جريدة الأهرام - قضايا
و آراء -الأربعاء - 24
من محرم 1430 هـ -21 يناير 2009 - السنة 133- العدد 44606 :
بقلم د. حمدي هاشم :
لاشك أن للحروب في الماضي والحاضر آثارا واضحة
على فكر وثقافة وحضارة الشعوب في مختلف أرجاء العالم, وأن الفرق شاسع بين حرب البسوس
التي دارت في الجاهلية بين قبيلتي بكر وتغلب, وبين عملية الرصاص المصبوب في
الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة, من ناحية الأخلاقيات العامة والتقارب في القوة
ووسائل الإغارة ونوعية الأسلحة الفتاكة المستخدمة التي يحرمها المجتمع الدولي.
إن إشكالية البيئة وأخواتها الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية ومكافحة الإرهاب,
قد سقطت وراجت بضاعتها في أنحاء العالم من تلك الحداثة الأمريكية الرأسمالية مع
نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي, حيث تضمها أجندة فكرية واحدة
متسلطة عليىقائمة اهتمامات كل من العلم والسياسة والرأي العام الدولي ، ومن ثم جاء اهتمام
هؤلاء الناشطين السياسيين كما الباحثين الأكاديميين بذلك الأثر البيئي المروع
والمستمر, الذي يفوق كل تقدير أو توقع, نتيجة ما تخلفه الحروب الحديثة في
البيئة من دمار شامل وتدهور طبيعي وتخلف اقتصادي. وحيث أن تقدير الآثار البيئية
المترتبة عن حرب غزة تخضع لعوامل عسكرية عديدة في مسرح العمليات الحربية والمدة
الزمنية والتكتيك المعتمد والأسلحة المستخدمة.
شهدت
حرب الولايات المتحدة الأمريكية على العراق إطلاق أعداد غير مسبوقة من الصواريخ
الباليستية, بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل من قذائف اليورانيوم المنضب
والقنابل العنقودية, بالإضافة إلى قنابل أخرى ذات قوة تدميرية جبارة, وقد
ساهمت هذه الحرب بشكل واضح في تلويث المياه الطبيعية وزيادة التلوث الكيميائي والإشعاعي,
إضافة إلى أنواع أخرى من التلوث لم تحدد بعد وسيظل التلوث البيئي بذلك العنصر
السام من اليورانيوم المنضب لحقب جيولوجية قائمة, وتبقى الأجزاء غير المتفجرة من
القنابل العنقودية ألغاما موقوتة تحصد الأرواح وتعطل التنمية, ومن المنتظر حدوث
تشوهات في التركيب الجيولوجي لطبقات سطح الأرض, نتيجة تتابع الهزات الأرضية
المصاحبة لإلقاء القنابل ذات القوة التدميرية غير المسبوقة, وبشكل خاص مكامن
المياه الجوفية التي يزيد تعرضها لتسرب الملوثات من سطح الأرض, ولن تفلت منظومتا
الحياة البرية والنباتية من التعرض لتغيرات بيئية حادة تؤدي إلى خسائر بيئية ـ
اقتصادية مروعة. أضف إلى ذلك, انتشار الفوضى المدنية وانهيار منظومة المرافق
الحيوية, من محطات الكهرباء, والمياه والصرف الصحي وغيرها, وتلوث المسطحات
المائية بالمخلفات المماثلة والعملية وما يترتب على ذلك من تفشي الأمراض والأوبئة
وتزايد احتمالات الإصابة بالأمراض السرطانية, ولاسيما سرطان الدم عند الأطفال,
بالإضافة إلى تزايد حدوث التشوهات الخلقية في الأجنة وتزايد معدلات العقم عند
البشر والحيوانات, كما أن هناك أنواعا جديدة غير معروفة بعد من الأمراض والأوبئة.
ينسحب
ذلك الدمار البيئي الشامل لحرب العراق على حرب لبنان, حيث لم تفلت البيئة
البحرية للبحر المتوسط بطول الساحل اللبناني من التلوث بالنفط, كما حدث بسواحل
العراق والكويت في الخليج العربي. هذا ومن وجهة نظر علم النفس البيئي, تعد
إصابة الأطفال بالمشاكل النفسية العميقة من المخاطر الحميمة للعمليات الحربية,
حيث يظل الطفل المعرض لويلات الحرب أسيرا لنوبات من الهلع والخوف مصحوبة بصعوبات
بالغة في التفكير وحالات من القلق والاضطرابات, وقد صرحت مؤسسات الإغاثة التابعة
للأمم المتحدة, بأن الأطفال في فلسطين والعراق الأكثر تعرضا لمخاطر الضغط النفسي
من جراء العمليات الحربية لإسرائيل والولايات المتحدة, وأن نسبة كبيرة من هؤلاء
الأطفال تحتاج لعلاج نفسي طويل الأمد, ومن ناحية أخرى,
يختلف الأثر البيئي ـ النفسي للحرب عند أطفال العمليات الحربية من قرب وهؤلاء
الأطفال الذين يتأثرون من البعد, ودليل ذلك اهتمام الدول المتقدمة بالتوازن
النفسي لدى الأطفال لإزالة الآثار واستيعاب تلك الحروب التي تدور خارج حدودها في
دول أخرى, وذلك نتيجة تعرض هؤلاء الأطفال لمشاهدة بعض المناظر المؤلمة للمجازر
البشرية, التي تبثها الفضائيات عبر شاشات التليفزيون وتبقي إشكالية تقدير التكاليف
الباهظة للدمار البيئي الشامل نتيجة الحروب, التي تقدر بمئات المليارات من
الدولارات وتتطلب لإزالة آثارها في المحيط الحيوي داخل الحيز البيئي لمعيشة
الإنسان خططا عالمية طويلة المدى تصل إلى آلاف السنين. فليس المطلوب الإعمار
المحلي لمناطق الحروب دون النظر في ضرورة معالجة تلك الآثار البيئية الحادة, بل
المطلوب من المجتمع الدولي تفعيل مبادئ العدالة البيئية بين الشعوب وعلى الدول
المتسببة في الحروب دفع تكلفة إصلاح ذلك الدمار البيئي الشامل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق