الأبعاد الجيوسياسية للمنطقة الأورو متوسطية
الباحث قلواز إبراهيم
الملخص:
تعتبر المنطقة الاورومتوسطية قلب العالم النابض رغم التحولات الجغرافية والسياسية والثورة التكنولوجية التي عرفها العالم , وتكرست على إثرها خرائط جغرافية جديدة على الساحة إلا أنها لم تنل كثيرا من أهمية متوسط العالم القديم, وجاذبيته الجيواستراتيجية المهمة جدا لأي قوى كبرى.
تزخر تلك المنطقة المشار إليها آنفا,بجاذبية جغرافية وموارد وخيرات طبيعية ، وثروات حيوانية ونباتية, جعلت منها قطبا طبيعيا غنيا لإقامة أي تجمع بشري. يسعى لتحقيق الازدهار الاقتصادي والرقي الحضاري والثقافي, والرفاه الاجتماعي لأفراده,وهذا ما أدركته الكثير من الشعوب التي استوطنت المنطقة, إدراكا منها لذات الأهمية, من الفينيقيين والامازيغ والعرب ,إلى الإغريق والرومان مرورا بالوندال والبيزنطيين والأتراك والاستعمار الحديث في شمال إفريقيا.
لقد شكلت الموجات البشرية التي استوطنت المنطقة الاورومتوسطية ,فسيفساء حضارية قدمت إرثا لامتنا هيا للإنسانية,ما جعل المتوسط بحرا مفتوحا على الإبداع و الأفكار والحركات الخلاقة ,مسرحا للحضارات وسجلا لتاريخ الإنسانية, تنهل منه الشعوب الحالية دروسا لرسم المستقبل.
مقدمة:
يعتبر البحر الأبيض المتوسط أنموذجا مصغرا يمكن أن يقدم لنا قراءة عن التفاعلات الكونية ,وما يعطي زخما لا متناهيا لأهمية التفاعلات التي تشهدها المنطقة المشاطئة للبحر هو القاعدة التاريخية والحضارية والثقافية, بكل ترسباتها التاريخية, التي لازالت توفر إطارا مرجعيا لعلاقات الشعوب الحالية وبين ثناياها بذور ذلك التطور بثنائياته المتناقضة للتنوع والتنافر والتصادم والتعاون.
ويرجع الأساس في هذا التناقض الذي صاحب كل تطورات وتفاعلات شعوب المنطقة إلى جملة من العوامل الاقتصادية والحضارية ,ولكن أكثر تلك العوامل تأثيرا تعود في الأساس إلى العامل الجغرافي, والتقارب الذي جعل الضفتين دوما وجها لوجه وعليه يطرح السؤال:ماهي المميزات والخصائص التي تطبع التكوين الجغرافي للمنطقة الاورومتوسطية؟.
محاور المحاضرة:
1- الإطار العام للمنطقة الاورومتوسطية.
2- التكوين الجغرافي لأوروبا.
3- التكوين الجغرافي للوطن العربي.
4- الأهمية الجيوسياسية للبحر الأبيض المتوسط.
5- أهم النزاعات في المتوسط.
6- مقومات المنطقة الاورومتوسطية.
7- المشاكل التي تعترض استقرار جغرافيا المنطقة الاورومتوسطية.
8- مستقبل الخارطة الجغرافية للمنطقة الاورومتوسطية.
منهج الدراسة:
المكان هو معمل علم الجغرافيا ويعد موقع المكان المحور الأساسي لتحليل الكثير من الظواهر المكانية ونجد أن الجغرافي هارتسهورن اعتبر هدف الجغرافيا الطبيعية هو وصف الخصائص المتغيرة لسطح الأرض وصفا دقيقا ومنظما, وهذا لن يكون إلا من خلال منهجين متكاملين وهما:
-المنهج الأصولي : وهو منهج يهتم بالظاهرة ويركز على الأماكن أكثر من اهتمامه بالمساحة,لذلك نجد تطبيقاته في معظم فروع الجغرافيا الطبيعية(جغرافيا المناخ, البحار,المحيطات,النباتية,الحيوانية,التربة,الجيومورفولوجيا.....) وهو ما يمكن الباحث من الوقوف على التوزيع المكاني للظاهرة ,وعلاقتها بغيرها من المتغيرات ومعرفة الاختلافات المكانية بغية الوصول إلى تحديد شخصية كل إقليم جغرافي(1).
-المنهج الإقليمي: يدرس هذا المنهج كل الظواهر الجغرافية في وحدة مكانية واحدة هي الإقليم, الذي يعد حسب هذا المنهج جزءا من سطح الأرض بظواهر متجانسة تبرز شخصيته من خلال تحديد الأسس التي يقوم عليها كالنمط المكاني للقارة والدولة أو النمط المناخي والسكاني والحضاري,فتبرز لدينا أقاليم جغرافية متمايزة كإقليم البحر الأبيض المتوسط وإقليم إفريقيا المدارية(2).
إن تكامل المنهجين المذكورين في الدراسة الجغرافية ,وعلاقتهم بمختلف الفروع الجغرافية والعلوم الإنسانية والاجتماعية, هو الذي يمكن الجغرافي من فهم أبعاد الأقاليم الجغرافية وتمايزها, وشخصية الأماكن ومقوماتها ,ومدى تأثير ذلك على علاقة الإنسان بهذه الأقاليم وعلاقة الأقاليم نفسها ببعضها البعض مع مرور الزمن ,وكيفية إنتاج مختلف الظواهر الاجتماعية والإنسانية وقدرة الجغرافيا على التأثير فيها.
1-الإطار العام للمنطقة الاورومتوسطية:
أ- التعريف والتسمية:
يتوسط البحر الأبيض المتوسط ثلاث قارات هي :شمال إفريقيا وغرب آسيا وجنوب أوروبا,فقد عرف قديما على انه وسط العالم القديم فنجده عند الرومان معروف ب"ماري نوستروم " أي بحرنا بينما يعرفه الكتاب المقدس ب"البحر الكبير" ويعرف في اللغة العبرية ب"هَيَم هَتِيكُون"ويعني المتوسط,وقد سماه الأتراك"اكدينز "البحر الأبيض لزبد أمواجه الأبيض.
وبدورهم أطلق عليه العرب عدة أسماء فقد كانوا يسمونه ببحر الشام, وبحر الروم وأحيانا يطلقون عليه اسم البحر الغربي.
يطلق عليه أحيانا البحر المتوسط الأوروأفريقي, أو البحر المتوسط الأوروبي لتمييزه عن البحار المتوسطة في أماكن أخرى من العالم(3).
ب- الخصائص الجغرافية للبحر الأبيض المتوسط:
يظهر البحر الأبيض المتوسط كبركة تتوسط ثلاث قارات ,ويعد بمثابة جزيرة مرتبطة غير منفصلة,يقع بين خطي طول 5,5غربا و36شرقا وبين خطي عرض 46و30شمالا ,تبلغ مساحته 2,966كلم2ويبلغ متوسط عمقه1500متر وتعد أعمق نقطة فيه بالبحر الأيوني يصل عمقها إلى 5267م ويبلغ مجموع طول سواحله 46000كلم(4).
بحكم الطبيعة الجغرافية للبحر, يكاد يكون بحرا مغلقا لولا وجود منفذين نحو المحيطات هما:مضيق جبل طارق الذي يوصله بالمحيط الأطلسي, وقناة السويس التي تصله بباب المندب والبحر الأحمر ومنه إلى المحيط الهندي, كما نجد في شماله المضايق التركية البوسفور والدردنيل ,موصلة البحر الأبيض المتوسط ببحر مرمره ومنه إلى البحر الأسود.
يمتد من سواحل المغرب غربا إلى إيران شرقا ,ومن آسيا الوسطى إلى القرن الإفريقي والساحل العربي الإفريقي والصحراء,ويمثل المتوسط وحدة حقيقة بحيث تكامل سواحله الشمالية مع سواحله الجنوبية مما يجعله بحيرة حقيقة متصلة لا يمكن فصلها (5).
تحتوي جغرافية المتوسط على أكثر من 3300جزيرة, منها جزيرتان تشكلان دولا قائمة بحد ذاتها وهما جزيرتي قبرص و مالطا, إضافة إلى جزر أخرى بارزة على غرار كورسيكا صقلية سردينيا وجزيرة كريت اليونانية.
في الشرق: قبرص، كريت، رودوس، وأبية، لسبوس، شيوس، كيفا لونيا، كورفو، ناكسوس وأند روس.
في الوسط: سردينيا، كورسيكا، صقلية، كريس، كرك، براك،وجزيرة جربه التونسية .
في الغرب: إيبيزا، مايوركا ومينوركا وكلها من جزر البليار(6).
أدى انتشار هذه الجزر والخناق داخل الحوض المتوسطي إلى وجود عديد المسطحات المائية الصغيرة المعترف بها من قبل المنظمة الدولية الهيدروغرافية ومنها:
- بحر البوران، بين إسبانيا والمغرب.
- البحر البالياري، بين بر إسبانيا الرئيسي وجزر البليار.
- البحر الليغوري بين كورسيكا وليغور يا (إيطاليا).-
-البحر التيراني محاط بسرد ينيا، شبه الجزيرة الإيطالية وصقلية.
-البحر الأيوني بين إيطاليا وألبانيا واليونان.
-البحر الادرياتيكي بين إيطاليا ،سلوفينيا ،كرواتيا ،البوسنة والهرسك ،الجبل الأسود ،ألبانيا.
-بحر إيجة بين اليونان وتركيا(7).
هذه الخصائص والمميزات الجغرافية البحرية انعكست على مناخ المنطقة, إذ نجد مناخ البحر الأبيض المتوسط يتميز بالحر والجفاف صيفا, والممطر والمعتدل شتاءا,والمناخ بدوره انعكس على توزيع الأقاليم النباتية والمحاصيل الزراعية في المنطقة ,فنجد من محاصيله:
الزيتون، العنب، البرتقال، اليوسفي والفلين وأشجار الصنوبر ومحاصيل الحبوب كالقمح والشعير على السهول القريبة من سواحل البحر الأبيض المتوسط,كما أن الثروة الحيوانية تتأثر هي الأخرى بالمناخ العام للبحر الأبيض المتوسط ,ونجد بذلك انتشار واسع للأبقار والماعز والأغنام إضافة إلى تربية الدواجن.
بينما الثروة السمكية فتتأثر بخصائص أخرى للبحر الأبيض المتوسط والمتعلقة بنسبة التبخر العالية جدا إذ تتجاوز هذه النسبة نسبة تساقط الأمطار ومصبات الأنهار كما تزيد الملوحة العالية تأثير على توزيع الثروة السمكية خصوصا شرق المتوسط الذي يتميز بارتفاع نسبة الملوحة أكثر من بقية أجزاء البحر.
ج-الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط:
- من قارة إفريقيا:الجزائر(اكبر بلد متوسطي من حيث المساحةب2341781كلم2) ,تونس,المغرب(متوسطي أطلسي بواجهة بحرية على المحيط الأطلسي)ليبيا كأكبر بلد متوسطي من حيث الشريط الساحلي الذي يبلغ 1900كم,مصر كأكبر بلد متوسطي من حيث التعداد السكاني الذي يتجاوز80مليون نسمة.
- من آسيا:تركيا وهي دولة عابرة للقارات إذ توجد بها أراضي تنتمي إلى أوروبا,الكيان الصهيوني(غير محدد المساحة والحدود الجغرافية)قبرص(وهي جزيرة مقسمة بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين المنضمين إلى الاتحاد الأوروبي)سوريا,لبنان وفلسطين.
- من قارة أوروبا:ايطاليا(وتوجد بها دولتان مستقلتان هما الفاتيكان وسان مارينو)فرنسا(وتوجد لها أقاليم ما وراء البحار في إفريقيا وأمريكا الوسطى والجنوبية)اليونان(وتوجد بها دولة الجبل المقدس)ألبانيا,البوسنة والهرسك,الجبل الأسود,كرواتيا,سلوفينيا,مالطا(وهي اصغر دولة متوسطيةب316كم2)موناكو,اسبانيا بالإضافة إلى إقليم جبل طارق التابع للمملكة المتحدة البريطانية.
إلا أن هذا لايعني أن الدول المتوسطية هي الدول المعرفة طبقا للمعيار الجغرافي فقط أي لكل دولة تمتلك منفذ بحري على المتوسط وإنما هناك خلاف آخر ,إذ يرى الكثير من الباحثين والمحللين أن هناك دول أخرى أيضا متوسطية مثل:موريتانيا,البرتغال,اندورا,مقدونيا,صربيا والأردن وهكذا يتضح أن الإطار الجغرافي يمكن أن يتسع ليشمل دولا أخرى نظرا لطبيعة العلاقات الموجودة في المنطقة(8)
2-التكوين الجغرافي لأوروبا:
أوروبا تمثل امتدادا طبيعيا لآسيا نحو الغرب في شبه جزيرة كبيرة تبلغ مساحتها نحو 10ملايين كلم2 وهي ثاني اصغر قارات العالم مساحته ولكنها اكبر قارات العالم من حيث الشريط الساحلي نظرا للأذرع المياه والأنهار والبحار والمحيطات المجاورة للقارة والمتمثلة في المحيط الشمالي والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط وما يتفرع منه من بحار,إضافة إلى الأنهار الدولية العابرة داخل القارة كنهر الدانوب (رومانيا,المجر,النمسا,ألمانيا),ونهرالراين(هولندا,ألمانيا).
ونهر السين(فرنسا,سويسرا)إضافة إلى القنوات الملاحية المصطنعة المتصلة بالأنهار ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط في شبكة متكاملة(9).
والتكوين الجغرافي للقارة يتسم بالتقسيمات الرئيسية التالية:
أ- الكتلة الشمالية القديمة:
ممثلة في شبه جزيرة اسكندوناوة وشبه جزيرة اسكتلندا,شمال جزيرة ايرلندا, وإقليم ويلز,أهم ما يميز هذا القسم هو كثرة خلجانه العميقة وأبرزها فيوردات,وخليج فنلنده و خليج بوثنيا وصولا إلى البحر البلطي وتستخدم في توليد الطاقة الكهربائية ,ما يميز هذا القسم أيضا الانتشار المزدوج للسهول والبحيرات انطلاقا من سهول الدنمارك وفنلنده قرب بحيرات فنر وفتر وبحيرة لادوجا وانجا وصولا إلى مدخل بحر البلطيق ومنه تأتي قناة كاليد ونيا وجزر هبريدز وخليج فورث وكليد (10) .
ب- كتلة الرصيف الروسي:
ويغطي القسم الأكبر من شرق أوروبا وبولندا ويتميز بكثرة أنهاره واتصاله بأكثر من قسم سواء مع بقية أقسام أوروبا أو اتصاله بالقارة المجاورة آسيا وابرز أقاليمها الجغرافية.
يمتد السهل الرئيسي للإقليم ما بين خليج دانزج إلى سفوح جبال الكريات الشرقية وتتوسطه تلال فالداي ينحدر الإقليم جنوبا إلى البحر الأسود عبر نهر دنيير وشمالا إلى البحر البلطي عبر نهر الفستولا والى حوض قزوين عبر نهر الفولجا,والى السهل الاكراني عبر نهر دون ودونيتز(11).
ج- السهل الأوروبي:
ويمتد هذا القسم من السهل الروسي إلى غرب وجنوب فرنسا, ويتميز بالأنهار والمجاري العديدة التي تقطع أراضيه الخصبة, ذات التربة السوداء, ومنها انهار الجارون واللوار والسين في فرنسا,ونهر الراين بروافده داخل ألمانيا وهولندا وبلجيكا(12).
د- أشباه الجزر الجنوبية الثلاث :
وتتمثل في شبه الجزيرة الايبرية التي أحيطت شمالا وجنوبا بمرتفعات آلبية تتمثل في جبال البرانس ,وجبال سيرا نيفادا والسهل البرتغالي المطل على الأطلسي,وشبه الجزيرة الايطالية والتي تنقسم إلى ثلاث أقاليم متمايزة ,وهي إقليم سهل اللمبارديا المحيط بالسلسلة الآلبية من كل الجهات عدا الجهة الشرقية, حيث يصب نهر البو في البحر الادرياتيكي, أما الإقليم الثاني فتمثله القدم الايطالي المشكلة أساسا من جبال الابنين والسهول الساحلية الجانبية, والإقليم الثالث يحتضن الجزر الفاصلة القدم الايطالي بمضيق مسينا الضيق باتجاه جزر سردينيا وكورسيكا إلى ناحية البحر التيراني(13).
أما شبه الجزيرة الثالثة فهي شبه جزيرة البلقان المختلف تضاريسيا عن سابقيها ,وتتميز بهضبة البلقان البارزة والمنحدرة شرقا باتجاه بحر ايجة والبحر الأبيض المتوسط ,أما جنوبا فتمتد من سهول نهر الدانوب وروافده إلى نهر مورافا قرب مدينة بلغراد ونهر فاردار المتجه إلى مصبه في بحر ايجة عند نقطة مدينة سالونيكا اليونانية ,ومنه يأتي حوض بحر ايجة وهضبة رودوب إلى غاية سلسلة جبال طوروس وبونتس جنوب البحر الأسود(14) .
هـ - نطاق الهضاب الوسطى:
تمتد في نطاق عظيم من الغرب إلى الشرق ممثلة في هضبة فرنسا الوسطى(سفين) وهضبة بفار يا بألمانيا, وهضبة بوهيميا وهضبة الكريات في بولندا ورومانيا .
و-سلسلة النظام الآلبي:وتتكون من سلاسل الألب الوسطى نحو الشرق ومنها تتفرع سلسلة الجبال الدينارية,وسلسلة الألب الفرنسية وجبال الألب الايطالية وأعلى قمة بالسلسلة هي مونت بلاك (4808كلم)بين فرنسا وايطاليا(15).
3- التكوين الجغرافي للوطن العربي:
وهي ثاني أهم كتلة جغرافية تنتمي اغلب أقطارها الى المنطقة الاورومتوسطية, بمساحة تقدر بنحو أربعة عشر مليون كلم2,والبحرين هي اصغر وحداته بأقل من 700كلم2 وتتكون من قسمين رئيسين هما:
أ- البنية الآلبية الهملائية القديمة:
في القسم الشرقي تضم صحراء الربع الخالي والكتلة الالتوائية الحديثة بالشام, وأعلى قمة بها هي القرنة السوداء 3088كلم كما تضم الأقاليم السهلية على ضفاف اكبر الأنهار في المنطقة من دجلة والفرات بامتداد يشمل العراق وسوريا, ثم انهار الليطاني الحاصباني واليرموك ونهر الأردن بامتداد يشمل سوريا,لبنان,الأردن وفلسطين ثم نهر النيل والسهول الممتدة بين ارض الكنانة والسودان(16).
ب- البنية الآلبية الهملائية الحديثة:
وأبرز أقاليمها هي سلسلتي الأطلس التلي والأطلس الصحراوي, بأعلى قمة جبلية بالمغرب(طوبقال4165كلم)وهضبة مراكش 3300كلم بالإضافة إلى الصحراء الكبرى الجنوبية بوابة إفريقيا الكبرى وهي اكبر صحاري العالم(17).
4- أهمية البحر الأبيض المتوسط.
أ- أهمية الجيوسياسية للبحر الأبيض المتوسط:
يقدم المفكر الجيوبوليتيكي ماكيندر معادلة لنظريته للسيطرة على العالم وقوام هذه المعادلة انه من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على قلب الأرض, ومن يحكم قلب الأرض يسيطر على الجزيرة العالمية, ومن يحكم الجزيرة العالمية يهيمن على العالم, ومستقبل العالم حسب ماكيندر يتوقف على حفظ التوازن العالمي بين الأقاليم الساحلية ,وهي المعادلة التي يؤكد عليها المفكر المصري جمال حمدان, حيث يرى أن منطقة الهلال الداخلي أو منطقة الارتطام وهي الحدود الساحلية للجزيرة العالمية استطاعت أن تؤكد وجودها وتفرض نفسها على التوازنات العالمية بين قوى البر وقوى البحر(18).
ويؤكد التاريخ مسار الإمبراطوريات الكبرى والقوى الراغبة في السيطرة على العالم تأكيد هذه المعادلة, إذ كانت على الدوام سيادة الإمبراطوريات الكبرى ناقصة ما لم تتوجها بإحكام القبضة على الشريط الساحلي للجزيرة العالمية ,وإخضاعها لنفوذ الإمبراطورية أو القوة العظمى.
والأمر لايختلف اليوم إذ تضع الولايات المتحدة والقوى الكبرى نصب عينيها هذه الأهمية الجيوسياسية للمنطقة الاورومتوسطية من اجل تحقيق التوازنات الكبرى لإمبراطوريتها العالمية وفي نفس السياق دخلت دول الاتحاد الأوروبي مسار الشراكة مع دول الضفة الجنوبية للمتوسط إدراكا لهذه الأهمية ولوقف الزحف الأمريكي اتجاهها.
ب-الأهمية الحضارية للمتوسط:
يعتبر المتوسط مهد الحضارات الإنسانية منذ القدم, حيث نشأت على ضفافه حضارات بلاد النهرين ,والحضارة الفرعونية والإغريقية, والفينيقية ,وحضارة قرطاج, والحضارة الرومانية والحضارة الإسلامية ومن بعدها الحضارة العثمانية ,وكما انه مهبط الديانات السماوية الثلاث التوراة المسيحية والإسلام, وعلى ضفافه أيضا نشر معظم الأنبياء رسالاتهم ونشروا الدعوة التوحيدية .
هذا التنوع الثقافي الديني والحضاري, أعطى لشعوب المنطقة على مر التاريخ حوافز للتعاون والتكامل في فترات, ونوازع للقوة والغلبة والهيمنة لإعلاء حضارة معينة فكان الطابع الصراعي في فترات تاريخية بين الأمم في المنطقة.
وقد انعكس هذا التاريخ الحضاري الإنساني على شعوب المنطقة حاليا ,بنفس المكونات ونفس المفعول, إذ لا يزال الإرث التاريخي والحضاري مكونا فاعلا في وعي الشعوب وحركيتها وتفاعلاتها, ونتلمس ذلك من خلال العلاقة التي تربط المنطقتين ,وطبيعة التفاعل الذي يجمع بينهما ونوايا الحوار الحضاري الذي يقدم في كل مرة ,وهواجس الخوف التي يعاني منها كل طرف اتجاه الآخر ,كعقدة حضارية دينية أحيانا منمية للصراع ونوازع التفرقة, وكعوامل ايجابية للتنوع وإثراء الحضارة الإنسانية من منطلق القوة في التنوع (19).
ج- الأهمية الاقتصادية:
يعتبر البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة له فضاء اقتصاديا بامتياز,فعبر التاريخ شكلت الحركة التجارية في هذا الفضاء الدافع الرئيسي والمحرك لتفاعل العلاقات في المنطقة ومع باقي المناطق الأخرى, كما أن العامل الاقتصادي كان المنطلق للكثير من الصدامات التي شهدتها المنطقة,بداية من الفينيقيين الذين أسسوا موانئ ومدن تجارية بالبحر الأبيض المتوسط على غرار صور,قرطاج,صيدا,ثم جاء الرومان الذين أرسو علاقات تجارية في المنطقة ,وكانت منطقة شمال إفريقيا بمثابة مخزن روما من الحبوب والذي أنقذ الإمبراطورية الرومانية من الكثير من الأزمات الاقتصادية.
لقد شكل المتوسط منذ القديم حلقة الوصل بين منتجات الشرق الأقصى (التوابل والحرير من الهند والصين)ومنتجات الجنوب من بلاد فارس,الحبشة واليمن.
ورغم اكتشاف العالم الجديد إلا أن الكثير من العوامل ساهمت مجددا في تعظيم الأهمية الاقتصادية للبحر الأبيض المتوسط ومن هذه العوامل:
- الثورة الصناعية والحاجة إلى المواد الأولية ,إذ كان المتوسط والمنطقة الأوروبية الحاضنة الرئيسية لهذه الحركة الصناعية.
- الحركة الاستعمارية والتي جعلت من المتوسط جسر وممر عبور نحو المستعمرات لنقل المواد الأولية إلى مصانعها في الشمال.
- شق قناة السويس والتي زادت من أهمية البحر الأبيض المتوسط اقتصاديا وعسكريا لتسهيل تنقل بواخر النقل والشحن.
أصبح المتوسط المعبر الأسرع والأسهل لحاملات النفط اتجاه أوروبا حيث تعبر سنويا أكثر من 4مليون طن سلع و2500 باخرة وأكثر من 500باخرة صيد(20).
فبفضل المضايق البحرية والقنوات الملاحية والمعابر والأنهار, أصبح المتوسط أهم ممر تجاري في العالم,ينطلق من شرق آسيا في المحيط الهادي عابرا المحيط الهندي عند ميناء سنغافورة ليجتاز البحر الأحمر,باب المندب,قناة السويس وعبر مضيق جبل طارق نحو أوروبا والأمريكتين ليقلص المسافة التي تقطعها الأساطيل التجارية إلى النصف بالمقارنة بتلك التي تعبر إفريقيا الجنوبية (21).
فبالإضافة إلى المدخلان الرئيسيان للبحر الأبيض المتوسط من خلال قناة السويس بطول 164 كلم ومضيق جبل طارق, الذي يفصل أوروبا عن إفريقيا من جهة المغرب بمسافة 14كلم,تعتبر المضايق التركية نقطة عبور ثالثة بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط ,عبر ممر الدردنيل بعرض 5الى 13كلم والبوسفوربطول26كلم ,إضافة إلى القنوات الداخلية كقناة كورثيا بين بحر ايجة والبحر الادرياتيكي,وقناة ميدي التي تربط غرب المتوسط ومرسيليا بخليج بيسكاي المطل على الأطلسي عبر نهر الجارون(22).
هذه الأهمية التي تكتسيها جغرافية المتوسط جعلته محل أطماع القوى الكبرى, فترجمت ذلك من خلال التنافس الدولي في المتوسط, وانتشار الأساطيل العسكرية في مياهه وانتشار القواعد العسكرية, كما تترجم المشاريع والمبادرات التعاونية في المتوسط الرغبة المحلية والدولية في الاستفادة من المزايا التي يقدمها الفضاء المتوسطي, وتعكس النزاعات المستمرة في المنطقة أوجه التضارب في المصالح وتنازع القوى في الفضاء الاورو متوسطي.
- الأساطيل العسكرية في البحر الأبيض المتوسط :
بحيث نجد تمركز اكبر الأساطيل العسكرية في عرض البحر المتوسط ,على غرار الأسطول الحربي الأمريكي السادس, وأسطول السلام الروسي في قاعدة طرطوس السورية ,وانتشار القواعد العسكرية البريطانية في إقليم جبل طارق وقبرص و مالطا,إضافة إلى مستودعات الأسلحة المكدسة في إسرائيل والأسلحة النووية الأمريكية في تركيا والبوارج الحربية الإسرائيلية المحملة بالصواريخ النووية ,ويعمل انتشار كل هذه الأساطيل العسكرية والمظاهر العسكرية الأخرى في الحوض على تغذية النزاعات المستمرة في المنطقة وخلق توتر دائم(23).
