مستقبل العمران البيئي في إقليم القاهرة الكبرى
جريدة الأهرام
الخميس - 12 من رجب 1428 هـ - 26 يوليو 2007
- السنة 131 -العدد 44061
بقلم : د. حمدي هاشم - خبير
جغرافيا بيئية drhhashem@yahoo.co
يتبنى المجلس الأعلى للسياسات
بالحزب الوطني الديمقراطي قضية تحديد الرؤية المستقبلية للقاهرة(2050), في ظل
تلك المتغيرات العالمية والمتطلبات القومية والإسقاطات والمصالح الإقليمية,
تمهيدا لإنتاج مخطط استراتيجي لإقليم القاهرة الكبرى يتناغم مع وظيفة العاصمة المصرية,
وذلك بإدارة حوار شامل لرصد الرأي حول الموضوع. تلك الإرادة السياسية التي توفر
للمشروع الحصول على الدعم المؤسسي من الحكومة المركزية والمحلية, وضمان مراقبة
سياسات التخطيط الحضري لرصد مسار التنمية وضبط إيقاع نمو الإقليم, برؤية علمية
شاملة, قد توفر لها رصيدا من الدراسات السابقة, نخص منها بالذكر: دراسة
السياسة القومية للتنمية الحضرية في مصر, ومعها دراسة تخطيط التنمية الحضرية لإقليم
القاهرة الكبرى حتى عام2000.
حيث تؤكد الدراسة الأولى مفهوم
التخطيط الاستراتيجي لإقليم العاصمة باستخدام ممرات التنمية طويلة المدى,
المتلازمة مع الخطة الأفقية لنمو العاصمة والمدن الكبرى, حيث أكدت الدراسة ان
حلول مشاكل القاهرة لن تأتي من داخلها بل لابد أن تبدأ من خارجها, وذلك بتحسين
وضع إقليم الإسكندرية باعتباره الإقليم الحضري الرئيسي المنافس للقاهرة, مع
الاهتمام بتنمية منطقة قناة السويس والتركيز علي مدينة السويس لكونها تمثل مركزا
حضريا مهما, أضف إلى ذلك ضرورة توجيه الجهود نحو ثلاث من مدن جنوب الوجه القبلي
بغرض تخفيف حدة التركز السكاني في شمال الوادي والدلتا. أما الدراسة الثانية فقد
وضعت التخطيط العام لإقليم القاهرة الكبرى, من منظور ديناميكي يتسق مع حركة
التنمية الحضرية في المستقبل, مع الأخذ في الاعتبار المراجعة المستمرة لفرضياته.
ومن مراجعة سريعة لمراحل تطور
مدينة القاهرة, تجدها قطعا قد تجاوزت لا تخلو من روابط ثقافية لعصور مختلفة,
منذ الدولة الفاطمية ثم المملوكية حتى العثمانية, وتري القاهرة الجديدة( باريس
الشرق) وليدة مدة حكم الخديو إسماعيل(1863-1879), وقد اختزلت مبانيها صفوة
الفكر المعماري الأوروبي, بتخطيط عمراني حديث يأخذ بتطور وسائل النقل والخدمات
ويبرز الموقف الحضاري للمدينة, حيث أصبحت منطقة وسط القاهرة بمثابة متحف فني
مفتوح يقدم تشكيلة من المباني النادرة. ومنذ عصر إسماعيل وحتى الآن نجد أن
القاهرة قد نمت وتشكلت بتلقائية وعشوائية مفرطة, يشهد عليها ذلك التدهور الحضري
والتلوث البيئي, في ظل غياب التخطيط العمراني المسئول عن تشكيل شخصية المكان.
ولما تعقدت المشكلات الحضرية بالقاهرة وبلغت ذروتها في التكدس السكاني والسكني
والصناعي المخيف وما صاحب ذلك من أوجه القصور في وظائف المرافق والخدمات, كان
لابد من وقفة هادئة حول ذلك الموروث الحضاري للحكومات المتتالية, لتقييم الحالة
العمرانية وتحديد الصعوبات والمشاكل التي تواجه سكان القاهرة الكبرى بتركيبتهم
الاقتصادية في الحاضر والمستقبل, ومن ثم فتح باب المشاركة في الحوار الديمقراطي بين كل فئات المجتمع(
في الداخل والخارج) لدعم الرؤية الإستراتيجية لقاهرة مصر التي ستحدد طبيعة نمو الإقليم
من حولها.
يأتي التحليق حول تلك الرؤية
المستقبلية, من منطلق أن البيئة الطبيعية هي المحور الأكثر تأثيرا في حياة الإنسان,
وأن أرض الواقع يحكمها بعض المحددات وهي: أن القاهرة الكبرى يتوطن فيها أكبر
منطقتين صناعيتين في مصر( شبرا الخيمة وحلوان), وأن ترتيب شدة تلوث هواء
القاهرة بالأتربة العالقة( حجم10 ميكرون) يجعلها الثالثة بين اثنتين وعشرين
مدينة علي مستوي العالم( البنك الدولي 1999), وأن القاهرة تعاني من ارتفاع
منسوب الماء الأرضي المختلط في الغالب بمخلفات صرف سكنية وصناعية, قد تؤدي لكارثة
بيئية نتيجة تأثير ذلك على أساسات المباني وعناصر البنية التحتية, بالإضافة إلى
وجود عديد من المواضع الأثرية هي بمثابة الأعمدة لدخل السياحة في مصر, ولكنها
تتعرض ببطء لأخطار ذلك التلوث والتدهور البيئي. أضف إلى ذلك أن القاهرة مازالت
قبلة الهجرة الداخلية من المحافظات الطاردة لسكانها, الأمر الذي يدعو إلى إعادة
التفكير في حجم ذلك الإنفاق الضخم والاهتمام الزائد بالقاهرة دون غيرها لتحقيق
العدالة والمساواة بين الأقاليم والسكان.
عند التفكير في مخطط إستراتيجي
للقاهرة ينعكس علي اقتصاديات الإقليم من حولها, لابد من تأكيد شخصية المكان
العمرانية والبيئية عبر التاريخ, الفرعوني والقبطي والإسلامي والحديث( القاهرة
الأوروبية), وفيما يلي رؤية لأهم المشاكل الحضرية داخل الإقليم:
* مناطق القاهرة
العشوائية والمتدهورة, التي تمثل ببؤرها السكنية أزمة حضرية ذات مشاكل اجتماعية
حادة, تؤثر علي نوعية البيئة العمرانية من حولها, والحل ليس في تحزيمها, بل
الارتقاء بها عمرانيا, ولدينا التجربة الرائدة التي نفذت في عزبة الوالدة ومساكن
زينهم ومنشية ناصر وغيرها, التي تحقق هدف الارتقاء ببيئة تلك التجمعات السكانية
التلقائية, ومن ثم يمكن تعميم التجربة ( بعد دراسة المواقع والإمكانيات)
والأخذ بمنهجها الذي يؤكد المسئولية الاجتماعية لقطاع الأعمال الخاص, لاسيما
رجال الأعمال البارزين به, في استثمار بعض الفوائض المالية لخدمة البيئة
والمجتمع, مع جذب وتنشيط جمعيات المجتمع المدني للمشاركة في تجربة الإصحاح
العمراني التطوعي, بالتخفيف عن الشرائح الدنيا في العشوائيات التي يمكن تعظيم
الاستفادة الاقتصادية منها بدلا من تهميشها أو عزلها.
*المنطقتان الصناعيتان
في شبرا الخيمة وحلوان, وما تمثلانه من مسئولية اجتماعية مركبة, نتيجة ذلك
التدهور والتلوث البيئي المستمر في القاهرة( التي تتنفس التلوث الصناعي), وحل
تلك المعضلة البيئية في الشمال يختلف عن الجنوب, لأن توطن الصناعة في منطقة شبرا
الخيمة يعد من كبائر غياب التخطيط العمراني ــ البيئي, حيث تقع مصانعها في اتجاه
الريح السائدة التي تلقي بحملها من الملوثات السامة فوق سكان القاهرة. ومن واقع
أن تكلفة بقاء تلك المصانع في مواقعها الحالية تفوق بكثير نقلها إلي مواقع جديدة
بحساب تكاليف وأعباء أمراض التلوث وصحة المحيط الحيوي, لذا يجب تهجير المصانع
الملوثة للبيئة بمواقع بديلة في الصحراء باتجاه الشرق( من دراسة لأمثل المواقع),
علي أن يعاد استخدام مواقعها كمخازن ومعارض تجارية لبيع المنتجات, مع إعادة
تخطيط المنطقة بما يتوافق مع الوظيفة المستقبلية للعاصمة. أما في حلوان فيمكن
الإبقاء علي المصانع القائمة في جنوبها بمنطقة التبين, وذلك لصحة توطنها بحساب
محصلة اتجاهات الرياح, مع تحزيمها بسياج من المزروعات والأشجار ذات الأنواع
الماصة لملوثات الهواء, بما في ذلك الارتقاء بالبيئة الصناعية وتقليل الانبعاثات. وعلى عكس
ذلك يجب التفكير في نقل مصانع الأسمنت المتوطنة بمنطقة طرة, شمالي حلوان,
لتأثيرها الضار بأتربتها وغبارها علي نوعية وجودة البيئة, بالإضافة إلي خطورة
تلك الآثار البيئية لتفجيرات الحجر الجيري بمحاجرها على المناطق المجاورة, مما
يتيح إعادة التنمية العمرانية بالمنطقة وإحياء مشروع عين حلوان السياحي.
* المقابر الشاهدة
بمواضعها الحالية علي حركة نمو المدينة وتوسعاتها التاريخية, إلا أن أغلبها
يتعرض حاليا لظاهرة ارتفاع الماء الأرضي, وقبل ذلك صارت موطنا خصبا لشريحة
سكانية وجدت فيها حلا اقتصاديا لأزمة الإسكان في القاهرة, ومن ثم يمكن دراسة
نقلها إلى أماكن جديدة وصحية في الصحراء خارج محاور النمو العمراني المستقبلية,
ويستثني منها المقابر ذات الصبغة الدولية ــ التاريخية. وفي حالة نقل المقابر
تحل محلها الحدائق المفتوحة( علي شاكلة حديقة الأزهر), زيادة في توسعة الرقعة
الخضراء التي تضخ إلى الهواء كميات ضخمة من الأكسجين الحيوي لتحسين بيئة هواء
القاهرة في أثناء النهار.
* قضايا نقل المصالح
الحكومية إلي الأطراف وتفريغ قلب العاصمة منها, مع إيجاد وسيلة نقل لموظفيها(
سهلة واقتصادية) ولتكن كجهاز نقل الركاب للقوات المسلحة بالمنطقة المركزية.
وإعلان أن القاهرة مدينة مغلقة أمام المشروعات الاقتصادية الجديدة( طرح في عام1973).
ولتعظيم الاستفادة من إمكانيات مرفق مترو الأنفاق, والتخفيف من كثافة وحركة
المرور داخل العاصمة, والاستفادة البيئية من المساحة التي تشغلها حاليا خطوط
السكك الحديدية داخل القاهرة الكبرى, حيث أوصت دراسة بأن تكون محطة شبرا الخيمة
لقطارات الوجه البحري ومحطة الجيزة لقطارات الوجه القبلي. وأخيرا الإبقاء علي
نهر النيل كبحيرة هادئة توفر للمدينة التنوع البيئي, مع عدم التوسع المستقبلي في
المشروعات الاقتصادية المرتبطة بنهر النيل للحفاظ علي بيئة مصدر مياه الشرب من
التلوث, ومن ناحية أخرى يجب النظر بعين الاعتبار للضغوط البيئية المحتملة نتيجة
التغيرات المناخية المقبلة ولاسيما ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة وتذبذب وفصلية
المطر وارتفاع منسوب سطح البحر, التي تقتضي ضرورة إعادة توزيع السكان في المعمور
المصري.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق