحوادث التي تميزت بعنف النهر و فيضاناته ادى الى اختفاء المستوطنات الحضرية التي ظهرت على جانبي النهر من موسم لاخر و بالتالي تقطع عملية التواصل الحضاري الزمني في المدنية الصينية القديمة الامر الذي حال بشكل او باخر من تراكم الخبرات البشرية لافراد هذه المدنية على غرار ما حصل في المدنية العراقية القديمة و التركيز على تحويل هذه المستوطنات الحضرية الى مجموعة من القرى والبلدات والمدن الصغيرة التي كانت مهددة بالفقر الذي وقف حائلا دون تحقيق التكامل الحضاري لهذه المدن.(45)
وهنا لايجد الباحث بدا من الاشارة الى ان فيضانات نهر النيل وقدرته على الترسيب بالنسبة الى نهري دجلة والفرات التي تفوق قدرة نهر النيل بخمسة اضعاف تم التغلب عليها من خلال انشاء السدود والسواقي التي عملت على توجيه الانتاج الزراعي الى مناطق بعيدة عن التاثير المدمر للفيضان0ناهيك عن خصوبة الارض وارتفاع مناسيب النهر الذي يتيح امكانية الري في حالات الجفاف او شحة المياه الأمر الذي اوجد استمرارية في تأمين الغذاء                                                                                                                  لساكني المدينة العراقية القديمة على خلاف ما حصل مع المدينة الصينية القديمة0 الا ان تميز هذه المدينة العراقية القديمة يقوم كفاءة الانسان العراقي وقدرته على التعامل مع الطبيعة وضغوطها الذي اهله الى تكيفها لصالحه فحولت الماء من الفيضان و التخريب الى الري و الرخاء.               

دور التكامل الثقافي والحضاري في تكوين المدنية العراقية القديمة
الثقافة هي مجموعة الأفعال التي يرتكبها الإنسان من اجل اكتساب المهارة والحذق والخبرات الإنسانية سواء عن طريق ما يمتلكه الفرد من مواهب أو ملكات فطرية وهذا ما يراه ((بن منظور في لسان العرب))0 أو عنطريق التنشئة الاجتماعية والتعلم وهذا مايراه ((الزمخشري))0 على الرغم من أن كلاهما يتفقان على أن الثقافة هي اكتساب الخبرات والمهارات الإنسانية وتعلمها والحذق فيها وأجادتها.(46)
أما معجم اوكسفورد فيشير إلى أن أول استخدام للمصطلح (Culture) جرى في أوائل القرن التاسع عشر عام (1805م) ليشير إلى المكاسب العقلية والفنية والأدبيةوفي هذا المعنى استخدم فولتير(اديب الثورة الفرنسية)وأقرانه المصطلح (Culture).(47)
وعرفها ادوارد تايلور بانها (ذلك الكيان المعقد الذي يضم المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والقوانين والعادات وجميع القدرات والتقاليد الأخرى التي يكتسبها الإنسان بصفته عضوا في مجتمع).(48)
ومع بداية الاتصال الفكري والمعرفي بين المجتمع العربي الإسلامي والمجتمعات الأوربية انتقل المصطلح (Culture) إلى القاموس العربي ليشير إلى لفظ ثقافة فكان سلامة موسى أول من استخدم لفظة ثقافة مقابل المصطلح (Culture) متأثرا بالمدرسة الألمانية0 وقد عرف الثقافة على أنها (المعارف والعلوم والآداب والفنون التي يتعلمها الناس ويتثقفون بها). وميز بين الثقافة المتعلقة بالأمور الذهنية (Culture) والثقافة المتعلقة بالأمور المادية (Civilization) وينطوي التعريف العربي على نفس المضمون الأوربي.(49) في حين نجد ان ترجمة مصطلح (Culture) إلى حضارة، هو اتجاه محدود برز في كتابات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيين العرب في ترجمتهم للمؤلفات الأوربية في هذين المجالين العلميين وبالمقابل ترجموا لفظة (Civilization) إلى مدنية.(50)
اما التكامل الثقافي( Cultural integration)  فيشير الى عملية الدراسة بين عناصر الثقافة من اجل بيان كيف انها تكون وحدة ثقافية متكاملةوتذهب الباحثة الاجتماعية (روث بندكت) الى ان الثقافة المتكاملة ((هي تلك الثقافة التي تؤدي الاغراض المرسومة لها والتي يكون الفكر والعمل فيها في تناسق تام))0 فالتكامل الثقافي يحقق التناسق التام بين الفكر والعمل، فضلاً عن انها تساعد على احتفاظ النظام الثقافي بطابعه (هويتهعندما تصيبه التغيرات او تطرا عليه التجديدات عند ادخال عادات ومعتقدات جديدة عن طريق الاختيار بين البدائل بما يناسب الطابع العام او عن طريق تغيير النماذج المستعارة او وظيفتها.(51) وهذا ما يشكل محور الحاجة الاجتماعية العامة في مجتمعاتنا المعاصرة في التعايش مع نظام العولمة الذي بات يحدد اتجاه الحضارة الانسانية.
اما التكامل الحضاري(Civilization integration) فيشير الى التساند والانسجام بين العناصر المادية والمعنوية0 وكذلك فانه يهتم بتحليل العلاقات بين عناصر الحضارة للتعرف على كيفية تألفها او تساندها و انسجامها لتكون بالتالي كلا عضويا يؤدي وظائفه بدون احتكاك0 اذ يقتضي التكامل الحضاري في بعض الاحيان الى رفض العناصر الدخيلة او تعديلها حتى تتكيف مع العناصر الاصلية وبالتالي تحقيق الوحدة الحضاريةفالتكامل الثقافي او الحضاري يقع على النقيض من التخلف الثقافي.(52)
ويتمثل التكامل الثقافي في المدنية العراقية القديمة وذلك من خلال حفاظ المدنية العراقية القديمة على الطابع الحضاري لها بالرغم من اكتساب العديد من العناصر الثقافية والحضارية من الحضارات الاخرى0 ناهيك عن حفاظ المدينة العراقية القديمة على طابعها الحضري على الرغم من الهجرات المتتابعة من الاقوام الخارجية الى المدينة التي عملت على استيعابهم وتمثلهم لتسمهم بسماتها الخاصة.
اما التكامل الحضاري فكان يتمثل في قدرة الانسان المدني الحضري العراقي القديم على توقيت الاستجابة وتحديد قوتها تجاه التحديات الطبيعية فجاءت المخترعات التي قدمتها الحضارة العراقية القديمة الى الانسانية جانبا من جوانب التكيف لهذه الظروف الطبيعية و استغلالها لصالحه وتحويلها من التخريب الى الرخاء كما اسلفنا اعلاه0 في حين فشلت العديد من مدنيات الري القديمة على توقيت وتحديد شدة الاستجابة نحو الظروف الطبيعية التي تمثلت في اغلب الاحيان بالظروف الطبيعية التي يمر بها النهر0 فكان ان عمل النهر على اندثار الحضارة او المدنية كما حصل مع المدنية الصينية القديمة، وعمل على تحديد التوجه الحضاري للمدنية المصرية القديمة في اطار "حضارة القرية"0 في حين كانت هذه الظروف ذات تاثير جانبي في المدنية  القديمة في امريكا الوسطى التي افتقدت الى الانسان المدني بسبب حصر الاتصال الحضاري مع الحضارة المصرية القديمة الامر الذي وسم هذه المدنية بطابع"الحضارة المستنسخة" نتيجة تاثرها المباشر بهذه الحضارة، ناهيك عن عزلتها التي تمثلت في احاطتها بالحضارة الهندية البربرية من الشمال والاقوام البدائية من الجنوبفكان الانسان العراقي الحضري القديم هو الميزة الاساسية الذي استطاع بناء المدينة العراقية للحفاظ على الحضارة و المحافظة على وتيرة واحدة من تطورها و استمراريتها.(53)
اما ما دفع الباحث الى تناول الفرق بين مفهومي الثقافة والحضارة وذلك لوجود التداخل الذي يؤدي الى الغموض في فهم توجهات الباحث.هذا من جانب، ومن جانب اخر فان التكامل الثقافي للمدينة العراقية القديمة هو الذي عمل على خلق نمط واضح او نقي من المدنية التي اسهمت بشكل مباشر في استمرار و تطور هذه الحضارةوبالنسبة الى سمة النقاء هذه و التي تولدت بشكل جدلي عن نمو السمة الحضرية لهذه المدينة فقد تركزت في ان هذه المدن ولدت مدنا جديدة عملت (هذه المدن الجديدةكمرشحات سلوكية للافراد الوافدين اليها بصفتها مركز جذب استقطاب.
فمدينة اور اتخذت الشكل العنقودي حيث مثلت هي القمة فيه، فيما كانت مدينتي الوركاء و اريدو المجاورتين لها و التي يمكن ان توسما بانهما بلدات حضرية كبيرة تابعة لاورفقد كانت الوركاء(جنوب مدينة السماوة حالياً مركز محاقظة المثنى بمسافة 30كم)(54)، تمثل الحدود الشمالية لاور والتي مثلت الحاجز المدني ضد الزحف الصحراوي للوافدين، اذ تعمل على استيعابهم و اعدادهم للحياة المدنية في المركز (اور)0 في حين مثلت اريدو(غرب مدينة الناصرية حالياً مركز محافظة ذي قاربمسافة 40كم،وتعرف بقاياها اليوم بأسم ابوشهرين)(55) الحدود الحضرية الساحلية لاور، فكانت مركز استيعاب القادمين من الاهوار او عن طريق التجارة النهرية وكانت تضفي عليهم السمة الحضرية ذات الطابع الخاص باورو بهذا تشكل الهيكل العنقودي للمدينة العراقية القديمة ذات المدنية المتكاملة التي ادت بدورها الى التكامل الثقافي الذي عمل على الحفاظ على الهوية الثقافية لها على الرغم من اقتباسها العديد من السمات و القيم و المخترعات من الحضارات الاخرى المجاورة منها على الاقلالا انها تمثلت هذه السمات و القيم التي ترافق المخترعات و عملت على تطويرها في معظم الاحيان و لكن بالخصوصية العراقية القديمة التي  تكاد تفتقر اليها المدن العراقية المعاصرة بعد مايقرب على الستة الاف عام وهي بامس الحاجة اليهااي ان المدنية العراقية القديمة كانت قادرة من خلال ما تميزت به من مدنية عالية على خلق الرقي الحضاري لهذه الحضارة،وعلى التمييز بين ما يجب اقتباسه بما يلائم الحياة الحضرية و القيم العراقية القديمة و ما يجب لفظه او رفضه من القيم الوافدة مع التجارة او المخترعات وفق الية الانتشار الثقافي او الحضاري.(56)
ومما لا بد من ذكره في هذا المجال ان تركيز الباحث على السمة المدنية لم يقم على مثال واحد هو مدينة اور، بل كانت السمة الغالبة للمدن الحضارية العراقية القديمةفمدينة بابل مثلا كانت تقع بين مدينتين(سبار وبورسبا)كانت بالنسبة لهما هي المركز وكانا بالنسبة لها الاطراف،اذ كانت هي ((المدينة الام)) التي ولدت هاتين المدينتينفكانت كلا منهما (اور و بابلمدن ((كوسموبوليتية)) أي ((المدن الام او المركز)) في حين كانت((المدن الوليدة))هي مدن ((ميتروبوليتانية))0 فمدينة سبار(بالقرب من بلدة اليوسفية على بعد 45كم جنوب غرب بغداد وعلى الضفة اليسرى من فرع نهر اليوسفية،ويعرف الموقع حالياً بأسم تل ابو حبة)(57)، التي تحد بابل القديمة من الشمال بمحاذاة نهر الفرات لعبت الدور الذي لعبته الوركاءو مدينة بورسبا(جنوب بابل بنحو20كم،وتعرف بقاياها بأسم  برس نمرود -)(58)، لعبت الدور الذي لعبته اريدو على الرغم من ان هذه الاخيرة كانت ساحلية الا ان بورسبا كانت مدينة داخلية الا ان كلا منهما ادت الوظيفة ذاتها  التي تقوم بها المدينة المناضرة لهاوهذا ما دفع الباحث الى الاستنتاج بان عراقة وعبقرية الحضارة العراقية القديمة كانت تستند في الجانب الاهم منها على السمة المدنية لسكان المدن المركزية او عواصم امبراطوريات الحضارات على الرغم من بداءة وسائل الاتصال و التواصل الذي احتل اهمية بالغة في حياة العراقيين القدماء (فما فصل بالسد والساقية وصل بالقنطرةعلى حد تعبير الباحث الاجتماعي دمتعب مناف السامرائي في((مدينتنا والعولمة)).
فما يمكن ان نعده الميزة المركزية للمدينة العراقية القديمة هو مدنيتها التي عملت على انشاء المدن او ولادة المدن، و هذا ما تفتقر اليه المدن الحضارية موضوع المقارنة في هذا البحث على غرار مدن وادي النيل في الحضارة المصرية القديمة التي وقعت في خط تسلسلي بمحاذاة نهر النيل على شريط ضيق من الاراضي الزراعية المحاذية للنهر، و التي تحكم النهر ذاته بمصيرها بصورة مباشرة كما هو الحال في الحضارة الصينية القديمة التي لعب فيها النهر الاصفر دوره (الديالكتيكيفكان العامل الاهم في نشوءها و كان ايضا العامل الاهم في اضمحلالها او عزلتها عن العالم انذاكفكثرة فيضانات النهر ووقوع المدينة تحت رحمة الظواهر الطبيعية جعل الاكتفاء الذاتي للمدينة مهدد في جميع اوقات السنة ناهيك عن قدرتها على انشاء او استيلاد مدن اخرى.   

دور السلوك الحضري في تطور المدينة العراقية القديمة
يتفق المؤرخون على أن الإنسان المدني العراقي القديم هو الذي يقف وراء التطور الحضاري المشهود في العراق بل انه صاحب رسالة التطور النوعي للمجتمع البشري والانتقال التاريخي به من البدائية إلى الحضارة والمَدَنيةرغم ان البعض من الباحثين التاريخيين(المستشرقينو الاثاريين ينكرون عليه التطور اللاحق الذي ظهر في الألف الرابع ق.موعلى الرغم من انهم لم يعثروا حتى الآن على موقع واحد في العالم يضاهي المواقع الحضارية العراقية أو يبلغ ما بلغته من إبداع حضاري على أيدي سكانها من السومريين والأكديين وغيرهم من الأقوام التي سكنت بلاد وادي الرافدين في تلك الأزمنة المبكرة من التاريخ. فيمكن وسم المدن العراقية القديمة،ان جاز التعبير، على انها ((مدن كونية))او((مدن عالمية)) كونها شكلت المركز الحضاري للعالم انذاكوهذه السمة المدنية للمدينة العراقية التي نفتقر اليها اليوم تكررت في التاريخ العراقي و في الجنوب العراقي تحديدا على الرغم من ان شماله كان يحظى بتلك الشهرة التي اكتسبها العراقي في ماضيه السحيق(قبل التاريخوفي ماضيه الاسلامي ايضا، فالبصرة الاسلامية ايضا تميزت بصفة مدنية جعلت منها مركز الاشعاع الحضاري الاول في العالم على الرغم من انها لم تكن يوما من الايام عاصمة الدولة الاسلامية التي صنعت اعظم الحضارات البشرية في فترة قياسية لم تتجاوز المئة عام.(59)
فكان لا بد من التدخل في صناعة انسانية هذا الانسان او بتعبير ادق اعداد هذا الانسان للدور الذي سيناط به في الحياة الحضرية في المجتمعات المدنية في العراق القديم التي مثلت البؤرة الحضارية لهذه الحضارةوالاعداد الاجتماعي تم في هذه الحضارة على طريقتين تخصصت كلا منهما بواجب اعداد الافراد من سكان هذه المدنالاولى منهما التنشئة الاجتماعية التي تخصصت باعداد الزيادة السكانية البيولوجية (المواليد الجددللحياة المدنية وما تتطلبه من تركيز للجهود الفكرية للفرد من خلال العمل في الجانب الخدمي المعتمد على القدرات والمواهب الفردية والذي يكون تاثير الطبيعة فيه في ادنى حدوده كالعمل في الصناعات والاختراعات والحكم والمعابد وغيرها من الوظائف الحضريةاما الثانية فقد تخصصت باعداد الوافدين (المهاجرين الى المدينة العراقية القديمةللحياة الحضرية واكسابهم الطابع المدني المميز لهذه المدنفكانت الوظيفة الاهم لهذه المدن بعد وظيفتها الاقتصادية هي ان تعمل كمرشحات سلوكية للافراد الوافدين لها.(60)
لقد رفد سكان المناطق الشمالية الحضارة بعناصر ومبتكرات لا تضاهى شأنهم في ذلك شأن سكان المناطق الجنوبية0 فقد لعب الانتشار الحضاري و الثقافي دورا بارزا في تبادل الخبرات وانصهار الأفكار التي كانت نتاج الانسان العراقي المديني الذي اضفى على عملية التفاعل الايجابي هذه السمة العراقية، وهكذا ظهرت حضارة العراق ونمت وتطورت في العصور التاريخية.فقد لاحظنا أن القرى الأولى ظهرت بجهود الإنسان العراقي وهو الذي طور أنماط الحياة فيها وابتكر الاتها الأساسية، وهو الذي اخترع الكتابة وادخل البشرية في ما يعرف بالعصور التاريخية أو عصر فجر التاريخ (3000 سنة ق.محيث تطورت قرى كثيرة إلى مدن شهدت ظهور أولى أشكال السلطةوانظمة الحكم (السلالات الحاكمةأو عصر دويلات المدن السومرية مثل اور والوركاء واريدو وغيرها.(61) 0
والملاحظ على معظم المدن الحضارية العراقية القديمة انها تركزت فيما حول نهر الفرات في القسم الأوسط والجنوبي من العراقوالراجح أن جريان الفرات في ارض مستوية، جانبها الغربي هضبي مرتفع، تنحدر باتجاهنهر دجلة جعل حوضه اكثر ملائمة للاستقرار البشري0 إذ يمكن التحكم في فيضانه بتحويله عبر قنوات إلى نهر دجلة، فضلاً عن إمكانية إقامة المدن على الحافات المرتفعة غربي النهر الامر الذي يوفر لها شيء من الحماية من الاثار المدمرة لفيضانات النهر الموسميةالذي يتدفق في قوس المدن الاولى (اور،اريدو ،الوركاء، بابل ، ،سبار وبورسبالان نهر الفرات يمثل خط الإمداد الدائم من شبه جزيرة العرب.(62)
فاهمية اختيار الموقع الجغرافي للمدينة التي خلقت الإنسان العراقي الذي اضطلع بمعظم النتاجات الحضارية في وادي الرافدين يكون هو الدعمً الاساسي للفرضية القائلة بتدخل الانسان في الاختيار الامثل لبناء المدينة العراقية القديمة ، فالبعد النسبيً للمدينة عن مجرى النهر الحالي ربما تم تلافيه عن طريق ربط هذه المدن بالنهر عن طريق قنوات توصل الماء وتسمح بالملاحة في آن واحد، او ان النهر قد غير مجراه وهذه ميزة معروفة عن نهري دجلة والفرات اذ انهما يحملان من الغرين ما يعادل خمسة اضعاف ما يحمله نهر النيلفي حين يرجح الباحث الراي الذي يذهب الى ابعد من ذلك وهو ان بعد هذه المدن الذي نراه اليوم عن النهر كان بسبب وعي الانسان العراقي القديم بامكانية تحكم النهر بمصير المدينة وبالتالي بمصير الحضارة ككل، ومن ثم معرفته بتاريخ المدن المعاصرة او الاحوال والظروف التي تمر بها ،والتي استثمرها في بناء المدينة العراقية القديمة.(63) 
وهذا ما جرى في الحضارة الصينية القديمة حيث خضعت المدينة لنزوات النهر ولاهم ميزتين فيه التي تمثلتا في كثرة فيضاناته والقدرة العالية على الترسيبالامر الذي جعل من عملية نقل الماء من النهر الى المدينة عبر قنوات الري كالسواقي اذا ما ابتعدت عن النهر امر عسيرا، وبالتالي فقد عمل على تشتيت سكان المدن في الحضارة الصينية القديمة في مواسم الفيضانوانحصرت الوظيفة الاجتماعية للمدينة في الجوانب الدينية مما جعل منها ((مدن دينية موسمية)) على الرغم من ان معظم المدن القديمة قامت على اساس من مركزية الدين في البنية الاجتماعية و المورفولوجية للمدينة، والذي حد في نفس الوقت من فاعلية هذه الحضارة في التاريخ الانساني مقارنة بالحضارة العراقية القديمةاما بالنسبة الى مركزية الدين في الحضارة العراقية القديمة فقد انحصرت في الجوانب السياسية و الاداريةوعلى الضد من ذلك فقد كان حوض نهر دجلة حيث كان النهر اكثر سرعة في الجريان واكثر طغيان في الفيضان على كلا الضفتين فضلاً عن التهديدات الخارجية التي تمثلت في القبائل الجبلية في المرتفعات الشرقية بخاصة، هو الذي عقد فرص الاستقرار الحضاري في جانبي النهر وانحصرت هذه الفرص على حوض نهر الفرات اكثر منه على حوض نهر دجلة.(64) 
وهنا ايضا يلعب الانسان الدور الاساس في الاختيار لما هو اكثر فائدة واقل تكلفة والاختبار المتمثل في القدرة على الاستجابة المثالية في الشدة والتوقيت وهذا ما تفتقر اليه الحضارة المكسيكية القديمة على الرغم من تشابه الظروف الطبيعية التي نشات فيها المدينة مع الظروف التي اسهمت في نشوء المدينة العراقية القديمة التي تميزت ببناء الانسان العراقي القديم الذي يحضى بالخصوصية المجتمعية والثقافية التي اكسبته الفاعلية الحضارية في التفاعل مع الحضارات المعاصرة المجاورة لها والتفاعل مع البيئة على حدسواء، فسخر كل منها لخدمة اغراضه وتحقيق مصالحه في الحفاظ على المنجزات الحضارية بل وتطويرها ايضا.
فوقوع هذه الحضارة (المكسكية التي تمثلت في مدينتي الانكا و الازتكفي منطقة معزولة نسبيا بين حضارة هندية بسيطة في الشمال وحضارة بدائية في الجنوب والمحيط شرقا الذي يعد من اصعب الحواجز الطبيعية انذاك من الشرق عن المدنيات الراقية المعاصرة لها او المتزامنة معها كالمدنية العراقية و بالتالي قلل من فرص الاقتباس الحضاريناهيك عن ان الحالة التي تكاد تكون الوحيدة من الاقتباس الحضاري التي حصلت نتيجة التواصل مع الحضارة المصرية القديمة بطريقة ما من وجهة نظر العديد من الباحثين لم تستثمر من قبل الانسان بل انه لم يسعى الى تطويرها الامر الذي جعل منها ، كما اشرنا سابقاً "حضارة مستنسخةنظرا للتشابه الكبير بين الشواهد والقبور الملكية في الحضارتين (الاهراماتفضلاً عن القدم الزمني الذي تميزت به الحضارة المصرية القديمة والمنجزات الحضارية التي تميزت بها ومنها الجانب العمراني (الاهراماتعن الحضارة القديمة لما يعرف اليوم ببلدان امريكا اللاتينيةفافتقارها الى السمة المدنية في الانسان الذي عاش في هذه المدينة هو الذي حد من فاعليتها الحضارية في التاريخ الانساني و ركنها الى الاعتماد التام على الاختراق الثقافي للحضارة المصرية القديمة.(65) 

دور الانتشار الثقافي في التكامل الحضاري للمدنية العراقية القديمة
الانتشار الثقافي هو احد اهم ميكانزمات التطور والتغير الحتمي الاجتماعي والثقافي في المجتمعات الانسانيةويعرفه الباحث الاجتماعيوينثروبعلى انه (تلك العملية التي تنتقل بوساطتها المكتشفات والمخترعات الحضارية والقيم و السلوكيات بين المجتمعات الانسانية قديمها وحديثها عن طريق الاتصال والتواصل بين هذه المجتمعات تاريخيا او جغرافيا عن طريق الهجرة او التجارة او الحروب او غيرها من وسائل الاتصال).  وهنالك ثلاثة طرق للانتشار الثقافي، الاولى منها هي الطريقة المباشرة عندما يكون هنالك تقارب تاريخي وجغرافي بين الحضارات وهي الطريقة الأكثر انتشارا بين الحضارات القديمةاما الثانية فهي الانتشار الموجه بالقوةوالثالثة هي الانتشار غير المباشر وهو النمط الاكثر شيوعا في الوقت الحاضر(66)اذ يستدل دارسي الانثروبولوجيا التطورية على هذه العملية من خلال التشابه بين مفردات الحياة الانسانية بدءا من الالات وانتهاء بالمؤسسات الاجتماعية وصولا الى عملية تقنين السلوك الانساني عن طريق القوانين.(67)  
يفترض دعاة الانتشار الثقافي أن الاتصال بين الشعوب المختلفة قد نتج عنه احتكاك ثقافي الذ ي نتج عنه بالتالي عملية انتشار لبعض السمات الثقافية أو كلها، وهو ما يفسر التباين الثقافي (فكرة البعض) بين الشعوب.وينطلق دعاة هذا الاتجاه من الافتراض بأن عملية الانتشار تبدأ من مركز ثقافي محدد لتنتقل عبر الزمان إلى أجزاء العالم المختلفة عن طريق الاتصالات بين الشعوب. وأن نظرية الانتشار الثقافي تسعى إلى الكشف عن حلقات لربط الثقافات معاً نتيجة تفاعلها جغرافياً وزمنيا فإنها تلتزم أيضاً بالمبدأ التاريخي فى علاقات الثقافات بعضها بالبعض الآخر.(68)
ويرتبط الانتشار الثقافي بالتكامل الحضاري ارتباطا مباشرا، اذ يقوم التكامل الحضاري على عملية التوافق بين القيم الثقافية المعنوية والماديةفالتغير الثقافي في الجانب القيمي في حياة الانسان يكتسب الحتمية التي يحضى بها التغير الاجتماعيكما انه يحدث عن طريق استدماج العديد من الالات والمخترعات والمكتشفات في الحياة الاجتماعية للمجتمع او حتى عن طريق تقليد السلوكيات والمحاكاة الامر الذي يخلق نسقا جديدا من القيم الاجتماعية بحاجة الى تقبل المجتمعات لها لاتمام عملية التكامل الثقافي او الحضاري التي تشير الى عملية الاستدماج الامثل للقيم (المقاربة بين الفكر و الواقعالتي تاتي بها المخترعات الجديدة اذا ما بنينا هذا الفرضية على ان الثقافة كمفهوم عام تشير الى الجوانب المعنوية، في حين تشير الحضارة الى الجوانب المادية.(69)
ولايقتصر الانتشار الثقافي على مجتمع معين متخلفا كان ام متطورا بحيث يعمل هذا المجتمع على تصدير النتاجات الثقافية والحضارية الى المجتمعات الاخرىبل ان العملية برمتها تنحصر في عملية التفاعل الاجتماعي بين الافراد من المجتمعات المختلفة او بين المجتمعات ذاتها خصوصا اذا كانت هذه المجتمعات قريبة من بعضها البعض الاخر جغرافيا0  كما ان اتجاه هذه العملية لا يتحدد بالرقي الثقافي للمجتمعات فحسب بل يتعداه الى كل ما يمكن ان يكتسبه المجتمع من القيم والمخترعات القادمة من المجتمعات الاخرى شرط ان يفتقد المجتمع المُستقبل او المستلم الى نظيرها ويعمل على تمثلها، اذ ان عملية الانتشار الثقافي تتحدد بعملية التفاعل الاجتماعي (التاثير المتبادل).(70)
فعندما تطرقنا الى فكرة "الحضارة المستنسخة" (حضارتي الانكا والازتكعن الحضارة المصرية القديمة نتيجة التواصل الحضاري لا يعني ان افراد هذه المدنيات تقبلوا الاختراعات المصرية كما هي بل تقبلوها على طريقتهم الخاصة اي اضفوا عليها الخصوصية المجتمعية والثقافيةوهذا ما يعلل الفارق في طبيعة البناء للشواهد الحضارية التي تشابهت بين الحضارتين.
وهكذا هو الاعتقاد السائد بين مجموعة من الباحثين والمختصين في الاثار والتاريخ القديم حول نشوء مدنيات الري القدمية في حضارات جنوب بلاد الرافدين اذ أسس هذه المدنية مستوطنون يُعتقد أنهم من شمال البلاد، وهممزارعون ما زالوا في مرحلة "الثقافة النحاسية او البرونزية"الا ان ما حضيت به هذه الجماعات من الوفرة الاقتصادية نتيجة خصوبة الارض ووفرة الخيرات بدءا من الفائض الغذائي الذي افتقروا اليه في مناطق سكناهم الاصلية هو الذي دفعهم الى الهجرة و من ثم انشاء المدنيات التي يعرفها التاريخ اليوم والتي كانت العامل الاساس في نشوء الحضارة العراقية القديمة واستمرارها(71)
لقد لعب الرخاء الاقتصادي الذي عاشته المدينة العراقية القديمة دورا بارزا في اتساع النشاط التجاري وعملية التواصل مع الحضارات الاخرى وبالتالي التفاعل معها من خلال عملية الانتشار الحضاري لهذه المدن بين بلدان المعمورة انذاك سواء من المدن العراقية القديمة او من مدن الحضارات المجاورة كالحضارة المصرية القديمةفقد تم العثور على العديد من المراسلات السياسية التي تعود الى الحضارة العراقية القديمة في مكتبة الاسكندرية(رسائل تل العمارنة والتي يعود تاريخها الى فترة النصف الثاني من الالف الثاني قبل الميلادوالتى تعد اليوم من اقدم المراسالات السياسية والتي تبين قدرة الانسان العراقي على التفاعل الحضاري مع الحضارات الاخرى والتي تميزت بالقابلية على الاختيار بين العناصر الحضارية الوافدة.(72)
وكذلك فان  تقبل المدنية العراقية للانتشار الثقافي القادم مع المهاجرين اليها بوصفها     مركز استقطاب او جذب سكاني كان من اهم عوامل ثرائها. ولقد رفد سكان المناطق الشمالية الحضارة بعناصر مبتكرات لا تضاهي شأنهم شأن سكان المناطق الجنوبية0 وبتبادل الخبرة   وانصهار الأفكار حيث تطورت العديد من القرى و تحولت الى مدن صغيرة تابعة الى المدن الام او المركز مثل(اور،اريدو،الوركاء...الخبل انها شكلت الحدود المدنية و الاجتماعية لهاوقد كان لتحول القرى الكثيرة إلى مدن هو الذي قاد العملية السياسية في العراق القديم الى التحول في شكل السلطة بعد ان مثلت اور(الانموذجمركز هذه المدن الناشئة نظرا لما تتمتع به من مدنية راقية، اذ شهدت ظهور أولى انطمة الحكم وأشكال السلطة (السلالات الحاكمةأو مايعرف بعصر دويلات المدن السومرية.

الاستنتاجات
من خلال استقراء ماتقدم من دراسة العلاقة الجدلية بين المدينة العراقية القديمة والمدنية ودورها في التكامل الحضاري،يمكن ان نستنتج مايأتي:
1-     ان البناء الحضاري للانسان الحضري العراقي القديم كان اهم مرتكزات هذه الحضارة و اتت هذه العملية ثمارها في تطور الحضارة و خلودها.
2-     ان حفاظ وحماية المدينة العراقية للهوية الثقافية و الحضارية التي تتميز بها جاء من خلال ما تمتعت به المدينة العراقية القديمة من دراية باهمية الاعداد الاجتماعي لسلوك الوافدين اليها من المهاجرين، اذ انها شكلت مركز استقطاب حضاري في العالم انذاك0
3-     ان الرخاء الاقتصادي الذي ادى الى نشوء المدن كتجمعات سكانية غير متجانسة تشير الى تعدد الانتماءات الثقافية الفرعية لساكنيها بحيث اصبحت بوتقة لصهر هذه الثقافات وتوحيد الانتماءات الفردية الى انتماءات عامة اتخذت سمة المواطنة في هذه المدينة والتي كانت العامل والفاعل الاساس في الحياة الحضرية.
4-     ان السمة المدينية للانسان العراقي القديم هي التي سهلت من عملية التفاعل الاجتماعي بين افراد المدينة و بالتالي توحدهم في ثقافة واحدة ميزة سكان هذه المدينة.
5-     ان التثاقف بين الحضارة العراقية القديمة و الحضارات المجاورة لها او المعاصرة لها كان يتم من خلال بلورة السلوكيات وتمثلها بما يضفي عليها السمة والخصوصية العراقية القديمة.
6-     ان المدينة العراقية القديمة استطاعت الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية لها من خلال تقبل ما هو مفيد وتمثله كقيم اجتماعية عامة ورفض ولفظ ما هو غير ذلك من خلال تفاعلها مع الحضارات الاخرى.



الخاتمة
لا ترتكز مدنية و اصالة الحضارات الانسانية القديمة منها على وجه الخصوص في نشوئها وتطورها على نشوء المدن فيهافحسب لان المدينة كموقع جغرافي يقطنه مجموعة من الناس تتسم هذه المجموعة بعدم التجانس ووجود نمط من التخصص والتقسيم الاجتماعي للعمل فيها، وبالتالي نمط من القسيمات الاجتماعية التي تشكل محور مكونات المدينةبقدر ما ترتكز الى التفاعل المباشر بين الانسان (المواطنكعلاقة انتماء اجتماعية بينه وبين الارض التي يعيش عليها، و بالتالي تلك العلاقة التي تؤهل هذا الانسان الى استيعاب معطيات الحضارة التي لا بد ان تنشاء من تفاعلها الايجابي مع الحضارات الاخرى من خلال الاستفادة من الخبرات المتراكمة لبني البشر في بناء النظم و الانساق الاجتماعية التي تؤهلها للاستمرار والتطورو ان مما لا يمكن انكاره ان الحضارة العراقية القديمة قامت على مثل ذلك الاستثمار الذي اهلها لانشاء حضارة اتسمت بالخلود على مر الزمن فمازال يشار اليها بالبنان بعد مرور مايربو على الستة الالاف عام على نشوئها.
لقد كان العامل الاهم في نشوء هذه الحضارة هو الانسان العراقي القديم الذي سكن المدينة و اتسم بالصفة المدنية التي جعلت من هذه المدينة مدنية وهبت العالم العديد من المخترعات التي سهلت عملية الاتصال و التواصل بين بلدان المعمورة انذاك مع انه لا يمكن انكار الدور الحضاري للحضارات المتزامنة مع الحضارت التاريخية المعاصرة لهاالا ان التميز التاريخي و السبق الزمني الذي حققته هذه الحضارة هو الذي اهلها لتصدر سلم الرقي الحضاري بين حضارات العالم المعاصرة لها.
ان النمو المستمر للمدينة التي شكلت اهم مراكز الاستقطاب و الجذب السكاني كانت بحاجة ماسة الى الحفاظ على الهوية الثقافية لها من خلال عملية الاعداد الاجتماعي للوافدين للحياة المدنيةو بتفاعل هذه السمة الشخصية مع السمة الطبيعية او الجغرافية للمدينة التي تمثلت في الموقع الجغرافي الذي منحها الرخاء الاقتصادي نشأ هنالك نمط من انماط الشخصية الاجتماعية العامة التي وحدت الانتماءات الفردية في الانتماء الموحد للمدينة من خلال السمة المدنية لهذه الشخصية الاجتماعيةو بذلك تجنبت المدينة العراقية القديمة الكثير من الاخطار التي باتت تهدد الحضارات المعاصرة لها ومن اهمها الاستقرار الذي يضمن التراكم الحضاري، و الاستمرار الذي يقوم على التكامل الثقافي و الحضاري بين الفكر و الواقع من خلال الاستجابة الى التحديات الطبيعية التي كانت الاساس الاهم في نشوء الحضارات وفق نظرية ارنولد توينبي((الاستجابة والتحدي)). وهو ما افتقرت اليه غيرها من المدن القديمة التي بقيت عاجزة عن الوصول الى ما وصلت اليه المدنية العراقية القديمة من الرقي الحضارياذ انها اعتمدت على الاقتباس الحضاري فكانت "حضارة مستنسخةاو انها اعتمدت على الكفاف الذي ابقاها في مستوى "الحضارة القروية" (مدينة متريفة)، او ان هذه الحضارة اضمحلت نتيجة عدم قدرتها على توقيت الاستجابة و شدتها تجاه التغيرات الطبيعية التي شملت مدن الري القديمة التي قامت على ضفاف الانهار او عند مصباتها.    

هوامش البحث
1-       الرازي،محمد بن ابي بكر عبدالقادر،مختار الصحاح ،دار الرسالة،(الكويت،1983)،ص 619، كذلك ينظر: غلاب ،محمد السيد ويسري الجوهري،جغرافية الحضر،(منشأة  المعارف/الاسكندرية،1972)،ص6 0
2-       Oxford.Sharter,English DictionaryWordOxford,(University press,london,2005), p.128 790-791
3-       عوض، السيد حنفي، علم الاجتماع الحضري، (القاهرة ، 1987)، ص20 0
4-       المصدر نفسه،ص20 ومابعدها0           
5-       اسماعيل، احمد علي، دراسات في جغرافية المدن، (القاهرة، 1982)، ص34 0
6-       حمدان، جمال، جغرافية المدن،(القاهرة،بدون تاريخ)،ص54 0
7-       الدباغ،تقي ،"من القرية الى المدينة الاولى"،في المدينة والحياة المدنية ،ج1،(بغداد ،1988)،ص50 0كذلك ينظراحمد ،غريب السيد و السيد عبد العاطي، علم الاجتماع الريفي و الحضري،الاسكندرية، 1988)،ص ص 334- 340
8-       الرازي، محمد بن ابي بكر عبد القادر، المصدر السابق، ص 619 0
9-       Oxford., Op. Cite, p. 795.      
10-      غيث،محمد عاطف، قاموس علم الاجتماع، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977)،ص450
11-      غيث، محمد عاطف، علم الاجتماع،دار المعرفة  جامعة الاسكندرية، 1982)،ص035    
12- مدكور ، إبراهيم،معجم العلوم الاجتماعية،الهيئة المصرية العامة للكتابالقاهرة،  1975 ، ص 134.
13-  شبنجلر،اسوالد، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة احمد الشيباني،  لم يذكر مكان و سنة النشر، ج1، ص16 0 
14- مدكور، ابراهيم،المصدر السابق ص 70 - 71 0
15- فحلة،رمضان، مقومات الحضارة الانسانية في الاسلام، (دار الهدى للطباعة و النشرالجزائر، 1989 )     ص 14 وما بعدها0    
16- الاشعب، خالص حسني و صباح محمود محمد، مورفولوجية المدينة، (جامعة بغداد 1983)، ص20-21     كذلك ينظرالهيتي، صبري فارس وصالح فليح حسن، جغرافية المدن، جامعة الموصل، 1986)،             ص 308- 309  0  
17- السامرائي، متعب مناف، "مدينتنا و العولمة" (بحث في جغرافية الهوية و الاخر المعلوم غير منشورص03    
18- فرانكفورت، هنري، ما قبل الفلسفة، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا، (1980) ص3 0   
19- ساكز،هاري،عظمة بابل،ترجمة عامر سليمان،(باريس 1979)،ص185 0
20-كريمر،صموئيل نوح،السومريون، تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، ترجمة فيصل الوائلي،(الكويت،1973)، ص ز0   
21- رو،جورج،العراق القديم،ترجمة حسين علوان حسين،(بغداد،1986)،ص107 0 كذلك ينظر:الدباغ،تقي،المصدر السابق،ص49 0
22- فرانكفورت،هنري،المصدر السابق،ص151 0
23- السامرائي،متعب مناف،المصدر السابق،ص4 0
24-Toynbee/D.C.,A.,Somervell Civilization on the trail the world west, (press,1960),pp.301 – 348.
25- الصيواني،شاه محمد علي،اور بين الماضي والحاضر،(بغداد،1976)،ص12 0
26- المصدر نفسه،ص12 0
27- الاحمد،سامي سعيد،"المدن الملكية والعسكرية"،في المدينة والحياة المدنية،ج1،(بغداد،1988)،ص151 0
28- الصيواني،المصدر السابق،ص12 0
29- المصدر نفسه،ص12 وما بعدها0
30- الاحمد،سامي سعيد،المصدر السابق،ص151 0كذلك ينظر:لويد،سيتون،اثار بلاد الرافدين من العصر الحجري القديم حتى الاحتلال الفارسي،ترجمة سامي سعيد الاحمد،(بغداد،1980)،ص114 0
31- الاحمد،سامي سعيد،المصدر السابق،ص151 0
32- الصيواني،المصدر السابق،ص24 0
33- لابات،رينيه،قاموس العلامات المسمارية،ترجمة الاب البيرابونا واخرون،مراجعة واشراف عامر سليمان،(بغداد،2004)،ص299 0
34- الكتاب المقدس(كتاب العهدين القديم والجديد) المطبعة الامريكية،بيروت،سفر التكوين الاصحاح(12،11/الفقرة 19)0
35- كريمر،صموئيل نوح،المصدر السابق،ص37 0
   36- علي،فاضل عبدالواحد،من الواح سومر الى التوراة،(بغداد،1989)،ص239 0كذلك ينظرالبدري،جمال،النبي ابراهيم والشرعية السياسية،(القاهرة،1999)،ص39 0
37- الصيواني،المصدر السابق،ص12 وما بعدها0
38- للمزيد من المعلومات عن عصر فجر السلالات واهم السلالات الحاكمة فيه وخصوصاً التي حكمت في مدينة اور ينظر:حبيب خليل،غيث،وادي الرافدين في عصر فجر السلالات،رسالة ماجستير غير منشورة،(جامعة بغداد،2004)،الفصل الثالث/المبحث الاول0
39- للمزيد من المعلومات عن التنقيبات الاثارية التي جرت في موقع مدينة اورينظر:
بوستغيت،نيكولاس،حضارة العراق واثاره(تاريخ مصور)،ترجمة سمير عبدالرحيم الجلبي،(بغداد، 1991)،ص46  52 0كذلك ينظر:
- Woolly ,L.,Excavation at Ur ,(London,1963),p.11.
  40- للمزيد من المعلومات عن مقبرة اور الملكية واهم موجوداتها ينظر:
-باقر،طه،مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة (الوجيز في حضارة وادي الرافدين)،ج1،(بغداد،1973)،ص ص275  281 0كذلك ينظر:
- Woolly,L.,Op.Cit,pp.11ff.
41- الصيواني، المصدر السابق،ص13- 14 كذلك ينظر:
- Woolly,L.,Op.Cit,pp.11ff.
42- الصيواني، المصدر السابق،ص12 0
43- الأمين،يوسف مختار، "عصور ما قبل التاريخ في وادي النيل"في مجلة الآثار والأنثروبولوجيا الســـودانية الالكترونية0وللمزيد من المعلومات عن جغراقية وادي النيل وتأثيرها في الحضارة المصرية القديمة ينظر:باقر،طه،مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة(حضارة وادي النيل)،ج2،(بغداد،1956)،ص ص4- 13 0
44- بريستد، جيمس هنري، انتصار الحضارة، ترجمة احمد فخري، مصر، دت)، ص 69 0وللمزيد من المعلومات عن حضارات امريكا القديمة ينظر:باقر،طه،المصدر السابق،ج2،ص ص368 الى 369 0
45- للمزيد من المعلومات عن حضارة وادي النهر الاصفر(مهد الحضارة الصينية القديمة)ينظرباقر،طه،المصدر السابق،ج2،ص ص347  352 0      
46- زريق، قسطنطين، في معركة الحضارة، (بيروت،1981)، ص33 0 
47-   Oxford, Op. Cite, p. 184 0 
48-زريق، قسطنطين،المصدر السابق،ص33 0
49- عارف ،نصر محمد، "الثقافة مفهوم ذاتي متجدد"، بحث مسحوب على الشبكة المعلوماتية، ص 02
50-المصدر نفسه ،ص2-3 0 
51- مدكور، ابراهيم، المصدر السابق، ص174 0  
52- المصدر نفسه،ص175 0
53-السامرائي، متعب مناف، المصدر السابق،ص4 0    
54-للمزيد من المعلومات عن مدينة الوركاء ينظر:يصمة جي،فرج،"الوركاء"،في مجلة سومر،العدد 1955،11 ،ص47  49 0كذلك ينظر :رو،جورج،المصدر السابق،ص108-114 0
55- للمزيد من المعلومات عن مدينة اريدو ينظر:باقر،طه،المصدر السابق،ج1، 1973 ،ص223-225 0كذلك ينظر:سفر،فؤاد،"حفريات مديرية الاثار القديمة في اريدو"،في مجلة سومر،العدد 3،ج2، 1947،ص219  220 0
56- اوبنهايم، ليو، بلاد ما بين النهرين، ترجمة سعدي فيضي عبد الرزاق،(بغداد،  1981)، ص 487-510 0    
57-للمزيد من المعلومات عن مدينة سبار ينظر:الجادر،وليد ،سبار2،احداث من تاريخ المدينة،(بغداد،1988)،ص7- 8 كذلك ينظر:القره داغي ،رافده عبدالله،نصوص غير منشورة من سبار،رسالة ماجستير غير منشورة،(جامعة بغداد،1989 ) ص11 وما يليها0
58- للمزيد من المعلومات عن مدينة بورسبا ينظر:باقر،طه،المصدر السابق،ج1، 1973 ،ص428 0
59-"تاريخ العراق القديم بايجاز، في موقع منتديات التاريخ على الشبكة المعلوماتية0
60- اوبنهايم ،ليو،المصدر السابق، ص 39 -50 0 
61-  سليمان، عامر، "وحدة حضارة بلاد الرافدين"،في وقائع ندوة وحدة حضارة بلاد الرافدين، (المجمع العلمي العراقي، 2000 )، ص07 
62-حسن،صالح فليح،"الجغرافية التاريخية لارض ما بين النهرين"،في مجلة كلية الاداب، العدد الثالث،(جامعة صنعاء،1982)،ص228-229 0كذلك ينظر:ابراهيم،جابر خليل،"البيئة الجغرافية واثرها في وحدة حضارة بلاد الرافدين، في وقائع ندوة وحدة حضارة بلاد الرافدين،(المجمع العلمي العراقي،2000)،ص11وما بعدها0
63-  ابراهيم،جابرخليل،المصدر السابق نفسه،ص11 - 15 0
64-  فالكون، ليس، "التاريخ الجغرافي لسهول ما بين النهرين"، ترجمة فيصل الوائلي،في مجلة الآداب و التربية، (دورية)، (جامعة الكويت، 1972 )،  ص  7-011    
65- باقر، طه، المصدر السابق،ج،ص4-13 0  
66- مدكور، ابراهيم، المصدر السابق، ص 70 0
67-   كرانغ ،مايك، الجغرافيا الثقافية ،ترجمة سعيد منتاق، سلسلة عالم المعرفة، العدد 317، (الكويت 2005 ) ، ص 40 
68- "النظرية التطورية الثقافية"،في مجلة الاثار و الانثروبولوجيا السودانية الالكترونية ،العدد الثاني، فبراير  2002 ،على شبكة المعلوماتية،ص2-5 0
69-كرانغ ،مايك، المصدر السابق ص40 0
70- المصدر نفسه،ص40 0
71- ساكز،هاري،المصدر السابق،ص158 0 
72- بريستد ،جيمس هنري، المصدر السابق، ص 0140   



المصدر:يوسف،شريف،تاريخ فن العمارة العراقية في مختلف العصور(تصنيف)،(بغداد،1982)،ص28


خريطة رقم(2) اور وما يجاورها0ينظر:الصيواني،محمد شاه،اور بين الماضي والحاضر،(بغداد،1976)


شكل رقم(1) منطقة الحفريات في اور(صورة جوية)ينظر:المصدر نفسه اعلاه


شكل رقم(2) مخطط مدينة اور وحدود سورها ومواقع المعابد والقصور والمقابر ودور السكنى0ينظر:يوسف،شريف،المصدر السابق،ص79

 خريطة رقم(3) مدن وادي النيل0ينظر:باقر،طه،المصدر السابق،ج2،ص5

خريطة رقم (4) مدن امريكا الوسطى او اللاتينية0ينظر:مغايري،مازن،موسوعة اطلس العام،مراجعة عبدالله سعيد وتدقيق عبدالله سنده،(سوريا،2006)،ص81 .

خريطة رقم(5)
مدن وادي النهر الاصفر (مهد الحضارة الصينية القديمة)ينظر العاني ، صادق صالح ، الاطلس العام ، (بغداد ، 2001 ) ، ص44 .

Abstract

The process by which city acquiring of the civilization elements and standards. Don’t make able to create civilization, and make it able to use and developed this elements. to keep its cultural identity, for this city. But this determine with what man could with it from this elements. Because the man is the second standard factor, in the established of civilization. By accepting the civilization elements, use it, and improve it. To achieve his interest, in his conflict with the nature, by the mechanism of the challenge and Response  for A. Toynbee, by the effective interact. (Keep the positive elements and refuse the negative one). Because the succeed of this operation depend on the enculturation and socialization. Of urbanization man. In this city. To create the individual behaviors changing (the emigrants). To this city from another cities or civilizations. Because the city pull them form their origin cities or civilizations. We could consider that one of the most impartment mean of the communication between the old ancient cities or civilizations. As well as the trade and war. The main features of the urbanization live of the old Iraqi man who lived in this city are civilized behavior. That make able to create the civilization, maintain it and make it continues on the time. And that what's the old Iraqi ancients doing, which are perfect in this filed, with the pure civilization.


أو

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا