التسميات

الجمعة، 7 ديسمبر 2018

حركة النزوح الصيفي للسكان كانعكاس لعوامل الطرد الجغرافي: مقاربة اثنوغرافية لمنطقة سوف




حركة النزوح الصيفي للسكان كانعكاس لعوامل الطرد الجغرافي

مقاربة اثنوغرافية لمنطقة سوف


الأستاذ ضيف الأزهر

 قسم علم الاجتماع جامعة الوادي - الجزائر


مقال نشر في العدد الثاني من مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية  - يونيو 2014 -ص 27 - 38:


ملخــص :

  تتميز الصحاري بشكل عام بصعوبة مناخها خاصة في فصل الصيف حيث تمارس مثل هذه البيئات ضغطا رهيبا على ساكنيها مما يضطر العديد منهم إلى النزوح لمناطق أخرى يقضون بها فصل الحرارة ، وعرفت هذه العملية انتشارا كبيرا في منطقة سوف إلا أن طبيعتها وآلياتها تغيرت بفعل عدد من العوامل ، وسنقوم فيما يلي بالتحدث عن واقع الحراك الصيفي وخلفياته التاريخية ، والمقاصد وآليات التنقل .

الكلمات المفتاحية : الثقافة – البيئة – الحراك الصيفي – وادي سوف.

مقدمـة

  تعد الحرارة إحدى عناصر المناخ الأكثر تأثيرا ودخولا في حياة الكائنات الحية ، ويجمع العديد بأنها ميقاتية الاستمرار والتطور لساكني المعمورة جمعاء ، ومحور دورة الحياة ، وما دامت ترتبط أساسا بالموقع الجغرافي والدورة الشمسية لمختلف البيئات فإنها بذلك تكون مساهمة في خلق الخصائص العامة لها ونوعية الكائنات وطبيعة العيش ، وبالرغم من كون الحرارة تمثل عاملا ضروريا إلا إنها وفي أحيان كثيرة وبارتفاعها إلى مستويات قياسية تكون عاملا سلبيا ، فيقضي على العديد من النباتات والحيوانات ، ويقلص من النشاط الإنساني ولا يستثنى من ذلك الجماد ، فيتأثر العمران ، والماكنات ، ومختلف الأجهزة والمحركات والمركبات .

   ونحن هنا في هذا المقام سنتحدث عن قساوة هذا المتغير الحياتي على الحياة البشرية، في البيئات والتي من شأنها تقويض الحياة العادية وخلق صراع بيئي بيئي بين الارتباط التاريخي للإنسان ببيئته وانتمائه لها وهو ما يسمي بقوة الجذب ، و قوة الطرد المتمثلة في النفور الذي تسببه عدد من العوامل البيئية ومنها الحرارة. وتعتبر الحرارة من أهم ما تشتهر به منطقة سوف عند غير ساكنيها ، ولعل العديد يتخوفون من زيارتها في فصل الصيف ، بالرغم من ارتباطهم المعيشي بها للتجارة أو النقل ، أو بعض المآرب الأخرى ، و قد جبل سكان منطقة سوف والجنوب الشرقي من الجزائر عموما٬ على التأقلم مع أجواء الصيف وفق مجموعة من العادات والممارسات٬ منها ما له ارتباط بالوضع المادي للأفراد والأسر٬ ومنها ما له صلة بنمط عيش السكان معتبرين الحرارة كحتمية بيئية غير أن ذلك لم يثنيهم على العمل واستغلال المتاح للتخفيف من وطأتها، مما خلق عديدا من الممارسات والمظاهر تميزهم عن غيرهم وتشكل معالم الثقافة المحلية كأنواع متميزة من الأغذية والوجبات ، وأنواع اللباس والعمران التي تخلق كلها نمطا معيشيا متميزا .

1. تفضيلات الفصول حسب الآراء الشائعة

  من خلال معايشة حياة الساكنة في منطقة سوف فإن فصل الصيف أقل تفضيلا بين الفصول ، ففصل الخريف هو فصل الاعتدال والذي تستأنف فيه النشاطات المختلفة ويتميز هذا الفصل عن غيره في المنطقة بجني التمور الذي ينتظره معظم السكان لمردوده المادي حيث يتم معه برمجة الولائم والزيجات ، واقتناء الاحتياجات المعتبرة.

  أما فصل الشتاء فبعدما كان من الأشهر غير المحبذة قديما بسبب البرد القارس ، فقد أصبح حديثا فصلا مقبولا ، فالبيت المحمي متوفر ، وإمكانات التسخين المختلفة لا تفتقد في أي منها ، وكذا أغلب المرافق ووسائل النقل ، وأيام العمل والنشاط على مدار الفصل.

  وبالرغم من الاعتدال النسبي الذي يميز بدايات فصل الربيع إلا أن أغلب أيامه تقتسمها الرياح والحرارة وهو بذلك من الفصول المقلقة ، لافتقاد الضمانات عند برمجة الأعمال والنشاطات الاستثنائية كالزراعة وحفلات الزواج والسفر وأشغال البناء الثقيلة ( صب الخرسانات والأسقف ).

  ويأتي الصيف في مؤخرة الفصول المرغوبة بعدما كان يعرف تاريخيا بأنه فصل “الزوالي” أي أسهل الفصول معيشة ، حيث كان النشاط منصب على السعي وراء لقمة العيش ، ويقول في ذلك أحد المخبرين : ” لا يحتاج منا فصل الصيف قوتا مدخرا فالقليل مما ينتج في مزارعنا يكفينا وظل قليل يريحنا ـ، ولا نحتاج في الليل إلى غطاء ” إضافة إلى أن القليل من اللباس يكفي لإتمام فصل الصيف، فلباس الأطفال يغسل ويلبس في نفس الوقت للحرارة من ناحية وخفة الألبسة من ناحية أخرى ، وبذلك لا تعتبر الحرارة تحديا مقارنة مع الصعوبات المعاشية الأخرى ، أما حاليا ومع التحضر في شتى المجالات وسهولة العيش النسبية ارتقت المطالب المفقودة في فصل الصيف، ويجمع العديد من سكان المنطقة بأن الحرارة العالية التي تميز مناخ المنطقة صيفا هو السبب الرئيسي الذي يجعل من السكان لا يحبذون هذا الفصل .


2. أثر الحرارة على الحياة الاجتماعية في منطقة سوف

  مما لا شك فيه ارتباط عناصر المناخ بالحياة العامة ، ولكن تأثيرها على أنشطة الإنسان وممارساته الحياتية يختلف حسب خصوصية كل متغير ومدى قوة تدخله ، وتؤثر الحرارة العالية التي تميز مناخ المنطقة في الحراك الاجتماعي بصورة رئيسية نذكر أهمها في ما يلي :

  تتقلص مدة النشاط العام في المنطقة بفعل الحرارة إلى أدني مستوياتها فتنطلق الحركة مبكرة في حدود الخامسة صباحا ، وما إن تصل إلى الثامنة أو التاسعة حتى يتسارع المارة في الانسحاب تاركين خلفهم شوارع خالية عدا القليل ممن اضطرتهم شؤونهم إلى البقاء ، وتعود الحركة في نهاية اليوم بعدما يبرد الجو لمزاوله ارتباطاتهم وإحياء شبكة علاقاتهم ، كما تتقلص الأنشطة المختلفة في فصل الصيف بصورة ملفتة للانتباه حيث ينصرف المشترون في وقت متقدم من النهار من الأسواق وتغلق المحلات تبعا لذلك وتصبح الأسواق خالية في أغلب أوقات اليوم ، أما أشغال البناء التي كانت تملأ المكان بضجيجها ، أصبحت لا يرى لها صور إلا نادرا ، وتكون الأشغال الكبرى منها في ساعات الصباح الأولى، أما الأشغال الصغرى، فتبرمج عادة في فصل الصيف الأشغال الداخلية للمباني، ويشتكي العديد من الفلاحين من عدم قدرتهم مزاولة الأنشطة الفلاحية بفعل الحرارة ، ولعل الأكثر صعوبة وتعبيرا عن عدم قدرة العديد منهم جني محاصيلهم تركها للتلف تحت رحمة الشمس الحارقة في أوقات يصعب إيجاد اليد العاملة في مختلف النشاطات ، وبالرغم من قدرة النخيل الذي يعتبر المورد الفلاحي الأساسي في المنطقة على التأقلم مع الحرارة إلا أن هذه الأخيرة أثرت على نوعية المنتوج بصورة مباشرة وأتلفت العديد منه*.

  ويختار العديد ممن يمتهنون النقل العمومي للبضائع أو الأشخاص هذا الفصل للراحة القسرية للإجهاد الذي يصيب مراكبهم بفعل الحرارة وكذلك المخاطر التي يتعرض لها السائقون جراء الأعطاب في الطرق الخالية خاصة بين الوادي وبسكرة وكذا الوادي وورقلة ، وعليه تقل حركة الطرق في النهار وتعوض في الليل خاصة المركبات الكبيرة وهو ما زاد من عدد الحوادث المرورية في الطرق الخارجية ، وهناك عديد من الأنشطة الخاصة والتي يزيدها الفصل صعوبة وتعقيدا ونذكر على سبيل المثال لا الحصر عمال المخابز وربات البيوت في المطابخ ، وصناعة الجبس التي تعرف بها منطقة سوف والتي تظهر للعيان على غرار المعامل التقليدية المحاذية للطريق الرئيسي بمنطقة ” الفولية”*، ولعل المتجول في الطرقات يلاحظ التحدي الذي يميز بعض المهام كأسلاك الأمن والشرطة وعمال الحماية المدنية وغيرها لحماية الأمن العام وحفظ الأرواح وتحملهم ألبستهم الخاصة وواقياتهم المختلفة تحت درجات حرارة عالية .

   وتظهر الحرارة الحساسية الفائقة لعدد من الأنشطة كتجارة وتوزيع الألبان واللحوم والأسماك والبيض ، والتي تجعل من رؤوس أموالهم عرضة للمغامرة لارتباطها بالكهرباء أو إمكانية تعرض الأجهزة والآليات للأعطاب وتفرض على أصحابها الركض ضد الساعة لإنقاذ ممتلكاتهم ، والحال نفسه للمربين وأصحاب الصناعات الغذائية .

3. العمارة الصحراوية واستجابتها لمتطلبات البيئة

  اعتاد سكان وادي سوف والجنوب الشرقي من الجزائر عموما على التأقلم مع أجواء الصيف وفق مجموعة من العادات والممارسات منها ما له علاقة بالوضع المادي للأفراد والأسر ومنها ما له صلة بنمط عيش السكان والذي يتأقلم بدوره مع عدة معطيات من ضمنها الظروف والتقلبات المناخية السائدة في المنطقة.

  واتسمت الأحوال الجوية خلال السنوات الأخيرة بطفرات مناخية ملحوظة ، فالاحتباس الحراري والمشكلات المناخية العالمية ألقت بظلالها على المنطقة ، فاتسم الشتاء بالدفء النسبي والصيف بحرارته المرتفعة و امتدت في الزمان لفترة طويلة أكثر مما هو معتاد خلال السنوات العادية.

  وقد كانت فنون العمارة المحلية في الجنوب الشرقي للجزائر خلال قرون مضت خير واق للإنسان من قساوة الطبيعة صيفا وشتاء حيث يستعمل الجبس كمادة أولية رئيسية في البناء ، فسهولة برودته في الصيف ، ودفئه في الشتاء جعلت منه قادرا على التكييف الطبيعي للجو في المنطقة وأهم ما يميز منازل الحضر في سوف القباب بمختلف أنواعها، والمنزل الحقيقي في سوف يتضمن بالضرورة فناء مغلقا، تصطف حوله الغرف وتُعرف بالديار والمدخل دائما محجوب عن النظر بواسطة حائط متعرج لكي لا يكشف للأجانب ما يجري داخل البيت لما يكون الباب مفتوحا، وفي الجهة الجنوبية للمنزل يتم بناء أقواس مفتوحة للشمال وتُعرف بـ “البرطال” ويخصص للجلوس في فصل الصيف حيث الظل والاعتدال في موسم الحرارة وأحيانا يتضمن المنزل بيتا بابه يحمل شكل الأقواس في الجهة الشمالية تُعرف بالسباط القبلاوي ويخصص لفصل الشتاء فاستقباله للشمس طيلة اليوم يجعل منه مكانا دافئا للنساء حيث يجلسن للقيام بأعمال النسيج .

   وهذا بالضبط ما نراه” إذا ما حللنا تأثير عوامل البيئة الطبيعية في النسيج الحضري التقليدي للمدن العربية القديمة، فقد أملت عوامل البيئة الطبيعية (بالتفاعل مع البيئة الثقافية ) نسيجًا حضريًا كثيفًا ومتراص الأجزاء في المدن العربية الإسلامية التي تشترك بظروف مناخية متشابهة “([1])المناخ الجاف الحار_ وساعد هذا التكوين على توفير أكبر قدر من الظلال وتقليل انعكاسات الإشعاع الشمسي الذي يرفع من درجة حرارة الهواء، مما أدى إلى تقليل الطاقة الحرارية النافذة إلى المباني وخفض درجة الهواء في الأزقة الضيقة مقارنة بدرجة الحرارة في الفناءات الداخلية المفتوحة .

  وإذا كان التوسع العمراني وانتشار البناء والتشييد وفق الأساليب الحديثة بات يحرم الساكنة المحلية من التدفئة الطبيعية في فصل الشتاء وتلطيف الجو الحار إبان فصل الصيف ، فقد دعت الضرورة إلى ترك أفنية للشرق أو الشمال تبرد ليلا بفعل غياب الشمس عنها مبكرا ، واعتماد الأسطح للمبيت ليلا ، وشاع رشها بالجير الأبيض كل بداية صيف لتمكين السطح من امتصاص أشعة الشمس والتبريد الذاتي ، أما الجدران فأصبح العديد منهم يعتمدون الثنائية منها في الجهات الخارجية من الغرب والجنوب ، والجدار الخارجي من غرف الاستقبال التي عادة ما تكون للقيلولة عند أغلبية أفراد العائلة.

  ومع التطور الحاصل في التقنية فقد باتت مشاهدة المكيفات الهوائية الكهربائية معلقة على واجهات المنازل والبنايات الحديثة أمرا مألوفا في مدينة الوادي منذ ظهور هذه الأجهزة كغيرها من المدن الصحراوية الأخرى التي تعرف ارتفاعا شديدا في درجات الحرارة خلال فصل الصيف خاصة بالنسبة للأسر التي لديها دخل مادي يمكنها من اقتناء هذه الأجهزة.

4. الحرارة وعلاقتها بالحراك الصيفي :

   يعتبر الحراك الصيفي أحد الممارسات الشائعة منذ القدم في منطقة سوف غير أنه اتخذ أشكالا متعددة ، لارتباطها بعديد المتغيرات الاقتصادية والثقافية والحضارية ، ويعتبر الحراك الصيفي أحد أوجه النزوح البيئي المتمثل في المغادرة المؤقتة للمجتمع الأصلي تحت ضغط إحدى الظروف البيئية ، ونقصد بالحراك الصيفي ـ كتعريف إجرائي ـ “الحركة الصيفية لسكان منطقة سوف تجاه منطقة أخرى محلية أو خارجية هروبا من الحرارة ” .

v الحراك الداخلي

  اعتبر الحراك الداخلي الأكثر شيوعا حتى الماضي القريب باعتبار المغادرة والتحول لا يكلف عناء من ناحية ، ومن ناحية ثانية الانتقال إلى محل ثان وفي نفس الموطن ، وما يشجع على هذا الحراك الانتقال إلى محل أكثر برودة ، وأكثر حضورا إما إلى منازل صيفية صغيرة قرب مزارع النخيل التي تشكل ” الملكية ” الأكثر قدسية عند السكان ومصدر الرزق الأوحد ، أو تشييد بؤر سكنية بين ثناياها ، أو مناطق البدو ومن أهم ما شيد لهذا الغرض نذكر :

أ_ مساكن الرحل: يعيش البدو الرحل تحت الخيمة فهي سكنهم في العرق، ولا يوجد إلا البعض منها قرب القرى فالخيمة عبارة عن بيوت من شعر الجمل وتعد ملجأ معتدلا في الصيف تحمي جيدا من الرياح وأمطار الشتاء.

ب_ المساكن الريفية: هذا النوع من المساكن يستخدمه شبه الرحل من المتحضرين وكذا المتحضرون وأحيانا الرحل في موسم جني التمور وعادة ما يكون بالأرياف قرب الغيطان، ويعد مسكنا مؤقتا شهد بدوره تطورا عبر الزمن ومن أنواعه:

دار الكاف: وتسمى في بعض المناطق ” الكيب ” ، كانت من أقدم الملاجئ التي استخدمت في سوف ويتم بناؤها من خلال حفرة جانبية في سفوح الكثبان الرملية ذات الأراضي الصلبة، وتكون حيث توجد طبقة التافزة التي لا تسمح بانهيار الملجأ، و تشيد في الحاشية الجنوبية من غابة النخيل، يفتح بابها جهة الشمال مما يجعله بعيدا عن التعرض للشمس ، ويمكن احتماء جوانبه وسطحه بالتربة من احتفاظه بالبرودة ، ويستغل عادة من قبل كبار السن لقضاء وقت القيلولة من أيام الصيف الحارة ، كما تستخدم لحفظ المنتجات الزراعية في الغيطان . 


صورة ” الكيب ” توضح موقعه من ” الغــوط “


صورة مدخل ” الكيب ” موضحا اتجاهه للشمال يتقدمه ظله

الزريبة: وهي عبارة عن مسكن مؤقت ومناوب يستخدم من قبل البدو والحضر وتعتبر ملجأ من جريد النخيل نجدها بأعداد كبيرة خاصة في الجنوب ضواحي الوادي بالبياضة وعميش، وتعتبر سكنا وسطا ما بين الخيمة والمنزل، فالرحل الذين هم في طريقهم للتحضر والاستقرار والذين ليس بإمكانهم الحصول على منزل أو لا يتحملون العيش في الأماكن المغلقة لتعودهم على حياة الصحراء يمرون بالزريبة كمرحلة تطور.

مساكن الغيطان: تُبنى من قبل سكان الحضر قرب الغيطان لينتقلوا إليها في الصيف طلبا لاعتدال الجو وكذا في موسم جني التمور، ومساكن الغيطان في الأصل ما هي إلا تطور لما يُعرف بالزريبة والتي أصبح يُستخدم في بنائها الجبس وعادة ما تكون غُرفها صغيرة وبقباب وتغوص في الرمال بحوالي نصف متر تقريبا طلبا للرطوبة والاعتدال.


أحد المساكن المترامية بين الغيطان

   وبالرغم من تباعد هذه المنازل والذي تمليه ضرورة الحضور المباشر على مشارف الغيطان ، وما تسببه من عزلة حتمية، إلا أن الملاحظة تفيد بوجود بؤر سكنية مكونة من بضع منازل تتبادل الاستئناس ومنشطة لشبكة العلاقات الاجتماعية، وفي حالات ضرورية تتراءى جوانب المساكن متقاربة محافظة كل منها على وضعيتها داخل حدودها كما توضح الصورة الفضائية. 


صورة توضح محاولة السكان التقارب مع المحافظة على البقاء داخل الحدود

v الحراك الخارجي

  إن التنقل من مختلف مناطق وادي سوف إلى المناطق الشمالية الباردة كان موجودا منذ القدم ، بالرغم من صعوبة التنقل ، والمخاطر التي تعتريه ، وشاع هذا النمط من التنقل عند البدو ، فقد كان بدو المناطق الشرقية المتواجدين بدائرة الطالب العربي وحاسي خليفة والمقرن يتنقلون أواخر الربيع طلبا للكلأ وبرودة الجو إلى مناطق ” بئر العاتر ” و ” الشريعة” ومناطق من ” خنشلة”، أما رحل المناطق الشمالية التي تشمل مناطق “الرقيبة” و” الحمراية ” فعادة ما يتجهون إلى أقرب النقاط الباردة كـ ” خنشلة” او جنوب “باتنة” ، أما الجهات الغربية فوجهتهم ” الجلفة ” و” مسعد” ، ولا يعودون إلا بداية الخريف ، وترتبط حركة الترحال للبدو في أغلب مناطق المعمورة بالعامل المناخي الذي تعد الحرارة ـ بارتفاعها أو انخفاضها ـ عاملا أساسيا ، وبذلك تكون الحركة إما بداية الصيف أو بداية الشتاء ، وهو ما يوضح الارتباط الوظيفي بأحد الفصول أو كليهما ، حيث نجد العديد من الجماعات البدوية تنتقل من منطقتها في بداية الشتاء إلى مسارح تكون أقل برودة وأوفر عشبا وماء ثم ما تلبث أن تعود إلى موطنها من جديد مع بداية الصيف*” فإذا ما انتقلنا إلى الصحراء القوقازية نجد البدو في تركستان مثلا يرحلون إلى حدود الإقليم الجنوبي الجاف هربا من الظروف المناخية القاسية حيث يجدون في سفوح جبال تيان شان موارد للمياه تكفي لسد حاجياتهم “([2]) ، أما سكان المناطق الحضرية فتتعدد وجهاتهم تبعا للتسهيلات المتوفرة ، أو الارتباطات العائلية أو النشاطات التجارية ، وخص هذا التنقل عديد من المقاصد الشمالية الساحلية منها كمدينة عنابة وسكيكدة وضواحيهما، أو العاصمة وبدرجة أقل السواحل الغربية ، أما المقاصد الداخلية فتتواجد الأسر السوفية في العديد منها لا سيما ” خنشلة ” و” سدراته ” بسوق اهراس ، و”عين مليلة” والعديد من المدن والمناطق الداخلية الأخرى ، والتي ارتبطت في أغلبها بالسعي للقمة العيش بالدرجة الأولى حيث كانت العمالة متمثلة في التجارة ، أو العمل في الموانئ على غرار ميناء سكيكدة أو الأعمال الفلاحية أو في المطاحن ، وكانت هذه الأسباب فرصة لإيجاد فرص للمصيف للعائلة من أجل قضاء فصل الحرارة بعيدا عن قساوة الصيف في المنطقة .

  وقد وضح الأستاذ : ” بن سالم بن الطيب بلهادف ” هجرة سكان سوف بصورة عامة واتجاهاتها على النحو التالي :

“سكان الوادي ( المدينة) : الجزائر العاصمة ، فرنسا ، الجريد بتونس ، عنابة ، تقرت، ورقلة .

سكان قمار : بسكرة ، الجزائر

كوينين : عين فكرون ، قسنطينة ، مسكيانة ، تبسة ، مداوروش ، سدراته ، خنشلة ، وادي ريغ .

حساني عبد الكريم : سطيف

اعميش ( الجهة القبلاوية) : فرنسا ، متلوي ، أم العرائس

سيدي عون : بسكرة

المقرن : المناجم ( الجزائر ـ تونس) ، وفرنسا .

الزقم : عنابة ، تبسة”([3]) .

  ومع التطور الحاصل في مختلف نواحي الحياة وتوفر وسائل التنقل وتحسن المستوى المعيشي ازداد مستوى التوافد الصيفي على المناطق الشمالية، فقد شهد منتصف الثمانينيات نقطة تحول أفضت إلى انتشار ظاهرة مغادرة شباب المنطقة في جماعات لهذا الغرض أما العائلات فاقتصر على تلك التي تربطها علاقات قرابية ، وتقلصت هذه الحركة نسبيا بسبب الأزمة الأمنية التي عصفت بالمناطق الشمالية خصوصا في التسعينيات لتتغير الوجهة صوب مدن الجمهورية التونسية وما ساعد في ذلك الموقع الحدودي حيث تبعد أقرب نقطة للوادي من البحر في الجهة الشرقية 305 كلم بمدينة “قابس” التونسية ، وساعد تحسن الوضع الأمني على استعادة المدن الجزائرية استقطابها .

  وينتشر الحراك الصيفي في مختلف مدن العالم باعتباره فرصة للتنزه والاستجمام والتعرف على المناطق .

   إلا أن الغالبية من السكان ـ حسب الآراء التي صادفناها ـ تعتقد أن أهم أسباب التنقلات الصيفية تجاه مدن الشمال هو الهروب من الحرارة إضافة إلى عدد من الأسباب المحفزة الأخرى كالاستجمام والترفيه ” فتغيير مناخ البيئة والعمل عن طريق الرحلة له نتائج حسنة بالنسبة لصحة الفرد وكلنا يعلم ما هو أثر الراحة في تجديد نشاط الفرد وإقباله على العمل”([4])، وكذلك قضاء مآرب حياتية أخرى ، ولا ننكر وجود تداخل بين عديد المتغيرات الواردة أعلاه ، فهي تمثل صورة مصغرة لشبكة الممارسات الحياتية، فأغلب السكان يستغلون وجودهم بمناطق أخرى للترفيه والتعرف والاستكشاف غير أن سبب خروجهم هي الحرارة الفائقة ، وما يزيد تأكيدا لهذه الحقيقة نذكر :

  إفادة أحد المخبرين الذي يذكر بأنه كان يواجه صعوبة في إقناع والديه ـ كبار السن ـ مرافقته في الخروج للمصيف ، غير أنه وفي السنوات الأخيرة لم يعد يجد مشكلة ، لإقناع الوالدين بوجود فرق بين قضاء الصيف في حرارة الصحراء وبين حرارة الصيف في مدن الشمال .

   ونستفيد في هذا الإطار من معايشتنا الواقع في منطقة سوف ، إذ لاحظنا أنه في صيف سنة 2011، و2012 ازداد وبشكل ملحوظ قضاء شهر الصيام في مدن الشمال ، بالرغم من رغبة العائلات الجزائرية بصورة عامة قضاء هذا الشهر في بيوتها وبين ذويها ، من ناحية ، ومن ناحية ثانية انعدام إمكانية الاستمتاع بأجواء البحر الصيفية ، وقلة فرص الاستجمام والتنزه ، إلا أنه وبالرغم من كل هذا فإن الرغبة الملحة للتخفيف من عناء الصيام تحت حرارة الصحراء هي الدافع الرئيس لهذا التنقل .

5. المقاصد وآليات التنقل

  يقصد عدد معتبر من سكان منطقة سوف المدن التونسية لقضاء أيام العطل الصيفية التي تمتد بين 15 و 25 في الغالب لمعظم العائلات ، وهي فترة كافية للراحة والاستجمام ، غير أن الغالبية من متوسطي الدخل يشتكون غلاء بعض الضروريات منها الكراء والبنزين ، الذي يضطرهم إلى عدم إتمام فترة الصيف ، غير أن العدد الأكبر يقصد المناطق الجزائرية ، للاستفادة من عدد من الميزات ، وتنوعت في السنوات الأخيرة المقاصد فازدادت العائلات الوافدة للمناطق الداخلية بدلا من الساحلية، رغبة في جو بارد ، والاستفادة من أقل الأثمان في كراء المنازل للبقاء مدة أطول قد تستغرق الصيف كله .

  وقد شهدت ثقافة الحراك الصيفي انتشارا واسعا في السنوات الأخيرة ، وأصبح الجميع معني بهذه الظاهرة ، فيقوم العديد بتأكيد حجوزاتهم للمنازل منذ أشهر الربيع ، ومنهم من يبقى على اتصال بصاحب بيت الصيف الماضي ، كما انتشرت مؤخرا شراء العقارات بغرض تأمين مقصد دائم ، ويقول أحد الإخباريين ” ارتأيت شراء بيت متواضع لتأمين فترة صيفية دائمة ومستقرة ، وبالنظر لارتباطي ولا يمكنني البقاء الدائم ، سلمت البيت لأحد الجيران المؤتمنين للاستفادة منه حتى الصيف ” ، ويغري البعض الآخر أحد الجيران بمبلغ بسيط قصد حثه على مراقبة البيت الذي عادة ما يتوفر على الضروري من المقتنيات .

   وأخذ هذا الإجراء ـ الحراك الصيفي ـ صبغة الضروري بعد أن كان من الكماليات ، فيقوم البعض بشراء سيارة لهذا الغرض ، والعديد ممن لا يملكون السيارة يقومون بتأجير من يقلهم إلى المقصد ويرجع لهم نهاية الموسم ، أما منازلهم فيأتمنون عليها أحد الجيران أو الأقارب ، الذين يحرصون على حماية ممتلكاتها ويمكنهم استغلالها عند الضرورة ، وهي أحد صور الترابط والتآلف بين الجيران أو الأقارب .

خاتمة :

  تنبأت العديد من الدراسات المختصة بأن درجة الحرارة في ارتفاع مستمر، صاحبه ارتفاع الضغط على سكان المناطق الصحراوية ومنها منطقة سوف ، وباعتبار أن عمليات التنقل أسهل من السابق بفعل توفر وسائل النقل وتجديد الطرقات وانتشار ثقافة الاستجمام، فإن موجة الوافدين الصيفيين إلى مدن الشمال في تنامي مستمر، ومن المتوقع أن تتحول هذه الظاهرة إلى نزوح بيئي بفعل عملية الطرد التي تمارسها البيئة المحلية ، وبذلك تتزايد الانشغالات وتتعالى الصيحات لصانعي القرار مفادها : ألا يمكن اعتبار السكان من الفئات التي ” تعرّفها اتفاقية جنيف لعام 1951 باعتبارهم نازحين نتيجة للتغير البيئي”[5] ؟ اأم يحن الوقت لمساعدة سكان هذه المناطق لمجابهة هذه الظروف ؟.

قائمة المراجع :
القرآن الكريم .
صلاح مصطفى الفوال : علم الاجتماع البدوي ، الكتاب الأول ، دار غريب للنشر والتوزيع القاهرة : مصر ، 2002.
بن سالم بن الطيب بلهادف: سوف تاريخ وحضارة ، مطبعة الوليد ، الوادي ، الجزائر،2008 .
اوليفيادون و فرانسوا جيمين : تعريف الهجرة البيئية ، مجلة الهجرة والبيئة، مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ، ديسمبر 2008 .
يسري الجوهري : المضمون البشري في الجغرافيا ، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية ، مصر ، الطبعة الأولى 1999 .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ـ ظاهرة جفاف التمور وما يسمى محليا ” القنط” هو جفاف يصيب التمور الطرية في شهر اوت حيث الحرارة العالية .
* ـ الفولية : قرية تابعة لدائرة الرقيبة بولاية الوادي على الطريق الرئيسي بسكرة ـ الوادي على بعد 40 كلم من مقر الولاية.
(1)ـ ح .النعمان و ر. الطلحاوي : تأثير البيئة الطبيعية والثقافية في تشكيل البنية الفضائية ، مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية ،المجلد 24 ، العدد الثاني 2008، ص13
* ـ ورد في القرءان الكريم قول الله سبحانه وتعالى في سورة قريش :” لايلاف قريش ايلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوع وامنهم من خوف ” ، ويحدد النص القرءاني بالرغم من قصره اهمية رحلة الشتاء والصيف كما يحدد هدفها ومسارها، حيث كان عرب مكة يرتحلون صيفا الى الشام ، وشتاءا الى اليمن حتى الفوا القيام بها بصفة دورية مستمرة نظرا لما تسفر عنه الرحلتان من امان نفسي واجتماعي وغذائي وامني .
(1) ـ صلاح مصطفى الفوال : علم الاجتماع البدوي ، الكتاب الأول ، دار غريب للنشر والتوزيع القاهرة : مصر ، 2002، ص 370.
(1) ـ صلاح مصطفى الفوال : علم الاجتماع البدوي ، الكتاب الأول ، دار غريب للنشر والتوزيع القاهرة : مصر ، 2002، ص 370.
(2)ـ يسري الجوهري : المضمون البشري في الجغرافيا ، مكتبة ومطبعة الإشعاع الفنية ، مصر ، الطبعة الأولى 1999 ، ص 123.

للاطلاع على العدد كاملا اضغط         هنا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آخرالمواضيع






جيومورفولوجية سهل السندي - رقية أحمد محمد أمين العاني

إتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...

آية من كتاب الله

الطقس في مدينتي طبرق ومكة المكرمة

الطقس, 12 أيلول
طقس مدينة طبرق
+26

مرتفع: +31° منخفض: +22°

رطوبة: 65%

رياح: ESE - 14 KPH

طقس مدينة مكة
+37

مرتفع: +44° منخفض: +29°

رطوبة: 43%

رياح: WNW - 3 KPH

تنويه : حقوق الطبع والنشر


تنويه : حقوق الطبع والنشر :

هذا الموقع لا يخزن أية ملفات على الخادم ولا يقوم بالمسح الضوئ لهذه الكتب.نحن فقط مؤشر لموفري وصلة المحتوي التي توفرها المواقع والمنتديات الأخرى . يرجى الاتصال لموفري المحتوى على حذف محتويات حقوق الطبع والبريد الإلكترونيإذا كان أي منا، سنقوم بإزالة الروابط ذات الصلة أو محتوياته على الفور.

الاتصال على البريد الإلكتروني : هنا أو من هنا