5- أهم النزاعات في المتوسط:
أ- الصراع العربي الإسرائيلي:
حيث يشكل هذا الصراع لب الصراعات في المنطقة ولا تشكل أطرافه إسرائيل والعرب بل كل المنطقة الاورومتوسطية ,باعتبار أن قيام هذا الكيان انطلق منذ مؤتمر سايكس بيكو البريطاني الفرنسي 1916, ووعد بلفور 1917 ,كما أن الانتداب البريطاني والفرنسي ثم التبني الأمريكي لهذا الكيان كان له الأثر البالغ في تأجيج هذا الصراع ليتحول بعد قيام هذا الكيان إلى مسلسل للسلام والتسوية ,بين الجانب العربي و الإسرائيلي منذ مؤتمر مدريد ومؤتمر أوسلو.
الطابع التوسعي للاستيطان الإسرائيلي يبقى من ابرز المعالم المؤثرة على جغرافية المتوسط.
ب- النزاع في قبرص:
بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك, والمقسمة إلى اليوم حيث يعترف الاتحاد الأوروبي بقبرص اليونانية ,بينما يبقى الاعتراف بقبرص التركية من قبل تركيا فقط,ونجد حضور تركيا واليونان أيضا في النزاع حول جزر بحر ايجة وهي من النزاعات المعقدة عبر التاريخ ولم تجد أية حلول لها وهي من ضحايا الجغرافية المتوسطية(24).
ج- قضية الصحراء الغربية:
وهي من ضحايا الجغرافية الاورومتوسطية باعتبار أنها من تركات الاستعمار الاسباني, واستغل المغرب خروج اسبانيا من المنطقة ليقوم باجتياح المنطقة ما أدى إلى اندلاع النزاع الصحراوي ,والمقاومة المحلية من قبل جبهة البوليساريو من اجل استقلال الصحراء الغربية ,وهذه القضية بالضبط هي التي تؤثر على استقرار جغرافيا المنطقة.
د- سبة و المليلية ومضيق جبل طارق:
تعتبر أسبانيا مدينتي سبة و مليلية مدنا اسبانية بينما تطالب المغرب بهما باعتبارهما منطقتين مغربيتين لا يبعدان كثيرا عن جغرافية المغرب ,واندلع نزاع بين البلدين بعد محاولة المغرب دخول هذه الجزر,كما تسعى اسبانيا إلى استرجاع إقليم جبل طارق من المملكة المتحدة, وقد عرضت اسبانيا على الأخيرة عدة اقتراحات وامتيازات لتتنازل لها عن الإقليم, بينما تصر بريطانيا على التمسك بالإقليم وتحاول بشتى الطرق إيجاد موضع قانوني وإداري للاعتراف به من قبل الاتحاد الأوروبي, وإدراجه ضمن نشاطات وسياسات التكتل الأوروبي.
6- مقومات المنطقة الاورومتوسطية:
لاشك أن المنطقة الاورومتوسطية تعد مرتكزا لتقاطع جيوستراتيجي لاستراتيجيات عالمية ومحورا بارزا في رسم السياسات الإقليمية, وبعدا حيويا للاستراتيجيات الوطنية كرقم ثابت ومهم مع كل التطورات الجيواستراتيجية التي عرفتها المنطقة, وعرفها العالم ولم تتغير تلك الثوابت الجيواستراتيجية للمنطقة في معادلة السياسة الدولية واستراتيجيات الدول, بل أنها تطورت معها وتكيفت مع كل الظروف والمتغيرات, نظرا للمقومات التي تتمتع بها المنطقة ,وتبقى المكونات الجغرافية من ابرز العوامل المؤشرة على قوة تلك المقومات ودورها في تحديد السياسات والاستراتيجيات الوطنية الإقليمية والدولية.
ومن هذه المقومات التي ترتكز عليها أهمية المنطقة الاورومتوسطية نجد:
أ- المقومات الجغرافية:
ويقصد بها الأهمية الجغرافية لأي دولة من حيث الموقع والامتداد والشكل والحجم وواجهاته البحرية والمحيطية, أو موقعه الداخلي وكذا موقع العاصمة وتكامل الأقاليم الجغرافية الداخلية, ومدى تناسقها الجغرافي من تباعدها وتباينها حيث يشير الفكر الجيوبوليتيكي ومفكروه إلى أهمية الدولة وحيويتها ذات الحدود الطبيعية, وأفضليتها في وضع التكتيكات العسكرية والأمنية, إذ نجدها تتمتع بحماية وامن أكثر من تلك الدول التي لاتملك حدود طبيعية,وكذلك بالنسبة للموقع المرتبط بالمسطحات المائية وتأثير المناخ واستغلال البحار والمحيطات في النشاط التجاري والتوسع الاقتصادي حال بريطانيا,تركيا ,قبرص,بينما تعاني الدول المغلقة كالنمسا من غياب مثل هذه المسطحات المائية(25) .
وهذا ما ذهب إليه ماهان وتركيزه على القوة البحرية وأعطى مثالا لذلك على بريطانيا ,و ما كندر في نظريته مركز الأرض وقلب العالم, حيث يشير إلى الجزيرة الاوراسية كمركز للأرض ويعطي المنطقة الاورومتوسطية بعدا حاسما في نظريته, ولا يختلف التفسير الجيوبوليتيكي كثيرا عند كارل هاوسهوفر وسيبكمان, فالكل يعطي المكون الجغرافي بعدا حاسما في أهمية أي منطقة وهو ما ينطبق على جغرافية المنطقة الاورومتوسطية التي تشكل قارات العالم القديم .
ومن هذا المنطلق نجد أن دولة مثل روسيا الاتحادية تعاني على الدوام من مشكلة الحدود رغم أنها اكبر بلد مساحة في العالم, إلا أنها لاتملك حدود طبيعية تحميها مما يجعلها دوما تبحث عن التوسع من اجل خلق مناطق عازلة لحماية حدودها المشكلة من 70 بالمائة من حدود برية(26).
وهكذا تبرز دولتا مصر وتركيا كدولتين عابرتين للقارات, الأولى بين إفريقيا وآسيا ,والثانية بين أوروبا وآسيا ,وكلا الدولتين تمتلكان أكثر من واجهة بحرية فمصر دولة كما وصفها جمال حمدان بمكوناتها الأربع :الإفريقية, الأسيوية ,المتوسطية ,النيلية وواجهتها البحرية على البحر الأحمر وما تمثله قناة السويس كممر عبور دولي .
وبدورها تركيا دولة أوروبية آسيوية متوسطية, تمتلك واجهات بحرية على البحر الأسود وبحر ايجة وبحر مرمره ومضايق عبور دولية ,وهذا الوضع الجغرافي للدولتين سنجده ينعكس مباشرة على وضعهما الجيوبوليتيكي وموقعهما من السياسة الدولية واستراتيجيات الدول العظمى, رغم افتقار البلدين للمقومات الطبيعية الأخرى كالثروات المعدنية و الطاقوية.
ويعتبر موقع المغرب هو الآخر غاية في الجاذبية بواجهاته البحرية والمحيطية وقربه من أوروبا والممر المائي بين المتوسط والمحيط الأطلسي من جهة, وبين أوروبا وإفريقيا من جهة أخرى.
لقد شكلت الجغرافيا دوما الشغل الشاغل للمفكرين الاستراتيجيين وواضعي الخطط العسكرية والتكتيكات الحربية, كما أنها ضلت تشكل عقدة بالنسبة لأوروبا كون دولها دوما كانت تصطدم بالمساحة المفتوحة لروسيا ,والتي ظلت تشكل بالنسبة إليها مصدر قلق وتهديد دائم وغير متوقع وغير معين الأبعاد ,كما أن معظم الدول الأوروبية لا تتجاوز مساحتها أكثر من مائة ألف كلم2 وثلاث دول أوروبية فقط تتجاوز مساحتها النصف مليون كلم2, وهذا ما شكل عقدة أوروبية اتجاه الجغرافية جعلها تبحث عن حلول أخرى للتغلب على هذه العقدة, سواء من خلال الحروب والتوسعات والاستيطان الاستعماري في القديم وتعويض ذلك بالشراكات في العصر الحديث,نجد أن اصغر الدول مساحة في العالم تقع في أوروبا مثل :الفاتيكان ,سان مارينو,مالطا,مالدوفا,كما لا توجد أي دولة أوروبية ضمن الدول الكبرى مساحة في العالم واكبر ثلاث دول(فرنسا ,اسبانيا,كازاخستان).
ب- التضاريس:
تلعب التضاريس دورا مهما في تحديد سياسات الدول وتؤثر على وضع الاستراتيجيات وتحديد الأهداف, وسياسة الدول الأخرى اتجاهها ,حيث تؤثر عوامل التضاريس والمناخ على برامج التنمية في الدولة والسياسات التحديثية, وعلى مجمل نشاطات الأفراد في البلد, كما تؤثر تلك العوامل على تباين توزيع الأقاليم النباتية, وبالتالي التأثير على تنمية المناطق ما يخلق مشاكل جهوية تتعلق بتنمية وتحديث مناطق على حساب مناطق أخرى , فعادة ما تكون الحساسيات الجهوية ضحية للتضاريس والمناخ بين المناطق الساحلية والداخلية وبين مناطق الصحاري ومناطق الهضاب والمناطق الجبلية.
ج- السكان:
يتعلق تأثير عامل السكان بمدى تماسك المجتمعات داخل الدول, فالبلدان التي تتميز بالانقسامات و الاثنيات تعجز عن ترجمة مقوماتها الأخرى إلى قوة فعلية, وقدرة على التأثير وعلى العكس من ذلك تصبح عرضة للاستقطاب الخارجي والتدخل الدولي, وهو ما يتضح من خلال قراءتنا للتكوين البشري للدول الاورومتوسطية, حيث أن دول الضفة الجنوبية للمتوسط عرضة للدوام للتدخلات الخارجية نتيجة الانقسامات الحادة التي تطبع مجتمعاتها وهو ما اضعف الدول وافشل مشاريعها ,وجعلها عاجزة عن ترجمة ماتمتلكه من موارد وطاقات إلى سياسات فعلية ,على العكس من ذلك نجد أن تماسك المجتمعات الأوروبية كان عاملا حاسما في تجاوز الدول الأوروبية لمشاكلها العالقة, وتعويض النقص في الموارد والطاقات بالطاقة البشرية العضوية الفاعلة والمنتجة ,على عكس دول الجنوب المتوسطي المثقلة بمشاكل الأقليات(27).
د- المقومات الاقتصادية:
فالموارد الاقتصادية من حيث حجمها ونوعيتها وجغرافية انتشارها من ابرز عوامل قوة الدولة المادية, وهي التي تجعل الدول تنتهج سياسات فاعلة وهادفة ومؤثرة في النطاق الإقليمي ,والسياسة الدولية ,وهي ورقة ضغط مهمة في ترتيب المسائل العالقة بين الدول, ويمكن أن تتحول تلك الموارد إلى أدوات استعمار وابتزاز من اجل الهيمنة والنفوذ على سياسة الدول, والبلدان التي تفتقر للموارد الاقتصادية عادة ما تعاني من تبعية قاتلة تؤثر على صياغة مواقفها السياسية ,وهو ما تشهده العلاقات الطاقوية بين أوروبا وروسيا إذ أن الأخيرة تمارس على الدوام ضغوط وابتزاز على الدول الأوروبية, بينما دول مثل الجزائر وليبيا تستغل ثرواتها الطبيعية في مواقفها التفاوضية وفي القضايا السياسية, أي أن الثروات الطبيعية تمكن الدول من انتهاج سياسة خارجية اقتصادية من اجل حماية المصالح العليا للدول بالإضافة إلى تعبئة السياسات وتلبية الاهتمامات المحلية(28).
لقد كانت الموارد الطبيعية إحدى ابرز عوامل التكامل في الكثير من التجارب الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي الذي قام على استغلال الفحم والحديد, والاتحاد المغاربي الذي أسس من اجل التكامل بين أقطاره وتحسين الاعتماد المتبادل, من خلال (الحديد الموريتاني والفوسفات المغربي والغاز الجزائري والنفط الليبي)فالطاقات الطبيعية عادة ما تساعد على التعاون والتكامل الإقليمي ,ومن ثمة تنمية العلاقات عبر الإقليمية والدولة الأكثر امتلاكا للطاقات يمكنها أن تلعب الدور المحوري في الإطار التعاوني أو التكاملي ,على غرار ألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي, أو السعودية داخل مجلس التعاون الخليجي ,أو مكانة الجزائر في إطار اتحاد المغرب العربي.
هـ - بالإضافة إلى النظام السياسي في البلد والذي يمكنه أن يكون العامل الحاسم في مدى استغلال أو إساءة استغلال القدرات والإمكانيات المتاحة ,وكيفية ترجمة قوة الدولة إلى قدرات فاعلة ومؤثرة, وتجنيبها تبعات النقص الذي تعاني فيه بخلق فضاءات وآليات أخرى لتمكين البلد من تجاوز عقبات التبعية .
فالبلدان الأوروبية رغم نقص الإمكانيات والموارد الاقتصادية وضعف التكوين الجغرافي إلا أن الأنظمة السياسية في هذه البلدان والمتسمة بالطابع الشعبي العقلاني والديمقراطي, المبني على أسس الشرعية والرشاد و الحوكمة العالمية, في استغلال وإدارة الموارد مكن البلدان الأوروبية من حشد جميع الطاقات واستغلال القدرات البشرية وبلورة سياسات تتمتع بالولاء الجماهيري ,وحسن تدبير ومساهمة الفاعليات الشعبية والمعرضة للمراقبة والمتابعة لسياسة الأنظمة الحاكمة, ما خلق في أوروبا جو من الثقافة الحضارية التقنية والصناعية, عظمت من الإنتاج والطاقات وخلقت فائضا في الإنتاج لتصبح قوة فاعلة في العالم حيث منبر التنافس الانتخابي, والتنافس الاقتصادي في الأسواق, هما العاملان المحددان لصلاحية الأنظمة وبقائها.
حيث أن الدول الأوروبية تمتلك أنظمة حكم عريقة التجارب الديمقراطية, تثمن ارثها التاريخي والحضاري بداية من التجارب الديمقراطية في بلاد اليونان والرومان, ومن ثمة أسست هذه الدول لتجارب ديمقراطية حديثة, نتيجة الثورات العالمية في فرنسا وبريطانيا, وانتشار ظاهرة الدساتير, وفتح الحريات والتعددية ,ثم تجاوز مرحلة الأحقاد التاريخية والتوجه نحو التكامل والتعاون من اجل بناء أوروبا ,وتغليب المصالح العامة على التوجهات الضيقة ,من خلال أنظمة ديمقراطية تحترم إرادة الشعوب الأوروبية, وتترجم رغباتها في الوحدة الحرية والسلام.
على العكس من ذلك نجد أن الأنظمة السياسية في الضفة الجنوبية للمتوسط, ساهمت بإدارتها السيئة لشؤون المجتمعات, وتغليب المصالح الخاصة على مصالح الشعوب , وتمسكها بالسلطة والمؤسسات التقليدية الغير قادرة على معالجة مشاكل المواطنين ,وانتهاج سياسات ارتجالية مزاجية خاضعة للرغبات والأهواء السلطوية ,كل هذا أدى إلى سوء استغلال وإهدار قدرات وموارد الدول, وتفويت الفرص على أجيال بالكامل, فنماذج هذه الأنظمة لا تساعد وضعية الشعوب على ترجمة تلك القدرات والمميزات الهامة التي تتميز بها المنطقة الجنوبية ,والتي لاتزال محل أطماع القوى الكبرى إلى اليوم.
أدى فشل الأنظمة في الضفة الجنوبية إلى خلق أزمات متتالية, أثرت بشكل كارثي على الأوضاع العامة في هذه البلدان ,والنتيجة النهائية كانت مزيد من تعميق التبعية للشمال المتوسطي.
أدى غياب الديمقراطية والحكم الراشد عن تلك الأنظمة إلى الفشل في بناء نظام إقليمي يتيح للدول المغاربية على وجه الخصوص مواكبة التطورات والتحولات المتسارعة, التي تعرفها المنطقة الاورومتوسطية وفق مقاربة تشاركيه شاملة ,وكفيلة برفع مختلف التحديات الأمنية والتنموية .
7- المشاكل التي تعترض استقرار جغرافيا المنطقة الاورومتوسطية:
تعد المنطقة الاورومتوسطية بضفتيها الشمالية والجنوبية من أكثر لمناطق عرضة للتغيرات الجغرافية,فباستمرار تتعرض خرائط المنطقة للتغيير وهذا بفعل جملة من العوامل والمتغيرات التي تعتري المنطقة في كل مرة ,والمشاكل المتراكمة بشكل يؤثر سلبا على الاستقرار وبقاء الحدود على حالها.
القضايا الأمنية:
وفي مقدمتها قضايا النزاعات العالقة في المنطقة ,على غرار الصراع العربي الفلسطيني,حيث أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة الغير محددة الحدود والتي تتوسع بشكل مستمر وهي تغير الخارطة الجغرافية باستمرار وتخلق هذا التوتر المستمر,ونجد الحال نفسه في قبرص المقسمة بحدود أممية وهي ظاهرة متواجدة بلبنان وسوريا والأردن ومع مصر أيضا بالإضافة إلى النزاع التركي اليوناني على جزر بحر ايجة, ونزاع الصحراء الغربية والنزاع المغربي الاسباني على جزر سبة و مليلية,لواء الاسكندرونة بين تركيا وسوريا.
قضايا الإرهاب والأصوليات المتطرفة, التي تحاول في كل مرة خلق خرائط جغرافية ومحاولة فرض واقع جغرافي مغاير.
المطالب الانفصالية:
حيث نجدها منتشرة في الضفتين(إقليم الباسك في اسبانيا,كورسيكا-فرنسا,مديرا-البرتغال,إقليم جبل طارق البريطاني,المطالب الانفصالية في اكرانيا,أكراد تركيا وسوريا) النزاع على المياه في شرق المتوسط بسبب الأنهار الدولية العابرة, خاصة بين العرب وإسرائيل وتركيا والعرب من جهة أخرى ,ومصر والأردن مع دول منبع نهر النيل.
النزاع على استخراج الطاقات في الجرف القاري المتوسطي, وعرض مياه الحوض خاصة شرق المتوسط ,على الشريط الممتد من مصر,فلسطين,إسرائيل,سوريا,لبنان,اليونان,تركيا وقبرص(29).
هذه المشاكل وأخرى تعرض جغرافية المتوسط المستقبلية لعديد السيناريوهات المحتملة.
8- مستقبل الخارطة الجغرافية للمنطقة الاورومتوسطية:
سيؤدي ارتفاع المطالب الانفصالية في المنطقة على غرار الجمهوريات السوفيتية السابقة شرق أوروبا وانضمامها إلى روسيا على غرار القرم وسيفاستوبول وجمهوريات أخرى إلى اتساع خارطة روسيا من جهة وتقلص مساحة أوروبا من جهة ثانية,ومن جهة أخرى سيسرع الأمر بانفصال وحدات سياسية أخرى خاصة تلك التي تتمتع بالحكم الذاتي في ايطاليا,اسبانيا,البرتغال,فرنسا,اليونان وتبعث من جديد المشاعر الانفصالية ما يهدد المستقبل المتوسطي بانفجار دويلاتي.
كما أن الاتحاد الأوروبي في عمليته التوسعية بكل الاتجاهات مع حركة حلف شمال الأطلسي تؤثر هي بدورها على مستقبل جغرافيا المنطقة.
وتعتبر الطاقة محور رئيسي في معادلة تغير الخارطة الجغرافية, سواء الصراعات على التنقيب عرض المتوسط, أو جغرافية أنابيب نقل الطاقة إلى أوروبا من الخليج وشرق المتوسط ومن بحر قزوين, خصوصا الصراع المحتدم بين اكرانيا,تركيا,أذربيجان من جهة وبين روسيا,سوريا و إيران من الجهة المقابلة ,فالدول التي تمر بأراضيها هذه الأنابيب ستكون لها ميزة جيوبوليتيكة كبيرة تؤثر مستقبلا على حسم الكثير من الملفات حتى الجغرافية منها .
رغم ذلك يبقى أمل الربط الجغرافي بين الضفتين في الآفاق المستقبلية سيناريو تعمل على تحقيقه الكثير من الأطراف, فالفكرة مطروحة منذ مدة لمد جسر يربط بين اسبانيا والمغرب على مستوى مضيق جبل طارق في اقرب نقطة بين الضفتين, وحتى إمكانية مد خط سكة حديدية, وهذا ما سيكون له الوقع الأكبر على الخارطة الجغرافية للعالم المتوسطي لتتحقق وحدة المتوسط الفعلية إن تحقق مشروع الربط هذا.
خاتمة:
تشكل جغرافية المتوسط وحدة متكاملة للأقاليم, ما يجعل منه واحدة من أهم المناطق الجغرافية في العالم ,رغم الأهمية التي تراجعت لدوره خلال القرنين الأخيرين إلا أن النهضة الأوروبية الحديثة واستقلال الدول العربية وبروز متغير الثروة النفطية وشق قناة السويس لربط العالم بأجزائه المتباعدة وتقليصها إلى مستويات قياسية, كلها عوامل أعادت تموضع خارطة المنطقة الاورومتوسطية على جغرافية العالم بما له من نمذجة متكاملة لعالم حقيقي, يعيد للمتوسط هيبة قوته قبل 2500 سنة تجمعت فيها مختلف الحضارات الإنسانية على ضفافه, وشهدت انبعاث الرسالات السماوية وسير دعوة الأنبياء.
بروز أوروبا كقوة اقتصادية بالموازاة مع ظهور فكرة الاعتمادية المتبادلة في صيغها الهيكلية والمؤسساتية القانونية للتكامل والاندماج بمختلف أشكالها, أعاد إلى الواجهة الأهمية التي تلعبها المقومات الجغرافية ومختلف التكوينات الطبيعية ذات الصلة ,في تكوين الأنساق السياسية والاقتصادية الفرعية, كقوة وعامل مساعد على تحقيق الأمن والتنمية المستدامة ورفاه الشعوب من خلال التعاون والتكامل والتأسيس لعلاقات إقليمية ,تأخذ بعين الاعتبار المتمم المكمل للتبادل والقيم المشتركة والتأسيس للأنساق الفرعية كورقة قوة تفاوضية تستند إليها الوحدات السياسية لتامين جغرافيتها ومصالحها القومية, من ابتلاع مشاريع التفتيت والهيمنة التي تقوده القوى الكبرى, ومن ثمة يمكن الاستخدام العقلاني الفعال الهادف والخلاق لهذه المقومات وحسن استغلال وتدبير الإمكانيات التي تتمتع بها المنطقة, فرصة ومنطلقا ليس للتصدي للمشاريع المضادة للتفتيت والخرائط الجديدة ,وإنما فرصة وطريقة مثلى لتأهيل النسق الفرعي المؤسس على ركائز هذه الإمكانيات, ليلعب دورا في تحديد تراتبية النسق الدولي الأساسي.
غيران استغلال هذه المقومات الجغرافية والطبيعية, كان بشكل مثالي في الضفة الشمالية للمتوسط أكثر منه في الضفة الجنوبية ,وعليه لابد من تجاوز الفهم التقليدي للقوة وتغيير طريقة ومنهج الرؤية المكانية ,وذلك بإعطاء قيمة اجتماعية جديدة ومعاصرة للمكونات التاريخية,الجغرافية والطبيعية وحتى الاقتصادية والسياسية بغية خلق واقع جيوبوليتيكي جديد.
الجغرافيا تنتقم, والتاريخ لا يرحم, فالظاهر أن دول الجنوب كلما اتجهت شمالا وتعلقت بالشمال من دون رؤية إستراتيجية للمنطلقات ,فعاقبتها الجغرافيا وساءلها التاريخ بصور الماضي, وهو ما يحدث جنوبا في الساحل والصحراء من إغراق للدول الإفريقية المتوسطية في مستنقع اللااستقرار وتخلف المنطقة.
قائمة المراجع والهوامش:
1-فتحي محمد أبو عيانة,دراسات في الجغرافيا البشرية,الإسكندرية:دار المعرفة الجامعية,1989,ص8.
2-المرجع نفسه,ص ص 9-10.
3-البحر الأبيض المتوسط,الموسوعة الحرة العالمية ويكيبيديا.
4-احمد كاتب,خلفيات الشراكة الاورومتوسطية,مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية,فرع علاقات دولية,جامعة الجزائر,2001,ص ص 12-13.
5-محمد إبراهيم حسن,دراسات في جغرافية أوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسط,الإسكندرية:مكتبة الإسكندرية للكتاب,1999,ص209.
6-المرجع نفسه,ص 218.
7-احمد كاتب,مرجع سابق,ص ص 14-15.
8-زكري مريم,البعد الاقتصادي للعلاقات الاورومغاربية,مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ,تخصص اورومتوسطية,جامعة تلمسان, 2011,ص ص 15-16.
9-محمد إبراهيم حسن,مرجع سابق,ص29.
10-المرجع نفسه,ص ص 30-31.
11-المرجع نفسه,ص ص 31-32.
12-المرجع نفسه,ص33.
13-المرجع نفسه,ص ص 39-40.
14-المرجع نفسه,ص ص 41-42.
15-المرجع نفسه,ص ص 37-38.
16-الوطن العربي,الموسوعة العالمية ويكيبيديا.
17-المرجع نفسه.
18-برد رتيبة,الحوار الاورو متوسطي من برشلونة إلى منتدى 5+5,مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ,فرع علاقات دولية,جامعة الجزائر,2009,ص ص 36-38.
19-محمد إبراهيم حسن,مرجع سابق,ص ص 211-212.
20-احمد كاتب,مرجع سابق,ص ص 20-22.
21-محمد إبراهيم حسن,مرجع سابق,ص 215.
22-المرجع نفسه,ص214.
23-برد رتيبة,مرجع سابق,ص ص 45-46.
24-المرجع نفسه,ص ص 39-41.
25-فتحي أبو عيانة ,مرجع سابق,ص ص 568-569.
26-مياه طرطوس الدافئة، جريدة الشرق الأوسط الدولية,العدد12112,الخميس26جانفي 2012.
27- برد رتيبة,مرجع سابق,ص 43.
28- فتحي أبو عيانة ,مرجع سابق,ص ص378-382.
29-محمد إبراهيم حسن,مرجع سابق,ص ص 235-252.
المصدر : الوطن العربي - الخميس 01 كانون الثاني 2015.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق